نورالدين صمود - ذكريات خاصة جدا عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين

6)

أواصل في هذا الركن سرد ذكرياتي، عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، فأنا ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، وقد نبهت منذ البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط (بالمعنى النبيل للكلمة)، وسأرويها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم.
أذكر أنني صافحت الدكتور طه حسين مرة واحدة خارج الجامعة، إذ أننا رغم لقاءاتنا المتعددة به في كلية الآداب لم نتعود على مصافحته، ولم أر أحدا من الطلبة يصافحه فيها، وكذلك كان شأننا جميعا مع بقية أساتذتنا طوال تلك السنوات، وقد وقعت مصافحتنا الجماعية الوحيدة هذه، أمام قاعة «يورك التذكارية» التي تقع في الجانب الشرقي من الجامعة الأمريكية المحاذية لميدان التحرير، شرقي منزلنا الذي كنا نقيم فيه رقم 21 بالدور الرابع من شارع محمد محمود باشا، وذلك إثر خروجنا من تلك القاعة بعد انتهاء الاحتفال بأربعينية وفاة الكاتب المجمعي الوزير المفكر الدكتور محمد حسين هيكل سنة 1956 الذي أتذكر أنه قد حضره جماعة من المشاهير مثل أحمد لطفي السيد، مترجم أرسطو إلى العربية، وطه حسين الذي ألقى كلمة بهذه المناسبة عن صديقه الراحل، وقد تكلم في تلك الليلة كثير ممن لم أعد أتذكر أسماءهم الآن، ولم يتمكن من حضور ذلك الحفل عباس محمود العقاد لمرض ألمّ به أو لسفره إلى الصعيد، كما لا أتذكر جيدا، وقد أرسل قصيدة في رثاء هيكل ألقيت بالنيابة عنه.
وبالمناسبة أقول إني لم أر العقاد إلا مرة واحدة أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة في أواخر سنة 1956 (وذلك بين 9 و 15 ديسمبر من تلك السنة) بقامته الفارعة و«كشكوله» الطويل الملتف حول عنقه، وقد ألقى يومئذ كلمة عن الشاعر محمود سامي البارودي في جلسة وقعت بقصر أحد أمراء مصر السابقين.

وأود أن أشير إلى أني كنت أشاهد بعض مشاهير الكتاب والمفكرين مثل توفيق الحكيم وبيرم التونسي يوميا تقريبا ومحمد عوض محمد مترجم «فارست» إلى العربية مع توفيق الحكيم أحيانا، في مقهى يقع في أواخر شارع سليمان باشا سابقا وطلعت حرب حاليا مما يلي شارع 26 يوليو 1952، قرب سينما مترو ومسرح إسماعيل يس سابقا وتحية كاريوكا في ما بعد، ولست أدري ماذا يسمى الآن، بينما لم أر العقاد ولو مرة واحدة في أي مكان إلا في المناسبة السابقة.
وبالمناسبة أتذكر أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قال مرة متحدثا عن بعض الأدباء المصريين إنه لم ير العقاد إلا أثناء انعقاد ذلك المؤتمر، أي بعد الثورة بحوالي ست سنين، وقد استنتجت من كلامه أن رؤيتنا للعقاد كانت في وقت واحد تقريبا، فقد كان العقاد طودا راسخا، له مجلس خاص لم أزره للأسف.
وأذكر أن حفل أربعينية هيكل قد حضره معي جماعة من الطلبة التونسيين، أتذكر منهم من أبناء مسقط رأسي قليبية زميلي الطالب في جامعة القاهرة صلاح الدين الغربي وأصدقائي من جامعة عين شمس الطلبة: الحبيب بوزكورة وعبد السلام النمر وعبد الملك الزمرلي وعز الدين الغربي، وأتذكر أننا تجمعنا بعد انتهاء ذلك الحفل أمام الباب عند الخروج من تلك القاعة الكبرى، وانضم إلينا بعض الحاضرين، في انتظار خروج عميد الأدب لمصافحته مستغلين تلك الفرصة التي تعللنا فيها بتعزيته في زميله بالمجمع اللغوي وفي الوزارة والكتابة، وصاحب جريدة «السياسة الأسبوعية» الذي كلفه بالإشراف على صفحتها الأسبوعية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وعند خروج عميد الأدب العربي رآنا أحد الساهرين على توديعه من قاعة الجامعة الأمريكية متجمعين في انتظار خروجه، فقال له بصوت جهوري: «أبناؤك من الأمة العربية جاؤوا يعزونك يا سيادة العميد»، فرحّب بنا وصافحنا شاكرا وتقبل تعازينا في زميله وصديقه الراحل محمد حسين هيكل باشا، وبعد ذلك سمعنا صوتا ينادي: «سيارة العميد سيارة العميد». فتقدمتْ من الباب سيارة بدا لي أنها فخمة سوداء اللون فامتطاها عميد الأدب وانطلقت به، وعدنا إلى منازلنا مشدوهين ومعلقين.

وما زلت أتذكر، إلى الآن، أن مدخل أو مخرج تلك القاعة الذي صافحنا فيه عميد الأدب كان في تلك الليلة غير كامل الإنارة، أو لعله قد بدا لي خافت الضوء لطول العهد بتلك المناسبة، وأود أن أشير إلى أن تلك القاعة تقع قرب مسكننا بجوار «ميدان التحرير» وكثيرا ما حضرنا فيها الحفلات السمفونية التي كانت تقام بها غالبا صباح كل يوم جمعة وهو يوم العطلة الأسبوعية في مصر.
وأذكر بمناسبة الحديث عن هذه الأربعينية التي صافحنا فيها طه حسين أن زينب ابنة الدكتور محمد حسين هيكل كانت تَدْرس في «قسم الآثار» مع صديقي القديم المتجدد الأستاذ إبراهيم شبوح أمين مؤسسة آل البيت بالأردن الشقيق، ولعل والدها سماها على اسم بطلة أقدم رواية مصرية كتبها في أوائل القرن العشرين حوالي سنة 1912 أي منذ ما يناهز القرن من الزمان، عندما كان طالبا يدرس الحقوق بفرنسا، وأود أن ألاحظ أن قصة «زينب» لهيكل قد حُوِّلت إلى أول «شريط سينما سكوب» مصري في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي.

لقد قدم الصديق إبراهيم إليَّ زميلته زينب محمد حسين هيكل، ودعاني إلى أن أزور معهما المتحف الفرعوني في ميدان التحرير بالقاهرة، وأن أزور صحبتهما بعض معالم ومتاحف مصر القديمة، فزرنا المتحف الفرعوني، ثم قصدنا مصر الجديدة وتجولنا في ذلك الحي العتيق، وصادف أن حضرنا قدّاسا أو صلاة في بيعة قديمة لليهود تقع في شبه دهليز بذلك الحي المصري القديم، وقد تلا فيه حَبرُهم أدعيته بالعبرية القديمة من مخطوط قديم مكتوب على جلد ملفوف محفوظ في شبه خزانة، بحضور الزوار الذين كانوا هناك في ذلك الوقت، وسألتهم عن مدى فهمهم لما جاء في ذلك المخطوط فقالوا: لا يكاد يفهمه إلا أحبارهم.
لقد ساقنا الحديث عن أربعينية هيكل، إلى فتح هذا القوس عن زينب ابنة هيكل وعن تلك الزيارات، وكل ذلك من باب الشيء بالشيء يذكر.
وسأواصل، في لقاءاتنا القادمة، الحديث عما علق بذاكرتي من الذكريات البسيطة والطريفة عن طه حسين أثناء إلقاء دروسه أو محاضراته التي حضرتها له في جامعة القاهرة أو خارجها، في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، فإلى اللقاء.

***

(7)

أواصل في هذا الركن سرد ذكرياتي، عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، فأنا ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، وقد نبهت منذ البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط (بالمعنى النبيل للكلمة)، وسأرويها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم:
أذكر أنه عندما انعقد مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة (من 9 إلى 15 ديسمبر سنة 1956) تحت عنوان «الأدب والقومية العربية»، كان الوفد التونسي المشارك فيه متركبا من حسن حسني عبد الوهاب رئيسا، ومحمود المسعدي ومحمد الحليوي ومحمد مزالي أعضاء، وقد حضرت بعض جلسات ذلك المؤتمر التي كانت تنعقد في القاعة الكبرى التي رأيت فيها كثيرا من الشخصيات الأدبية المعروفة من معظم الأقطار العربية مثل: يوسف السباعي على المنصة غالبا ونجيب محفوظ في القاعة الكبرى للاجتماعات، ومحمود المسعدي الذي كان يجلس بجانب الدكتور طه حسين في نفس تلك القاعة، وهما يتجاذبان أطراف الحديث همسا، وقد بدا لي أن حديثهما كان حول المحاضرة التي ألقاها المسعدي في المؤتمر عن «الفن للفن» والتي رفض فيها أن يكون الأدب في خدمة موضوع من المواضيع، مثل «القومية العربية» أو أي غرض سياسي لا تكون فيه حرية الأديب، بحجة الالتزام الذي كثيرا ما يؤول إلى الإلزام، ويكون فيه خنق تفكير الأديب وتقييد للمبدع وقتلٌ للأدب، كما قتلت الشيوعية حرية التعبير في الأدب السوفياتي وخدمتْ مبادئ لم تثبت لدى معتنقيها بزوال الداعين إليها.
وما زلت أتذكر أن الكلمة التي ألقاها المسعدي قد قوبلت بهجوم شنه عليه أنصار ذلك الشعار الذي أطلقه عبد الناصر طيلة أيام حكمه، من الذين يؤيدون تكريس الكتابة الأدبية للدعوة إلى القومية العربية، ومنهم الدكتور عبد العظيم أنيس على سبيل التأكيد، ومحمد سعيد العريان إن لم تخني الذاكرة في تأييد ذلك الشعار السياسي.

وقد كنت أتوقع أن المسعدي قد أهدى نسخة من روايته السد إلى طه حسين في تلك المناسبة، أو لعله أرسلها إليه بالبريد قبل ذلك المؤتمر أو بعده، أو أرسلها إليه مع الشاذلي زوكار الذي أجرى مع طه حسين حوارا نشر بتونس في أكثر من مكان، والذي أكد أنه هو الذي قدم تلك الرواية إلى عميد الأدب في ذلك الوقت أو في وقت قريب منه.
ومعلوم أن رواية «السد» قد طبعت لأول مرة سنة 1375/1955 وقد قرأت - إثر ذلك المؤتمر الذي رأيت فيه المسعدي يجلس بجوار عميد الأدب العربي - مقالا مطوّلا في جريدة «الجمهورية» يوم 27 فبراير «فيفري» 1957 عن رواية السد، وقد عقّب عليه المسعدي تعقيبا أبدى فيه اختلافه مع طه حسين في بعض ما ذهب إليه في مقاله، وقد رد هو بدوره على ذلك التعقيب، وقد رأيت نقده ذلك منشورا في كتابه «من أدبنا المعاصر» ص ص 112/122 في الشركة العربية للطباعة والنشر، ولم ينشر رد طه حسين على رد المسعدي في كتاب فيما أعلم، وقد نشرتُ كل ذلك في كتابي «محمود المسعدي وكتابه السد» الذي طبع في تونس أربع مرات، (وقد عدت الآن للتثبت من تواريخ هذه المعلومات في كتابي المذكور.)
وأذكر بهذه المناسبة أننا اجتمعنا نحن الطلبة، ذات ليلة، في مقر اتحاد الطلبة التونسيين بالقاهرة، بالأستاذ محمود المسعدي الذي كان مصحوبا بالرسام حاتم المكي، والغالب على الظن أننا رأينا عندهما، في ذلك اللقاء نسخة من كتاب السد، وعلى غلافها وبداخلها رسوم لحاتم المكي وهي ذات أشكال لم تعجبني شخصيا في ذلك الوقت، لأني رأيت أنها مرسومة بأسلوب لم أتعود عليه، وقد دار بيننا وبين الكاتب والرسام حوار حول الأدب والثقافة وحول تونس المستقلة حديثا آنذاك.

ولست أتذكر جيدا إذا كان هذا اللقاء بالمسعدي والمكي قد وقع بمناسبة حضور مؤتمر الأدباء العرب أم بمناسبة أخرى لأني لا أعلم أن هذا الرسام قد كان في الوفد التونسي إلى المؤتمر المذكور، لذلك أتوجه بالسؤال إلى من يعرفون شيئا عن تلك الفترة، من الطلبة التونسيين في أواسط الخمسينيات في جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، أن يوضحوا أو يقوموا ما لعله تسرب إلى ذاكرتي من الخطل أو السهو في هذه النقطة أو سواها من ذكرياتي عن طه حسين، وأنا أعدهم بأني سأستدرك ما أراه مستحقا للاستدراك والإصلاح والتصويب مع شكري السالف.
وأذكر أني كنت أرى، في رحاب جامعة القاهرة، الدكتور مؤنس ابن طه حسين، داخلا أو خارجا منها، وهو أستاذ للغة الفرنسية بها، وكنت أراه دائما يحمل محفظة ثقيلة مكتظة بالأوراق والكتب، ويضع على عينيه نظارتين كثيفتين، وكان فيما أتذكر أميل إلى الشُّقرة منه إلى البياض، ولم أره ولو مرة داخلا أو خارجا أو مدرسا في أي فصل من الفصول، ولكني كنت أراه في رحاب كلية الآداب، حيث قيل لي إنه ابن طه حسين.

هذه هي الذكريات التي ما زالت تحتفظ بها ذاكرتي عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وقد بقيت لدي بعض الملاحظات التي لها صلة بهذه الذكريات، والتي لا تعتبر من الذكريات الخاصة جدا ولكن صلتها بما سبق يفرض عليَّ ذكرَها، للتوضيح والتدليل على صحة ما ذكرت في أحاديثي السابقة، ولكني قبل ذكرها أرى لزاما علي أن أنشر تلك المذكرة التي كتبتها عن أول محاضرة حضرتها لطه حسين والتي وعدت بنشرها لصلتها الكبيرة بأحاديثي السابقة عن عميد الأدب العربي، وهذا ما سأقدمه في لقائنا القادم إن شاء الله، فإلى اللقاء.

***

(8)

أشرت في حديث سابق إلى أنني كنت أكتب مذكرات شخصية أثناء وجودي بالقاهرة أيام الدراسة، وقد نسيتها لطول العهد بكتابتها، عندما تذكرتها عدت إليها لعلي أجد فيها ما يتعلق بدروس طه حسين، فعثرت على مذكرة تتعلق بوصف أول درس أو محاضرة حضرتها لطه حسين، وأقدمها اليوم حرفيا إلى القراء ليروا مدى مطابقتها لما ذكرته في أحاديثي السابقة عن هذه الذكريات، وهذا هو الجزء الخاص بموضوعنا:
[القاهرة 9/11/1955...في مساء اليوم ذهبت إلى الجامعة وكلي أمل ورغبة...إذ أن الساعة الخامسة لهذا اليوم ستكون بالنسبة لي غير الساعة الخامسة للأمس القريب وللأمس البعيد وللغد البعيد ففي الساعة الخامسة سيلقي الدكتور عميد الأدب العربي طه حسين محاضرة عن تشاؤم المتنبي... وهاته المحاضرة، مهما يكن نفعها كبيرا ومهما تكن جلالة فائدتها، فلن يكون ذلك مهمًّا وجليلا بالنسبة لرؤية طه حسين لأول مرة في حياتي، فقد كنت أتخيَّل طه حسين وأتمثله في خاطري وأرسم له الرسوم وأَعُدُّ رؤيته ضربا من المستحيل... وأخيرا، وبينما كنت أتحدث مع أحد الفرنسيين المستشرقين الذين جاؤوا قصد الاستماع إلى محاضرة الدكتور طه وإلى غير محاضرات الدكتور طه، إذ ذاك رأيت طه حسين بعينيْ رأسي لأول مرة في حياتي وكنت أتخيله كما أتخيل شخصية أبي العلاء المعري وأضراب المعري من الذين عايشتهم في كتبهم وأخبارهم وتمثلتهم من شخصيات غيابات الدهور الماضية الذين لا يمكن أن أراهم...(1) وجلس الدكتور وعلى وجهه حيرة الأعمى وعلى شفاهه بسمة حائرة تروح وتغتدي في حيرة وتردد... كانت تريد الانفلات وكان الدكتور يرغمها على الظهور(2) ولعله كان يحسب أنه كان يضيء بها المكان المظلم أمامه أو يحيِّي بها الحاضرين الذين لا يعرف ما بينه وبينهم من صِلات إلا هاته الجلسة المتواضعة التي يجلسها منهم في مثل هذا اليوم من كل أسبوع... وطفق الدكتور طه يتحدث عن حياة أبي الطيب وما لاقاه عند الملوك من عنت ولدى الدهر من جحود، وظل يتحدث، في فصاحة وطلاقة، طوال الساعة بدون تلعثم أو تردد... ومن الجدير بالملاحظة أني لم أفهم ما قال الدكتور طه حسين إلا في بعض فترات كنت أفيق فأتابع كلامه وأفهم، وكنت في ما عدا هاته الفترات أسرح معه إلى أماكن أخرى، وكان ناظري طوال الوقت وقفا على الدكتور طه لا يتحول عنه ولا يَريم، وكنت أذهب معه أحيانا إلى معرَّة النعمان لأرى خليله المعري، وآنًا إلى رمضاء الصحراء وهجير الفيافي لأرى محمدًا ے من على «هامش سيرته» وكنت أتذكره في (أيامه) وكنت أتذكره وهو يملي ما نقرأ، وكنت أرجع إلى أول عهدي به في حياتي الأدبية، ثم أعود فأسأل نفسي عن طه حسين وهل هو حقًّا يقف أمامي(3) ليلقي محاضرة عن أبي الطيب وتشاؤمه... كل هاته العوامل جعلتني لا أفهم عن طه حسين إلا القليل مما قال...كانت أمامي غير بعيد الدكتورة سهير القلماوي تنصت لمحاضرة أستاذها الدكتور طه.
فور الانتهاء من المحاضرة وقف طه حسين وبادر إليه سكرتيره الخاص(4) وخرج معه إلى حيث دخل إلى(5) بيت خاص، هناك في الجامعة، بالأساتذة(6) وبعد قليل لحقت به الدكتورة سهير القلماوي, ورجعت إلى بيتي أحمل ذكرى لن أنساها أبد الدهر، ذكرى رؤية طه حسين(7)].

هذا هو الجزء الخاص بذكرياتي عن طه حسين من تلك المذكرة التي كتبتها في نفس اليوم الذي حضرت فيه أولى محاضرات أو دروس أستاذ الأجيال عميد الأدب العربي طه حسين، والغالب على الظن أن أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوي - التي كانت تدرسنا دروسا موازية لدروس الدكتور طه حسين - هي التي أعلمتنا، في أحد دروسها، بموعد وعنوان أو موضوع تلك المحاضرة، وهذه هي المرة الوحيدة التي علمنا فيها مسبّقا بموعدها وموضوعها، في ما أتذكر.
وبعد تقديم هذا الجزء من هذه المذكرة الخاصة بطه حسين أود أن أذيلها بهذه التعليقات البسيطة للأمانة التاريخية:
1) ألاحظ أن هذه المذكرة قد كتبت بأسلوب الشباب الأول وبلغة أدبية وبألفاظ تتناسب مع تلك الفترة، بما فيها من إيجابيات وسلبيات.
2) كتبت كلمة: «الضهور» في الأصل بالضاد عوض الظاء سهوا أو خطأ. وقولي: « ومن الجدير بالملاحظة أني لم أفهم ما قال الدكتور طه حسين إلا في بعض فترات كنت أفيق فأتابع كلامه وأفهم، وكنت في ما عدا هاته الفترات أسرح معه إلى أماكن أخرى، وكان ناظري طوال الوقت وقفا على الدكتور طه لا يتحول عنه ولا يَريم...»الخ الخ لا يعني أنه كان يتكلم بلغة عويصة لم أكن أفهمها، ولكني أعني أني كنت مبهورا بوجودي آنذاك أمامه، فكلامه من السهل الممتنع، ولعله في ذلك الدرس ذكر حادثة ضرب سيف الدولة أحد منتقدي شعر المتنبي بالمفتاح، ونطق كلمة «المفتاح» بضم الميم كما ينطقها المصريون في لهجتهم العامية، ثم عاد فنطقها بالكسر، كما ذكرت في الحديث الثالث من هذه الذكريات.

3) أقصد بكلمة «يقف أمامي»: يمثل أمامي أو يبدو أمامي، لأنه كان في دروسه يتكلم جالسا لا واقفا.
4) كلمة «سكرتيره» في المذكرة بخطي تحتها كلمة «خادمه» مشطوبة.
5) تكرر حرف الجر «إلى» في هذه الجملة سهوا أو خطأ.
6) ألاحظ أن كلمة «قاعة الأساتذة» لم تكن معروفة لدينا في ذلك الوقت، فعبرت عنها بتلك الجملة الطويلة.
7) الغريب أني نسيت هذه المذكرة رغم أني قلت - وقت كتابتها - إني لن أنساها أبد الدهر، ولم تقفز إليها ذاكرتي ولم أتذكر الكنش الذي توقعت أن يكون مشتملا عليها إلا في فجر يوم من أيام رمضان المعظم 1430 بعد نشر عدة حلقات من الذاكرة.

وأودُّ أن أشير، بعد تقديم هذا الجزء من تلك المذكرة، إلى أنني ذكرت في بدايتها - في الأصل المكتوب - ما وقع في اليوم السابق لذلك اليوم، وهذا الجزء سأرجئ الحديث عنه إلى لقاء آخر، لأن له صلة بالدكتور عبد الحميد يونس الذي قارنته بالدكتور طه، لنرى مدى تطابق ما جاء فيها مع ما ذكرته عنه في ذكرياتي السابقة.
كما أود أن أشير إلى أني راجعت الآن «الحاسوب» لأعرف اسم اليوم الذي كتبت فيه هذه المذكرة، وكنت أخشى أن يكون غير يوم الأربعاء الذي أكدتُ في أحاديثي السابقة أن دروس طه حسين لا تكون إلا فيه، وإذا بالحاسوب يؤكد ما قلته فهو يوم الأربعاء 9 نوفمبر 1955 الموافق ليوم 24 ربيع الأول 1375ه والحمد لله.

***

(9)

أنهيتُ، الحديث السابق، من ذكرياتي عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، والتي ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، والتي نبهتُ في البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط بالمعنى النبيل للكلمة، وقد رويتها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم، ولم أذكر فيها ما هو معروف لدى الآخرين، وأود أن أذكّر بأني نشرت الجزء الثاني من مذكرة قديمة وصفت فيها أول محاضرة أو درس من دروس طه حسين، وأشرت إلى أن أولها تحدثت فيه عن درس من دروس الدكتور عبد الحميد يونس، وقد وعدت بالعودة إلى هذا الجزء من تلك الرسالة لصلتها بما قلته عن طه حسين.
لقد ورد اسم أستاذنا الدكتور عبد الحميد يونس في حديثي الثاني من سلسلة ذكرياتي عن الدكتور طه حسين عندما أشرت إلى أنه يشترك معه في فقد البصر، ولكنه يختلف عنه في ذلك شكلا إذ أن له عينين كبيرتين محملقتين كأنهما عينا مبصر، وسيرى القارئ أن ما قلته عنه في ذلك الحديث الثاني مطابق لما في هذه المذكرة، فقد قلت في الحديث الثاني : إن الدكتور عبد الحميد يونس [بصير مثل طه حسين، إلا أنه لم يكن يضع نظارة سوداء على عينيه، فقد كانت له عينان كبيرتان بارزتان محملقتان تبدوان كأنهما عينا مبصر.] وجاء في الجزء الأول من المذكرة التي نحن بصدد الحديث عنها ما يلي: [القاهرة 9/11/1955 دخلت الفصل أمس مع الأخ الشاذلي زوكار اعتمادا على أنه سيأخذ من هناك دفاتره وكتبه ونخرج إلى حيث نتحدث عن أشياء تهمنا، وفوجئنا بدخول الدكتور عبد الحميد يونس وهو رجل (ضرير)(1) لا يبصر شيئا ولكن شكل عينيه يدلان(2) على خلاف ذلك، وقد لا يشعر بذلك الذي لا يعرف عاهته هذه لأول مرة إذ أنه كثيرا ما يغالط الناظر إليه إذ يقلب يديه أمام ناظريه فيخيل بذلك للذي لا يعرفه أنه ينظر بهما، وكان يملي طوال الساعة في علم البلاغة وكان إملاؤه مستقيما غاية في الاستقامة والفصاحة ولم يتراجع طوال الحصة في أي كلمة...وأخيرا رأينا أنه لا حاجة بنا إلى المكوث بالفصل ما دمنا لا نكتب ولا نستفيد من هذا العلم الذي أفنينا فيه أعمارنا طالما كنا ندرس بتونس.
خرجنا وتجولنا في أطراف الجامعة قليلا ثم إني ذهبت معه إلى منزله - ولأول مرة – ومن هناك ودعته إذ أن لي درسا بالفرنسية بعد حوالي عشرين دقيقة من فراقي إياه... وكان أن تأخرت عن الدرس عشرين دقيقة فسبقني الإخوانُ التلاميذ (3) بحوالي صفحة من القواعد الفرنسية... وكنت على موعد مع الأخ الشاذلي في مقر رابطة الأدب الحديث بعد السابعة وذهبت إلى هناك فلم أجده...وأخيرا جاء إلى المنزل ومعه صديق مصري خرجت معهما إلى ميدان التحرير(4) حيث استمعت من هذا الصديق المصري إلى شيء من شعره قال إنه قدمه إلى الأستاذ محمود أمين العالم وهو شعر حر من حيث القوافي وطول الصدر والعجز، جميل في بعض الأحيان عادي في أحيان أخرى وقد يصل إلى درجة السخافة في قليل من الآونة. وأخيرا طلب مني أن أُسمعه شيئا من شعري فأسمعته شيئا فأعجب به كلٌّ من الأخ الشاذلي والصديق المصري...ثم إنا تحدثنا حديثا طويلا عن الأدب واتجاهاته وافترقنا على أمل اللقاء هذا المساء(5) للذهاب معا إلى الأستاذ محمود أمين العالم، للتحدث معه في شأن شعر هذا الزميل المصري الشاعر... (6)]

وأود أن أعلق على بعض ما جاء في هذه المذكرة بما يلي:

1) كلمة ضرير مشطوبة في الأصل لأن ما بعدها يدل عليها.
2) هكذا في المذكرة وأنا أقصد أن شكل عينيه يدل.. أو عيناه تدلان...
3) لم نتعود في ذلك الوقت على كلمة (الطلبة) لقربنا من مرحلة (التلمذة).
4) ميدان التحرير في قلب القاهرة تقريبا وكان منزلنا بجواره، ومقر رابطة الأدب الحديث قريبة من ذلك المكان، وقد زرته لأول مرة صحبة الشاعر الراحل الطيب الشريف الذي كانت له علاقة طيبة برئيس الجمعية ولعلي أعود إلى الحديث عن ذلك.
5) الغالب على الظن أن كلمة «هذا المساء» تدل على يوم كتابة المذكرة لا يوم لقائي بالشاذلي زوكار وصديقه الشاعر المصري المذكور، إذ لا مساء بعد ذلك الوقت.
6) لم أعد أذكر ماذا جرى بعد ذلك، والنقط في أصل النص وليست علامة حذف بعض الكلام.
وبعد تقديم هذا الجزء من تلك المذكرة القديمة والتعليق عليها بحثت في كتاب «الأعلام» للزركلي عن اسم عبد الحميد يونس لأعرِّف به فلم أجد له ذكرا، فبحثت عنه في «تتمة الأعلام للزركلي»لمحمد خير رمضان يوسف فوجدت له ترجمة في المجلد الأول منه ص272/273 يترجم له ويتحدث عن الظروف التي فقد فيها بصره، وهو هذا الحديث الطريف والمؤلم في نفس الوقت لأن ابنه الذي يحمل اسم والد أبيه قد فقد بصره في نفس الظروف التي فقد فيها والده عبد الحميد بصره وهذا من باب عجائب الصدف.
قال عنه صاحب كتاب «تتمة الأعلام»:(عبد الحميد أحمد يونس ولد 1328ه 1910م وتوفي 1409ه 1988م أحد رواد الأدب الشعبي. تعلم العلوم الأولية في الكتاتيب، ثم واصل مسيرته التعليمية حتى تخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث حصل على الليسانس عام 1940 من قسم اللغة العربية، فالماجستير عام 1946م فالدكتوراه عام 1950م وكان موضوعها «سيرة بني هلال ومغامرات أبي زيد الهلالي». في حياته: عمل مترجما ومخبرا صحفيا ومحررا وكاتبا، ثم عضوا في هيئة التدريس بقسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة، فأستاذا ورئيسا للقسم.
وقد فقد بصره وهو لم يزل في سن السادسة عشرة من العمر، بسبب انفصالٍ في شبكة العين، نتيجة حادث كرة قدم. والغريب أن الحادث نفسه قد جرى لابنه د. أحمد يونس بعد ثلاثين عاما تقريبا ونتج عنه كف بصر الابن أيضا !
له العديد من الأعمال الأدبية والعلمية منها: اشتراك مع مجموعة من المترجمين ل(دائرة المعارف الإسلامية) التي ألفها المستشرقون باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
ترجمة كتاب (الزواج) للعالم الأنثروبولوجي إدوارد مارك كما ترجم للشاعر الهندي (طاغور) . ترجمة كتاب (عالم الغد) الذي ألفه ه. ج. ويلز، وقد شاركه في ترجمة هذا الكتاب حافظ جلال. ترجم مع عثمان نويه ورمزي ياسين كتاب (فلسفة الجمال). ألف كتبا عدة مثل الهلالية، والحكاية الشعبية، وخيال الظل، والظاهر بيبرس، ودفاع عن الفولكلور.]
ذلك هو عبد الحميد يونس الذي كان يدرسنا الأدب الشعبي أو الفولكلور أو التراث الشعبي، وقد ساقني الحديث عن طه حسين إلى الحديث عنه.
وأشير في الختام إلى أني قد عثرت في مذكراتي القديمة على أشياء أخرى تتعلق بمحاضرات طه حسين، وستكون لي عودة إليها لنقارنها بما سبق ذكره وسيجد القارئ فيها ما يؤكد ما ذكرته في الأحاديث السابقة، ولكن عودتي إلى هذا الموضوع ستكون من آن إلى آخر تجنبا للإطالة في موضوع واحد. فإلى اللقاء.
أعلى