أدب السجون قاسم حداد - قصائد السجن

4 مايو 1978
سجن "سافرة"



الوصية - 1

( 1 )

و يكون السجن عليك وشاحا
أنت بكورية يوم الذبح
تكون الأحلام على كفيك سلاحا.
تكون الصوت الصارخ في تغريبة هذا الصيف
تكون الدهشة فاكهة و العشق مباحا .
أنت الجندي الثاني في جيش الأطفال
تكون جناحا .

( 2 )

تخرج ، لكن أباك يظل هناك و لا يخرج
(كيف أراك ؟)
ما بين السجن و بين السجن مسافة
(من يختصر الصحراء لكي أغسل عينيه بعينيّ؟)
تخـرج ، لكن أباك يظل هناك سؤالاً ( هل تقدر أن تسأل عنه)
صاغك كالشعر و شالته الأصفاد عن الحقل
وحيدا تخرج قبل الوقت (و أنا في السجن وحيد)
لكنك حين تجيء يناغيك الأطفال
(هل أجمل من رفقة أطفال العالم؟)

( 3 )

تدخل في ظلمة هذا العالم كالعنف المترصد في الطرقات
ترتجف الوحشة بين أصابع صوتك ،
فتجس الماء و تهجس بالأخضر
و تصوغ لكل الألوان حلاوتها
تبتكر الصوت السيد للصلوات .

( 4 )

لا تغضض عينيك عن الأخطاء
لا تغفر للعسكر غزوتهم
من يضربك على الخد الأيسر أضربه حتى الموت
لا تستر عورات السلطة و السلطان
لا تدخل أبوابا مشرعة ، افتح آفاق الباب المغلق
لا يشغلك الجرح عن السكين
لا يأخذك؛ النوم عن الحلم
لا يمنعك العرس عن الشمس
يا ولدي ... لا تعتمد الهمس .

( 5 )

أنا نقيضك
خضيني ترين دمي علانية على الأسوار
وردا عاشقا كالنار
أصغي ، إن غناء فمي غريب ، ليس كالأشعار
إذا طالت سنين الجوع في وطني .. أنا جيش من الكفار .

( 6 )

سيسألك السائلون
فقل لهم : كسبت صداقة كل العصافير
بيني و بين الموسيقى صدى لا يقاس
و سيسألك السائلون
فقل لهم : وطني سيد و أنتم عبيد له
كخمر و كاس .

( 7 )

لا تستنجد بالماء سـوى النار
أنت النار و تسأل عن وقت النيران .

( 8 )

طوبى للوطن الناطر فوق شفير الثورة كالوهج
طوبى للواقف بين العنق و بين السكين
طوبى لجميع العشاق المنذورين لعرس البحر
طوبى للحزن الغامر و التنهيد
طوبى للطفلة و الطفل و كل شهيد
طوبى يا جيشا يقرأ آيات لا تقرأ ،
يصوغ الكون .

( 9 )

يبحث عنك جميع العسكر
لكن أين ؟
تبحث عنك جميع عصافير الشمس ، لكي تعطيك قميصا
لكن كيف ؟
فنصعد كل أغانيك المغلولة مشرعة كالله على الأرض
و تصير كماء الشعب الواقف في حلق العسكر .

( 10 )

كن لغة تحاور الآفاق
و كن صديقا صاعقا كالعاشق الحنون
و احلم بأن الوله المجنون .. بيتك
و السجون .. نافذة الشاعر
فالنفاق ، نفق يسقط فيه الحب و العناق.
يا طفلي الغريب
كن نكهة طفلية من كتب الرفاق .

( 11 )

أقول للذين سوف ينهضون
لا تدعو الغامض يبقى غامضا
فالرمز لغم يرصد الجنون
و يستثير الثمر المخيف
أقول للذين سوف يدخلون
أنتم جنود الغامض الأليف
و أنتم الخنجر و النزيف .

سجن جده - البحرين-نوفمبر 1975

* * * *

الـوصيـة- 2

كنت كئيبا
فخلعت بنفسج هذا الحزن لأغسله لكن الصدر الواسع ضيعني
كئيبا كنت
أود لو أن الرقص يخاصرني
فسألت النورس و البحار عن الرقص
و سألت الليل عن الفجر
و سألت الماء عن الألوان
سألت
سألت
سألت
فما جاوبني
فرأيت الرقص يغادرني
و الصدر الواسع يفهمني
أشتاق و شوقي يغلبني
و حديد القيد يداعبني
و دماء المذبوحين بجسر الشمس أكاتبها و تكاتبني
فلتعذر هذا الحزن الجارح يا وطن الماء الأزرق
يا وطني
فالحلم سلاح ألبسه
و الحزن وشاح يلبسني
فلتعذرني
فكئيبا كنت
و يقطر من كلماتي الأمل المشتاق
و كنت صديقا للعشاق
و كانت أحداق الوهم تراقبني
و كل قواقع هذا الليل الموحش ترصد أشعاري .. ترصدني
و هوىً في القلب يعذبني
لكن ..
من غير الصدر الواسع يفهمني
آه ..
فتنهد في قلبي ألم لا يقتلني
و تململ في صدري ماء تغرق فيه الأسماء
ففتحت له نافذة الحلم
و نافذة لحريق الماء
و اتسع الأفق
و ضجت أمواج الأزرق تغرقني
كئيبا كنت
فمن يعرف كيف يكون الطفل كئيبا
سآلت بكاء الأطفال لكي يقبلني
سآلت دموع الأمطار لكي تغسلني
و كنت غريبا .. كنت
و سآلت
و عذب عذب عذب
لو أن الصدر الواسع يسمع آخر أشعاري
و يعاتبني
ها أني أبحث عن لغة تستوعبني
أبحث عن ماء أحرقه
أبحث عن نار تطفئني
فأنا رمز
أدخل في تكوين الماء
أعرف كل جراح الماء و تعرفني
فالموت صديق أعرفه
و السجن صديق يجهلني .
أبحرت بأحلامي
و كنت كئيبا
لم تكن الريح مواتية
و الصدر الواسع ضيعني .
بكيت ، فقد كنت كئيبا
فاتسع الكون
اتسع ، اتسع ، اتسع الكون
و لامست حدود القلب
عرفت بأن الشمس قبيل الموت ترافقني
و سمعت العزف على قتلي ...من يقتلني
فالشمس صديقة أحزاني
اتسع الكون
و ضاقت كل لغات الحب بأحزاني
فأنا لغة ..
أحمل كل حنان النار
و أبحث عمن يقرأني . *

سجن معسكر سافرة - البحرين ديسمبر 1977

***



يا سيدتي نشتاق
نسمع صوتك سيدتي
فيصير الوقت طراوة
و تأتي رائحة الحب إلينا فيزيد السجن حلاوة
لكأن عذاب السجن شهيق الصدر الناهد وقت الحب
لكأنك رعش يدفئنا في برد الليل
لكأنك وهج يغمرنا في صمت العتمة .
نشتاق و أنت في دمنا
هل طال الدرب بنا
أم عذبنا حتى الأعماق ؟
و ليس غريبا أن نشتاق
فأنت أغاني العرس
و أنت الخمرة في الكأس
و أنت
أنت
أنت النجمة وقت اليأس
فهاتي الرايات نعمّدها بدم الشهداء و نمشي
فالحلم الشاهق سيدنا
هاتي فالشوق يبرّحنا
و الوحشة عبر سجون الأرض تحاصرنا .
أخذونا من سجن البحر إلى سجن الصحراء بلا زاد أو ماء
نتلفت نحوك سيدتي
فيلاحقنا القمع و تغادرنا الأسماء
نعوا العشق عن العاشق
و الحلم عن الحالم
و الشعر عن الشاعر
لكن سيدتي هل يمكن غسل يد القاتل ؟
أخذونا من موت البحر إلى موت الصحراء
بلا كفن أو ماء
لكن جناحك سيدتي يدفئنا رغم شتاء الليل
و لان الأحلام سيدتي لا تمنعها الجدران من التحليق
و لنا أحداق سيدتي لا تمنعها الأبواب من التحديق
و ليس غريبا أن نشتاق
فأنت الموت لهم حين ترجين الصمت
و أنت الصوت لنا يوم تقولين لكل رفاق العالم :
هذي واحات الوطن النازف في الصحراء موزعة كطيور المـاء .

سجن معسكر سافرة - البحرين مارس 1977

***

كليم الماء

(1)

مثلما يأخذ الصوت شكلا و معنى
مثلما يستحيل الرماد الشتائي سلوى و منا
مثلما طائر في الحريق يغني و يفنى
مثلما كل شيء يصير انتقالا و يلبس برقا جديدا و لونا
تدفق ... فروحك خمر
و هذي الحروف المضيئات أقداحك المترعات ازدهارا و فنا
تدفق ..
لتفتح للشعر قافية و تموسق وزنا
مثلما يتكئ المتعبون على شوقهم
مثلما يبحث الضائعون عن الدفء
أنت غريب و متعب
و لكن في الشعر سحر
و للسحر ألغازه
فتعال استعر كالجحيم الحميم لتخلع ثوب الكآبة عنا
فمن شدة الحزن يا سيدي سوف نبكي
أو أننا قد بكينا
تخيل أنك صوت لنا
فماذا ستحكي للماء عنا ؟!
تدفق ..
كما طفلة تستعير من النوم حلما
و ترسله للملائك لحنا يغنى
لو أنك حلم تحاصره الطعنات ، فهل كنت تفنى ؟
لو أنك قلبان في العشق ضاعا و جنا
لو أنك طفل ب حلمة أو حليب
لو أنك عطر يضيء
لو أنك في الضوء لـون
ندفق .. تدفق
تكن قد تحدثت عنـا
سألناك يا سيدا أن تهز المياه
لتسقط حبا و أمنا
فجاء الملوك
يهزون نخل الهموم
تساقط قتلا و أسلحة فاحترقنا
سألناك أن تسأل الماء عن لونه
فعددت ألفا
و لكننا ما فهمنا
تدفق
فهل أنت ماء
أم أنت شعر
عطشنا .

(2)

تفجر ، كالطلع ، صوت يكالم ماء التحول
يا سيد الماء
ها إننا قد سمعنا

(3)

إتعظْ و انتفض
و اعطنا من زهورك درسا
فقد عذبتنا الحدائق بالشوك لكننا ما اتعظنا
و ماتت أصابعنا في الزناد
و لكننا ما انتفضنا
اتعظ أيها الماء يا عاشقا لوّحته الصحارى عذابا و سجنا
تدلهت عشقا
و لكنهم يمسكون العصاة من النصف
يمشون فوق الحبال
فهلا تبصرت في الليل عينا و أذنا
تلفّــت
فكل الزوايا محاصرة بخيول القبائل
صارت خرائط هذي البلاد خياما يضاجع فيها الملوك تواريخهم
فواحر قلباه ... قهرا و حزنا
فيا أيها الماء
يا عاشقا وشحته الجراح بأوسمة لا تقاس
خل عنك النعاس
فمن حزن هذي القرى سوف تأتي جيوش تقاتل
و ليس يجير سماسرة الموت في ساعة الهجم سور ..
إذا ما وصلنا
تلفّت
انهم يجدلون الحبال
و أنت نبي
و ليس يموت النبي الذي بالدماء يحنى
توضأ بالنفط كل الملوك
هو الآن ماء لهم
فكن في دمانا دما ثانيا
ولا تســه عنا
تعال إلينا
مثلما في الزفاف تهز العروس السرير
و تأخذ في الليل رمزا و معنى
تعال اتعظ ، و اتخذ من نخيل الخليج سريرا و ابنا
تعال
فهذي القبائل تزحف نحو قرانا
تحاصرنا و تباغت كل الأماني
و تزرع في الأرض موتا و هونا
فأسرع ...
فبين الملوك و بين قرانا و بينك ما بين باء و نون
لبينا قميص الجنون
فجاءوا مع الليل بينـا
غريب كحلم
تخبئ حزن الشتاء
تعال اشتعل في الدماء
تكن مع الفجر شمسا و غصنا
غريب و متعب
و لكن شوق الطريق يضيء المحطات قلبا و عينا
تعال اسقنا
فالصحارى تلملم أطرافنا
آه لولا الضحايا يبسنـا
غريب
تسامرنا في ليالي الشتاء
و تعرف أسرارنا،
كالصلاة التي في السجون اخترعنا
و تطفئ فولاذنا بالجحيم الحميم
فنشهق بالحب نعرف للشوق في السجن معنى
فيا أيها الماء
يا راية في الطريق
و يا سيدا في الحريق
انتفض
و اخلع الآن قمصانك النائمات
انتفض و استحل قارئا باسم هذي الدماء
تكون احتفالا و كونا
يا أيها الماء يا سيدي ..
هل قرأت
تعلمت في العشق وجد التصوف ؟
إن البلاد التي عذبتني، ترابط في القلب نزفا
و أدعوك عونا
في الحب معنى
و في العشق - لو يدرك العاشقون - مليون معنى .

سجن معسكر سافرة - البحرين -يناير 1978

***

هيئوا غبطة للطفولة

غريب ، و يبدأ منه الشريط الترابي
يأخذ من شاطئ الحلم قوقعتين
يمسك واحدة و يوشوش :
أنت هو
طائر رافقته الفصول
يقود المراكب نحو الدخول
يجر لنا الشمس بالأحصنة
يمسك قوقعة و يوشوش :
أنت هي
طفلة تستفز الصباح
ترافق للرقص أنشودة ترتدي سوسنة
غريب ، و يبدأ منه الشريط السماوي
يأخذ قوقعتيه و يصعد
فيبدو كأن المدى قبرات
كأن الندى يحتس قهوة في الحدائق
يبدو كأن الصدى كوكبات
فيبكي محمد
يلبس ريش العصافير ، يحمل قنديله ثم يصعد
يمر على ساحل أزرق لا يحد
فيضحك
و كان محمد نجما يغيب و يبدو
و كانت طفول تلون سجادة الريح
تمشي قليلا و تعدو
و كان الغريب المعلق بين الشريطين يفنيه شوق و يحيه وجد
يوشوش :
كان الصدى طائرا كالغناء ،و يرقص
كانت طفول ، فجاء محمد يشدو
غريب ، و في الغيب بُعد
فهذا الشريط السماوي جزر
و هذا الشريط الترابي مَــد
محمد يغمس إصبعه في الغيوم ليرضع من حبها غفلة
و ما كان غيما ،
و لكنه في اللقاء السماوي نهــد
كان الغريب يلملم أحزانه و يعد
يسير بطيئا ، و من شوقه سـوف يعدو
يغادر خطوته لهفة
يشد عليه التريث .. لكنه لا يشـد
يوشوش حينا،، فيفجع : في الغيم رعـد
و يهلع : هذا محمد أسأله فيرد
و يولع : هذي طفول
و أعرف فيها الطفولة امرأة تستعد
يمد يديه .. يكاد
و لكن في الأفق أسلحة تستبد
يقبل عينا و يهرب خــد
غريب يـود
فيلبس أشجانه و يسافر في الحلم
يركض خلف الفراشات
يجلس في غفوة
يراود في الليل غيم و يمنع في الصبح قيد
فيبقى غريبا يود
لو أن الطفولة تغمر هذي المسافات دفئا
ففي القلب برد
فتأتي طفول
تخيط سلاما و ترسم حقلا و بيتا
و تفتح ناحية للدخول
تدوزن إيقاعها وردة
و تدعو إلى الضحك شمسا و تربط ما بين كل الفصول
ترسا عصفورة للغريب
تشير إلى جهة في الفضاء
تغير أزيائها بغتة . و تنادي الفراشات
تعرف ماذا تقول
فتزرع في ساعد الطفل طفلا
و تقرأ آياتها فوق ريف الأماني
و تمزج بين النبي و بين الرسول
محمد طفل يحدق نحو الحدائق
يسبق سرب الغزالات يبغي الوصول قبيل الوصول
فيرتد نحو الصدى ليصد الأفول
و يبقى الغريب غريبا
و راياته الحزن و الوجد و الانتظار
ينام على حلمة الحلم
يصحو بلا نهر أو نهار
غريب يحار و يسأل أسئلة لا تعد
يوشوش قوقعتين و يصغي
هلوع مولّـــع
يهيئ نرجستين يمر
فيبدأ فيه ابتداء و يسطع
يوشوش حينا ، و حينا يقول ليسمع
فيطلع من زرقة الابتداء نداء الطفولة
فضاء كأن بلادي البتول
توزع عطر البتولة
ماذا تقول الطفولة ؟
محمد :
" يأتي أبي في الصباح "
و تفتح مائدة للطفولة
فتركض كل الفراشات كالأمنيات الخجولة
تجيء أسماؤك في الأغنيات ،
فيكتشف الكون أطفاله فجأة
و ماذا تقول الطفولة ؟
طفول :
" سيأتي أبي في بياض الليالي "
محمد يدفع راياته للرجولة
طير جميل و يلهج بالشوق نحو البلاد الجميلة
فضاء .. كأن السديم حديقة عرس
و هذا زفاف الطفولة
أسطورة للبطولة
غريب يوشوش قوقعتين فيدخل عرس الفضاء
و يكتب أسمائه و يخط
هل الماء شــطّ
فضاء ، كأن السديم حديقة ماء
فيغطس وزّ
و يسبح بط
و تضحك ضفدعة و تنط
و ترسم أرجوحة في الهواء دوائر ألوانها نزهة
و عطر يغير ميناءّ و يشط
غريب
و يمسك خيط المدى
كأن المدى طائر ورقي .. و خيط
محمد يجلس في شرفة كالسماء على المئذنة
و يغزل من خيمة مدخنة
فيهفو الغريب ، يمد عيونا و يهفو
يمسك خيط الصدى .. فيكاد
و لكنه كان خط
غريب ، و لكنه عالم بالرموز
فهذى الغزالة رمز و هذا الجناح الندائي رمز
غزال يرافق ضوء الكواكب يوما
و يغفو على النبع يوما
و يوما على جذع نخل يهز
طير أليف ..
و في لحظة يستفز
يحيل الخرائب حقلا
و لكنه مثل جيش -بلا قائد - حين يغزو
طفلان في الحلم
يا أيها الحلم هل أنت فرح يفز
أم أنت جرح ينز
فضاء ..
كأن السديم السماوي غصن
كأن الطفولة لوز
فتأتي أسماؤك في جوقة
كان الغناء حليب كما الرقص خبز
غريب و طفلان..
لغز هم الآن لغز
غريب ، و لكنه كالغموض الأليف
جرحه راعف
و يضحك للسوسنات ليخفي الرعيف
و يكتب للغيم أخباره
يلون للحقل أشجاره
و يرسم في الأفق ريفا
يرافق حزن الليالي و يعزف أنشودة للحنان الرهيف
يحاكي الطفولة في لغة طفلة
غريب و يحمل غربته و يغادر نحو الغرابة
يغسل أحلامه في النـدى و السحابة
و ينشرها بين خيط التراب و خيط النزيف
يزاوج بين الصدى و المدى
و يحمل قوقعتيه و يمضي ..
غموضا أليفا
سيعرف أن الفضاء خطير ..
و لكنه لا يخيف . *

سجن معسكر سافرة - البحرين يناير 1978

***

راحة العصفور

لكم في غيكم أسباب
و لي غيّ ..
و لكن ليس لي سبب
كطير هزه الطرب
كرائحة الزهور مشت على قدمين في زهو
كمائدة
كماء فوقه لهب
أليس لجمرة الكلمات أن تمتد في موج
أليس لموجها صخب
تعبت و راحتي تعب
و ما صمتي سوى وهج
جمال الصمت يصطخب
محوت جميع أيامي
و صغت جميع أيامي
كما لم تعرف الكتب
و جئت و ليس في شفتي
سوى حرفين مرتعشين
سوف أقول ..
لكن يغمض الأدب
حروفي طفلة شهقت
و كأس فاض لؤلؤها على العشاق .. إن شربوا
مشاكسة
و فيها طيبة التفاح فيها يرقص العنب
و لينة
كما قد يضحك الغضب
فواضحة و غامضة
و حاضرة و غائبة
و تغوي الحلم في حلم
و ليس لغيها سبب .
لتقتربوا
فيا عجبي من القلب الذي قد صاغه العجب
لتقتربوا
فسوف أحدث الباكين عن دمع سيزهو في دموع الحر
إن سكبوا
و سوف أقول للآتين إن الأرض سوف تدور
إن جدوا و إن تعبوا
فكونوا كالذين أتوا
و ظلوا مثل ما القلب في قلبي .. و إن ذهبوا
فلست السيف حتى تبدأ الحرب
و لست الدفّ حتى يبدأ اللعب
و لكني هنا حرفان ..
أدعو ... تمطر السحب
و لست بأول الماشين في حلم
فان الصف يصطخب
جهات كلها سبب
هنا جهة ... و لا سبب
فتحت القلب كالصحراء
و الخيل التي صهلت على قلبي ..
سيوف .. إنما كذب
و صار حديقة، قلبي لها باب .. و لكن بابها الذهب
فجاء لوردها العشاق و الأصحاب
فاحتفلت بهم كرمي .. نبيذا كلما شربوا
و كانت نحلة القلبين تسقي .. كلما نخبوا
مشى العشاق في قلبي على مهل
و شالوا من هداياه ..
و بعض البعض قد نهبوا
فصار الكون متسعا
و طاب لقلبي السلب
ستشرق شمس أحبابي على قلبي إذا غربوا
كنافذة على كل الرياح
و عطري واهب يهب
أصادق في جراح الناس آلامي
و لي ألم يغطي كل أيامي و ينتحب
أغامر ، ليس لي حـد
و مني يتعب التعب
أوزع كل آلامي مع الكلمات
أستعصي .. أكاد .. أكاد
لكن تقفز الشهب
كأن الحب أسرار
فان لم تعرفوا المفتاح لا تبكوا على بابي
فلي قلب يؤجج قلبه التعب .
تعبت و راحتي تعب
لقد قاتلت ، كالعصفور ، في حرب
جميع حرابها انكسرت
و كل رجالها هربوا
و ليس القتل من طبعي
و لكن يغلب الغضب
و كيف أخاطب الصحراء في لغة
و ليس هناك ألسنة
و لا شوق و لا طرب
فكل عرائس الصحراء ضامئة
و كل شرابها سغب
أناديها إلى الواحات لكن أذنها طين
أنادي نحوها الواحات .. تضطرب
لها أسبابها في الموت ، و ليس لمقتلي سبب
غريب يرتدي دمه
و يبحر نحو أصل الريح ..
يا لفارس العجب
صحاراه محاصرة
و كل موانئ الشطآن غارق
و كل دروبه وحش
و لكن حلمه الشهب
جنون يلبس الكلمات .. لا عذر
أللعذراء من عذر إذا أغتصبت ؟
فان الحب يغتصب
و أعرف ..
إن للأشياء أسباب
و كن - فوق هذا الشعر ، عذرا -
ليس لي سبب . *

سجن معسكر سافرة - البحرين -1978

***

زهرة الوقت

في زهرة الوقت أوقفني غفلة و اصطفاني
تخطى بي المعجزات الأليفة
و أعطى حروفي لحنا لكل الأغاني
أدخلني في الرموز و قال لي :
( امسح عن ضوء عينيك كل المعاني )
و أجلسني في المدى اللؤلؤي البياض
كجوهرة في قطيفة
و ألبسني دهشة حين قال لي : ( اقرأ )
تداخلت في خجلي و اضطربت
فوشحني بالرؤى ساعة
و استعار العصافير كي تستفيق بقلبي
و قال لي : ( اقرأ )
فنزت عروقي صهدا خجولا
فقد كنت طفلا
و كان على قلبي عجولا
فأدخلني بغتة في السؤآل
فاحمر ورد بقلبي
و اخضر ثوبي
و ما كنت إلا انتقالا جميلا من اللون
أين حـدود الخيال؟
تأمل في حزن صمتي ، و استل برقا و قال:
( اقرأ الآن باسم الوطن )
و باسم القلوب المذابة عشقا
و باسم الشجن
بحزن الدهور المرابط في أفق عينيك اقرأ
بوهج العذاب الذي يصهل الآن في نبض زنديك اقرأ
بشوق العذارى الخجولات بالحب اقرأ
بوجد الغريب المشرد في كل أرض
و بالوقت يمضي
و اقرأ باسم ازدهار الطفولة
و باسم الأماني العجولة اقرأ .
قرأت
و كان السطوع الندائي يقرأني
فقرأت
وجدت الإشارات في أول الخلق
لكن في البدء كان القلق
و ذبت
كما حلمة الحلم ذبت
فمن أين أبدأ
ما كنت أعرف أين حدودي
و أين حدود الشفق
ففي دهشتي قد اختلط الصهد بالبرد
فقد كان صوت يحاورني
لا أراه و لكنه ذائب كالألق
و في زهرة الوقت رافقني نزهة في المعاني
تخطى بي المعجزات الأليفة
حولني الحب رائحة حرة في الحروف النحيفة
صحوت فلما رآني تلاشى
و لاشيت حزني في زهرة الوقت
ودَّعني و اصطفـاني .*

سجن جو - البحرين 17/3/1979

***

تجليات العاشق

الإضاءة
الشعر إغراء يقيدني
يأتي كإسراء و معجزة
أو مثل برق أو براق ساقه الأجل
و الحرف لي أجل
أقضي شهيدا عاشقا لو ظل يشتعل
كأس أنا بالنار ضامئة
يا لهف كأس النار .. لو شفة
ترسو هنا كي تبدأ القبل
أمشي مع الكلمات مذهولا .. و بي وجع
يمشي إلى جسدي
و ما بيدي
ينتابني ذل و لا كـلل
نور - كأن الشعر ـ أجدلـه
كالماء أغزله و ينفتل
أدعوه في ولـه ... يعاتبني
أصغي ، فيرتجل
الشعر ... هذا الطفل عذبني
لكنه وطني
عبد له ... يقضي فأمتثل
عبد أنا للشعر من زمن
حريتي بالشعر تكتمل
أكبو فيرفعني أغفو فيوقظني
و إذا جرى ينتابني الوجل
يجتاحني هجما و مذبحة
أرجو تريثه .. فينفعل
أغاضبه فيبتهل
أحاربه فيغلبني
و كيف يحارب المهزوم و الفرسان قد دخلوا
قلبي أقسمه في الشعر
هل وطن يمشي على قلبي و لا يصل ؟
بيني و بين الموت فاصلة
أو نقطة
ماذا على العشاق لو قتلوا
الشعر ألغازي و أسراري و أسلحتي
الشعر لي أمل لو ينتهي الأمل
حلم و نافذة ، و رؤيا في الغموض
و معجزات
آه كم من شاعر أضحى نبيا
إنما الملل .

الطريق
نار هنا
لا تنفع الحيل
شعر يصير دما
ماذا يفيد اللغو و الإسهاب و الجمل
قالوا و ما انفعلو
إن الجراح الخضر طارئة
تبقى مع الأيام تندمل
لم يعرفوا حبا و لا عشقوا
و لا جحيم الوجد قد دخلوا
قالوا : سكرت
قلت : نحتفل
هاتوا يدا ، فالشعر وحّـدنا
من بعد ما ضاعت بنا السبل
فلتذهب الرسل
تدعو كسيري القلب .. لو سألوا
قد يدركون العرس في سعة
لو أنهم .. لكنهم غفلوا
نحن و نار العشق في فرح
قلبان في قدح
قد ينثني قلب و يعتدل
كأس ...
و تبدو النخب تتصل
تعالوا البدر مكتمل .. و موعدنا لما يكون البدر مكتمل
تعالوا نرتوي بالشعر في درب يسير بنا و لا يصل
و حلوا الشعر أن نمشي و لا نصل
أنا كأس
و هذا الشعر خمر النار
لولا النار في الكاسات .. هل يبقى لنا أمل ؟

الوجد
تبصّــر ..
هذا الكأس ، ليست خمرها خمر
و لا ميزانها في الحب يحتمل
و لا عشاقها لاموا و لا عذلوا
تبصر قبل أن تنداح في عينيك ألوان
و يبدو الكون مختل .. و لا خــلل
أد ر كأسا ترى شمسا
تأمل .. إنها تنساب في أفق
و تنضو ثوبها الشفقي في تعب
و يزهو النهد في خجل ... و تختجل .*

التجلي
هل قلت شعرا ؟
انه وهج جحيمي ٌ تصاعد من ضمير الطين
مضطرم لهيب الصبر فيه ..
أيهذا الحرف لا تمش على مهل .. فسوف يميتنا المهل
فمولودون في كسل ، كأن دماءنا كسل
تعال لنا و زوّبعنا ، و كن فينا كأنك قائد ثمل
تعال لنا كسيف الماء .. يروينا و يذبحنا ، نحتمل
لعل دماءنا التعبى - إذا احتدم القتال هنا - تمد يدا و تنتشل
تعال لنا و كن ربا ..
فإلهنا الموروث أعمي .. أو به حول
فلا باب السما باب
و لا الرسل التي يدعون قد صدقوا
و لا صعدوا و لا نزلـوا
سئمناه
لعل إلهنا الصنمي يسأمنا و يرتحل
أضئ في أفق هذا الليل أطفالا
بدون سناك - بعد غد - ستكتهل .

الرؤيا
كأن الشمس في وطني بغير الشعر لا تهفو لها المقل
كأن الطفل في وطني بغير الشعر لا يمشي و لا يصل
كأن الحب في وطني بغير الشعر لا ضم و لا قبل
كأن النار في وطني بغير الشعر لا ومض و لا شعل
كأن الماء في وطني بغير الشعر ظمآن
كأن الناس في وطني بغير الشعر لا قالوا و لا فعلوا
أليس الشعر في وطني هو الأمل ؟

النذر
أفق يا هاجر الكاسات يا ثمل
أفق و اشرب
فهذي الكأس وعي يدرك الدنيا و ينفصل
لقد رحلوا
أتسأل عن رفاق الكأس .. بعد الكأس أينهم ؟
لقد رحلوا
على جسر المدى لا العشق مأمون و لا الغزل
يقال بأنهم قتلوا
ترى هل يستطيع الموت أن يقضي على الكلمات ..
آه انه هبل
لقد رقصوا بعين الشمس في فرح
و قد نذروا دماءهم قرابينا على الأيام تشتعل
و قد وصلوا
كما يفضي هوى الصوفي - في وجد -
إلى ذات الهي و يختزل
هنا كلماتهم تزهو
فليس يموت من بالخمر يغتسل .

الترجـــل
ترجل أيها الرجل
لقد آن الأوان لصوت أسماء التي صرخت
بكل حبال من صلبوا و من شنقوا و من جدلوا
لقد آن الأوان له ليشرب خمرة سكرى
و يفضح كل محكمة قضت في مسلخ الكلمات
من حلاج ذاك العصر حتى يبدأ الأزل
ترجل
كل طاغية - إزاء الشعر - قزم غاله الشلل
فمن عرى المعري من تأمله
و من أوصى بابن العبد كي يغتال في البحرين
من أعطى القروح لحامل الرايات من ..
يا أيها التاريخ كل تراثنا زيف ...
و أصل الأصل يشتعل
لقد جاءوا ، وما خجلوا ،
سلاطينا دواعر يفهمون الشعر عاهرة
و تفتح ساقها للخيل حتى تدخل الإبل
و حينا يفهمون الشعر قبعة و أرصدة و أحذية لينتعلوا
و أحيانا يصير الوعي عندهم مؤامرة
تظن كأنما جنوا ... و قد عقلوا
كلاب تلبس التاريخ في حلل ..
لتخفي نابها الذئبي .. لكن تفضح الحلل
ترجل أيهذا الشعر يا برقا سيحرق غابة الغيلان ..
تمشي خلفه الوديان و الأمطار و الجبل
ترجل
نحن عنف الرقص في حفل بعزفك سوف يكتمل
و يصحو الأفق في وطني كقافلة تهز هوادج الأعراس
تبني الكون ثانية
ترجل .. يبدأ العمل . *

سجن معسكر سافرة - البحرين -يناير 1978

***

الشهيد

قال لي و انثنى :
" عبرتُ جميع المذابح أمشي وراء الضحايا أنا
تغني البلابل فوق دمائي
فتغفو دماء و تصحو غِنا
و تركض نحوي السيوف ، كأن الحتوف
تهيئ نعشا جديدا لنا
انهم حولنا
يرصدون الأماني
و يبنون وهما هناك و قبرا عميقا هما
يصوغون في الذبح عارا لهم
و نكتب في الجرح تاريخنا
تعال
ازرع الأغنيات .. بقلب الحياة
لتطلع في الليل حلما ، و تزهو قبيل الضحى سوسنا
أدرني لناحية في السماء
و در خمرة حرة .. و اسقنا
لهم كأسهم
و نحن البلاد العروس الحزينة كأس لنا
بلادي ..
قتلت كثيرا ، و لكنهم واهمون
فما أضعف الخوف ما أجبنا
و شردت دهرا ، و حاصرني الليل
لكن عينيك عبر الليالي سنا
بلادي
أتعرف ماذا تقول البلاد التي في دمائي ؟
تقول اسقنا
فهات و هات و هات
فلا يطفئ النار إلا الجحيم ..
فهات اسقنا
تعال ، فدرب الضحايا منى
أدرني و عـدّل ذراعي َ .. و اسأل
فان السؤآلات قنديلنا
سأكتب في الكأس
اسم البلاد التي في الفؤاد .. إنها كأسنا
قتيل يقال
و لكنني وردة في السؤال
كأن الجوابات حفل لنا
سأجلس في شفق المستحيل
و أغزل للصبح شمسا
فيا أيها الصبح هل جئتنا
تعال لنشرب
حتى إذا ما سكرنا ... تصير السما كوننا
نسوق الكواكب أسرى لنا
فتبدو الطفولة سقفا
و نلمح غيم الفضا تحتنا
و تدخل في الحلم آه ... فما أعمق النهر ما أبعد الحصر
لكننا كالجسور
فخلو المرايا تدور
أسكروا و اعبروا .. فإني هنا
دمي للقناديل زيت يضيء .. لكي ينتهي ليلنا
تعبت فعدّل وسادي ، سأغفو قليلا
فهذا سرير بلادي
و في مثل هذا السرير نعانق أحلامنا
ألا فاسحب الآن فوقي ردائي و دعني
تيممت بالدم ..
إني أصلي على قاتلي قبل أن يدفنا
عبرت جميع المذابح منتصرا .. و يقال
بأني وقود القتال
و أعرف .. لست ختام الضحايا
قال لي .. و انحنى . *

سجن معسكر سافرة - البحرين 7 فبراير 1978

***

هو الذي رأى

لماذا هو
لماذا أنــا
لماذا تحول لـون الهواء بأحلامنا
لماذا نسمي الحصى المستعار مرايا
نوطن أعصابنا في الغناء المسافر
نختبر الموت ، و الموت أغنية آتيـة
لماذا يغادرنا رعبنا كلما فاجـأتنا الدماء
لماذا السماء
- حقيبة أشيائنا القاتلة -
طريق يقوسها الانتظار
و نحن جميع الإجابات و الأسئلة .
هل هذا الوطن النائم عن حرب الوحش و حرب القدس
و حرب الأحلام الأخرى .. وطني ؟
هل هذا الوطن الغائص في ذبح الثورات و وأد الأبناء و قتل الموتى .... وطني ؟
هل هذا الشيء المتكئ الآن على صلوات الليل و خوف الويل
و تقبيل ذقون ملوك الخيل
و هذا .. هذا .. هذا
حين رأيت تقاطيع السلطان عرفت بأن خيول الوطن العربي ستقتلني
لكن الوطن ..
الـــوطن
الــــــــــوطن
الوطن السري سيبقى وطني.
يذهب الصوت مني ، لا صوت في الليل
حروف مخنوقة و البحر يصهل
كانت بلادي أرجوحـة
تـآلفت فيها مع الحزن
ثـوبي غصـن ..
و أنــت ...
كنت في العين
صرت في القلب .. في الـدم
صرت دمـا هاربـا
حـوّلتك الشهادة وشما على الأرض
هـل قتلوك ؟!
كانت بلادي خوفـا يلـوب
فحولتها قطعة من الدم و الدمع و الدائخين الذين استراحوا
و حوّلتها نـزهة
و أنت استحلت مع الأرض
قدمت أوراق رفضك للموت
هل يذهب الصوت بعدك . و البحر يصهل
هـل أنت مـاء
صـوتي غريب ، و زنزانة العشق حـلم
رأيت المدائن تركض .
مـا بين قوسين كنا وقوفـا
( لمـــاذا )
سمعنا الخليج المرابط فوق الخرائط يرتج
دعوناه للرقص في النـار جــاء
دعونــاه ..
قلنا الطريق الذي في السماء انتهى
فلما دعونـاه جــاء
رأينا الخليج يغني و يحتج
- لو أن رياح البحر تخاصرني
لنصـوغ الرقص معـا
و نخـضّ الساحة من أبواب رحيل الصوت
إلى أبوابك يا وطني
لو أنك تمطر أسئلة فوق رؤوس النـوم
لكنت عرفت بأن جميع سلاطين الوطن العربي...
ســــــلاطين
يا وطنا حـوّله جيش الوحش مرابط خيل
و سرابا تتعرى فيه الأحلام
قـل لي .. كيف تنـام
يا وطني المجـدول بماء الوجه و طين الخجل الثوري أجبني ..
كيف تنـام ؟
أوقفوني عند رأس الحلم
كانوا يسـألون الأرض عن تاريخها
و يحنون العذارى بالسواد
كانت الشمس بلا نافـذة تفتح
هل كانت بـلادا
أوقفوني ..
كان غي ثوبي تفاح و كان الورد يطلع
و دموع الأصدقاء
و دم الأعداء في زندي كان الورد يطلع .
دخل الرمح من الغفلة . كانوا يركضون
يستقيل الوقت من قرآنهم
و يظل الورد ..
قولـوا
هل تجيء الريح في الغفوة أو في الوهم
قولوا
قتلوني مرة في النوم كان الأصدقاء
يحملون الكتب الحمراء و التاريخ في قنبلة ، و الأصدقاء
وردة تكتب عن أشواقها في السجن
أو في النعش
كيـــف ؟؟
كيف .. و كل سلاطين الأرض يحنون عذارى الصحراء العربية بالدم .
كيف و هذي الطفلة تحضن ثورتها المزهوة خوفا و جيوش الفرس يخوضون الحرب بألوية عربية يغزون الثورة بالصمت العربي المربوط
بسروال الدولة كالوهــم
سهم إلى كل الجهات / أحيانا تدخل الشمس من نوافذ / يقتله الموت و لا يموت / هــــــــو
قتلوني مرة أخرى وظل الأصدقاء
يطلع الورد على أكتافهم خبزا و مــاء
ينزف الجرح و لكن الخليج
لم يمـت
هذي السجون
جهة أخرى من الأرض
و هذا القتل هذي المشنقة
جهة أصلية ، هذي اللغـة
تنفخ الحلم و عطر الزنبقات الشبقة .
لم يكن في الهواء سوى الموت
من أين أذهب
حين سألت الحصى جـاء مـوت
- و كنا نسمي الحصى المستعار مرايا -
من أين أذهب
سألت قوس الخروج من الموت
لـم يـأت بـاب
دخلت من بابي الخاص
صــرت ســؤالا . ســألت
لو أن رياح البحر تخاصرني
و كلؤلؤة في القلب تخبئني
لـو أنك يا وطني
تخلع قمصان النوم و تفتح موسيقى الفوضى ، لتساقط مكياج الدولة و انكشفت عورتها
لكنك ...
لكنك وطني
يصرخ اللغم و لا يقتلني
تبدأ الرحلة .
أعطي قدمي للدرب . هذا زمني
عندما صافحني بالدم لم يذهب
صرخنا
وطني
ثم حوّلنا السماء
شجرا في الأرض
سألنا . بكينـا.
لم يكن في الماء شــوك
يطلع الورد ، و كان الأصدقاء
يستحيل الحزن في تاريخهم خـبزا و مـاء .
بأشكال مختلفة يذهبون
بأشكال مختلفة يأتـون
لـو أنـك ..
لو أنك يا وطني تحمل ذاكرة الماء لكنت عرفت بأن جميع سلاطين الوطن العربي .. غزاة و ســلاطين
و عرفت بأن التاريخ يهادنهم ليلا
و يقاتلهم في الفجر كسيف المنبوذين
رأيت الأحلام تسير معك
و نحن خبز يأتي من الصحراء
لا بـأس
هنا يسقط أو لا يسقط الثائر
و اليأس يموت
من ترى غـيّر عنواني . لا أعرف
من أعطى تواريخ بلادي للغزاة
كنت لا أعرف .. كان ..
لا تقولوا أغلق الباب
لقد حاولت
كان الباب موصوداً و لكني دخلت
لم يكن في الليل باب آخر
قولوا فتحنا للعصافير الشبابيك و أغلقنا السماء .
لـغــة واحـدة
يسقط أو لا يسقط الثائر فيها
وقفة في لحظة المابين قوسين
ترى هل ترقص الريح
و هل جاء إلى الرقص صهيل البحر
تبقى لغتي في الماء
و البحر كتاب
و نقرأ :
يا فقراء الصحراء المنبوذين
نطمئنكم
فجميع طغاة المدن الورقية مذعورون
لأن النار
و حروف الغزو المحترقة
ستكفن جيش الوحش بكل عباءات الخلفاء
يا فقراء الصحراء المنبوذين بحق الشمس
سنواصلكم
و سنأتي في ماء قوافلنا
و نخاصركم للرقص ..
و بعد الرقص .

سجن جدة - البحرين 73 -

***

حتمالات المخاض

تلــد
تحرك أطرافها كالشمس التي أرهقتها الليالي
تخضّ الدماء النبية في وردة الفجر
لكن تلد
تلملم أحلامها من شظايا الشهيق البدائي
تبدأ في هسهسات الضحايا على البحر
لكن تلد
توزع أشلائها في القرى كالهدايا الطرية
لكن تلد
دعوها
ستعرف كيف تعالج أوجاعها
ستشرب من صبرها الدموي المعتق
تسقي العصافير
تسكر
يهصرها الانتظار الفدائي
لكن تلد
تغرق في وجل الاحتمال
يصير الجمال
و ينبثق اللون في وجنتيها
تمد يديها المضرجتين بماء الخيال
و يضطرب اللون في وجنتيها
فتبدو عليها
و لكن تلد
دعوها
ستأكل دبابة لحمها في الشوارع
تهتز أشجارها بغتة بالزنابق
يغرق في مشهد الدم
همّ الولادات
تختال آياتها بالحقائق
تسرج الخيل في الليل
تجتاز باب السماوات أخبارها
صعبة ، شهقة
نهضة الصبر في القبر
لكن تلد .
تلبس الفجر قمصانها السود
تخرج من كل ليل إلى الظل
تركض نحو الحدائق
جثة فسّخ الموت فيها
تلوح بالصبح كالدود
لكن تلد
توشح زك؛تافها بالتواشيح
مزدانة بالجراح الجميلة
تخرج من رحلة الاحتضار الطويلة
تصرخ في ذروة الطلق كالطلق
توشك
يعدل الكون ميزانه حين توشك
تقفز كل القلوب
لتحضر في عرسها الدموي القوي
تكاد .. و لكن تلد .
دعوها تشكل أطفالها لحظة
و امنحوها الدم المستباح
قبيل الصباح
ستفتح للماء باب السماء
لتغلق باب الدماء
و تكسر سفك السيوف
دعوها تطوف
تغني و تدفق نزفا عظيما ..
و لكن تلد
يحاصرها الوحش بالنعش
( سوف تموت ، و تحمل كذبا ..)
يحاربها بالحراب
يحرض أرض الضحايا
فتخضر أشجارها بالدماء
يحاصرها الوحش بالنعش
تهتز في رعشة كابتداء الخليقة
تجمع أطرافها في اتئاد
و تنفض أعطافها المتعبات
كأن الحياة
تــــلد .

***

سيرسم ثقب الرصاصات في شرفة الصمت وقتا على كتفها
و يمشي العساكر بالنار في هتفها
فامنحوها يدا
دعوها تجوس الكهوف بأعصابها
دعوها تطوف القرى و المسافات
تجمع أشلائها من صدور العذارى اللواتي بكين من الحب
دعوها تلملم أحلامها من بكاء الثواكل
من كل خمر المنافي و حجر السجون
دعوها ، فان الجنون.
دعوها ترتب أشياءها عبر لهج الولادة
تمرغ تاج العبادات تلبس ثوب السيادة
دعوها .. دعوها سيرهقها الطلق
لكن تلد ، تلد ، تلد .

***

أعدوا لها عرسها
و كونوا لها جوقة في الزفاف
و خلوا لها غرة الشمس طاقية
و العصافير أرجوحة و الهدايا هتاف
اغزلوا شالها لؤلؤا قزحياً
و حطوا سرير الضحايا ضفاف
إنها لا تخاف
ستعبر هذا العذاب البطوليّ
تعرف فيه عذوبتها
و تشكل فيه طفولتها
توشك
لكن تلد

***

شاهدتها تغسل الضيم بالدم
تمسح الوهم بالحلم
شاهدتها ترتدي حلة الياسمين
تؤرخ . تحتل ذاكرة العصر
شاهدتها تحتفي بالبيارق
تعطي المطارق عنوانها
و تجمع جوع القرى و المدينة
و تحزم كل العيون الحزينة
تحرضها
تستعير لها شرفة و تقول : ( اصعدي ، و هاك يدي )
و شاهدتها مثل نار الرياح
توزع في غابة كالصباح
و تنشر أشلاءها في السهوب
تغني ، كأن الضحايا تجوب
تبشر باللون
تدفق أزياءها في الولادة
و تبدو كأن القلادة
تزين صدر الصهيل الذي
حين شاهدتها تحتفي بالسواد
كأن الحِداد طريق إلى الفجر
شاهدتها نجمة في القيامة
ستوصل نهر الدماء بنهر الغناء
و تغلق عصر الفتوحات ، تفتح باب الأبد
و تلبس غار . و لكن تلبد تلد تلد

***

دعوها
دعوا لحظة الخلق فيه تؤج دعوها على شرفة الوهج ضوءا يلج
دعوا
لذة الطلق لهج
انظروها .. ستمشي على مهلها في الحريق
تؤرجح هودجها مثل نهد يراهق
يعرف أين الطريق
انظروا
متعة الخمر فيها
و فيها الفواكه ناضجة
و العذاب الذي يشبه الحب
و فيها ...انظروا
على مهلها سوف
لا تغفلوا عن هواها
توزع أقراطها في الهواء على الفقراء
و شاهدتها تتحول مثل الدماء
انظروا
إنها المهرة الجامحة
والرؤى الفاضحة
ضجة الدم في نبضها
إنها خفقة الاحتمال الجميل .
انظروا اللحظة الواضحة
تعدل هودجا و تهيم نحو السواحل
في لحظة البدء تبدأ
ها إنها الفاتحة
دعوها تلد
إنها زوجة البحر منذورة للسفر
و موشومة بالقهر
دعوها فان هدايا القمر
ستحمل في العرس شمسا
دعوها.
فقد عذبتها المواعيد عذبها الانتظار
دعوها فان النهار
سيغسل أطفالها بالمرايا
و يغمرها بالصور.*

سجن معسكر سافرة - البحرين 3 أبريل 1979

***

أحلام الفارس

و لقد ذكرتك،
آه من جرح يطيب و من جراح لا تداويها الحروب
و أنت جرحي
قالوا : استرح من عشقك الدامي ، فقلت : و كيف تسترح القلوب
و ذكرتك ، ليس الموت يقتلني ، و لكن عذبوا قلبي بجرح
عذبـــوني
فاخترعت الحلم ، كنت في دمي
فلقد رأيتك و الرماح حديقة أزهو بها
و القيد برق طالع في معصمي
كنت تسمين السجون إجازة و الموت نزهـة
كنت تقولين : ارفعوا الرايات قد تأتي خيول الليل فجأة
و لمحت ضحكتك الخجول
كانت حوافرهم على جسدي تجول
كنت تحسنين الكر و الفرَّ بذاكرتي
فلقد رأيتك تمسحين الجرح من صدري فتخشاك الرماح
قالوا : نزفت
فقلت : ليس الدم من جسدي و لكن الصباح
يبكي على وقت الوصول
كنت تقولين و كانوا يسمعون
لم يكن بيني و بينك غير قبلة
نحتسي عشقا معا
نلهو معا
نبني قصورا ثم نهدمها ، و نبني الكون ثانية على قلبين
أذكر
كانت الأحزان عاصمة البلاد ، و كنت تبتسمين
بيني و بينك غابة الطعنات و القانون القاضي
و لقد تعلمت القتال على يديك
فلن تمر الخيل إلا فوق أنقاضي
أيا امرأة تخيط ملابس الأطفال ، تفتح نافذة و شرفة
و تراقص الشهداء في ولــه
ذكرتك عندما صارت سيوفهم بنادق مستخفّة
ترتاح في ظهري ، و تأخذني إلى الحمام
تقدم لي الغداء
و شاي بعد الظهر
توقفني و تجلسني
و لكن آه
ليس الموت يقتلني
فلقد رأيتك مرة في الحلم
تنشرين حولي غيمة ، فأصير أشجارا و أنمـو
أمشي إليك ،
و كل من يمشي إلى عينيك يسمـو .
سجن معسكر سافرة - البحرين فبراير 1977

***

كلمات ليلية

( 1 )

سأعتقد بأن يوم العيد
جنازة مرت على بابي
و أن أحبابي
أبعد من عيني لأهدابي
إذا أتوا .. يجيء يوم العيد.

( 2 )

في الليل، حين الصمت يجتاحنا
نستمطر الأحلام قبل المنام
في الليل، هل طعم لأسرارنا
بدون أن نفتح باب الكلام .

( 3 )

حبيبتي تأتي بلا موعد
في نهر البنفسج المستباح
تحمل لي أطفالنا الأشقياء
تحمل عطر الوفاء
وترتمي في القلب حتى الصباح
حبيبتي يا قلعة للسلاح.

( 4 )

نغسل عند الفجر أحداقنا
نغسل بالأضواء أحداقنا
ونشرب الشاي وصبر الطريق
ونقرأ الماء الذي حولنا
جزيرة تأكل أطفالنا
حكاية نعرفها كلنا
حكاية نرفضها كلنا.

( 5 )

منتشر في الأرض مثل الجراح
أبحث عن حلم صغير صغير
بلا دم ينزف ، دون احتضار
من أين .. والأحلام مجروحة
وجرحها الواسع أن الصباح ..
وصاحبي في الليل تنهيدة
تحرقني في العمق كالانتظار
يغسل جدراني بضوء أخير
وترتمي في الحلم أنشودة
تحتضن الليل وتطوي النهار.

( 6 )

سأعرف أن في شفتي كلام لا يقال
إلا لعينيك المضاءة
سأعرف أن هذا الحرف يبقى واقفاً دون قراءة .

( 7 )

عيناك يا حبيبتي قنبلة
تضيء هذا الليل في الصحراء
كأنها خريطة القافلة
تفتح باب الأرض و السماء
كوردة خارجة داخله .

( 8 )

أود يا حبيبتي لو كنت بعض الكحل في عينيك
لكي نكون وحدنا في آخر السهرة
نشرب حزننا معاً
أرسم في خديك ورداً أحمراً في قبلة حره .

( 9 )

لو يستحيل الورق المسروق للكتابة
لو يستحيل فجأة سحابه
تغسل أعماقي، وكل شعرة في جسدي،
وكل حرف قادم من ريشتي
تغسلني كل]ي من الكآبة
غيرت طعم و الشعر و الكتابة .

( 10 )

يا أصدقاء البرد و الأغنيات
بين يديّ الآن أسطورة
تدفئ أو لا تدفئ الأمنيات
أنتم هنا .. وليست الأبواب مسحورة.

( 11 )

افتحْ كتاب الحلم يا صاحبي
واقرأ لنا عن وردة العاشقين
فالحلم، هذا الجسر، لا ينتهي
طريقنا للعالم المستكين
اقرأ لنا يا صاحبي قبلة
أو همسة
يكتبها في اللي عشق السجين.

( 12 )

حبيبتي طفول
تزدهرين الآن مثل وردة تضوع
تنتشرين كالضياء في سماء الوطن الحزين
هل ترسلين عطرك المباح لي هدية
يحملها يسوع
هل صوتك الهارب يجتاز المدى ويقطع البريّة
حبيبتي طفول يا طفولتي النبيّه
من يا ترى يأخذني حكاية إليك في المساء
من يبدأ الحوار مثل الشعر في لغاتك السرية
يجعلني قافية تحرس هذا اللحن في اللقاء
تحيلني سماء
تسري كنهر الحب في أغصانك الطرية
حبيبتي ..
أخاف أن أصير ي غيابنا حكاية منسيه .

( 13 )

أكتب بالعيون يا رفاق
في صخر هذي الجهة البعيدة
حديثنا المقطوع من يديه
وصوتنا المقطوع من يديه
أكتب بالعيون و الأحداق
أكتب يا رفاق
فوق جدار الغرفة الصماء
قصة عشق الورد للدماء
قصيدة ،
وينتهي زمان هذي الجهة البعيدة .

سجن جده - البحرين ( 1973)

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
644
آخر تحديث
أعلى