مصطفى صادق الرافعي - عضلات من «شراميط»١

قلنا: إن هذا العقاد لص من أخبث لصوص الأدب، لأنه — مع هذه اللصوصية — يدعي دائمًا ملكية ما يسرقه، ومع هذه الوقاحة في الادعاء يحقد على كل من يملك شيئًا من مواهب الله، ومع هذا الحقد الدنيء لا يتصور الناس إلا على أمثلة من نفسه. ولعله لا يعقل أن في أحد من خلق الله دمًا شريفًا أو عرقًا ساميًا، أو أخلاقًا نبيلة، ومن أجل ذلك لا يعرفه عارفوه إلا أعمى الأنصاف، كل ضدين عنده هما ضدان باسم واحد، أو هما شيء واحد باسمين مختلفين كما يقول هو في بعض تخليطاته. فقد رأينا له اليوم في مجلة «الجديد» مقالًا عنوانه «ربة الجمال بلا يدين» لم نكد نقرأ أوله حتى ضحكنا من جهل هذا الدعي العامي، فهو يقول:

كان هَيْنِي الشاعر الألماني يعبد الجمال، ويعشق كل جميل، وكان من عبادته في جحيم، أو قُل في نعيم!!!
خذا بطن «هَرْشَى» أو قفاها
فإنما كلا جانبيْ «هِرْشَيْ» لهن طريق
فإن الجحيم والنعيم في عبادة الجمال شيء واحد باسمين مختلفين، كما أن «هرشى» طريق واحد من حيثما أخذتَها٢ … وثِق أنك إذا قلت: النعيم، وأنت تعني الجحيم، أو قلت: الجحيم، وأنت تعني النعيم، فلا لوم عليك ولا مخالفة للحقيقة!!! لأن جحيم الجمال ونعيمه — كما قلنا — شيء واحد … ولأنهما داران موضوعتان على رسم واحد!!! وفي سعة واحدة!!! لا فرق بينهما داخلًا ولا خارجًا!! إلا اللوحة التي على الباب!!

عند هذا الحد ألقينا المقالة، واكتفينا من خلط الرجل بالكلمات الأولى، إذ لو بقي المعتوه يتكلم من طلوع الشمس إلى غروبها لكان كل كلامه «باسم واحد» طبعًا. وقد نبهتنا هذه الكلمات إلى الأصل الذي في نفس العقاد، مما يجعل الأشياء كلها شيئًا واحدًا في اعتباره، لا على مذهب «وحدة الوجود»، فهو أبعد الناس عن فهم هذا المذهب وإن ادَّعاه، لأن فهمه لا يكون إلا بأنوار البصيرة وبإدراك التجلي الأقدس، يعني لا يمكن فهم هذا المذهب إلا بعد أن يتصفى الإنسان من الرذائل كلها، ويدرك بنور نفسه معنى النور الذي انبثقت منه نفسه. والعقاد في نفسه كله رذائل وظلمات … لا يكابر في هذا إلا العقاد!

•••

وإذا كان هذا الرجل يعتبر الأشياء كلها شيئا واحدًا — لا على مذهب وحدة الوجود — فعلى أي مذهب إذن؟ الجواب على مذهب وحدة غريزته هو، لأنه لو صح ما يقال في منبته وأصله، فالفضائل والرذائل حينئذ وكل ضدين مختلفين لا فرق بينهما عند مثله إلا الاسم، وفي لغته هو «إلا اللوحة»!!!

وقبل أن ننتقل من هنا، نحلل الكلمات القليلة التي نقلناها عنه ليعرف القراء أن هذا الكاتب الكبير العبقري!!! لا يفهم ولا يكتب إلا خطأ، من ضعف.

إذا كان «هَيْنى» يعبد الجمال، فهل يعبده إلا لأنه يعشق كل جميل؟ إذن فباقي الجملة حشو جرائد. «وكان من عبادته في جحيم أو قل: في نعيم»، إن «أو» لا تأتي إلا لأحد الشيئين، وهو يريد هنا الشيئين معًا جحيمًا ونعيمًا، فلا معنى لاستعمالها، وإنما يتبع في هذا التعبير صغار المترجمين الذين يشتغلون بالترجمة الحرفية.
ويقول: كما أن «هرشَى طريق واحد من حيثما أخذتها»، فهرشى يا حضرة العبقري!!! ليست طريقًا، ولا معنى البيت يدل على ذلك، ولا لها «بطن»٣ كما تقول، وإنما تنقل نقلًا عاميًّا، وتفهم فهمًا عاميًّا، وليس فيك من العربية إلا كاتب جرائد على مقدار «الحالة الحاضرة» …

أصل البيت «خذ جنب هرشى» … إلخ، وفي رواية «خذي أنف هرشى»، أو «خذا أنف هرشى» … إلخ، وهي ثَنِية أو هضبة لها طريقان يُنتهى إليها من كليهما، فمن سلكهما كان مصيبًا. إذن هي ليست «طريقًا واحدًا من حيثما أخذتها» يا عقاد!

والعجائب كلها في باقي العبارة، وهي أسطر قليلة، ولكنها تدل على ذهن جبار، جبار جبار!!

رأينا مرة فتى يريد أن يظهر مظهر رجل مفتول العضل، فحشا كُميه وصداره هلاليل (شراميط)!! عضلات بارزة مكتنزة، لكنها عضلات من شراميط!!

هكذا إعلان العقاد أنه جبار الذهن. والحقيقة أن الرجل جبار الغريزة منذ كان إلى أن كان … فيختلط الأمر في وقاحته وادعائه وسلاطته على الضعفاء أو على الجبناء. ولكن الذي يعرف العضلات التي تُخلع مع الثياب!!!! يصفع صاحبها الجبار مطمئنًّا، بلا ريب.

طيب!! «جحيم الجمال ونعيمه شيء واحد»، فما معنى «لأنهما داران موضوعتان على رسم واحد»، وهل داران على رسم واحد تكونان شيئًا واحدًا وتأخذ الحكومة عليهما ضريبة واحدة!! يا أصحاب الأملاك وكِّلوا هذا المحامي الجبار الذهن ليقنع الحكومة بهذه الفلسفة!!

وإذا كانا دارين، فلا معنى لأن يقول الجحيم والنعيم، لأن النعيم هذه من تعبيرات العامة، وإنما تأتي مضافًا إليها، فيقال: جنة النعيم ودار النعيم، بخلاف الجحيم فإنها هي الدار. ثم الداران «في سعة واحدة» بعد أن قال حضرته إنهما على رسم واحد، العقاد إذن مهندس ممن اشتغلوا في تخطيط الجحيم والنعيم، ومَسَّاح أيضًا موظف في ديوان المساحة الذي وراء الطبيعة!!! وأكثر من ذلك يظهر أن هذا الصعلوك من كبار أرباب الأملاك السماوية!!! فأراد مرة أن يشتري الجحيم والنعيم، (فتفرَّج) عليهما، فإذا هما «لا فرق بينهما داخلًا ولا خارجًا إلا اللوحة التي على الباب».

طبعًا طبعًا هذه اللوحة كان مكتوبًا عليها جحيم ونعيم للبيع!!! لا لا! بل هي كما يظهر من معنى كلام الجبار لوحة من الرخام كُتب عليها دار الجحيم، دار النعيم!!! أو «فيلا» نعيم وجحيم …

وإذا كان هنا «باب» عليه «اللوحة» فكيف صارتا دارين؟ كان ينبغي أن يكون هناك بابان عليهما لوحتان، ولكن يظهر أن العقاد رفع دعوى يطلب الحكم فيها بسد أحد البابين لأنه يفتح على مِلكه الخاص!!! فحُكِمَ بسَدِّه وإنزال اللوحة التي كانت عليه، وحينئذٍ صارتا دارين بباب واحد!!

أفتونا أيها القراء أهذا جبار الذهن؟ أهذا كاتب؟ أهذا أديب؟ أهذا يفهم بيان العربية؟ أم هي صنعة جرائد، ثم مغفلون من الكُتاب لمغفلين من القُراء؟

•••

وتظاهُر العقاد باحتقار الأدباء — مع أنه في نفسه يغلي حقدًا وحسدًا — طريقة مسروقة يقلد فيها الكاتب الإنجليزي الشهير «برنارد شو» الذي يقول إنه لا يجد عقلًا يستحق احتقاره إلا عقل شكسبير!!!

ولكن انظر الفرق بين الأصل والتقليد، «برنارد شو» يحتقر النوابغ من جهة عقليته، فلا يحسد، والعقاد من جهة نفسيته، فلا يعقل، والأول يضع الآراء ويبتكرها، والثاني يسرق ويدعي، وذلك يحتقر احتقارًا ساميًا أساسه التظرف، وهذا دنيء دنيء أساسه الحسد ولؤم الطبع، والعامية الثقيلة الآتية من الشوارع، تلك التي توهم أهلها أن الأسمى لا بد أن يحتقر الأدنى، فإذا تظاهر العامي الوضيع باحتقار رجل شريف أو نابه عظيم، كان ذلك في منطقه دليلًا مقنعًا للناس أنه هو الأسمى والأشرف والأعظم!!! فالعقاد لصٌّ حتى في الصفات. وحسبك بهذا.

ومع أن «برنارد شو» ذكي نابغة، فقد خرجوا من نقده وتحليله بأنه كالمخدوع المغرور، أو هو مخدوع مغرور على الحقيقة، يمتاز بنقائص وعيوب اختص ببعضها وشارك الناس في بعضها، وأن ثقته بنفسه تُفقد الناس الثقة به، فقد يعتقد أنه جاء بالكلمة الأخيرة في الموضوع الذي يعالجه، في حين أن النقاد يكونون مقتنعين بأنه لم يفهم قط، وينتهي من ذلك إلى أسخف الآراء وأبعدها في الخطأ مكانًا، بحيث يرجح أحيانًا من شدة سموه الذي يتوهم وليس فيه إلا رجل عامي سطحي ضعيف.

•••

هذا في «برنارد شو»، فكيف الحال في لصٍّ مقلد بينه وبين «شو» مثل ما بين بلديهما أسوان ولندن؟

ولكن لو سألت العقاد في هذا لما كان شيء أسهل عليه من الجواب، فإنه يقول: إن أسوان ولندن شيء واحد «لا فرق إلا اللوحة»، وبرنارد والعقاد شيء واحد لا فرق إلا … والله ما أنا عارف إلا إيه يا عقاد؟!

وما دمنا في بيان سوء فهم هذا المغرور، فنقول: إن بعض الأدباء سألنا عن رأي نشره العقاد في مجلة «الجديد» يعلل فيه ميل ابن الرومي إلى الهجاء، وإقذاعه فيه وإفحاشه في السب، وذلك حيث يقول العقاد في تلك المقالة: «فالرجل ابن الرومي» لم يكن شريرًا ولا رديء النفس (خذ بالك من رديء النفس)، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض المهجوين؟ نظن أنه كان كذلك لأنه كان طيب السريرة!! انتهى بحروفه.

نقول: إن صح هذا صح مذهب التناسخ، ويكون ابن الرومي قديمًا هو هو عباس محمود العقاد اليوم، جاء كما كان من قبل تمامًا!! جبارًا عند نفسه، وقحًا عند الناس، لئيمًا عسيرًا، لأنه سهل طيب السريرة.

•••
يقول العقاد: «كان ابن الرومي هجَّاءً مقذعًا في الهجاء، وكان لأهاجيه أثر كبير في حياته وفي شهرته (تأمل).٤ والواقع أن ابن الرومي لم يدع أحدًا من النابهين في زمانه إلا هجاه أو أنذر بهجائه. هل كان ابن الرومي شريرًا لأنه كان كثير الهجاء؟ لا، بل هو لو كان شريرًا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو لو كان أكبر شرًّا لكان أقل هجاءً لأبناء عصره. ما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية كما كان يشف عن الحرج والتبرم». هذا كلام جبار الذهن المضحك، وقد وقفنا من نقله عند كلمة «الحرج» لأنها أذكرتنا ما نعلمه من أن أديبًا لام العقاد يومًا على حقده، وكلمه في أن هذا عجز منه وضعف، لأنه لو كان قويًّا لنازل وصارع وأعطى كل ذي حق حقه، فإن القوة تُعْجَب بالقوة وتقر لما هو أقوى. وقال له إن المتلاكمين أو المتصارعين يتصافحان على الحلقة ثم يتلاكمان، وقد يقع أحدهما ثم يعودان صديقين، لأنهما في قانون القوة الإنسانية لا الوحشية. فقال العقاد: أنا طيب السريرة ولكن الناس يحرجونني أحيانًا.

كل كلام الرجل عن ابن الرومي هو من كلامه عن نفسه لذلك الأديب، فلؤم ابن الرومي وسبابه وإفحاشه وبذاءته وهجاء كل من مدحهم، ووقوعه في الأعراض، كل ذلك لأنه طيب السريرة!!!

تعالوا يا علماء الأخلاق والآداب فخذوا هذا الاكتشاف الجديد عن جبار الذهن الذي لا يعرف ما هو الهجاء في الشعر العربي ولا ما تاريخه، وأصلحوا لغات العالم كلها في تحديد معنى السفاهة والبلادة وفحش القول ولعن أعراض الناس، فقولوا: إن كل ذلك معناه ومنشؤه طيب السريرة!! على ما حققه جبار الذهن المسمى عباس العقاد!!

•••

لقد سئمنا هذا الهذيان من هذا السخيف، ولكن انظر التركيب العربي في كلامه لتعرف أنه هو لا يفهم ما يكتبه، وله من مثل هذا كثير جدًّا. يقول: إن ابن الرومي لم يكن شريرًا لأنه كان كثير الهجاء. ثم يقول: لو كان شريرًا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء. والمعنى الصريح في العبارتين أن كثرة الهجاء دليل قاطع في نفي الشر عن الرجل. ثم يقول: «لو كان أكبر شرًّا لكان أقل هجاءً». وهذه العبارة قاطعة في أن ابن الرومي كان شريرًا، لأن أفعل التفضيل (أكبر) لا يُذكر في الكلام إلا لتحقيق الزيادة في صفة يشترك فيها شيئان ويزيد أحدهما فيها على الآخر. فالمعنى بهذا التركيب أن ابن الرومي شرير، ولكنه قليل الشر لأنه كثير الهجاء!! ولو كان أكبر شرًّا لكان أقل هجاءً.

إذن فالعبارتان السابقتان في نفي الشر لغو لا معنى لهما إلا ثرثرة جرائد لا تميز الصحيح من الفاسد، وهما دليلان لا دليل واحد على أن العقاد كاتبًا، كالعامي قارئًا سواء بسواء؟ كلاهما غير تام، وعلى غير قاعدة.

وفي هذا المقال الذي سألنا عنه الأديب يفسر (جبار الذهن) بيتًا لابن الرومي وهو قوله:
لا يغضبن لعمرو من له خطر
فليس يرضى بظلمي٥ من له خطر
قال: (جبار الذهن) كأن يقول: لقد صبرت على عمرو فرضي الناس بظلمه إياي، فإذا هجوته أنا الآن فما يحق لذي خطر أن يغضب له، وهو منصف بيني وبينه.٦

ماذا فهمت أيها القارئ من (جبار الذهن) في تفسيره؟ أين صبر ابن الرومي على عمرو في هذا البيت الذي ترتب عليه رضا الناس بظلم عمرو لابن الرومي؟ ثم إن ترتيب رضا الناس على صبر الشاعر — بدليل استعمال الفاء في قوله: «فرضي الناس» يُفهم منه بدلالة اللزوم أنه لو لم يصبر ابن الرومي لَغَضِب الناس على عمرو، ولم يرضوا بظلمه للشاعر. فإذا كان كذلك فلماذا صبر ابن الرومي وهو يملك هذا السلاح الماحق، سلاح الرأي العام الذي أنعم الله عليه بعد موته!!! بأكثر من ألف سنة على يد جبار الذهن؟

صبر ابن الرومي على الظلم، فرضيه الناس له، فإذا نفذ صبره الآن وهجا عمرًا فلا يحق للناس أن يغضبوا لعمرو وإذا كانوا منصفين. هذا هو وجه العبارة لو كان العقاد يحسن الكتابة، ولكنه خلط فجعل الناس يرضون جملة بالظلم، ثم لا يغضب منهم حين الغضب «إلا ذو خطر»، وجعل ذا الخطر هو الذي ينصف وحده حين قصر عليه الجملة الحالية. وهذا من تلفيق الرجل وتعميته على القراء ليوافق كلامه ألفاظ البيت، إذ لو قال: رضي «الناس» ولا يحق «للناس» أن يغضبوا؛ لتعرض للفضيحة، لأن الشاعر نفسه لا يريد «الناس»، بل من له خطر منهم.

ويبقى أنه يلزم من تفسير العقاد أن الناس في عصر ابن الرومي كانوا على هذا الشأن فيما بينه وبين عمرو فقط، وأهملوا أمره مع كل من هجاهم وكل من ظلموه وكل من صبر عليهم. وهذا (فتح جديد) في التاريخ، ويجب أن يُضاف إلى اكتشافات العقاد، ولعله كان كذلك، لأنه عمرو بن أم عمرو الذي قال فيه الشاعر:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار!

نحن على يقين أن هذا العقاد ضعيف الفهم، وهو يهرب دائمًا من التفسير في الآداب العربية لهذه العلة، فإن وقع مرة وقع على أم رأسه كما ترى في هذا البيت. ومع أن الكتب الأوروبية التي يغير عليها كثيرة الشروح والتعاليق والنقد، فله سخافات في فهم الآراء الدقيقة منها كما سنبين ذلك. وما غطَّى عليه إلا أنه دائمًا يسرق فيلخص وينتحل ولا يبين الأصل الإفرنجي الذي يغير عليه لتُمْكِن المقابلة.

معنى بيت ابن الرومي هو هذا إن عمرًا ذليل لا خطر له ولا شأن، ولذلك لا يغضب له من له شأن ونباهة، فإن من كان بهذا الوصف لا يرضى بظلمي لمنزلتي عند ذوي الخطر، وإنما يرضى بظلمي السفلة وأمثالهم من الحشوة والطغام الذين لا يدركون قيمة الشعر وشاعره، وليس لهم أعراض ولا مناصب يخافون عليها الهجاء، على حد القول المشهور:
اذهب فأنت طليق عرضك إنه
عرض عززت به وأنت ذليل!

وكل تاريخ الأدب العربي في باب الهجاء ناطق أنه لا يخاف الهجاء ولا يتحاماه إلا ذو خطر من عرض ونسب وجاه … إلخ إلخ.

هذا على اعتبار أن «لا» في قوله: (لا يغضبن) نافية، فإذا كانت للنهي كان المعنى هكذا لا يغضب ذو خطر وشأنٍ لعمرو، لأن ذا الخطر يتقيني ويخشاني، فلا يرضى بظلمي، فلا يغضب لمن ظلمني.
وعلى كلا الوجهين فأساس البيت هوان عمرو على الناس، وفخر ابن الرومي بصولته وخشية ذوي الأحساب والمناصب والجاه من لسانه وهجائه.٧

نحب الآن أن نعرف من هو أجهل الناس وأبلدهم وأشدهم جبنًا؟ فإن صاحب هذه الصفات مجتمعة هو الذي يغضب لعمرو!!! ويجرؤ على المكابرة به هذا البيان، فيقول: إن العقاد يفهم الشعر، وإنه يجوز له أن يكتب في الأدب.

•••
ونعود إلى نظرة سريعة في شعر جبار الذهن، وهذا الجبار أهون علينا من أن نضيع الوقت في قراءة شعره أو كتابته قراءة تتبُّع واستقصاء. إنما سبيلنا أن نفتح أية الصفحات من ديوانه أو عددًا يكون أمامنا من مجلة «الجديد» التي يكتب فيها الآن،٨ فإننا لتراكم الأعمال لا نقرأ المجلات إلا بعد صدورها بزمن، ولكننا نقرأ ما نحبه منها على كل حال، ومنها مجلة «الجديد».
على غلاف ديوان العقاد هذه الكلمة (أربعة أجزاء في مجلد واحد)، والديوان ورق لا يساوي ثمن تجليده، ولم يخرجه صاحبه مجلدًا، فما معنى (مجلد واحد) وكلمة مجلدة أو مجلد لا تستعمل إلا في الكتاب يغشى بالجلد لأنها من جلد، أي وضع الجلد عليه؟ وإذا صح أن كل مطبوع يسمى مجلدًا جاز حينئذ أن يكون معنى العبارة (أربعة مجلدات في مجلد واحد) هذا أيضًا من جهل الجبار، لأنه يريد في سِفرٍ واحد، أو كتاب واحد، أو مجموع واحد.٩

وبهذه المناسبة رجعنا إلى أوائل الأجزاء، فإذا اسم الجزء الأول «يقظة الصباح»، والثاني «وهج الظهيرة»، والثالث «أشباح الأصيل»، والرابع «أشجان الليل»، وهذه الأسماء لم تكن من قبل حين طبعت الأجزاء قديمًا، وإنما لُفقت حديثًا في السنة الماضية عند طبعها في «مجلد واحد»!

حسن جدًّا (وجدًّا حسن)، ولكن من أين جاء هذا التخليط؟ يقول جبار الذهن في كلمة الختام: «فإذا قرأ القارئ فربما وجدَ في أشجان الليل ما هو أخلق بوهج الظهيرة، أو وجد في يقظة الصباح ما هو أخلق بأشباح الأصيل». الجبار إذن يقر بالتخليط ويعترف به، لأنه لا يستطيع أن يكابر أن كل نظمه هُراء في هراء، فإذا كان هذا الخلط واقعًا معترفًا به فما معنى هذه الأسماء؟

معناها أن العقاد رجل دعوى وتدجيل وغرور، فيسرق ويدعي الملكية، هو يعترف أن الأسماء ليست على مسمياتها، إذن فهو لم يضعها، لأنه لا يخطر لمؤلف — مهما كان جاهلًا — أن يضع اسمًا على غير مسماه، إذن فهو قد سرقها وهذا هو الصحيح.
وضع الشاعر الفرنسي الكبير ملكريور دفوجيه Melcrior de Vogué عضو الأكاديمية الفرنسية رواية شعرية سماها (جان داجريف) “Jean d’Agreve”، وجعلها أربعة أناشيد، لأنها تصف حياة حب بديع منذ بدئه إلى منتهاه، ومن أمله إلى خيبته. وسمى النشيد الأول (الفجر)، والثاني (الظهيرة)، والثالث (الأصيل)، والرابع (الليل)، لأن في الأول انبثاق نور الحب، وفي الثاني توهجه، ومع الثالث تخافته، وعند الرابع ظلامه وفناءه.

أسماء على مسمياتها كما ترى، وهو في كل نشيد يُبدع في التصوير والقصة والحادثة، ولا يعدو الحد الذي يفصل بين الاسمين، بل يمر بالقصة وحوادثها ومعانيها كما تمر الشمس من لدن تطلُع إلى أن تغيب، وتظلم خلفها الدنيا، فتموت الحبيبة في ناحية والمحب في ناحية أخرى.

ومع اعتراف جبار الذهن أن هذه الأوضاع لا تنطبق على سخافاته التي سماها «أربعة أجزاء في مجلد واحد»، فإن طبع اللصوصية المنغرس فيه أبى عليه إلا أن يسرقها ويدعيها ويذهب المذاهب في تعليلها تدجيلًا وتعمية على القراء، وهذا كله صريح في أنه لص مخادع مدع لا يحترم نفسه ولا الناس ولا الحق.

عجيبة عجيبة … نفتح الآن صفحة ١١٣ من «يقظة الصباح»!! فماذا ترى؟ تهنئة بعيد:
عثمان يا عيدُ من يحظى بصحبته
بلغت ما شئت في الأيام والناس
أولى الأنام بإسعاد وتهنئة
من كان كالعيد في بشر وإيناس

إذا بلغ الحرص بشاعر على أن يثبت في ديوانه مثل هذين البيتين، فقُل فيه ما شئت ولا تُبال، واعلم أنك مصيب في كل ما تقول.

ومن فساد الذوق في «جبار الذهن» أنه يدعو على الناس في يوم العيد، لأنه يدعو لعثمان أن يبلغه الله ما يشاء فيهم، وماذا يشاء عثمان في «الناس»؟ أيجعلهم عبيدًا له؟ أم يأكل أموالهم؟ أم ينكبهم وينتقم منهم؟ إن العبارة نفسها في هذا التركيب لا تُقال إلا في الشر، فإنك تقول لإنسان: بَلَّغَكَ الله ما شئت في أعدائك. ولا يمكن أبدًا أن تقول بلغك الله ما شئت في أصدقائك وأصحابك، إذ لا يشاء (فيهم) ولكن يشاء (لهم).

ومعنى البيتين مبتذل متداول على ألسنة الناس حتى العامة، وقد مسخ المتشاعر كلام المتنبي في تهنئة سيف الدولة بعيد الأضحى في قوله:
هنيئًا لك العيد الذي أنت عيده
وعيد لمن سمى وضحى وعيَّدا
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى
كما كنت فيهم أوحدًا كان أوحدًا

المتنبي جعل أميره عيدًا للعيد ولأهل العيد، والمتشاعر جعل عثمان!! عيد من يحظى بصحبته، والمتنبي جعل يوم العيد في تفرده مثل الأمير في كونه أوحد الناس، والمتشاعر جعل عثمان (كالعيد) في بشر وإيناس «وزمارات ولعب وكحك وغُريِّبة»!!! من الإهانة للمتنبي أن نقول: إن العقاد سرقه وإن كان سرقه، ولكنا في كل ما نذكر من سرقات هذا المتشاعر «الجبار» لا نريد إلا أن يقابل القراء بين الشعر الحقيقي في قوته ومتانته وإحكام صنعته وبين الشعر الزائف المنحط في سخافته وركاكته مع أنه مسروق من ذاك!! فلو أخذه شاعر حقيقي يستحق اسم الشاعر لجاء به على الأقل، على الأقل في طبقة الأول إن لم يكن أبدع وأسمى منه، ولم ينزل إن لم يعلُ، ولم ينقص إن لم يزد.

فإذا كان جبارنا المضحك يسرق، ومع ذلك لا يجيئنا إلا بالسخيف الذي لا يُذكر بجانب الأصل، فإنه … فإنه إيه؟
فإنه سيف نجار!!! تقلده
مَن زنده عضلات من شراميط …
هوامش
(١) نشرت في عدد شهر أغسطس سنة ١٩٢٩ من «العصور» …
(٢) ذكر هنا حكاية البدوي الذي تمثل بهذا البيت في حضرة عمر بن عبد العزيز، فتركناها اختصارًا، ولأنه لم يصحح نقلها.
(٣) إذا كانت هضبة أو ثنية، أي أرضًا مرتفعة، فكيف يكون لها بطن؟ ولكن العقاد وجد الكلمة محرفة ممسوخة، فنقل من غير تمييز كعادته، وستأتي أمثلة لذلك. وحكاية البدوي التي نقلها ممسوخة أيضًا، وأصلها الصحيح في معجم البلدان لياقوت.
(٤) لم يسلم أديب ولا عالم من لسان العقاد أو قلمه، فكلامه نص في أنه يعتقد أن هذا سبب كبير للشهرة، وأنه يعمل بما يعتقد.
(٥) الرواية: «فليس يرضى بضيمي».
(٦) مجلة الجديد عدد ١٣ مايو سنة ١٩٢٩.
(٧) بعد أن نشر هذا الكلام رجعنا إلى ديوان ابن الرومي وفتشنا عن القصيدة التي منها هذا البيت، فما كان أشد عجبنا من بلادة العقاد وخبثه وتعميته على القراء وتغفلهم ليوهمهم أنه فكر وفسر، وما كان أثبت يقينًا بأن هذا العقاد ضعيف الفهم لا ينبغي له أن يتكلم في الأدب، فالبيت من قصيدة طويلة يهجو بها عمرًا النصراني الذي أولع بهجائه، وكان كاتبًا لابن الوزير. ويريد الشاعر أن لا يغضب ابنُ الوزير لكتابه، وإليه أشار بقوله: (من له خطر), فهو يعنيه وحده بهذه الإشارة، وقد مدحه في آخر القصيدة، وفي أبيات أخرى هجا بها عمرًا هذا يقول منها:
ألا يا ابن الوزير ألا انتزعه
ولا تغرسه قُبِّحَ من غريس
أي اعزله من عمله ولا تغرسه في نعمتك. فلا ابن الرومي صبر على عمرو، ولا الناس رضوا بظلمه إياه، ولا شيء مما خلط به العقاد! ولعن الله الغفلة والشعوذة على القراء بمثل هذا الهراء …
(٨) كان ذلك في صيف سنة ١٩٢٩.
(٩) وهذه العبارة أيضًا سرقها العقاد من طابع مختصر ديوان ابن الرومي، فإن هذا كتب على الديوان (ثلاثة أجزاء في مجلد واحد). واعجب واعجبي …

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى