محسن الطوخي - قراءة في قصة "غاز حر" لصديقة علي

العبرة بالمعالجة
القضية متداولة.. الفقر الذي يحني الجباه، ويمزق عرى العلاقات الإنسانية. شانها شأن كافة القضايا التي نتداولها في كتاباتنا. إنما العبرة بالمعالجة. لم يعد في وسعنا ككتاب أن نخترع قضايا غير مطروقة. لكن بوسعنا أن نتفنن في طرق المعالجة. وهذا ما أراه في هذه القصة. تناول الفقر المادي بمعالجة تغلب عليها الكوميديا، حق للأصدقاء وصفها بالكوميديا السوداء. هذا نص يستجلب الفكاهة دون أن يفرط في التناول الجدي لأزمة الموظف مع ظروف الفقر وانعدام الخدمات الضرورية التي لا تستقيم بدونها الحياة. فهو مهموم إلى الدرجة التي تعوقه عن اداء عمله بمراجعة اوراق المواطنين ومهر طلباتهم بتوقيعه. لكن حالته النفسية تتبدل إلى النقيض بمجرد وعد من المواطن بتوفير اسطوانة غاز... هو لم يحصل على الاسطوانة بعد، ولكن مجرد تخيل قدرته على صنع فنجان قهوه أنساه همه فأنجز في ساعة ماكان معطلا.. " .. نسيت زوجتي وابنتي، وانا اتخيل إبريق ..... "
والأعجب ليس قدرة الاسطوانة المرتجاة على تغيير مزاجه، إنما قدرتها - عندما توفرت - على منحه مكانة لدي زوجته وعائلتها. نفس الزوجة التي غادرته مغاضبة مؤنبة في الصباح، تستقبله في المساء استقبالا حارا، فيشعر كمن عاد منتصرا من ساحات الحرب، وهو يراقب زوجته تنقل نظراتها بخيلاء بين الوجوه، وترمقه بفخر وشوق. تنبع الفكاهة في المشهد من المبالغة في حجم الحفاوة التي نالها الراوي مقابل إنجاز لا شان له في ظروف الحياة العادية. هذه المعالجة الذكية تفوق في تأثيرها الطرح العقلاني المنطقي لأزمة الفقر، وتدني المستوى المعيشي للمواطن العربي تحت وطأة الحروب، والفساد الإداري.
تعددت الصور في القصة، لتضرب على نفس الوتر، دون تداخل، او شرود عن الخط الرئيسي للتيمة. نعدد منها:
- " علبة سردين وخبز سياحي ".. هذه وجبة رخيصة، وسريعة. قد يتناولها الفرد كتصبيرة للوجبة الرئيسية. وتتحقق المفارقة عندما تمثل عبئا ماليا على الراوي لدرجة وصفها بالبذخ... " ... ماتبقى من الراتب لا يكفي لهذا البذخ... ". فبذخ الرجل تعني: عظم، وتكبر، وتطاول.. المفارقة بين أصل الفعل، وبين وقعه على الراوي تستدعي الأسي والشفقة، وتفاقم من مأساوية المشهد.
- .. " اشتر باقة ورد واسترضها.. ".. هذه نصيحة الصديق الذي وصفه الراوي بالفيلسوف " تهكما " .. فالفيلسوف في لهجاتنا الدارجة وصف يطلق على من يجيد الكلام دون الفعل. إذ كيف يمكن إرضاء الجائع بوردة!.. وصف الاقتراح بالعظيم جاء على سبيل السخرية.. تنبع الفكاهة من وصف الشيء بنقيضه. استحضار الراوي للخروف الذي يربيه حموه وتصوره يأكل الوردة. وتقييمه الشخصي للفكرة تعبر عنه افكاره:
..." باقة ورد يارجل؟ ... وفي هذه الظروف ".
..." أخال الخروف يقضمها... "
السخرية في المشهد ترسل أكثر من رسالة، وكلها رسائل تخدم السياق الذي يهدف إلى تجسيم الأزمة باستخدام تيمات تستعرض كيف أن افتقاد الأساسيات المادية يتلف المشاعر ، ويفرغ الجمال من مضمونه، فلا يبقى من الوردة إلا محتواها العضوي.
- ... " بابا، هل ستسب جدو مرة أخرى. وآتي لأشرب الحليب هنا.. " .. قمة السخرية في مشهد يختتم القصة بدفقة مكثفة من الألم والمعاناة التي لم يسلم منها الأطفال. وهو مشهد ختامي مرسوم ببراعة روعي فيه ان يجمع بين عاملين يحققان له النجاح في إحداث الأثر المطلوب:
أولهما: الحرمان. هنا تأكيد ضمني على أن الأزمة لم تطال الهامشي من المطالب الإنسانية، إنما طالت الغذاء الأساسي الذي لا يستغني عنه الطفل لينمو بشكل صحي.
ثانيهما: البراعة في استخدام الطبيعة النفسية للطفل. فالطفل لا يرى إلا الأسباب الظاهرة. وما ادركته الطفلة هو أن سب الجد ترتب عليه توفر الحليب... تحول القبيح في ذهن الطفلة إلى طيب. والمفارقة بين الصورتين تنتج الفكاهة. لكنها الفكاهة المخلوطة بالأثر الذي انتجها وهو الحرمان.
تستحق القصة تناولا أفضل من تلك العجالة.
كل التحية والتقدير لإبداعك أستاذة صديقة علي .
منقول من واحة القصة
القصة.:
*1غاز حر
قصة قصيرة
صديقة علي
تتكدس أضابير المراجعين أمامي، وأنا أتامل وجوههم المحتقنة فاغرا فاي "كالمسطول"، يصعب عليّ تسيير أمورهم، وأنا في هذا التشتت والقلق.
زميلي الفيلسوف يدق بأنامله على المكتب، ولا ألتفت إليه ..
صراخهم لا أسمعه وحده صوتها يدوي:
ـ طلقني الحياة معك باتت مستحيلة.
أي طريق مسدود هذا؟ لا أنكر بأني صرت عصبيا أحمق.. أفرغ كل قهري في وجهها، لكن سرعان ما أندم وأعتذر لها، لكن البارحة طفح الكيل، بالغت، وتعدت شتائمي لتنال أباها، صدّعت رأسي بالحديث عن براعته بإدارة الأزمة .. أبي زرع القمح ربى خرافا وأبقارا... والدي استغنى عن الدعم الحكومي، والدي سبعيني وتصرف بذكاء أكثر منك ..وأنت مقيد نفسك إلى مكتب لا يأتينا بربع مصروفنا الشهري ..والدي يحطب عند نفاد الغاز، وهنا تدفق سيل الشتائم عليها وعلى والدها.
طفلتي شعرت بالخطر، وراحت تصرخ، فجذبتها أمها بقسوة وخرجتا باكيتين.
أراجع حياتنا أستمتع بالكسل .. أهنئ نفسي بهدوء لم يدم طويلا ..فصدى صوتها لا يفارقني
ـ بنت الأصول تعيش على الخبز والبصل مع من تحب.
الحقيقة هي كانت بنت أصول ومحبة. لكن أعجزني الخبز حتى طار الحب.
ـ قلت لك دعنا نسكن مع أهلي نوفر ايجار البيت، وهذا يمكننا من شراء الغاز الحر.
_غاز حر، خبز حر، مازوت حر ...رز حر، سكر حر، كله حر، إلا أنا لست حرا، تخنقينني باقتراحاتك المذلة...
تعم الفوضى، رتل المنتظرين طال والصراخ فوق رأسي يتعالى
ـ عطلت أشغالنا يارجل ..امض ودعنا نذهب، أم تنتظر ثمن فنجان قهوة*.. اعتبرت ما قاله الرجل إهانة، لكن ابتلعتها
رحت أقهقه ساخرا: أتعلم لا غاز عندي لأعد فنجان قهوة ...
تخيل أنني سأقف أمام قاضي الأحوال الشخصية لأعلن عجزي عن تأمين الغاز، وعن إعالة عائلتي ..شيء مضحك، اضحكوا اضحكوا، طلاق بسبب ...اضحكوا
تقدم أحدهم بثقة:
ـ لك عندي أسطوانة غاز "فل الفل" ستعجبك.
وقدم لي إضبارته ..همست له بتوسل: لا أقبل رشوة سأدفع لك ثمنها، يعني شرط ألا يساوي مرتبي، فقط جدها لي، وأكون ممتنا ....
وعده لي أرجع النور لذهني، هواء نفض كل السخام من عقلي ..وصارت كل الأوراق واضحة كالشمس ..
نسيت زوجتي وابنتي، وأنا أتخيل إبريق شاي يغلي .. ركوة قهوة ..حتى يمكنني أن أرفّه نفسي بحساء ساخن ...
رتل المراجعين الجاثم على صدري يخف بالتدريج، أخيرا تنفست الصعداء ..
قال زميلي الفيلسوف:
ـ كان عليها أن تحتمل، كل الدول التي تتعرض للحروب يصيبها ما أصابنا، نتائج الحرب وخيمة وحصار اقتصادي مجرم، واحتكار فاجر، وفساد مقيم ....و... فكيف لا تعذرك؟ نساء آخر زمن... هن والدهر علينا، لكن نصيحتي لك وعلى كل الأحوال اشتر باقة ورد واسترضها ...
أضحكني اقتراحه العظيم ...
ـ باقة ورد يا رجل؟ ...وفي هذه الظروف!.
أروح وأجيء، أنتظر اتصال من وعدني بالغاز.
الجوع يلاحقني فيضطرني أن أبحث عن أي شيء، الثلاجة فارغة ..كيف كانت زوجتي تتدبر أمر الطعام؟ ..تسهر بانتظار نصف ساعة كهرباء، كيف كانت تقسمها بين الغسالة، الطباخ الكهربائي، القازان ... المكواة؟ مدهشة بإدراتها للأزمة "طالعة" لأبوها، حقا شر البلية ما يضحك، اقترحت على معدتي: علبة سردين وخبز سياحي أو سندويش فلافل ... ثم أسحب اقتراحي ما تبقى من الراتب لا يكفي لهذا البذخ.
لا مفر لي سوى أختي أتصل بها كي تدعوني إلى الغداء، وقبل أن ألقي عليها تحيتي المحملة بالرجاء ..تصرخ مستغيثة أخي كيف سنتدبر حالنا هل يعقل ..أهذا عيش بشر؟ لا أظن ذلك اذا لم يتصرف سآتي لأقيم عندكم.
ـ عندنا! ؟... يالبؤسك أو تظنين أننا بحال أفضل؟
أشاغل جوعي بلقيمات خبز.
جاء اتصال المنقذ:
ـ ساعة وأحلى أسطوانة تكون عندك، وبالسعر الذي تحدده ..قال هذا بكل ثقة ...
من مكاني أتامل أسطوانة الغاز الخضراء ..تقف خلف الباب تنتظر يدي كي تمتعني ...أؤجل المتع قليلا
..دقائق و نار البوتغاز تضيء ظلام معدتي.
..عادت باقة الورد ونصيحة الفيلسوف تضحكني أخال الخروف يقضمها وقد تكون الخراف لا تحب الورد.
في أي كوكب تعيش أيها الفيلسوف؟
خطرت لي فكرة قفزت عن الأريكة، وحملت أسطوانة الغاز بكل اعتزاز وذهبت إلى زوجتي.
كان الاستقبال حارا، كيف لا وأنا محمل بالغاز! ، كنت كمن عاد منتصرا من ساحات الحرب، انشغلت زوجتي وأمها بإعداد الطعام، وأنا أحتضن طفلتي ...وأستمع لمحاضرة حماي حول التطورات الراهنة.
تناولنا العشاء بجو عائلي دافئ.. كانت نظرات زوجتي تتنقل بخيلاء بين الوجوه، مضى زمن طويل لم ترمقني بنظراتها هذه المحمّلة بكل فخر وشوق، لكن سرعان ما أفسدت طفلتي الأمر:
ـ هل سنعود إلى بيتنا؟ بابا هل ستسب جدو مرة أخرى وآتي لأشرب الحليب هنا؟

ـــــــــــ
* 1سعره غير مدعوم من قبل الحكومة.
* 2 مصطلح يعني الرشوة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى