د. صفية فرجاني - حدثني كثيرًا عن الموت...

إلى روح الأديب محمد الراوي



(١)

قال لى : أنه قابل الموت أكثر من مرة.. رأى وجهه وعينيه..بل إن يد الموت قد جذبته فى إحدى المرات وهو صغير وحاول الفرار منه، قابله مرة في الليل رآه في الطريق إلى بور توفيق وكان الظلام قد تسلل فاختبأ خلف جدار ،ولم يعرف الموت كيف يصل إليه، وبعد ساعات طويلة خرج بخطى بطيئة وظل قابعًا في بيته لا يخرج إلى طرقات المدينة .

(٢)

تجول الموت في المدينة أيام الحرب وكم حدق في بيوت المدينة والتى كانت تتساقط وتميل على جانبها، وبعضها يصيبها الدوار فتهتز ثم تسقط ساكنة لبرهه… ثم تتداعى، كان يرى ذلك وهو شاب يحمل سلاحًا ضمن فرق المقاومة الشعبية بالمدينة، رآه أيضًا عندما كان يدهن المصابيح باللون الأزرق فترقبه عيونه في الضوء الصاخب المنبعث من انفجارات ضرب النار في الشوارع، يرى شبحه وهو يحمل الصغار عندما يصعقهم صوت الطائرات المخيف في الصباح الباكر ،يراه هناك وهو يسحب أرواحهم البريئة، ينظر إليه يبحلق فيه وعندها يرتجف جسده كله ويحاول أن يختفي خلف ظل بيت من بيوت السويس التي صمد كثير منها وأبت أن تميل وظلت تنظر للموت بعيون شاخصة تتأمله.

(٣)

قال لى: كتبت رواية عن الموت،كنت أنا والرجل الذي كان جثة يسعى معي في المدينة التي وقفت على قدميها بل على رءوس أصابعها تصد بكل قوتها وكل ما فيها خطواته العابثة.

قال: أنا والرجل الجثة كنا نقاوم، وأسميت الرواية “الرجل والموت”.

وقال لي أيضًا : أرواح أصدقائي الذين رحلوا لا تفارقني أبدًا، كل واحد منهم يأتي لي في اليقظة والحلم يحكي عن لحظة وفاته حتى أنني تعرفت على كل الطرق التي يسلكها ويتسلل منها إليهم.

والكل يطالبني أن أرصد جميع خطواته التى يظهر بها حتى أحذره وأروي عنه.

وعندما أتقنت معرفتي به و بكل حيله وألاعيبه.. وبدأت الكتابة عنه، كان يفاجئني بأخذ صديق آخر مني بطرق جديدة تمامًا عما عرفته مرة وهو يضحك أو يكتب أو ينام أو يعبر الطريق، حتى أنه قد أخذ أحد القاصين وهو يقرأ قصته والتي صور فيها مشهد الموت .. المشهد هو نفسه الذي ظهر له الموت فيه عند نهاية أحداث القصة ونهاية حياة القاص.

قال لي :هل أنت مثلي تتذكرين الموت ولا يغيب عنك أبدًا؟

قلت له : وكنت حينها في أول العمر، عندما يأخذ الموت شخصًا أعرفه تغيب عنى ملامحه ببطء حتى يذوب في ذاكرتي ولا أتذكر سوى اسمه فقط.

قال: من أين لك بهذه القدرة !

قال: أول مرة قابلت فيها الموت كان في مرض أبي الأخير اتذكره ولا أنساه ،رأيت أبي ينهض من السرير خشية الموت ويحاول أن يقف على قدميه دون مساعدة من أحد ولكنه لم يستطع وكنت بجواره فسقط منى و ظللت أنادي عليه أبي …أبي.. أببببي

أحاول أن أساعده لكي يقف مرة أخيرة لكنه لم يسمعني أبدًا، يومها انفتحت نافذة جديدة في عالمي ولجت منها إلى عالمه وتعرفت عليه ،وظل ندائي على أبي في ذاكرتي لم ينمحِ أبدًا.

(٤)

تغير بنا الحديث في أمور عدة . وتعرفت فيها على أغلب أحواله كانت تشع من عينيه السعادة عندما يتحدث عن الكتابة والإلهام والإبداع تطير من كلماته حمامات تحط على الجدران وتهدل عندما يسكت وتعود تطير حوله عندما يحكي حكاياته ،لقد كان حكاءً له مستمعوه.

حتى نسيت من كثرة حكاياته أنه قال لى بأنه قد رأى الموت .

إلى أن قابلني فى لقاء أخير معه واوقفنى وقال لى : لقد رأيته وسمعت صوته الذي زلزل كياني كله وقال لي تعالَ واقترب مني وعندها ابتعدت على آخر حدود المدينة ورغم ذلك جاءني صوته يقول : لقد أقترب الميعاد وأشار لى من بعيد بإشارة تدل على قرب الوصول إلي رغم اختبائي منه.

ثم حدثني أنه سافر مع صديقه الشاعر كامل عيد لحضور آخر مؤتمر أدبي لهما، وكان الشاعر مريضًا، وخشى أن يلقاه الموت هناك ويأخذه منه.

قال لي وهو يتألم: قلت له يا كامل عيد لاتموت وأنت معي بعيدًا عن السويس..ضحك كامل عيد كثيرًا وقال له: سوف أموت في السويس وليس خارجها بعد عمر طويل.

وقبل نهاية المؤتمر بساعات قليلة كان الموت قد أخذه معه ورحل .

قال لي محمد الراوي :علمت بموته وأنا نائم رأيته يلقى قصيدة وكانت مدهشة لدرجة جعلتني أحمله وأطوف به أجواء المؤتمر من فرحتي بها وبه، كان يضحك بشدة وعندما أنزلته كانت في عينيه بقايا دموع لم أعرف مصدرها، حركته يمينًا ويسارًا ،أغمض عينيه وغابت الدموع وعلت وجهه تدريجيًا ابتسامة وقفت على الحد الفاصل بين البكاء والفرح ،هي نفس إبتسامة أبي عندما غادرنا هى نفس الإبتسامة التي تودعك فجأة وتظل ملامحها لا تفارقك.. ابتسامة تقول إني قد اقتربت، إني قد عرفت الآن.

طفت به وأنا أضعه على كتفي وأسير به صحراء واسعة ليس لها بداية و معي غراب أسود يطير فوقي وعندما أتعب يدلني على مكان ارتاح فيه أنا وهو، عندما أخذني التعب ابتسم لى نفس الابتسامة التى بت أعرفها وحمله عني وطار .

صحوت على يد تلمسني وليس معي أحد، وتأتيني رسالة على الموبايل

احضر حالا .. كامل عيد مات .. وامتد حبل من السكات.

(٥)

استمعت إليه وقلبي يتفتت من الحزن ،كان ينظر في عيني ويسألني وقبل أن أجيب

يقول : قولي لي ماذا أفعل؟

سبقتني عيوني بالبكاء وقلت له:

ابعد عنك كل ما يقربه منه واشغل نفسك بحكايات أخرى مبهجة، أريد أن اسمع هديل الحمام وانت تحكى ، لم يجبني وصمت .

وعلمت أنه لم يعد يخرج من البيت ولقد باح لي في إحدى المرات القليلة التى كان يحدثني أنا وغيري أنه عندما ينظر من النافذة أصبح يرى الموت على جدران البيوت، ويراه ممددًا بطول الشوارع وعرضها ، يراه بجواره ينام طوله في طوله .

وظل يحكي عن موت الشاعر كامل عيد في كل حديثه معي .

قال لي مرة إنه كان يسير معه بجوار الكورنيش ليذهبا للندوة الأدبية في قصر الثقافة بالسويس، واندمج معه في الحديث وفجأة شعر الشاعر كامل عيد بالتعب وطلب منه أن يركب تاكسي- رغم قرب المسافة – وبمجرد أن ركب التاكسي وضع رأسه على كتفه ونظر إلى البحر وعندها وجد الراوي طائر نورس يأتي من عمق الفضاء ويقترب من نافذة التاكسي حتى شعر بارتطام رأس الطائر بمدخل التاكسي وبعدها وجد رأس كامل عيد يميل على كتفه.

وسمعت منه في مكالمة تليفونية أخرى أنه قد قابل كامل عيد في ميدان الأربعين وأصر على أن يسمعه قصيدة كتبها حديثًا،ولم يجدا مكانًا هادئًا سوى مدخل إحدى العمارات وعندما هم بقراءة القصيدة له ظهر طفل صغير يتفلت من يدي أمه ويجري وسط الميدان،عندها ترك كامل عيد القصيدة فى يد الراوي وبكل طاقته عبر الميدان للحاق بالطفل الذى رآه الراوي يرتفع عن الأرض وكامل عيد وراءه حتى غابا عن نظره وعندما فاق لم يجد سوى قصيدة كامل عيد الأخيرة بيده والناس تدور حول ميدان الأربعين كعادتهم.

وبعد مرور شهرين على فراق الشاعر كامل عيد كتب لي رسالة قال فيها إنه كان مع الشاعر كامل عيد فى أثناء تسجيل حلقة معهما لتلفزيون القناة على خليج السويس لتكريمه وبعض الشعراء انحرفت فجأة الكاميرا من يد المصور ومالت في الشارع واختل مسار السيارات حتى أن إحداها خرجت على الرصيف حيث كان يجلس كامل عيد فطار جسده إلى قمة عالية فوق جبل عتاقة ثم ارتطم ثانية بالشاطىء.

وقرأت له حديث صحفي في جريدة محلية بالسويس عن فراق كامل عيد الذي أوجعه أن يحمله جثة ويعود به من المؤتمر الأدبي في محافظة نائية في سيارة إسعاف بعد صحبه لمدة يومين . قابلته

و قلت له : حتى تنسى … عليك أن تشتت ذاكرتك، عندها نظر لى بعمق ولم يحدثني بعدها أبدًا. وعلمت ساعتها أنه أعطى الأمر إلى ذاكرته ولم يعد يسيطر عليها ،لقد درب نفسه على الهروب من الموت فهرب إليه، واقتحم تجويف ذاكرته وكان معنا يبتسم ويضحك ولا يرانا كان الزهايمر قد سكنه وأمسك به الموت .

صفية فرجاني مارس ٢٠٢٢



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى