نشأ أبو عامر بن شهيد الاشجعي في الاندلس في قرطبة احدى مدن العلم والادب، وكان هذا الرجل اديبا مغموراً توغل في شعاب البلاغة وطرقها كما يقول ابن خاقان، وله في الادب مجالس معمورة يبث فيها تعاليمه وآراءه، ويالها من تعاليم قيمة، وآراء مبتكرة، ولكنه كان مبتلى بحقد جماعة من معاصريه قصروا عن شأوه فناصبوه الخصومة، فكان وهم كما يقول.
وبلّغت أقواما تجيش صدورهم ... علىّ وأنى منهم فارغ الصدر
أصاخوا الى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سرى فأعياهمو أمري
ولكنه لم يلبث أن ضاق صدره بهم، وشغله أمرهم، فاصلاهم ناراً حامية من التهكم المر والتعريض اللاذع، وتفنن في الانتقاص من قدرهم، والحط من شأنهم، وتحداهم بآرائه في النقد والبيان، وازدهى عليهم بقدرته في الشعر والنثر، وساق ذلك كله في قصة خيالية زعم أنها وقعت له في وادي الجن، وان حوادثها جرت بينه وبين شياطين الشعراء والأدباء - هذه القصة هي (التوابع والزوابع) موضوع بحثنا اليوم - وهي رسالة أدبية ممتعة تعد من خير ماخلف في تراثنا الأدبي قوة وجدة وطرافة. ولما كان في التوابع والزوابع شبه من رسالة الغفران، وكان عصر ابن شهيد مندرجاً في عصر المعري، رجح لدى الأدباء ان يكون احد الرجلين ضرب على غرار الآخر، وانساق مع تياره، فاهتموا ببحث الصلة بين الرسالتين، وتلمسوا فضل الأسبقية للسابق من الرجلين، وكان من رأى الدكتور احمد ضيف ان ابن شهيد هو الذي احتذى شيخ المعرة وحاكاه، واحتج لذلك بان شهرة ابي العلاء كانت ذائعة في الخافقين، وقد كان اهل الاندلس مولعين بتقليدالمشارقة في آدابهم وأفكارهم بل وفي كل شي؛ ولكن الدكتور زكي مبارك أمعن في البحث والتدقيق، ونظر الى المسألة من جانبين: الجانب الأول التاريخ الذيوضعت فيه التوابع والزوابع وقد استخلصه بالتقريب من قول صاحبها يخاطب جنية (من اخواننا من بلغ الامارة، وانتهى الى الوزارة). وقال: وفي هذا اشارة الى انه وضعها وهو كهل، اي بعد سنة اربعمائة واثنتي عشر للهجرة، واما الجانب الآخر. فهو التاريخ الذي كتبت فيه رسالة الغفران، وقد قال في تحقيقه: إن هذه الرسالة كانت جواباً على رسالة ابن القارح، فاذا علمنا بأن هذا الرجل وضع رسالته بعد أن نيّف على السبعين كما وقع في ثنايا كلامه، واذا علمنا بأنه ول سنة احدى وخمسين وثلثمائة، ثبت لدينا أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أي بعد التوابع والزوابع بنحو عشر سنين، وعلى هذا صار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلّد ابن شهيد.!!
فالدكتور زكي مبارك قد أنصف ابن شهيد حقاً، واستطاع أن يثبت له فضل السبق على صاحبه، ولكنه لم يستطع ان يثبت تهمة التقليد التي رجحها على المعري، وهي تهمة كبيرة لو صحت لكان لها شأن كبير في الأدب، خصوصاً اذا طاوعنا الذين يقولون بأن (دانتي) و (ملتن) - أخذا عن المعري في (الكوميديا الآلهية) و (الفردوس المفقود) والواقع أنه ليس في الرسالتين مايدل على تقليد أو محاكاة؛ نعم إن بينهما شبها في بعض الوجوه، فكل منهما عبارة عن سياحة خيالية إلى عالم آخر، كما أن كل منهما عرضاً لكثير من المشاكل الادبية واللغوية، وزيادة على ذلك فقد اهتم كل من الرجلين بالتهكم بمعاصرين في رسالته؛ ولكن هذا كله تشابه في امور عامة تتوارد فيها الخواطر غالباً، وربما تكون من وقع الحافر كما يقولون. ولو أنك نظرت الى وجه الخلاف بين الرسالتين لرأيته اقوى وادل على تباعد الرجلين واستقلالهما في الفكر والغرض؛ فقد قصد المعري في سياحته الى الفردوس والجحيم في العالم الآخر؛ وذهب ابن شهيد الى وادي الجن في عالم الحياة؛ واختار المعري اشخاص قصته من الرواة والشعراء والملائكة، وارتضاهم ابن شهيد من الشياطين - شياطين الشعراء والأدباء، وعنى المعري بالتعرض لكثير من المسائل الفلسفية والدينية، ولم يتعد ابن شهيد القول في البيان والنقد والشعر، وكتب المعري رسالته باسلوب وحشي غريب فلا يستطيع القارئ ان يأتي عليها الا بشق النفس، وقوة الصبر، وبعد الاستعانة بمعاجم اللغة، وساق ابن شهيد قصته فياسلوب عذب رقيق يخلق اللذة في نفس القارئ، ويدفع به الى استيعابها بلا ملل او سآمة؛ ولقد اظهر المعري كثيراً من التباهي بحفظ الغريب والتمكن في قواعد النحو والتصريف، واطال ابن شهيدالقول في الغض من قيمة هذه الامور وتحقير الذين يجعلونها كل همهم؛ ثم بعد هذا كله لاتجد في احدى الرسالتين فكرة اشتملت عليها الأخرى، او رأياً اتفق لكل من الرجلين؛ فلكل منهما فضله في عمله، ولكل منهما شخصيته في رسالته؛ واظن في ذلك مايكفي لدفع تهمة الاخذ والتقليد، سواء اكانت في جانب ابن شهيد كما يقول الدكتور ضيف؛ ام ناحية المعري كما يريد الدكتور زكي مبارك. وحسبي بعد هذا ان افرغ معك للحديث عن التوابع والزوابع، وان استعرض امامك ما احتوته من الاراء والافكار؛ ويقيني انك ستجد فيها كثيرا من الابداع والامتاع، بل سترى شيئاً جديداً يثمره الفكر العربي، وستشهد لصاحبها بالدقة في الوصف، والقوة في التصوير، خصوصاً وصف احوال الشعراء السابقين، وتوصير ميولهم ونفسياتهم، وستعجبك منه روح خفيفة، ونفس مرحة طروب يلذّ لها أن تضحك فتجيد الضحك، ويهمها النادرة الحلوة فتوفق كثيرا الى الحلاوة النارة وبراعة النكتة
استهل ابن شهيد رسالته بمقدمةقصيرة اراد ان يبين فيها كيف وقعت له حوادثها، وكيف رحل الى وادي الجن فقال: (كنت في ايام الحداثة احن الى الاداب، واصبوا الى تأليف الكلام، فابتعت الدواوين، وجلست الى الاساتيذ، فنبض في عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم مني طبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار، اسفاراً؛ وكان لي في اوائل صبوتي هوى اشتد له كلفي، ثم لحقني بعض ملل في اثناء ذلك الليل، فاتفق ان مات من كنت اهواه مدة ذلك الملال، فجزعت، واخذت في رثائه فقلت:
تولى الحمام بظبى الحدود ... وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى ان انتهت الى الاعتذار من الملل الذي كان فقلت:
وكنت مللتك لاعن قلي ... ولا عن فساد ثوى في الضمير ثم ارتجع على القول، فاذا انا فارس بباب المجلس، على فرس ادهم قد اتكأ على رمحه، فصاح بي اجز يافتى الأنس، فقتل: لا وأبيك، للكلام احيان، وهذا شأن الانسان؛ فقال قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... اذا دام فيه وحال السرور
فأثبت اجازته، وقلت: بابي من انت؟ قال: (زهير بن نمير) من أشجع الجن، تصورت لك رغبة في اصطفائك؛ قلت: اهلاً بك ايها الوجه الوضاح، صادفت قلباً اليك مقلوباً، وهوى نحوك محبوباً، وتحادثنا، وتذاكرت معه اخبار الخطباء والشعراء، ومن كان يألفهممن التوابع والزوابع، وقلت له هل من حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال حتى أستاذن شيخنا، وطار عني، ثم انصرف وقد اذن له فقالجل على متن الأدهم فسرنا عليه؛ وسار بنا كالطير يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدو، حتى لمحت ارضاً لا كأرضنا؛ وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال: حللت ارض الجن ابا عامر، فبمن تريد ان تبدأ؛ قلت: الخطباء اولى بالتقديم، ولكني الى الشعراء اشوق. . .).
وابن شهيد كما ترى يحاول الايجاز في سرد الحوادث، ويود ان ينطلق على طبيعته في ايراد القول، ولكنه لم يوفق كثيراً في هذه المقدمة كما يود، وكما وفق في عرض الرسالة؛ فظهر على أسلوبه مسحة التكلف، ووقعت بعض جملة قلق نابية، كأنه كان يدفع بها إلى غير موضع، ويضعها حيث لا مستقر؛ فمثلاً في قوله: (ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم منيطبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل اسفاراً) ثقل يحس به القارئ في اللسان وفي الذوق؛ وزيادة على ذلك فقد اضطرب الرجل في وضع الكلام، واختل به نهج القول. الا تراه يقول في بدء كلامه (كنت في ايام الحداثة احن الى الأداب. . .)، ويسير في الحديث على هذه الكينونة؛ كأنه رحل إلى وادي الجن غض الاهاب، نضر الشباب؛ مع أنه فيما بعد سيشكو الى احدى التوابع مافعلت الايام به!! وسيذكر لها ان من اخوانه من بلغ الامارة. وانتهى الى الوزارة! وفي هذا ما يفيد انه طعن في الكهولة على اقل تقدير ثم تجده يصف صاحبه (زهير بن نمير) بأنهمن اشجع الجن، وكان الاوفق بداهة ان يجعله في الادباء، ما دام القول في الادب والشعر وما دام الحديث عن الادباء والشعراء.
ولكن هذه هنات هينات. على انها ترجع الى العرض، ولا تمس الجوهر في شيء، وقد تكون هي كل ما في الرسالة من المآخذ؛ ولقد سلك الرجل طريقه بعد ذلك على احسن ما يكون، يجد ويهزل، ويتهكم، ويضحك. ويعالج كثيراً من الآراء العميقة، والافكار القويمة، وهو في كل ذلك طريف خفيف؛ ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والايجاز السليم؛ ولقد حدثنا بعد هذه المقدمة أنه لما نزل بوادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء؛ طلب من صاحبه (زهير بن نمير) أن يقدمه الى عيينة بن نوفل شيطان امرئ القيس، فصاح به زهير: يا عيينة بن نوفل، أقسمت عليك بسقط اللوى فحومل ويوم دارة جلجل؛ الا عرضت لنا وسمعت من الانسي، وعرفتنا كيف اجازتك له - يقول ابن شهيد - فظهر لنا فارس على شقراء كأنها تلتهب، فقال حياك الله يا زهير وحيا صاحبك، أهذا هو وحق ابي؟ ثم قال أنشد، قلت: السيد اولى بالانشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وضرب عنان الشقراء، ثم انشد: (سما لك شوق بعد ما كان اقصرا) حتى اكملها. ثم قال انشد، فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت: (شجته مغان من سليمى وأدؤر) حتى انتهيت فيها الى قولي:
ومن قنة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكنفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت امواجه تتكسر
ومن نحت حصنٌ أبيض ذو شقائق ... وفي الكفّ من عسّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جدّ الفتى حين يعثر
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 64
بتاريخ: 24 - 09 - 1934
وبلّغت أقواما تجيش صدورهم ... علىّ وأنى منهم فارغ الصدر
أصاخوا الى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سرى فأعياهمو أمري
ولكنه لم يلبث أن ضاق صدره بهم، وشغله أمرهم، فاصلاهم ناراً حامية من التهكم المر والتعريض اللاذع، وتفنن في الانتقاص من قدرهم، والحط من شأنهم، وتحداهم بآرائه في النقد والبيان، وازدهى عليهم بقدرته في الشعر والنثر، وساق ذلك كله في قصة خيالية زعم أنها وقعت له في وادي الجن، وان حوادثها جرت بينه وبين شياطين الشعراء والأدباء - هذه القصة هي (التوابع والزوابع) موضوع بحثنا اليوم - وهي رسالة أدبية ممتعة تعد من خير ماخلف في تراثنا الأدبي قوة وجدة وطرافة. ولما كان في التوابع والزوابع شبه من رسالة الغفران، وكان عصر ابن شهيد مندرجاً في عصر المعري، رجح لدى الأدباء ان يكون احد الرجلين ضرب على غرار الآخر، وانساق مع تياره، فاهتموا ببحث الصلة بين الرسالتين، وتلمسوا فضل الأسبقية للسابق من الرجلين، وكان من رأى الدكتور احمد ضيف ان ابن شهيد هو الذي احتذى شيخ المعرة وحاكاه، واحتج لذلك بان شهرة ابي العلاء كانت ذائعة في الخافقين، وقد كان اهل الاندلس مولعين بتقليدالمشارقة في آدابهم وأفكارهم بل وفي كل شي؛ ولكن الدكتور زكي مبارك أمعن في البحث والتدقيق، ونظر الى المسألة من جانبين: الجانب الأول التاريخ الذيوضعت فيه التوابع والزوابع وقد استخلصه بالتقريب من قول صاحبها يخاطب جنية (من اخواننا من بلغ الامارة، وانتهى الى الوزارة). وقال: وفي هذا اشارة الى انه وضعها وهو كهل، اي بعد سنة اربعمائة واثنتي عشر للهجرة، واما الجانب الآخر. فهو التاريخ الذي كتبت فيه رسالة الغفران، وقد قال في تحقيقه: إن هذه الرسالة كانت جواباً على رسالة ابن القارح، فاذا علمنا بأن هذا الرجل وضع رسالته بعد أن نيّف على السبعين كما وقع في ثنايا كلامه، واذا علمنا بأنه ول سنة احدى وخمسين وثلثمائة، ثبت لدينا أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أي بعد التوابع والزوابع بنحو عشر سنين، وعلى هذا صار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلّد ابن شهيد.!!
فالدكتور زكي مبارك قد أنصف ابن شهيد حقاً، واستطاع أن يثبت له فضل السبق على صاحبه، ولكنه لم يستطع ان يثبت تهمة التقليد التي رجحها على المعري، وهي تهمة كبيرة لو صحت لكان لها شأن كبير في الأدب، خصوصاً اذا طاوعنا الذين يقولون بأن (دانتي) و (ملتن) - أخذا عن المعري في (الكوميديا الآلهية) و (الفردوس المفقود) والواقع أنه ليس في الرسالتين مايدل على تقليد أو محاكاة؛ نعم إن بينهما شبها في بعض الوجوه، فكل منهما عبارة عن سياحة خيالية إلى عالم آخر، كما أن كل منهما عرضاً لكثير من المشاكل الادبية واللغوية، وزيادة على ذلك فقد اهتم كل من الرجلين بالتهكم بمعاصرين في رسالته؛ ولكن هذا كله تشابه في امور عامة تتوارد فيها الخواطر غالباً، وربما تكون من وقع الحافر كما يقولون. ولو أنك نظرت الى وجه الخلاف بين الرسالتين لرأيته اقوى وادل على تباعد الرجلين واستقلالهما في الفكر والغرض؛ فقد قصد المعري في سياحته الى الفردوس والجحيم في العالم الآخر؛ وذهب ابن شهيد الى وادي الجن في عالم الحياة؛ واختار المعري اشخاص قصته من الرواة والشعراء والملائكة، وارتضاهم ابن شهيد من الشياطين - شياطين الشعراء والأدباء، وعنى المعري بالتعرض لكثير من المسائل الفلسفية والدينية، ولم يتعد ابن شهيد القول في البيان والنقد والشعر، وكتب المعري رسالته باسلوب وحشي غريب فلا يستطيع القارئ ان يأتي عليها الا بشق النفس، وقوة الصبر، وبعد الاستعانة بمعاجم اللغة، وساق ابن شهيد قصته فياسلوب عذب رقيق يخلق اللذة في نفس القارئ، ويدفع به الى استيعابها بلا ملل او سآمة؛ ولقد اظهر المعري كثيراً من التباهي بحفظ الغريب والتمكن في قواعد النحو والتصريف، واطال ابن شهيدالقول في الغض من قيمة هذه الامور وتحقير الذين يجعلونها كل همهم؛ ثم بعد هذا كله لاتجد في احدى الرسالتين فكرة اشتملت عليها الأخرى، او رأياً اتفق لكل من الرجلين؛ فلكل منهما فضله في عمله، ولكل منهما شخصيته في رسالته؛ واظن في ذلك مايكفي لدفع تهمة الاخذ والتقليد، سواء اكانت في جانب ابن شهيد كما يقول الدكتور ضيف؛ ام ناحية المعري كما يريد الدكتور زكي مبارك. وحسبي بعد هذا ان افرغ معك للحديث عن التوابع والزوابع، وان استعرض امامك ما احتوته من الاراء والافكار؛ ويقيني انك ستجد فيها كثيرا من الابداع والامتاع، بل سترى شيئاً جديداً يثمره الفكر العربي، وستشهد لصاحبها بالدقة في الوصف، والقوة في التصوير، خصوصاً وصف احوال الشعراء السابقين، وتوصير ميولهم ونفسياتهم، وستعجبك منه روح خفيفة، ونفس مرحة طروب يلذّ لها أن تضحك فتجيد الضحك، ويهمها النادرة الحلوة فتوفق كثيرا الى الحلاوة النارة وبراعة النكتة
استهل ابن شهيد رسالته بمقدمةقصيرة اراد ان يبين فيها كيف وقعت له حوادثها، وكيف رحل الى وادي الجن فقال: (كنت في ايام الحداثة احن الى الاداب، واصبوا الى تأليف الكلام، فابتعت الدواوين، وجلست الى الاساتيذ، فنبض في عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم مني طبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار، اسفاراً؛ وكان لي في اوائل صبوتي هوى اشتد له كلفي، ثم لحقني بعض ملل في اثناء ذلك الليل، فاتفق ان مات من كنت اهواه مدة ذلك الملال، فجزعت، واخذت في رثائه فقلت:
تولى الحمام بظبى الحدود ... وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى ان انتهت الى الاعتذار من الملل الذي كان فقلت:
وكنت مللتك لاعن قلي ... ولا عن فساد ثوى في الضمير ثم ارتجع على القول، فاذا انا فارس بباب المجلس، على فرس ادهم قد اتكأ على رمحه، فصاح بي اجز يافتى الأنس، فقتل: لا وأبيك، للكلام احيان، وهذا شأن الانسان؛ فقال قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... اذا دام فيه وحال السرور
فأثبت اجازته، وقلت: بابي من انت؟ قال: (زهير بن نمير) من أشجع الجن، تصورت لك رغبة في اصطفائك؛ قلت: اهلاً بك ايها الوجه الوضاح، صادفت قلباً اليك مقلوباً، وهوى نحوك محبوباً، وتحادثنا، وتذاكرت معه اخبار الخطباء والشعراء، ومن كان يألفهممن التوابع والزوابع، وقلت له هل من حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال حتى أستاذن شيخنا، وطار عني، ثم انصرف وقد اذن له فقالجل على متن الأدهم فسرنا عليه؛ وسار بنا كالطير يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدو، حتى لمحت ارضاً لا كأرضنا؛ وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال: حللت ارض الجن ابا عامر، فبمن تريد ان تبدأ؛ قلت: الخطباء اولى بالتقديم، ولكني الى الشعراء اشوق. . .).
وابن شهيد كما ترى يحاول الايجاز في سرد الحوادث، ويود ان ينطلق على طبيعته في ايراد القول، ولكنه لم يوفق كثيراً في هذه المقدمة كما يود، وكما وفق في عرض الرسالة؛ فظهر على أسلوبه مسحة التكلف، ووقعت بعض جملة قلق نابية، كأنه كان يدفع بها إلى غير موضع، ويضعها حيث لا مستقر؛ فمثلاً في قوله: (ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم منيطبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل اسفاراً) ثقل يحس به القارئ في اللسان وفي الذوق؛ وزيادة على ذلك فقد اضطرب الرجل في وضع الكلام، واختل به نهج القول. الا تراه يقول في بدء كلامه (كنت في ايام الحداثة احن الى الأداب. . .)، ويسير في الحديث على هذه الكينونة؛ كأنه رحل إلى وادي الجن غض الاهاب، نضر الشباب؛ مع أنه فيما بعد سيشكو الى احدى التوابع مافعلت الايام به!! وسيذكر لها ان من اخوانه من بلغ الامارة. وانتهى الى الوزارة! وفي هذا ما يفيد انه طعن في الكهولة على اقل تقدير ثم تجده يصف صاحبه (زهير بن نمير) بأنهمن اشجع الجن، وكان الاوفق بداهة ان يجعله في الادباء، ما دام القول في الادب والشعر وما دام الحديث عن الادباء والشعراء.
ولكن هذه هنات هينات. على انها ترجع الى العرض، ولا تمس الجوهر في شيء، وقد تكون هي كل ما في الرسالة من المآخذ؛ ولقد سلك الرجل طريقه بعد ذلك على احسن ما يكون، يجد ويهزل، ويتهكم، ويضحك. ويعالج كثيراً من الآراء العميقة، والافكار القويمة، وهو في كل ذلك طريف خفيف؛ ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والايجاز السليم؛ ولقد حدثنا بعد هذه المقدمة أنه لما نزل بوادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء؛ طلب من صاحبه (زهير بن نمير) أن يقدمه الى عيينة بن نوفل شيطان امرئ القيس، فصاح به زهير: يا عيينة بن نوفل، أقسمت عليك بسقط اللوى فحومل ويوم دارة جلجل؛ الا عرضت لنا وسمعت من الانسي، وعرفتنا كيف اجازتك له - يقول ابن شهيد - فظهر لنا فارس على شقراء كأنها تلتهب، فقال حياك الله يا زهير وحيا صاحبك، أهذا هو وحق ابي؟ ثم قال أنشد، قلت: السيد اولى بالانشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وضرب عنان الشقراء، ثم انشد: (سما لك شوق بعد ما كان اقصرا) حتى اكملها. ثم قال انشد، فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت: (شجته مغان من سليمى وأدؤر) حتى انتهيت فيها الى قولي:
ومن قنة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكنفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت امواجه تتكسر
ومن نحت حصنٌ أبيض ذو شقائق ... وفي الكفّ من عسّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جدّ الفتى حين يعثر
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 64
بتاريخ: 24 - 09 - 1934