مصطفى صادق الرافعي - «مفتاح نفسه» وقُفل نفسه١

يسرنا أن يكون الأدباء والكتاب قد أخذ كل منهم يحاذر جهده أن يكون هو المغفل الذي يشهد للعقاد بأنه أديب أو شاعر أو كاتب، بعد أن مزقنا الإعلانات الكبيرة الملونة التي كانت ملصقة على هذا الحائط!! وبعد أن أريناهم الحائط نفسه طينًا وحجرًا، لا أصباغًا ولا ألوانًا، وما هو إلا الحائط وما هو إلا العقاد.

ما من أديب الآن يجسر أن يظن في هذا العقاد — إذا أبعد في حسن الظن — إلا أنه كاتب جرائد يحسن صناعته ويستجمع آلاتها من الاطلاع المتنوع والترجمة ثم … ثم الصفاقة والمكابرة والكذب السياسي، ثم الدجل العالي الصحافي الشرقي!! وانتهى.

أما العقاد الذي كان تحت الإعلانات!! فهيهات هيهات … وقد كان أوَّل نَحْسِه طرده من جريدة البلاغ، لأن هذه الجريدة الكبيرة كانت بمنزلتها تصبغ شيبه، وتخفي عيبه، وتجعله (نايبه).

ومن العجيب أن رجالًا من حكومة العراق كانوا من المخدوعين به، أو فيه، أو منه، فأرادوا أخذه إلى العراق مُدرِّسًا للآداب العربية، وكادوا يجنونها على الأدب اغترارًا بتزويق الحائط، ولكنهم تنبهوا أخيرًا أن رأوا العقاد على السفود، وتركوه لما به، ولولا ذلك لما عرفوه إلا … إلا «بعد خراب البصرة».

ما هو هذا العنصر الكيميائي العجيب الذي يحول كاتب الجرائد في لحنه وعاميته وفساد ذوقه وسقم فهمه وضعف اطلاعه، وتهافت ناحيتيه في النظم والنثر، إلى مدرس للآداب العربية العالمية في حكومة العراق؟ أما إنه إن لم يكن عند هذه الحكومة حجر الفلاسفة لتجعل مثل العقاد مدرسًا للآداب العربية بقوة الرجم الكيميائي — إن لم يكن عندها حجر السحر هذا — فقد والله كادت تخرب البناء الذي تريد أن تقيمه بغلطتها في حجر الزاوية.
(مفتاح نفسه) كلمة وضعها العقاد عنوانًا لمقال نشره في «المصور» الصادر لذكرى المغفور له سعد باشا، لأن العقاد لا يزال ينفق من نقود أكاذبيه على سعد، فهي تسد ناحية من إفلاسه إلى زمن طويل على ما تظن. جعل عنوان المقال هكذا: «الزعيم الفقيد مفتاح نفسه»٢ فأولًا ما معنى (الفقيد) وقد مضت سنتان كاملتان على موت سعد رحمه الله. وثانيًا ما معنى (مفتاح نفسه) على قواعد التركيب العربي؟
لا وجه للأولى إلا الركاكة والحشو وطريقة الجرائد، ولا معنى للثانية إلا اللصوصية المتمكنة من نفس العقاد والغالبة على طبعه، فيعجز حتى عن كتابة عنوان، فيلجأ إلى سرقة هذه الاستعارة الإنجليزية ونصها عندهم The Key of his soul، يريدون أنك تفتتح أغلاق الرجل من جهات نبوغه بدرسه من جهات أعماله وأخلاقه، فكان صواب الترجمة — إن كان لا بد من السرقة حتى في عنوان!! «الزعيم بنفسه مفتاح نفسه»، أو «هو نفسه مفتاح نفسه» لا بد أن يتقدم العبارة الإنجليزية توكيد أو بيان لتستقيم عربية المعنى، فقل الآن في كاتب يسرق حتى العنوان ويعجز فيه أيضًا.
قلنا مرارًا إن هذا المغرور المتشاعر سقيم الفهم في العربية، وهذه هي علة تعقله بكلمة الجديد، وزعمه أنه مجدد كما هي علة أمثاله من الأدباء الملفِّقين في عربيتهم وأوروبيتهم على السواء. وهي أيضًا السبب في تجنب العقاد أن يفسر شيئًا من الأدب العربي، كما هي السبب في انحطاط شعره وكتابته. وقد رأينا له في مجلة «الجديد»٣ كلمة من تخليطاته عن ابن الرومي «كاد يفسر» … فيها أبياتًا لهذا الشاعر، فخبط خبط العمياء لا العشواء. قال ستره الله بإسكاته: هل ترى هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح؟! أو ترى هذا الخائف المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ هو ابن الرومي حيث يقول عن نفسه: (أي في البحر):
وكيف لو أُلقيت فيه وصخرة
لوافيتُ منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب

انظر أيها القارئ، ابن الرومي يقول: «لم أتعلم قط من ذي سباحة سوى الغوص» فيكون معنى هذا أنه «تعلم السباحة» (وتعلمها) «ليغوص لا ليسبح»؟ إن المعنى الذي يقصد إليه الشاعر هو هذا أرى ذا السباحة يسبح ويغوص، ولما كان الغوص أيسر العملين، لأنه لا يحتاج لتعلم الخبط في الماء وشقِّه والنجاة منه، فأنا قد تعلمت هذا وحده دون السباحة، فلا أُلقَى مع صخرة في الماء حتى أسبقها إلى قعر البحر.

هذا هو المعنى الشعري، فأما إن كان «تعلَّم السباحة، ولكنه لم يتقنها، فكأنما تعلمها ليغوص لا ليسبح» فقد فسد بهذا الكلام الحس الشعري الدقيق البديع، وأصبح المعنى في سخافته وركاكته يشبه شعر العقاد لا شعر ابن الرومي.

وقال، ستر الله عليه: وهل ترى ذلك المفهوم الذي يسرُّه أن يُدعى إلى الطعام حتى في الأحلام ويأسف على أن يذاد عنه وهو في المنام؟ هو ابن الرومي بعينه وهو القائل:
ولقد مُنعت من المرافق كلها
حتى منعت مرافق الأحلام
من ذاك أني ما أراني طاعمًا
في النوم أو متعرضًا لطعام
إلا رأيت من الشقاء كأنني
أُثنى وأكبح دونه بلجام

تأمل (قوي قوي) في تفسير المغفل، ثم في شعر ابن الرومي، وقل لي: هل يصف ابن الرومي «شراهته ونهمه وأسفه» أم هو يبالغ بهذا الأسلوب البديع في صفة فقره؟ وإنه لهذا الفقر محروم حتى مما هو غِنى طبيعي للفقراء، لأن الفقير متى تعلقت نفسه بشهوة لا يجد السبيل إليها، جاءته هذه الشهوة في أحلامه من عمل نفسه، وكان لا بد لأن تمكنه وأن ينالها، وذلك قانون طبيعي كما قرره العلم أخيرًا في أسباب الأحلام وتأويلها بالشهوات الممتنعة أو المنقمعة. ويعبرون عنها (بالمبكوتة)، وهو خطأ وتسمُّح.

فابن الرومي يصف شقاء جده وصفًا دقيقًا لا يحس به غبي مثل العقاد، وفضلًا عن أن سياق الشعر لا يؤتي المعنى الذي فهمه هذا الغبي، فإن المعنى بعدُ لن يتأتى إلا إذا ثبت أن ابن الرومي كان طفيليًّا بكل الأوصاف المأثورة عن هذه الطائفة، وهذا لم يقل به أحد إلا طفيلي الأدب العقاد. ومن العجيب أن لهذه الأبيات بقية تكاد تنطق بأن ابن الرومي لا يريد شراهة ولا طعامًا، ولكنه يقرر ابتلاءه بعثار الجد، وأن ما يناله الناس «من وصال اللطيف …» بأهون سبيل وأيسر حركة للعاطفة يحرمه هو ويُبتلى فيه مع ذلك «بالغُرم والأغرام»، والعقاد هذا لا يفهم غرض الشاعر، إلا يرى القراء أن هذه وحدها كافية في الدلالة على بلادته وسقم فهمه، كأن مادة مخه في وعاء جمجمته قد كتب عليها صيدلي القدرة لا يفهم إلا من الظاهر.

وقال غطاه الله: … أما سخره من غيره فله في أفانينه الكثيرة ومعانيه الغريبة ما يقوم بديوان كامل. وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له (كذا) أمام داره ليتطير منه:
قصرتْ أخادِعُه وطال قذاله
فكأنه متربص أن يُصفعا
وكأنما صُفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها فتجمعا

تعالوا أيها القراء، وهاتوا معكم (رجالًا من العراق …) لنضحك من هذا العامي المتشاعر، الذي جعل ابن الرومي عاميًّا مثله يجنح إلى لغة ضعيفة في تأنيث (القفا)، ويعدل عن الأعم الشائع، ولو كان هذا الشعر على هذه الرواية لكان ضعيفًا، إذ قوله: «صفعت قفاه مرة» يوهم أن هذه (المرة) كانت في زمن من قبل، فيفسد الوصف ويضعف التركيب، ويحب حينئذ أن تكون العبارة وكأنما صفت قفاه صفعة وأحس ثانية لها … إلخ.

وقوله: «فكأنه متربص أن يُصفعا» من العامية التي لا ينقلها إلا عامي مثل العقاد، لأن التربص يا عقاد الجرائد … لا يكون إلا في الانتظار الطويل الذي لا بد فيه من مكث وتلبث، وبهذه الكلمة يفسد الوصف ويرجع هراء، فإن من ينتظر أن يصفع غدًا أو بعد ساعة لا تكون تلك حاله ولا يتجمع.
ثم «وطال قذاله» ثالثة الأثافي، فإن القذال جماع مؤخر الرأس ما تحت قصاص الشعر، أي القفا، فهل الأجدب طويل القفا؟ وهل إذا قصرت الأخادع — وهي كناية عن قصر الرقبة — يطول القفا؟ أم ذاك الأحدب قد استعار قفا العقاد … فانخسفت رقبته، ومع ذلك طال قذاله معجزة لجبار الذهن٤ … ما هذه البلادة في هذا الرجل؟ خلصينا يا حكومة العراق من عاره على الأدب المصري، وخذيه ولو مدرسًا لتلاميذ الشهادة الابتدائية التي لا يحمل غيرها، وغير شهادة الجميع له باللصوصية الأدبية العليا!! ثم البيتان بعد هذا كله ليسا لابن الرومي، بل هما مرويان للأمير مجير الدين بن تميم، وتحرير الرواية هكذا:
قصرت أخادعه (وغاب) قذاله
فكأنه (مترقب) أن يُصفعا
(وكأنه) قد ذاق أول صفعة
وأحس ثانية لها فتجمعا

هذه هي صفة الأحدب مصورًا تصويرًا، وهكذا يكون الشِّعر، لا ذلك التخليط العامي الثقيل المتناقض الذي لا نعجب ألا يتنبه له (أديب فالصو) مثل عقاد الجرائد هذا.

أرأيت يا عقاد أنك لست هناك، وأنك تدعي الأدب العربي سفاهًا، وأنك في تمييزك غبي غبي غبي، لا تساوي شيئًا إلا عند غبي غبي مثلك.

•••

والآن نقول إننا تلقينا كتابًا يتحدانا صاحبه!! أن ننقد قصيدة للعقاد سماها «الخمرة الإلهية»، ويستدل صاحب الكتاب على فضل العقاد بما لا شأن لنا به هنا ولو شهد له حل وامرأتان.

نحن — بعون الله — لا نضرب دائمًا إلا ضربات قاضية، ولا نعرف هذا النقد المخنث الذي رآه في الجرائد مما ليس فيه إلا الثرثرة، ولا تقدير له إلا بقولهم: أربعة أعمدة وخمسة أعمدة … ومن ذلك سررنا بهذا الكتاب الذي تلقيناه، وسنأتي بقصيدة العقد هذه بيتًا بيتًا، ليرى بعيني رأسه وبكل أعين الناس أنه (فالصو) من أوله إلى آخره وأنه لا يزيد عندنا عن حبة من القمح رأت حجر الطاحون ساكنًا هادئًا متواضعًا، فجاءت تظهر سفهها وطيشها وتتهمه بالبرودة والجمود وتقول له إنها من قمح استراليا!! ثم … ثم دار الحجر.

في صفحة ٧٤ من «يقظة الصباح»!! «الخمر الإلهية. على طريقة ابن الفارض».

ما هي طريقة ابن الفارض؟ وهل يعرفها العقاد على حقيقتها؟ أم هو يقلد في هذا كما هو شأنه دائمًا؟

الخمر في لغة السادة الصوفية «شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود آثار الأسماء الجميلة للحضرة العلية، فإنها توجب السُّكْر والغيبة بالكلية عن جميع الأعيان الكونية».

أفكذلك عاين العقاد وشرب وانجذب! أم نظم قصيدته الملفقة في خمرة بار من البارات التي يتسكع فيها، ويخرج منها بمخازيها؟ سترى وتعرف.

ثم إن ابن الفارض ليس له في الخمر غير قصيدة واحدة هي الميمية المشهورة، وأبيات استهل به تائيته الكبرى. وما عداهما فلم يذكر الخمر إلا في ثلاثة أو أربعة أبيات، كل بيت في قصيدة.

وهذه نفحة من الميمية يتطهر بها القارئ قبل أن يخوض في رجس العقاد، ويتنشق منها أنفاس السماء قبل أن يأخذه غبار الأرض.

قال سلطان العاشقين قدس الله سره:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت
ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسم
وإن خطرت يومًا على خاطر امرئ
أقامت به الأفراح وارتحل الهم
ولو نظر الندمان خَتْمَ إنائها
لأسكرهم من دونها ذلك الختم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت
لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كَرْمها
عليلًا وقد أشفى لَفارَقه السقم
ولو خُضبت من كأسها كف لامس
لما ضل في ليل وفي يده النجم
يقولون لي صِفْها فأنت بوصفها
خبير، أجَلْ عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا
ونور ولا نار، وروح ولا جسم

ويجب أن يرجع القارئ إلى شرح الشيخ النابلسي لديوان ابن الفارض ليرى كيف يفسرون معاني الخمر وأوصافها «بما أدار الله تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة»، وهو أمر بينه وبين العقاد ما بين الإنسان والقرد.
وقال المفتون صاحب الذوق المريض، صاحب «مرحاضه»:٥
عقود الدوالي أنت والخمر أشباه
فلله ما أسنى حلاك وأحلاه
إن أراد أن تأثير العناقيد يشبه تأثير الخمر على التوهم، فهو من قول ابن الفارض: «ولو طرحوا في فيء حائط كرمها» … إلخ. وقد ورد في هذا المعنى شعر كثير … وإن أراد أن العناقيد هي والخمر أشباه في الشكل أو المعنى فليس كذلك. والحقيقة أنه سرق هذا المعنى من كتاب (حديث القمر) ولم يحسن سَبْكَه. وهو هناك بهذا النص «يتخيلها (أي الآمال) ابتسامات من السعادة كما يرى المدمن في عناقيد الكرم سحابة من الخمر»، فانظر أين هذا الرَّصفُ من ذاك، وأين الدقة من الغموض «وإن الذباب ليقع على الزهر كما يقع النحل ليجني العسل، وإنه ليطنُّ في الروض كما تغرد الطيور لترقيص قلوبها الصغيرة، ثم يطير عن الزهرة ذبابًا كما وقع، ويسكت ذبابًا كما طن، وكيفما نظرت إليه لا تراه إلا ذبابًا. ولكنه من الطير، ولكنه من الشعراء٦ …».

وهذا هو وصف العقاد في كل سرقاته، فهو على زهر المعاني شاعر ذبابي!! وقد طُبع «حديث القمر» في سنة ١٩١٢ قبل (يقظة الصباح) بأربع سنوات. وقول العقاد: «ما أسنى حلاك وأحلاه» خطأ، لأن الحلي جمع حلية، فيجب أن يعود عليها الضمير مؤنثًا فيقول: «وأحلاها» … وانظر أين معنى الحلاوة من معنى «سنا الحلية» إلا أن يكون هذا من قول نساء العامة لكل جميل: «يا حلاوة».
لآلئ قد نيطت بأسماط عسجد
فصدر الدوالي مشرق النحر تيَّاه

انظر كيف يصنع الشاعر الحقيقي في مثل هذا قال ابن الرومي في وصف العنب:
لو أنه يبقى على الدهور
قرَّط آذان الحسان الحور

وقال في البلح:
فشُقِّقتِ الأكف فخِلْتُ فيها
لآلئ في السلوك منظمات
فهو لا يجعلها لآلئ حتى يُوطِئَ لها توطئة، وقوله: «صدر الدوالي مشرق النحر» كلام غير مستقيم، لأن العناقيد على صدر الدالية، فمن أين لصدرها نحر؟٧
كأن حبوب الكرم بين سلوكها
كؤوس من البِلَّور قد صاغها الله

سرقه من ابن الرومي في وصف العنب الرازقي (الأبيض الطويل):
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور

يريد ابن الرومي الشبه في خزن الضوء، وهو معنى جميل دقيق، فجعلها العقاد (كؤوسًا)، وثرثر بقوله: «صاغها الله». ثم الحبوب لا تكون (بين) سلوك العناقيد، بل السلوك هي التي تكون بين الحبوب، لأنها تحملها وتغذوها، فهي ليست من معامل الزجاج.
كأني أرى بالعين ضمن قشوره
سُلافة جام سوف نجني حُميَّاه

هذا تكرار للبيت الأول، ثم قوله: «أرى بالعين» كلام سخيف، فبماذا يرى، و«ضمن قشوره» كلمة عامية حقيقة بأن تكون لغة كناس من كناسي الطرق.

«وسوف تجني حمياه» الطامة الكبرى، فكيف «يرى بالعين سلافة»، ثم يقول: «سوف تجنى» و«سوف» للأجل البعيد. وهل يقال: «جنيت الخمر»؟ و«حميَّاه» حشو لا موضع له ألبتة، فكأنه قال: أرى بالعين سلافة كأس سوف تجنى سلافة هذا الكأس. وانظر أي خلط هذا!
ويسعى إليها الشاربون بمجلس
يَحُفُّ به عشب أثبث وأمواه

«إليها» يعني إلى الخمر التي يراها بالعين سوف تجنى … فالرجل إذن في منام، وليس يرى بالعين، لأنه مع أن هذه الخمر «سوف تجنى»، فقد رأى الشاربين يسعون إليها.

وصفة المجلس في شعر هذا الدعي الثقيل من أبرد ما جاء به شاعر عامي ساقط. هل يهتم «بالعشب الأثيث والأمواه» إلا حمار يحلم بالبرسيم ونحوه، أو من فيه روح حمار؟ وقال صاحب مرحاضه:
كليلتنا والدهر وسنان غافل
وقد أيقظ العود الصفاء فلبَّاه

إذا كان الدهر وسنان، فهو غافل حتمًا، ولا يبقى لهذه اللفظة معنى … «وسنان وأيقظ» هذا هو بديع العقاد كأسخف ما يجيء به مبتدئ. «وأيقظ العود الصفاء» هذه كلمة من الشعر الذي كان قبل سبعين سنة، حين كانت ألفاظ الشعر واستعاراته مثل أيقظ الصفاء، ودعا الهناء، ولبى الأنس … إلخ، وما دمنا في البديع فهل (أيقظ) يناسبها (لبَّى)؟ أم هذه تناسب (دعا)؟ هذه صناعة العقاد ليس فيها إلا كلام عامي منظوم، ومع ذلك لا يخجل أن يجعلها (الخمر الإلهية)، وتبلغ به الوقاحة أن يقول إنها على طريقة ابن الفارض.

أما وقد رأيت طرب مجلس العقاد، وأنه كله في «أيقظ العود الصفاء»، فانظر كيف يصنع الشاعر في الابتكار لمعنى الطرب في مثل هذا المجلس، واقرأ قول مسلم بن الوليد:
سلكنا سبيلًا للصِّبَى أجنبية
ضمنَّا لها أن نعصيَ اللوم والزَّجرا
بركب خفاف من زجاج كأنها
ثُدِيُّ عذارى لم تخف من يد كسرا
علينا من التوقير والحلم عارض
إذا نحن شئنا أمطر العزف والزمرا

و«مسلمٌ» نهج له أبو نواس هذا المعنى في قوله:
لا أرحل الراح إلا أن يكون لها
حادٍ بمُنتخِلِ الأشعار غِرِّيد

فجاء ابن الوليد بالرجل والركب والطريق وسمائها على أبدع ما تَبتكر القريحة، وهكذا يكون الشاعر في توليده وابتكاره إن كان شاعرًا. فأما إن كان عاميًّا ملفِّقًا لصًّا كالعقاد، فهو يصنع — كما رأيت العقاد يصنع — سلخًا ومسخًا كأنه (عطاشجى وابور) يقدِّم خرقته القذرة لامرأة حسناء قد غازلها، كي تمسح بها عن وجهها الجميل عرق الخجل من وقاحته وسوء أدبه …

لا ينبغي أن يجيء الشاعر بمعنًى متداول أو مبتذل إلا إذا وضع له تعليلًا، أو زاد فيه زيادة، أو جعل له سياقًا ومَعْرضًا أو نحو ذلك، ليكون هو هو في معنى غيره، فكأنه معناه هو. وأي شيء في «أيقظ العود الصفاء فلبَّاه» غير استعارة النوم للصفاء، والإيقاظ للعود، كأن العود خادم في (لوكاندة نوم)!!! انظر يا عقاد الجرائد كيف صنع «جميل» حين أراد أن يأتي بشيء جديد من معاني الشعر في طرب العود ونحوه، وتأثير هذه الآلات في مجلس الراح، وهو يذكر نديمه عليها بعد أن طرب وشرب، قال:
فلما مات من طرب وسُكر
رددت حياته بالمُسمِعات
فقام يَجُرُّ عِطْفيه خُمارًا
وكان قريب عهد بالمماتِ

جعل العود (ينطق بأحسن من وقع القطر في البلد القفر)، وجعل فيه حياة من الموت الذي في الخمرة، فكأن في مجلسه ما يحيي ويميت. هكذا فاصنع أيها … الذي لا يتلهف في مجلس الطرب إلا على «عشب أثيث وأمواه!! دون أنواع الريحان وأفانين الزهر وأصناف الطيب ومجالي الروض ومعارضه المختلفة … إلخ إلخ:
يدور بها الساقي علينا كأنها
مباسم ثغرٍ والحباب ثناياه

إن أراد بالمباسم جمع مبسم مصدرًا، أي الابتسام، فلا معنى للتشبيه، لأن الخمر ذات الحباب لا تكون بيضاء … فإن أراد جمع مبسم، أي مكان الابتسام، يريد به الشفتين الحمراوين، فكم مبسمًا للثغر يا ترى؟ لعلها مباسم زنجية من أسوان لها شفتان غليظتان كمشفَرَيِ البعير ويكون تقدير العقاد أن هاتين الشفتين لو قُسِّمتا شفاهًا رقيقة لكانتا عشرين أو ثلاثين، ومن ثَمَّ يكون لهذا الثغر الواحد (مباسم) على هذا التأويل!! وهذا البيت سرقه القعاد (كذا سمته المطبعة القعاد!!) من شوقي في قصيدته المشهورة (حف كأسَها الحببُ) من قوله:
أو فَمُ الحبيب جلا
عن جمانه الشَّنَب

ومع أن طبعي أنا لا يُسيغ مثل هذه التشبيهات ويراها كلها فسادًا في الذوق، فإني أرى في بيت شوقي دقة غفل عنها العقاد، لأنه جاهل بالعربية، ليست له قريحة بيانية البتة، فما في كتابته ولا في شعره إلا الخَبْط لَبْط … شوقي يقيِّد الفم بأنه «فم الحبيب»، والعقاد أراد مطلق ثغر، يعني ولو ثغر شَوْهاء فوهاء!!! ثم شوقي يذكر فم الحبيب والثنايا والريق، وهذا كله حلو حلو جميل جميل، ويضيف إلى ذلك كله كلمة (جلا)، وهي وحدها شعر في ذكرها مع ثنايا الحبيب، والفنَّاد (كذا سمته المطبعة!!) غُفل مغفل ليس في شعره إلا (ثغر) نكرة — بدليل التنوين — و(ثناياه) كيفما كانت، ولو كانت مصابة بالقَلَح وو … قبحه الله من شاعر سخيف، كادت والله نفسي تثب إلى حلقي … وما منعني القيء من شعر هذا العقاد إلا أني تذكرت الآن هذين البيتين في ثغر الحبيب ودُرِّه وعقيقه، ولا أدري لمن هما، ولكنهما من شعر المتأخرين الجامدين في رأي المجددين المغفلين:
يا دُر ثَغر الحبيب من نَظَمَك؟
ومن بختم العقيق قد ختمك؟
أصبح من قد رآك مبتسمًا
يميل سكرًا فكيف من لثمك؟٨

آه … فكيف مَن … تحتاج يا عقاد أن تخلق مرة أخرى لتقول مثل هذا.

ونعود إلى تشبيه الحباب بثنايا (الحبيب)، الحبيب خاصة — فأصله أنهم شبهوا الحباب باللؤلؤ، وهذا جيد مستقيم على طريقة الوصف، ومنه قول النواسي: «حصباء دُر على أرضٍ من الذهب» وكثير غيره.

ثم لما كانت أسنان الحبيب تشبه باللؤلؤ جعلوها كالأصل، ونقلوا التشبيه إليها توليدًا واتساعًا في فنون البيان، ومن ذلك قول البحتري يصف الخمر:
وفي القهوة أشكال
من الساقي وألوان
حَباب مثل ما يضحك
عنه وهو جذلان
وسكر مثل ما أسكر
طرفٌ منه وَسْنان

ثم تنبهوا من ذلك إلى مراعاة النظير والمقابلة، فجمعوا في التشبيه كقول ابن وكيع:
حملت كفه إلى شفتيه
كأسه والظلام مُرخي الإزار
فالتقى لؤلؤ الحباب وثغر
وعقيقان من فم وعُقار

وأبدع ابن النبيه، وجاء بالمعنى سائغًا عذبًا في قوله:
فانهض إلى ذوب ياقوت لها حبب
تنوب عن ثغر من تهوى جواهره

ومن هنا أخذ شوقي، فجمع في التشبيه كما رأيت، وعلى شوقي تطفل العقاد. والتفنن في وصف الحبب كثير، ولكنا أردنا بما ذكرناه تاريخ المعنى الذي (هببه) هذا العقاد … وقال صاحب «مرحاضه»:
جرت في صفاء الدمع وهي دواؤه
فمن ذاقها لم تجر بالدمع عيناه

سرق من قول ابن المعتز، مع غفلة من أقبح غفلات العقاد.

يقول ابن المعتز ورواه الثعالبي لأبي نواس:
وليس للهم إلا شرب صافية
كأنها دمعة من عين مهجور

فقيد الدمع بأنه من «عين مهجور»، «وصاحب مرحاضه» أطلق فجعلها ككل دمع وإن كان دمع مصاب بالرمد الصديدي … قبح الله هذا الأحمق، لا يزال شعره كالملح الإنجليزي، أو زيت الخروع!! ثم انظر واعجب من غباوة العقاد، فقد فهم من بيت ابن المعتز أنه يشبه الخمر في صفائها بالدمع، فسرق على هذا الفهم، وذلك تشبيه صبيان، لا تشبيه مثل ابن المعتز، وإنما أراد هذا أنها صافية حمراء كدمعة المهجور حين يبكي دمًا، لا حين يبكي دمعًا. أفهمت يا عقاد؟ ألا تُقر أنك في حاجة إلى أن تكون تلميذًا لأديب، ثم بعد ذلك عسى أن تكون أديبًا في يوم ما.

وتأمل ما يشعرك قول ابن المعتز: «كأنها دمعة من عين مهجور» وما يشير في نفسك من رقة العاطفة وتحزُّنها واهتياجها … إلخ. وهذا كله خلا منه بيت العقاد، فجاء قشرًا لا لب فيه. وزعمُه أنها «دواء الدمع» مضحك، لأن ابن المعتز جعلها «دواء الهم»، وليس كل هم يجيء بالدمع، إلا إن كان هم امرأة تبكي لكل شيء، وليس كذلك الرجل. وما دامت الخمر «دواء الدمع»، فينبغي أن يكون من أسمائها عند المجددين (ششم وقطرة)!!! ومحلول بوريك وسليماني. ألا لعن الله هذا التجديد وأهله إن كانوا من هذا الطراز. انظر كيف يكون الشعر في وصف الخمر على أنها دواء الدمع في قول «السلامي»، ذلك الشاعر الذي قال فيه عضد الدولة: «إذا رأيت السلامي في مجلسي، ظننت أن عطارد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يديَّ»:
بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا
كأننا في حجور الروض أيتام

هكذا، وإلا فاسكت ويحك!
تنير فلولا أن يسيل رحيقها
لقلت لظى أذكى النسيم شظاياه

يريد: فلولا أن سال رحيقها، فاستعمال (يسيل) بصيغة المضارع خطأ، لأنه لا يفهم منه بهذا التركيب إلا أنه لا يقول إنها لظى، خشية أن يسيل رحيقها من كلامه البارد … والمعنى مسروق من قول مسلم بن الوليد:
وكأنها والماء يطلب حلمها
لهب تلاطمه الصبا في مَقْبِس

الصبا نسيم الصبا، فقال العقاد: لولا أنها ماء لقلت إنها لهب، ولم يحسن أن يقول مثل هذه العبارة البديعة: «تلاطمه الصبا» فقال: أذكى النسيم شظاياه … الإذكاء معنا الزيادة، تقول: أذكيت النار، أي زدتها وقودًا، فكيف يكون الإذكاء لشظايا النار، أي الشعل المتطايرة منها دون النار نفسها؟ هذا فهم مقلوب، والظاهر أن مغفلنا الكبير فهم من معنى «أذكى» بَعْثَر وفرق ونحوهما.

تأمل بيت مسلم، وانظر الدقة العجيبة في جعله الماء يطلب حلمها حين يمتزج بها، وهي في نفسها لهب ثائر، فيكون لهبها بالماء يمازجه، كأنه يتلاطم مع نسيم الصبا، ثم قابل هذه الصياغة بصياغة مغفلنا واحكم
يكاد إذا طاف الغلام بجامها
يرفرف حوليها الفراش ويغشاه
جعل مجلس الراح في غيط قطن عند «العشب الأثيث» حيث يوجد الفراش المنسلخ من دودة القطن. وهذا البيت يذكِّر بالذباب وتهافته على كأس الشراب، لأن الفراش والذباب سواء، غير أن الأول يتهافت على الضوء.٩ والمعنى — بَعْدُ — مسلوخ من قول «مسلم»:
كأن نارًا بها مُحرَّشة
نهابها تارة ونغشاها

شبهها بالنار المحرَّكة التي زادت وقودًا وهم حولها، فيرتد عنها المصطلي تارة ويدنو منها تارة، فخطر للعقاد أنه لو كان الناس هنا فَراشًا لكان المعنى أحسن، فمسخهم فراشًا.

ولكن انظر كيف يقول الشاعر الفحل في مثل معنى العقاد حين يصنع الصنعة البارعة التي لا تُذكِّر النفس إلا بالصور العالية الشريفة، وهو ابن بابك في قوله:
ذو غُرَّة كجبين الشمس لو برقت
في صفحة الليل للحرباء لا تنصبا١٠

ويقول مفتاح نفسه وشاعر نفسه وعينه!! صاحب «مرحاضه»:
لها في يمين الشاربين توهج
إذا ما خبا قلب من الحزن أذكاه

لماذا جعلها في اليمين خاصة مع أن أهلها يتناولونها باليمين واليسار؟ ثم هذا المعنى كثير، وإنما الشعر في تعليله وكيفية وضعه. وبيت العقاد من قول مسلم بن الوليد:
تلتهب الكف من تلهبها
وتَحْسِر العين أن تقصَّاها

قال: «الكف» ولم يقل: «اليمين»، ثم هي ما دامت نارًا أو شعاعًا محرقًا، فيكون أثر توهجها في الكف لا في القلب. ولكن لعل العقاد سرق فيما يسرق سلكًا مَدَّه من يمين حاملها إلى قلبه، فانتقلت الحرارة عليه!! و«مسلم» يزيد في بيته أن العين تحسِر عن تقصيها كما تحسر عن الشعاع في شمسه. وانظر كيف يتظرَّف الشاعر في ذكر توهج الراح وتلهبها على يد الساقي الجميل إذ يقول:
لا تترك القدح الملآن في يده
إني أخاف عليه من تلهبه

وقول العقاد: «إذا ما خبا قلبٌ من الحزن أذكاه» من أبرد الكلام وأسخفه، لأن أذكاه معناه أضرمه وهيجه، وما الحزن إلا تسعير القلب، ونعوذ بالله، وقد قال أبو فراس:
إذا ما برد القلب
فما تُسخِنه النار

ويقول «صاحب مرحاضه»:
تلوح كماء المُهْل أما مذاقها
فمن سلسبيل الخلد في طيب سقياه

قال في الشرح: ماء المهل شراب أهل جهنم!! فتأمل هذا الذوق!! ونعوذ بالله ثم نعوذ بالله.

وهذا المغفل قد نسي من أول بيت في قصيدته أنها «الخمر الإلهية»، وأنه يقول «على طريقة ابن الفارض»، فذهب يسرق في كل بيت ممن لم يقولوا على هذه الطريقة ولا حرفًا واحدًا كما رأيت. وهل الخمر الإلهية «تلوح كشراب أهل جهنم»؟ أخزاك الله (يا صاحب مرحاضه) وجعل المُهْلَ شرابك، كما جعلت في شعرك المرحاض ثيابك.

وقوله: (مذاقها) ثم قوله: (في طيب سقياه) من الكلام الذي لا يلتئم، لأن المذاق في اللسان وحده، فالصواب مذاقها في طيب طعمه، وبين (الطعم) و(السقيا) من البعد ما بين العقاد والشعر.

هذا نصف القصيدة، وكل ما مر بك في اثني عشر بيتًا فقط من شعر (صاحب مرحاضه)، فكيف يرى الناس الآن قيمة (صاحب مرحاضه)؟
«لو انتقدتم، لبطل ما اعتقدتم»
بديع الزمان الهمداني
هوامش
(١) عدد شهر أكتوبر سنة ١٩٢٩ من العصور.
(٢) عدد ٢٣ أغسطس سنة ١٩٢٩ من المصور.
(٣) عدد ٢٩ يوليه ١٩٢٩.
(٤) يصف الشاعر هذا الأحدب في صورته الجسمية برجل صفع على قفاه صفعة، وأحس بيد صافعه ترتفع لتهوى بالصفعة الثانية على قفاه، فتجمَّع أي رفع كتفيه حتى التصقا برأسه ليخفي قذاله، فتقع الصفعة على الظهر دون القفا، فإذا تجمع ليخفي قذاله فكيف يقال في هذه الحالة: (طال قذاله)؟ ولكن العقاد رجل بليد في الآداب العربية، وإيراده البيتين على هذا الشكل دليل قاطع في أنه ضعيف الفهم والتمييز، وأنه لا يصلح لشيء في الأدب العربي، لأنه لا هو مطلع ولا هو يفهم ولا يحقق، وليس هو أكثر من لص عمله النقل بسرعة وهمة على أوتومبيل أو على عربة كارو أو على حمار أو على ظهره هو … فإن أمن واطمأن على ما يسرق كان من أرباب الإهلاك!!
(٥) إشارة إلى قول العقاد: «مرحاضه أفخر أثوابنا» وقد مر في السفود الثالث، وكان العرب يلقِّبون بعض شعرائهم بكلمات قالوها في أشعارهم.
قال ابن رشيق: وطائفة أخرى نطقوا في الشعر بألفاظ صارت لهم شهرة يلبسونها، وألقابًا يُدْعَون بها فلا ينكرونها، منهم عائد الكلب، واسمه عبد الله بن مصعب، لُقب بذلك لقوله:
مالي مرضت فلم يعدني عائد
منكم ويمرض كلبكم فأعود
والممزق، واسمه شاش بن نهار، لقب بقوله لعمرو بن هند:
فإن كنت مأكولًا فكن أنت آكلي
وإلا فأدركني ولما أمزَّق
ولُقب «مسكين الدارمي»، واسمه ربيعة بقوله:
أنا مسكين لمن أبصرني
ولمن حاورني جدُّ نَطِق
ومنهم من سُمي بلفظة من شعره لشناعتها!!! مثل النابغة الذبياني، واسمه زياد بن عمرو، وسمي نابغة لقولهم:
فقد نبغت لنا منهم شئون
و«جران العود» سمي بذلك لقوله:
عمدت لعود فانتحيت جرانه
قلنا: ومن هذا القبيل صاحب مرحاضه!! واسمه عباس محمود العقاد، وسمي صاحب مرحاضه بقوله:
مرحاضه أفخر أثوابنا!!!
(٦) هذه الجملة من «حديث القمر» في وصف بعض شعرائنا.
(٧) الثابت عندنا أن العقاد بليد، سقيم الفهم، وخاصة في فهم الشعر العربي، وهذا يدل على أنه غير ناضج، لا بيانًا ولا شاعرية، ونظن أنه سرق ما جعله للكرم نحرًا من قول ابن الرومي:
بنت كرم تديرها ذات كرم
(موقد النحر) مثمر الأعناب
حصرم من زبرجد بين ينع
من بواقيت جمرها غير خابي
وظنَّ لسوء فهمه أن الشاعر يصف الكرم (شجر العنب)، والحقيقة أن ابن الرومي يريد بقوله: «ذات كرم» إلخ أن الخمر تديرها امرأة غنية كثيرة الحلي، كأنها في حلاها المختلفة شجرة كرم بعناقيدها، فالحصرم فيها زبرجد لاخضرار كل منهما، والناضج بواقيت لاحمرار كل. وفي ديوان ابن الرومي (بين نبع) وهو تحريف.
(٨) هذا المعنى مأخوذ من قول ابن الرومي:
ما بال ثغرك مشربًا بي سكره
ولمن سواي فدتك نفسي راحه؟
ولكنه أحسن وأتم وأرق من الأصل كما ترى.
(٩) لا تنس أن الفراش لا يتهافت على الضوء إلا ليلًا، وقصيدة العقاد ليس فيها ما يدل على أن مجلسه كان بليل ولا بسحرة، فهذه إحدى غفلاته. ثم إن الشعراء قد أكثروا في تشبيه الراح بالنار، حتى بالنار التي تشب ليسري الضالون في الليل على ضوئها، فيهتدوا بها إلى القرى والضيافة والعمران. كما شبهوها بالمصابيح واللهب، وشعرهم كثير في هذه المعاني، وكلهم كانوا يعلمون طبيعة الفراش، ومن ذلك لم يذكر أحد منهم هذا المعنى فيما وقفنا عليه، لأن لهم ذوقًا وبصرًا، وليس يغيب عنهم أن الكأس التي «يرفرف حوليها الفراش ويغشاها» هي أخت الكأس التي يقع فيها الذباب ويقذرها، لأن الفراش لا يرتد عن الضوء دون أن يخالطه ويقع فيه، وذكر الفراش على الكأس في مجلس الشراب لا يكون إلا من عامي سوقي بارد الطبع ساقط الحرمة. فأنت ترى أنه إن كان العقاد هو الذي جاء بهذا المعنى، فكلام الشعراء جميعًا دليل على فساد ذوقه وعامية طبعه، وإن كان سرقه بنصه فهذه أدهى وأمر، لأنها لصوصية وفساد ذوق معًا، وكلمة «يغشاها» أقذر وأسقط قافية في الشعر العربي من زمن الجاهلية إلى اليوم.
(١٠) الحرباء دائمًا يطلب الشمس، ويتقلب معها، وهو يطلب معاشه بالليل، فإذا طلعت الشمس اشتغل بها، ويريد الشاعر أن وجه ممدوحه كشمس الظهيرة، حتى لو طلع في الليل على الحرباء لا تنصب كما يفعل طبيعة عندما تكون الشمس في كبد السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى