ليالي الشتاء الباردة والطويلة في الموصل، كانت تدثرها حكايات الجدات وتطوي معها الساعات، كما كانت تضفي حميمية في الغرف الصغيرة المعقودة، اضافة الى الحميمية المنبعثة من تكدس الاشخاص داخلها، وقرب بعضهم من بعض حول مدفأة انكليزية خضراء، أو حول منقل فحم يتوهج من الظلمة لا من الاستعار، ويلهبها في الذاكرة ضوء الفانوس او اللمبة الخافت الذي تعلوه الدخاخين ، مسودة ما تبقى من زجاج شفاف.ـ
تلك الحكاية في ضوء هذا السيناريو ، سوف تبقى كالمحفوظات، يجترها المتلقي لاسابيع او لاشهر قادمة ، وربما تكرست واصبحت تعليمات قاطعة لا تقبل الجدل .ـ
ولكي لا ينسى الجد او الجدة او الآباء ،ايصال رسالة حازمة للاولاد من خلال القصة ، مفادها أن العصيان والشغب (الدلاعة)، سوف يثير هؤلاء الاشرار الذين يردون في القصة، ويثير غضبهم ايضا، مما يستدعي ربما حضورهم للتأديب ، وهو نوع من الضغط والسلطة يمارسها الآباء، تكون سهلة وميسورة وتحقق قدرا من السيطرة . لذلك فان شبح هذا الشرير ماثل دائما في خيال الطفل ، كعصا قائمة ، يحد من التصرفات ويخدم سيطرة الاباء والامهات بنفس الوقت .ـ
من هذه الكائنات الشريرة والمخيفة ، كائن خرافي كان موجودا في الذاكرة بزخم ، في مرحلة الطفولة ، وربما تأخر وجوده عند البعض لمرحلة الشباب والكهولة ، أو جرى تجديد عقد الايجار او الاستملاك له ، تبعا لما تمليه حالة الشخص الفكرية والعقلية ومستواه الاجتماعي والثقافي ، هذا الكائن يطلق عليه مصطلح (( الداميي )) . في لهجة الموصليين ، أصلها دامية ،ـ
وهي انثى شريرة في شكل غريب منفوشة الشعر ، تلبس جلبابا اسودا متسخا مشقوق الصدر ، مع هيئات أخرى تبعث على الخوف والهلع ، وأظن ان تسميتها بالدامية كاسم فاعل من أَدْمَى ، مما يعني انها تدمي البشر نتيجة الاعتداء ، أو انه اسم فاعل أريد به المفعول لاغراض بلاغية ، بمعنى أنها مدمية \مدماة ، في اشارة الى كثرة تعرضها للافتراش والنهش .ـ
هناك في الادب العربي القديم ، وفي الفلكلور الشعبي العربي ، شخصيات مماثلة لها ومتطابقة الوصف والوظيفة ، لكنها تتخذ اسماء أخرى تبعا لتسمية اهل البلاد. ففي الاردن وفلسطين وحوض الفرات وبعض الاجزاء من سوريا يسمونها ((السُعْلُوَّة)) وفي مصر يسمونها ((النداهة))، ولها تسميات أخرى في بقية البلدان.ـ
لكنها لازالت حاضرة في الذاكرة والفلوكلور في عموم اوربا، ويتفقون على تسميتها بالساحرة، ويُقام لها مناسبات واحتفالات ، يتخللها حضور فولكلوري بنفس الازياء ، وربما قام جمهور المحتفلين بارتداء ازياء الساحرات. ويُعتقد أن هذه الشخصية واستنساخاتها، وردت في ملحمة كلكامش بأسم ليليث، وان العراقيين القدماء استخدموها بكثرة لاغراض دينية في باديء الامر ثم لتنسَلَّ الى الذاكرة الجمعية كأدب شعبي، لكنها على العموم لازالت تأخذ حَيِّزاً من الذاكرة تحت مسميات شتى ، هذه الداميي ( امالة الالف المفترضة في التاء المربوطة ، وهو استخدام لغوي شائع في اللهجة الموصلية ، واللهجة البيروتية كذلك ) ، هذه الدامية كانت تؤدي وظائف عدة ، اضافة الى التسلية في سرد القصص المثيرة عنها وبطولاتها ، فانها تؤدي مهمة الردع ، حينما يعمد الحاكي الى ايصال رسالة ردعية للمُتَلَقِّين، وايضا فان الدامية تتنوع ادوارها تبعا لخيال الحاكي ، فقد تكون احيانا فارسة تدافع عن الرضع حينما تريد القطة ان تلتهمهم ، وأمهم مشغولة ، أو تنقلب الى صيغة تنفير من ناس معينين، أو اماكن معينة تتواجد فيها الدامية .ـ
شغلتنا حكاية الدامية، واخذت حَيِّزاً في تفكيرنا ونحن أطفال ، في مجتمع بسيط لم يكن لديه ما يغذي خيال الطفل وفراغه الروحي الا هذا، وكلما كان الحاكي متفننا بالحكاية كلما كنا نزحف شيئا فشيئا نحو الفراش لنلوذ به من الرعب والخوف ونتحاشى النظر الى سقف الغرفة، لان العين ازدحمت بالصور وبالدامية، وخشية ان نراها على الحيطان وفي السقوف، فكنا نحكم اغلاق الاعين تحت الفراش، ولا نفكر بتاتا في الخروج من الغرفة ( الاودة ) تحت اي ظرف، واذا صادف وحكمت بعضنا حاجات افراغ خفيفة، مثل البول، فان اسلم الطرق تكون بافراغها في الفراش (ولا بهدلة الخروج والتعرض للخطر المحدق)، لكن جانبا من هذا الموروث الاجتماعي كان سيئا ومؤثرا على الشخصية لاحقا .ـ
كانت تساؤلات الاشخاص حول الدامية تنتهي الى سؤال مهم، وهو اين تسكن الدامية ؟ ومن اين تأتي ؟ وما هي الاماكن المفترض وجودها فيها. هذه الاسئلة، وجدت لها إجابة مغرضة وخبيثة ، لكنها ملائمة ومقنعة ويحتملها الخيال الشعبي ، وذلك في تسمية بعض القناطر القديمة في احد أزقة المدينة ، بـ (قنطرة الجان)، وما أدراك ما قنطرة الجان.ـ
اذا قيل أن في المدن القديمة التاريخية ( ومنها الموصل ) هناك تاريخ تحكيه الحيطان والاحجار ، يصدق هذا القول على قنطرة الجان .ـ
تقع قنطرة الجان وسط زقاق قديم في الموصل ، هذا الزقاق يدلف منه من محلة امام ابراهيم الى محلة النبي جرجيس ، الزقاق الذي توجد فيه القنطرة قصير، ليس بالطويل، لا يوجد في الزقاق أي بيت، انما هو ظهور لبيوت تقع ابوابها في محلة الامام ابراهيم. لذلك فان الزقاق غالبا ما يكون خاليا غير مطروق ، كما أن القنطرة نفسها ليست مستقيمة ، انما معوجه على شكل منجل ، وهذا ما يجعلها مظلمة اغلب الاوقات، بله الليل .ـ
القنطرة تلي مباشرة قنطرة اخرى ، سموها قنطرة الديوجي ، لانها تربط طرفي بيت المرحوم عثمان آغا الديوةجي( كما كان يُطلق عليه ) في محلة الامام ابراهيم . ، وقنطرة الديوه جي طريق سالك ومطروق بكثافة ، كما أنه ممر رئيس للقادمين من الشارع. لذلك فقد كانت قنطرة الديوةجي مريحة كثيرا ، وذات سمعة جيدة قياسا الى قنطرة الجان .ـ
قنطرة الجان اختلفت فيها الروايات والاغراض ، وجمعت بين خوف ورعب من الجان والداميات ، وبين سمعة غير طيبة نتيجة لمرور الخمارين فيها ليلا ورميهم قناني المشروب ، وايضا اجتماع بعض العشاق فيها عصرا وقبيل المغرب ، او عقد اللقاءات الغرامية المستعجلة فيها . لذلك فقد حرض اباء والامهات كثيرا على تحاشيها في المرور ، كما اوغروا صدور الاطفال بعدم الدخول اليها ، وكان المعلن للاطفال هو وجود ما يخيف فيها ، والمبطن للكبار والمفهوم اشارة هو خشية الشبهة او حصول أمر ما . والحقيقة أن القنطرة في موقعها تشكل مكانا آمنا لمن يريد ان يتوارى عن الانظار .ـ
وكانت تغري بعض الرجال بالمرور فيها او تضطرهم لسبب وحيد ، أنها تختصر المسافة كثيرا بين الامام ابراهيم والنبي جرجيس ، بدل الدوران الطويل من القسم البلدي في النبي جرجيس ومرورا ببيت المرحوم احمد الحبار ، ومن ثم بيت المرحوم خضر الرحالي ، ثم بيت شاكر السلو الشاكر ، والاستدارة لكي يصل الى تقاطع امام ابراهيم ومحلة باب الجبلين والفرع المؤدي الى المكاوي ، يعني تختصر المسافة كثيرا .ـ
الساكنون حول القطرة ، اي في محيطها الخارجي ، استراحوا كثيرا لفوبيا (( قنطرة الجان )) وهذا يذكرني بفوبيات كان يخترعها الاستعمار ولازال يخترعها الغرب ، للتخويف من موجات وتيارات تقدمية ووطنية . والحقيقة أن تسميتها الاصلية كانت قنطرة بيت جاجان
ـ( كما قال لي غير مرة أحد السكان القدامي في المنطقة ) وبيت جاجان كانوا يسكنون في بيت كبير يقع عند منتهى القنطرة من جهة النبي جرجيس ، وهي عائلة داغستانية مهاجرة جاءت من تلك الاصقاع .ـ
استراحت العوائل لانها جنبت ابناءها الصغار من الدخول اليها ، ايضا حذرت اليافعين خوف الشبهة ، لكن الساكنين حولها ، نوعية مختارة من العوائل الكريمة والعريقة ، وذات موقع اجتماعي ارستقراطي تقريبا ، وهذا ما جعل وجودهم يشكل ضغطا من نوع ما على رواد المحلة كلها وحجّم دورها ، ومنع الاقاويل من الاندياح كثيرا بشأنها.ـ
كان يسكن برأس الزقاق الذي تقع فيه القنطرة ، المرحوم عزيز احمد الفتاح ، سكن هذا البيت بعد أن باعه مالكه السابق عبد الله الفيل ، وهما شخصيتيان معروفتان في الموصل وحاضرتان اجتماعيا ، و بجانبه على الرأس الاخر ، سكن ابناء محمد الحاج اسعد الطائي ، يقابله تماما المرحوم عثمان الديوةجي ، وهو معروف كرجل وجيه ، ويُعرف بالآغا ، في المنطقة ، ويبدو أنه يُمارس هذا الدور أيضا، حيث يكثر في بيته الخدم والحشم ، ويأتيه ريع الضياع والقرى والمحاصيل الى البيت.ـ
وبجانب بيت الديوجي كان هناك بيت المرحوم قاسم الصائغ، والد الحاج رياض الصائع وحازم الصائغ، يقابله بيت المرحوم خليل الملاح.على مقربة منهم داخل الفرع بيت الحاكم عبد الله الفيضي واخوه، وسكن ايضا في هذه المنطقة، ملاصقا لقنطرة الديوجي، المرحوم محمد طاهر الغضنفر، مدير الطابو السابق (هكذا كما اتذكر). وايضا هناك بيوت كثيرة، متوزعه حول المكان.ـ
السكان هنا كانوا يمنعون اطفالهم منعا باتا من التواجد خارج البيت او في الزقاق ، ليس لاغراض خوف ما ، ولكن ما يشبة التواطؤ الاجتماعي ، او شيء متعلق بالوجاهة . لذلك تعتبر المنطقة مفضلة للبائعين المتجولين واصحاب العربات ممن يبيعون الخدمات ، مثل ابو الكاز ، وابو الثلج ، وابو مكائن الجرش والبرغل ، لسهولة الدخول اليها من الشارع حيث مسجد الامام ابراهيم ، والزقاق ايضا مستقيم ومبلط وليس فيه عقبات بالنسبة لاصحاب العربات ، وسهولة تعاملهم مع اصحاب البيوت ، وربما لبعض اليسر والسخاء ( البحبحة) . كما أن الخدمات الحكومية ايضا كانت سريعة الوصول ، فخدمة التلفونات قديمة وصيانة الكهرباء وغيرها .ـ
وعودة الى الدامية وقنطرة الجان، كانت تُشاع خرافة هي، أن القنطرة تنغلق احيانا على روادها او سالكيها ، والاجراء الذي ينصح به لمن تنغلق عليه القنطرة ، أن يعمد الى فتحها ، بأبرة خياطة أو دبوس، أو مخَّاطْ ، هذه الخرافة ، دفعت بائعا متجولا في باب الطوب كان يبيع المخاط (المخاط ابرة كبيرة جدا تستخدم لخياطة اللحافات) الى أن يتوجه الى المنطقة ، ويظل يصيح ،، مخاط ،،مخاط ، وبشكل يومي ، مما أثار تساؤلات السكان ، فلم يجد زبائن لبضاعته ، لكنه كان قد أدمن المكان، فانتهى به الامر يبيع الشرابت ((نوع من الحلوى سكرية سريعة الذوبان في الفم ما يحبذه الاطفال)) ، وايضا منسق عام لنوع من المواعيد الغرامية في القنطرة ، دون ان يشعر ، وذلك عبر اغرائه بشراء الحلوى منه ، وذلك بان يوصل رسائل او برقيات مستعجلة، او يردد نوع من النغمة يفهمها المتلقي الاخر على اللاسلكي، وكان هذا الترتيب حقا مما يبعث على الضحك لسعة حيلة العشاق ولظرافتهم .ـ
كان يسود قديما نوع من البطولة والشجاعة في تحدي مثل هذه الظواهر ، وانحصرت مع الاسف بعض الشجاعات في تحدي الوهم المتخيل ، على مستوى الكبار ايضا ، ويبدو أن هذا مما علق في الذهن واستمر باقيا في الوعي ، وهذا مما يؤخذ على التكريس الثقافي والاجتماعي لتلك الفترة ، ويؤشر بوضوح لصورة المجتمعات انذاك ، والتي لازال البعض يتلمظ بها ، ويشيد على انها افضل فترات التاريخ الذهبية ، كانت هذه حالة من الخدر واشغال الناس بامور وهمية ، ربما لابعادهم عن النظر في أمر مصير الوطن او مصير القضايا الوطنية ، صحيح ان هذه الحالة يغذيها الجهل ، لكن يجب أن يشار الى ان الجهل كان نوعا من المنهج المتخذ لتخدير الشعب (انا هنا اتكلم عن تركة الرجل المريض).ـ
ومما يتوارد من قصص في هذا الشأن أن رجلا تحداه قومه بان يغرز مسمارا في منطقة باشطابيا ليلا ، وجعلوا له مكافأة لذلك ، اضافة الى الاقرار بشجاعته ، واذا صادف وان قتل الدامية التي ستعترضه ، فسوف يشهدون له بالشجاعة ، وهي شهادة لا تعادلها نوبل ولا الاوسكار ، في بيئة محصورة ضيقة ، تقتات على هذه القصة لسنين ، فما كان من
الرجل الى ان شد الرحال ليلا الى باشطابية ومعه مطرقة وعدة مسامير زيادة في التحدي.ـ
وكان يرتدي زبون ( ثوب طويل مفتوح من امام بطوله ) ، فوصل وقلبه يتراقص وصعد تلة باشطابيا وغرز المسمار واحكم غرزه بالمطرقة ، ولما اراد النهوض جذبه احدهم من زبونه فتوقف قلبه لحظات ثم عاود الخفقان يسرعة فائقة ، واخذ يصيح ، ثم ليكتشف بعدها أنه قد دق المسمار على طرف زبونه الذي افترشه اثناء الجلوس ، لكنه عاد الى قومه يحكي لهم قصة السبع ، كما هي العادة حين لا يكون على التاريخ شاهد ، ويحكي احدنا بالذي يريد لا بالذي كان .ـ
أحيلت قنطرة الجان سريعا على التقاعد ، وخذلها سكان المنطقة الذي غادروا المنطقة باكرا متوزعين في الاحياء الحديثة ، وسكنها بعدهم الاومرية والكويان والتنَّة ، لانهم تحلقوا باكرا في ضواحيها ، واصبحت الان تقريبا معقلا وسكنا مميزا لهم ، وبسكن هؤلاء للمنطقة وتداخلهم الاجتماعي مع بعضهم بشدة وزخم ، اصبحت القنطرة مبعث قلق ومشاكل لهم ولغيرهم . فقاموا باغلاقها من الجهتين ، وبنوا عليها حائطا اسمنتيا ، قيل انه لتعزيز الاسس كي لا تسقط و قيل ايضا انه الاهمال الواضح والظاهر في صيانة الابنية والمعالم التاريخية . شأنها في ذلك شأن مئات القناطر ، التي تروي تاريخ هذه المدينة . وايضا اجتزت من القنطرة الاخرى (قنطرة بيت الديوةجي ) بعض اجزائها ، لاقاويل عدة ايضا و ويبدوأن الهدم والاغلاق هو اسهل طرق الصيانة ومريح للدماغ والكسل الاداري .ـ
يبقى أن نقول هل بقيت في مجتمعاتنا داميات او غول او سعلوة ، بعد أن ظهر الغول الاصلي .وهل تبقى الدامية بعد مخيفة ، أم أنها أصبحت صاحبة الجلالة التي تأطرت بالفروسية وتأبطت الدين والمثل العليا . واليها يشد الرحال، ويطلب الود، وتزحف الجموع .ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة:ـ
ارجو من كافة القراء الكرام ، الاشارة المشكورة ، لاي خطأ او سهو في بعض الاسماء الواردة في المقالة، وبامكانهم التكرم والتفضل باضافة او استدراك على الموضوع بما يغنية ويوثقه أكثر، لانني بشر، يمر علي الخطأ والوهم أحيانا، خدمة للتاريخ وتبيانا
للحقيقة.ـ
أسامة غاندي
تلك الحكاية في ضوء هذا السيناريو ، سوف تبقى كالمحفوظات، يجترها المتلقي لاسابيع او لاشهر قادمة ، وربما تكرست واصبحت تعليمات قاطعة لا تقبل الجدل .ـ
ولكي لا ينسى الجد او الجدة او الآباء ،ايصال رسالة حازمة للاولاد من خلال القصة ، مفادها أن العصيان والشغب (الدلاعة)، سوف يثير هؤلاء الاشرار الذين يردون في القصة، ويثير غضبهم ايضا، مما يستدعي ربما حضورهم للتأديب ، وهو نوع من الضغط والسلطة يمارسها الآباء، تكون سهلة وميسورة وتحقق قدرا من السيطرة . لذلك فان شبح هذا الشرير ماثل دائما في خيال الطفل ، كعصا قائمة ، يحد من التصرفات ويخدم سيطرة الاباء والامهات بنفس الوقت .ـ
من هذه الكائنات الشريرة والمخيفة ، كائن خرافي كان موجودا في الذاكرة بزخم ، في مرحلة الطفولة ، وربما تأخر وجوده عند البعض لمرحلة الشباب والكهولة ، أو جرى تجديد عقد الايجار او الاستملاك له ، تبعا لما تمليه حالة الشخص الفكرية والعقلية ومستواه الاجتماعي والثقافي ، هذا الكائن يطلق عليه مصطلح (( الداميي )) . في لهجة الموصليين ، أصلها دامية ،ـ
وهي انثى شريرة في شكل غريب منفوشة الشعر ، تلبس جلبابا اسودا متسخا مشقوق الصدر ، مع هيئات أخرى تبعث على الخوف والهلع ، وأظن ان تسميتها بالدامية كاسم فاعل من أَدْمَى ، مما يعني انها تدمي البشر نتيجة الاعتداء ، أو انه اسم فاعل أريد به المفعول لاغراض بلاغية ، بمعنى أنها مدمية \مدماة ، في اشارة الى كثرة تعرضها للافتراش والنهش .ـ
هناك في الادب العربي القديم ، وفي الفلكلور الشعبي العربي ، شخصيات مماثلة لها ومتطابقة الوصف والوظيفة ، لكنها تتخذ اسماء أخرى تبعا لتسمية اهل البلاد. ففي الاردن وفلسطين وحوض الفرات وبعض الاجزاء من سوريا يسمونها ((السُعْلُوَّة)) وفي مصر يسمونها ((النداهة))، ولها تسميات أخرى في بقية البلدان.ـ
لكنها لازالت حاضرة في الذاكرة والفلوكلور في عموم اوربا، ويتفقون على تسميتها بالساحرة، ويُقام لها مناسبات واحتفالات ، يتخللها حضور فولكلوري بنفس الازياء ، وربما قام جمهور المحتفلين بارتداء ازياء الساحرات. ويُعتقد أن هذه الشخصية واستنساخاتها، وردت في ملحمة كلكامش بأسم ليليث، وان العراقيين القدماء استخدموها بكثرة لاغراض دينية في باديء الامر ثم لتنسَلَّ الى الذاكرة الجمعية كأدب شعبي، لكنها على العموم لازالت تأخذ حَيِّزاً من الذاكرة تحت مسميات شتى ، هذه الداميي ( امالة الالف المفترضة في التاء المربوطة ، وهو استخدام لغوي شائع في اللهجة الموصلية ، واللهجة البيروتية كذلك ) ، هذه الدامية كانت تؤدي وظائف عدة ، اضافة الى التسلية في سرد القصص المثيرة عنها وبطولاتها ، فانها تؤدي مهمة الردع ، حينما يعمد الحاكي الى ايصال رسالة ردعية للمُتَلَقِّين، وايضا فان الدامية تتنوع ادوارها تبعا لخيال الحاكي ، فقد تكون احيانا فارسة تدافع عن الرضع حينما تريد القطة ان تلتهمهم ، وأمهم مشغولة ، أو تنقلب الى صيغة تنفير من ناس معينين، أو اماكن معينة تتواجد فيها الدامية .ـ
شغلتنا حكاية الدامية، واخذت حَيِّزاً في تفكيرنا ونحن أطفال ، في مجتمع بسيط لم يكن لديه ما يغذي خيال الطفل وفراغه الروحي الا هذا، وكلما كان الحاكي متفننا بالحكاية كلما كنا نزحف شيئا فشيئا نحو الفراش لنلوذ به من الرعب والخوف ونتحاشى النظر الى سقف الغرفة، لان العين ازدحمت بالصور وبالدامية، وخشية ان نراها على الحيطان وفي السقوف، فكنا نحكم اغلاق الاعين تحت الفراش، ولا نفكر بتاتا في الخروج من الغرفة ( الاودة ) تحت اي ظرف، واذا صادف وحكمت بعضنا حاجات افراغ خفيفة، مثل البول، فان اسلم الطرق تكون بافراغها في الفراش (ولا بهدلة الخروج والتعرض للخطر المحدق)، لكن جانبا من هذا الموروث الاجتماعي كان سيئا ومؤثرا على الشخصية لاحقا .ـ
كانت تساؤلات الاشخاص حول الدامية تنتهي الى سؤال مهم، وهو اين تسكن الدامية ؟ ومن اين تأتي ؟ وما هي الاماكن المفترض وجودها فيها. هذه الاسئلة، وجدت لها إجابة مغرضة وخبيثة ، لكنها ملائمة ومقنعة ويحتملها الخيال الشعبي ، وذلك في تسمية بعض القناطر القديمة في احد أزقة المدينة ، بـ (قنطرة الجان)، وما أدراك ما قنطرة الجان.ـ
اذا قيل أن في المدن القديمة التاريخية ( ومنها الموصل ) هناك تاريخ تحكيه الحيطان والاحجار ، يصدق هذا القول على قنطرة الجان .ـ
تقع قنطرة الجان وسط زقاق قديم في الموصل ، هذا الزقاق يدلف منه من محلة امام ابراهيم الى محلة النبي جرجيس ، الزقاق الذي توجد فيه القنطرة قصير، ليس بالطويل، لا يوجد في الزقاق أي بيت، انما هو ظهور لبيوت تقع ابوابها في محلة الامام ابراهيم. لذلك فان الزقاق غالبا ما يكون خاليا غير مطروق ، كما أن القنطرة نفسها ليست مستقيمة ، انما معوجه على شكل منجل ، وهذا ما يجعلها مظلمة اغلب الاوقات، بله الليل .ـ
القنطرة تلي مباشرة قنطرة اخرى ، سموها قنطرة الديوجي ، لانها تربط طرفي بيت المرحوم عثمان آغا الديوةجي( كما كان يُطلق عليه ) في محلة الامام ابراهيم . ، وقنطرة الديوه جي طريق سالك ومطروق بكثافة ، كما أنه ممر رئيس للقادمين من الشارع. لذلك فقد كانت قنطرة الديوةجي مريحة كثيرا ، وذات سمعة جيدة قياسا الى قنطرة الجان .ـ
قنطرة الجان اختلفت فيها الروايات والاغراض ، وجمعت بين خوف ورعب من الجان والداميات ، وبين سمعة غير طيبة نتيجة لمرور الخمارين فيها ليلا ورميهم قناني المشروب ، وايضا اجتماع بعض العشاق فيها عصرا وقبيل المغرب ، او عقد اللقاءات الغرامية المستعجلة فيها . لذلك فقد حرض اباء والامهات كثيرا على تحاشيها في المرور ، كما اوغروا صدور الاطفال بعدم الدخول اليها ، وكان المعلن للاطفال هو وجود ما يخيف فيها ، والمبطن للكبار والمفهوم اشارة هو خشية الشبهة او حصول أمر ما . والحقيقة أن القنطرة في موقعها تشكل مكانا آمنا لمن يريد ان يتوارى عن الانظار .ـ
وكانت تغري بعض الرجال بالمرور فيها او تضطرهم لسبب وحيد ، أنها تختصر المسافة كثيرا بين الامام ابراهيم والنبي جرجيس ، بدل الدوران الطويل من القسم البلدي في النبي جرجيس ومرورا ببيت المرحوم احمد الحبار ، ومن ثم بيت المرحوم خضر الرحالي ، ثم بيت شاكر السلو الشاكر ، والاستدارة لكي يصل الى تقاطع امام ابراهيم ومحلة باب الجبلين والفرع المؤدي الى المكاوي ، يعني تختصر المسافة كثيرا .ـ
الساكنون حول القطرة ، اي في محيطها الخارجي ، استراحوا كثيرا لفوبيا (( قنطرة الجان )) وهذا يذكرني بفوبيات كان يخترعها الاستعمار ولازال يخترعها الغرب ، للتخويف من موجات وتيارات تقدمية ووطنية . والحقيقة أن تسميتها الاصلية كانت قنطرة بيت جاجان
ـ( كما قال لي غير مرة أحد السكان القدامي في المنطقة ) وبيت جاجان كانوا يسكنون في بيت كبير يقع عند منتهى القنطرة من جهة النبي جرجيس ، وهي عائلة داغستانية مهاجرة جاءت من تلك الاصقاع .ـ
استراحت العوائل لانها جنبت ابناءها الصغار من الدخول اليها ، ايضا حذرت اليافعين خوف الشبهة ، لكن الساكنين حولها ، نوعية مختارة من العوائل الكريمة والعريقة ، وذات موقع اجتماعي ارستقراطي تقريبا ، وهذا ما جعل وجودهم يشكل ضغطا من نوع ما على رواد المحلة كلها وحجّم دورها ، ومنع الاقاويل من الاندياح كثيرا بشأنها.ـ
كان يسكن برأس الزقاق الذي تقع فيه القنطرة ، المرحوم عزيز احمد الفتاح ، سكن هذا البيت بعد أن باعه مالكه السابق عبد الله الفيل ، وهما شخصيتيان معروفتان في الموصل وحاضرتان اجتماعيا ، و بجانبه على الرأس الاخر ، سكن ابناء محمد الحاج اسعد الطائي ، يقابله تماما المرحوم عثمان الديوةجي ، وهو معروف كرجل وجيه ، ويُعرف بالآغا ، في المنطقة ، ويبدو أنه يُمارس هذا الدور أيضا، حيث يكثر في بيته الخدم والحشم ، ويأتيه ريع الضياع والقرى والمحاصيل الى البيت.ـ
وبجانب بيت الديوجي كان هناك بيت المرحوم قاسم الصائغ، والد الحاج رياض الصائع وحازم الصائغ، يقابله بيت المرحوم خليل الملاح.على مقربة منهم داخل الفرع بيت الحاكم عبد الله الفيضي واخوه، وسكن ايضا في هذه المنطقة، ملاصقا لقنطرة الديوجي، المرحوم محمد طاهر الغضنفر، مدير الطابو السابق (هكذا كما اتذكر). وايضا هناك بيوت كثيرة، متوزعه حول المكان.ـ
السكان هنا كانوا يمنعون اطفالهم منعا باتا من التواجد خارج البيت او في الزقاق ، ليس لاغراض خوف ما ، ولكن ما يشبة التواطؤ الاجتماعي ، او شيء متعلق بالوجاهة . لذلك تعتبر المنطقة مفضلة للبائعين المتجولين واصحاب العربات ممن يبيعون الخدمات ، مثل ابو الكاز ، وابو الثلج ، وابو مكائن الجرش والبرغل ، لسهولة الدخول اليها من الشارع حيث مسجد الامام ابراهيم ، والزقاق ايضا مستقيم ومبلط وليس فيه عقبات بالنسبة لاصحاب العربات ، وسهولة تعاملهم مع اصحاب البيوت ، وربما لبعض اليسر والسخاء ( البحبحة) . كما أن الخدمات الحكومية ايضا كانت سريعة الوصول ، فخدمة التلفونات قديمة وصيانة الكهرباء وغيرها .ـ
وعودة الى الدامية وقنطرة الجان، كانت تُشاع خرافة هي، أن القنطرة تنغلق احيانا على روادها او سالكيها ، والاجراء الذي ينصح به لمن تنغلق عليه القنطرة ، أن يعمد الى فتحها ، بأبرة خياطة أو دبوس، أو مخَّاطْ ، هذه الخرافة ، دفعت بائعا متجولا في باب الطوب كان يبيع المخاط (المخاط ابرة كبيرة جدا تستخدم لخياطة اللحافات) الى أن يتوجه الى المنطقة ، ويظل يصيح ،، مخاط ،،مخاط ، وبشكل يومي ، مما أثار تساؤلات السكان ، فلم يجد زبائن لبضاعته ، لكنه كان قد أدمن المكان، فانتهى به الامر يبيع الشرابت ((نوع من الحلوى سكرية سريعة الذوبان في الفم ما يحبذه الاطفال)) ، وايضا منسق عام لنوع من المواعيد الغرامية في القنطرة ، دون ان يشعر ، وذلك عبر اغرائه بشراء الحلوى منه ، وذلك بان يوصل رسائل او برقيات مستعجلة، او يردد نوع من النغمة يفهمها المتلقي الاخر على اللاسلكي، وكان هذا الترتيب حقا مما يبعث على الضحك لسعة حيلة العشاق ولظرافتهم .ـ
كان يسود قديما نوع من البطولة والشجاعة في تحدي مثل هذه الظواهر ، وانحصرت مع الاسف بعض الشجاعات في تحدي الوهم المتخيل ، على مستوى الكبار ايضا ، ويبدو أن هذا مما علق في الذهن واستمر باقيا في الوعي ، وهذا مما يؤخذ على التكريس الثقافي والاجتماعي لتلك الفترة ، ويؤشر بوضوح لصورة المجتمعات انذاك ، والتي لازال البعض يتلمظ بها ، ويشيد على انها افضل فترات التاريخ الذهبية ، كانت هذه حالة من الخدر واشغال الناس بامور وهمية ، ربما لابعادهم عن النظر في أمر مصير الوطن او مصير القضايا الوطنية ، صحيح ان هذه الحالة يغذيها الجهل ، لكن يجب أن يشار الى ان الجهل كان نوعا من المنهج المتخذ لتخدير الشعب (انا هنا اتكلم عن تركة الرجل المريض).ـ
ومما يتوارد من قصص في هذا الشأن أن رجلا تحداه قومه بان يغرز مسمارا في منطقة باشطابيا ليلا ، وجعلوا له مكافأة لذلك ، اضافة الى الاقرار بشجاعته ، واذا صادف وان قتل الدامية التي ستعترضه ، فسوف يشهدون له بالشجاعة ، وهي شهادة لا تعادلها نوبل ولا الاوسكار ، في بيئة محصورة ضيقة ، تقتات على هذه القصة لسنين ، فما كان من
الرجل الى ان شد الرحال ليلا الى باشطابية ومعه مطرقة وعدة مسامير زيادة في التحدي.ـ
وكان يرتدي زبون ( ثوب طويل مفتوح من امام بطوله ) ، فوصل وقلبه يتراقص وصعد تلة باشطابيا وغرز المسمار واحكم غرزه بالمطرقة ، ولما اراد النهوض جذبه احدهم من زبونه فتوقف قلبه لحظات ثم عاود الخفقان يسرعة فائقة ، واخذ يصيح ، ثم ليكتشف بعدها أنه قد دق المسمار على طرف زبونه الذي افترشه اثناء الجلوس ، لكنه عاد الى قومه يحكي لهم قصة السبع ، كما هي العادة حين لا يكون على التاريخ شاهد ، ويحكي احدنا بالذي يريد لا بالذي كان .ـ
أحيلت قنطرة الجان سريعا على التقاعد ، وخذلها سكان المنطقة الذي غادروا المنطقة باكرا متوزعين في الاحياء الحديثة ، وسكنها بعدهم الاومرية والكويان والتنَّة ، لانهم تحلقوا باكرا في ضواحيها ، واصبحت الان تقريبا معقلا وسكنا مميزا لهم ، وبسكن هؤلاء للمنطقة وتداخلهم الاجتماعي مع بعضهم بشدة وزخم ، اصبحت القنطرة مبعث قلق ومشاكل لهم ولغيرهم . فقاموا باغلاقها من الجهتين ، وبنوا عليها حائطا اسمنتيا ، قيل انه لتعزيز الاسس كي لا تسقط و قيل ايضا انه الاهمال الواضح والظاهر في صيانة الابنية والمعالم التاريخية . شأنها في ذلك شأن مئات القناطر ، التي تروي تاريخ هذه المدينة . وايضا اجتزت من القنطرة الاخرى (قنطرة بيت الديوةجي ) بعض اجزائها ، لاقاويل عدة ايضا و ويبدوأن الهدم والاغلاق هو اسهل طرق الصيانة ومريح للدماغ والكسل الاداري .ـ
يبقى أن نقول هل بقيت في مجتمعاتنا داميات او غول او سعلوة ، بعد أن ظهر الغول الاصلي .وهل تبقى الدامية بعد مخيفة ، أم أنها أصبحت صاحبة الجلالة التي تأطرت بالفروسية وتأبطت الدين والمثل العليا . واليها يشد الرحال، ويطلب الود، وتزحف الجموع .ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة:ـ
ارجو من كافة القراء الكرام ، الاشارة المشكورة ، لاي خطأ او سهو في بعض الاسماء الواردة في المقالة، وبامكانهم التكرم والتفضل باضافة او استدراك على الموضوع بما يغنية ويوثقه أكثر، لانني بشر، يمر علي الخطأ والوهم أحيانا، خدمة للتاريخ وتبيانا
للحقيقة.ـ
أسامة غاندي