كثيرًا ما نستمع إلى قصيدة ما، أو نقرأ قصيدة معينة فنندهش من كينونتها الخارجية؛ فكل شيء يثير الدهشة من الوزن إلى الإيقاع ومن الألفاظ إلى الصور. لكننا نفاجأ عند معاودة الاستماع، أو القراءة المتأنية بأننا قد تسرعنا في الحكم على ما سمعناه أو قرأناه، وخذلتنا القصيدة من المرة الأولى؛ فليست القصيدة بوزنها السليم، وقوافيها المتوازنة، وإيقاعاتها المتسقة، أو بصورها المبتكرة، وألفاظها الشعرية النقية، وبنائها الخارجي المتوهج. إنما يوجد عنصران مهمان من الضرورة توافرهما في القصيدة حتى يضمن لها النجاح: العنصر الأول المعنى أو الرؤية الفكرية التي تنطوي عليها القصيدة، والعنصر الثاني يتمثل بتناغم مشاعر الذات الشاعرة وعواطفها مع تلك الرؤية من ناحية، ومع البنية التركيبية للقصيدة بشكل عام من ناحية أخرى.
تفجرت هذه الفكرة في ذهني، وأنا أتمعن قصيدة قصيرة قرأتها على الفيسبوك للشاعر صلاح أبو لاوي.
لقد أخذتني القصيدة، في البداية، إلى عالم من اللذة والجمال الفني ببنائها المتماسك؛ فهي قصيدة تتبنى ضمير المتكلم الذي يظهر الحدث خاصًا بالذات الشاعرة، وتقدم مشهدًا دراميًا ينبض بالحياة بين الذات العاشقة وبين فتاة معشوقة في لحظة فراق حزين، كما يبدو من عنوانها" وداعًا". تقول القصيدة:
وداعاً..
وجرجرت خلفي خطاي البليدةْ
وداعاً..
وظلّتْ وحيدةْ
كأنّ على رأسها الطير تشرب من مقلتيها
فتأبى سوى أن تزيدهْ
وداعاً..
لهاث البراكين في صدرها
كلما كنتُ أصعدُ
كان النشيجُ يحثُّ صعودهْ
فيخنقني
مثلما كان يخنقها صوت خطوي الجبانُ
وتخنقها في (وداعاً) حماقاتُ قلبي العنيدةْ
وداعاً..
وظل صراخُ اللهاث ورائي يؤنبني،
فأعاندهُ
وأعود إلى الجاهلية في معماتي البعيدةْ
وداعاً..
وأعلم اني خسرتُ نبيذي
وأني خسرت العناقيد في صدرها
وخسرت القصيدةْ
لكن القصيدة تضيع من بين أيدينا عندما نقرؤها مرة أخرى.
إن الوداع أمر عادي بين الناس وبين العاشقين، ولكنا نرى أن هذا الوداع الذي جاءت به القصيدة يفقد سببيته؛ فالذات الفاعلة تعترف بأن خطوتها التي تجرجرها نحو الفراق بليدة، وهي لا تستطيع أن تتحمل ألم الفراق، وتعترف بأنه يخنقها، وأن خطوتها تلك خطوة جبانة، تعاند حقيقة مشاعرها، ويعلو الصوت الشعري ليعد هذا الفراق من الحماقات التي اقترفت، ويدعو القلب إلى أن يعود عن فعله الشنيع، ولكنه يأبى ويعاند لتقترب مشاعره من الجاهليين في نظرتهم إلى المرأة. وهو في النهاية يعترف بخسارته تلك الحبيبة، وكذلك خسارة ما يبعثه وجودها في نفسه من لذة وإحساس بالجمال، ثم خسرانه للقصيدة حين لا توصله إلى نوع من التوازن النفسي في علاقته بتلك الفتاة.
نلاحظ أن شخصية الذات الشاعرة تتألم لما أقدمت عليه، من خلال التعابير والصور: "جرجرت خلفي خطاي"، و"يخنقني" النشيج، و"يؤنبني" لهاثها. لكن هذه العواطف تتنافى مع هذه النهاية الحزينة بين الطرفين، فلا مسوغ لها، مما جعل القصيدة تفتقد إلى ما يعادل فنيًّا هذه الكبرياء الزائفة التي تتميز بها الذات الشاعرة.
إنها نهاية غريبة بل متكلفة لا تتناسب مع نهاية هذا الحب؛ فلا يوجد في القصيدة ما يعزز هذه النهاية ويؤدي إليها، ونخالها مقتحمة على حب عنيف بين عاشقين. فما كان لها أن تتجلى بهذه المأساوية والقسوة تجاه إنسانة لم تقترف إثمًا تجاه من تحب، فلا تستحق أن تظل وحيدة. كما أن الذات الشاعرة نفسها لا مسوغ لها أن تخسر لذة اللقاء بهذه العاشقة، وأن تجر القارئ إلى الشعور بضياع القصيدة.
ونخلص إلى القول إن هذه القصيدة الدرامية لم يكتمل نجاحها؛ لأن غايتها لم تتطابق مع المشاعر والعواطف التي غلبت في حكايتها العشقية، فلا غرابة أن تنضوي نهايتها على تلك الخسارات المبينة.
تفجرت هذه الفكرة في ذهني، وأنا أتمعن قصيدة قصيرة قرأتها على الفيسبوك للشاعر صلاح أبو لاوي.
لقد أخذتني القصيدة، في البداية، إلى عالم من اللذة والجمال الفني ببنائها المتماسك؛ فهي قصيدة تتبنى ضمير المتكلم الذي يظهر الحدث خاصًا بالذات الشاعرة، وتقدم مشهدًا دراميًا ينبض بالحياة بين الذات العاشقة وبين فتاة معشوقة في لحظة فراق حزين، كما يبدو من عنوانها" وداعًا". تقول القصيدة:
وداعاً..
وجرجرت خلفي خطاي البليدةْ
وداعاً..
وظلّتْ وحيدةْ
كأنّ على رأسها الطير تشرب من مقلتيها
فتأبى سوى أن تزيدهْ
وداعاً..
لهاث البراكين في صدرها
كلما كنتُ أصعدُ
كان النشيجُ يحثُّ صعودهْ
فيخنقني
مثلما كان يخنقها صوت خطوي الجبانُ
وتخنقها في (وداعاً) حماقاتُ قلبي العنيدةْ
وداعاً..
وظل صراخُ اللهاث ورائي يؤنبني،
فأعاندهُ
وأعود إلى الجاهلية في معماتي البعيدةْ
وداعاً..
وأعلم اني خسرتُ نبيذي
وأني خسرت العناقيد في صدرها
وخسرت القصيدةْ
لكن القصيدة تضيع من بين أيدينا عندما نقرؤها مرة أخرى.
إن الوداع أمر عادي بين الناس وبين العاشقين، ولكنا نرى أن هذا الوداع الذي جاءت به القصيدة يفقد سببيته؛ فالذات الفاعلة تعترف بأن خطوتها التي تجرجرها نحو الفراق بليدة، وهي لا تستطيع أن تتحمل ألم الفراق، وتعترف بأنه يخنقها، وأن خطوتها تلك خطوة جبانة، تعاند حقيقة مشاعرها، ويعلو الصوت الشعري ليعد هذا الفراق من الحماقات التي اقترفت، ويدعو القلب إلى أن يعود عن فعله الشنيع، ولكنه يأبى ويعاند لتقترب مشاعره من الجاهليين في نظرتهم إلى المرأة. وهو في النهاية يعترف بخسارته تلك الحبيبة، وكذلك خسارة ما يبعثه وجودها في نفسه من لذة وإحساس بالجمال، ثم خسرانه للقصيدة حين لا توصله إلى نوع من التوازن النفسي في علاقته بتلك الفتاة.
نلاحظ أن شخصية الذات الشاعرة تتألم لما أقدمت عليه، من خلال التعابير والصور: "جرجرت خلفي خطاي"، و"يخنقني" النشيج، و"يؤنبني" لهاثها. لكن هذه العواطف تتنافى مع هذه النهاية الحزينة بين الطرفين، فلا مسوغ لها، مما جعل القصيدة تفتقد إلى ما يعادل فنيًّا هذه الكبرياء الزائفة التي تتميز بها الذات الشاعرة.
إنها نهاية غريبة بل متكلفة لا تتناسب مع نهاية هذا الحب؛ فلا يوجد في القصيدة ما يعزز هذه النهاية ويؤدي إليها، ونخالها مقتحمة على حب عنيف بين عاشقين. فما كان لها أن تتجلى بهذه المأساوية والقسوة تجاه إنسانة لم تقترف إثمًا تجاه من تحب، فلا تستحق أن تظل وحيدة. كما أن الذات الشاعرة نفسها لا مسوغ لها أن تخسر لذة اللقاء بهذه العاشقة، وأن تجر القارئ إلى الشعور بضياع القصيدة.
ونخلص إلى القول إن هذه القصيدة الدرامية لم يكتمل نجاحها؛ لأن غايتها لم تتطابق مع المشاعر والعواطف التي غلبت في حكايتها العشقية، فلا غرابة أن تنضوي نهايتها على تلك الخسارات المبينة.