ملاح الضفتين: اتسمت كتابات المفكر المغربي عبد الكبير بمنحى فلسفي أصيل يستقي مرجعياته الرئيسية من إرث عصر الأنوار، وفلاسفة الاختلاف. ولم يكن الخطيبي في تأصيل رؤيته الفلسفية منفصلا عن سؤال اللغة ومآزقها، وكأنه يستعيد في ذلك الدرس الهيدغيري ويوسعه في أبعاده الأنطولوجية، وبخاصة أمام استحالة تحقيق الهوية المكتملة، ما دامت اللغة تتأرجح ـ بوصفها طاقة بلاغية ورمزية معنية بكشف الوجود عبر تقويضه ـ بين ضفتي الشمال والجنوب لتعكس وعيا غير مكتمل وهوية وغيرية لا تكادان تتضحان حتى تأخذا شكلاملتبسا من جديد. لقد سعى صاحب "الاسم العربي الجريح" إلى ترسيخ ثقافة الفكر النقديفي التربة المغربية. ولم يكن سعيه هذا منفصلا عن إعادة النظر المستمرة في كل أشكال اليقين التي تحف بمسارات علاقة الوعي بجذوره الميتافيزيقية التي تحول دون تحرير الوجود من وطأة الاعتياد والطبعنة التي تمنع من الاتصال بنداء الأشياء والموضوعات في أصالتها الحقة.
أيعد عبد الكبير الخطيبي من طينة الفلاسفة النسقيين الذين يمكن تصنيفهم والتعرف عليهم من خلال وحدة مرجعية محددة، أم كان متعددا يمارس صناعة السؤال خارج كل نسقية مفهومية قارة وثابتة؟ وبالتالي كان رجلا يفكر انطلاقا من التخوم حيث تتراجع كل كلية لتفسح المجال أمام انبثاقات الجذر والأثر والعلامة من دون استناد إلى مركز محدد؟
فحين نفكر في الخطيبي علينا أن نعدد الجهة التي ننظر منها إليه: أكان سوسيولوجيا (الذاكرة الموشومة) أم سيميولوجيا على شاكلة صاحب "الكتابة في درجة الصفر" (فن الخط العربي)، أم أركيولوجيا على منوال صاحب "تاريخالجنسانية" (كتاب الدم)، أم ناقدا مثل صديقه مؤلف "الكتابة والاختلاف" (صور الأجنبي في الأدب الفرنسي)، أم أنتروبولوجيا سيرا على نهج "مدارات حزينة"، أم ناقدا تشكيلياوسينمائيا مولعا بماتيس، أم رجل مفاهيم على شاكلة صاحب "التجريبية والذاتية بحث فيالطبيعة البشرية" مترصدا خطى دا"يد هيوم. وفي خضم هذا التعدد في الاهتمامات كانالخطيبي شغوفا بمقاربة موسيقى الجاز بإيقاعات اكناوة، وبما هو اتنولوجي باحث بمسألة التراث في البوادي المغربية، كما أنه لم يخف ولعه الشديد بثقافة الساموراي وبالإرث الأدبي والفكري الياباني منذ ياسوناري كواباتا وأكوتاجاوا ريونوسكيه، وجونيشورو تاينزاكي، ويوكو ميشيما، وكوبو ايب، ونيوميكو اينتشي،وساواكو آريوشي،وكينزا بيورو أوي. ومن يتأمل ديوانه الموسوم بـ "المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية" يرى فيه شاعرا شبيها بنيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت". لكن المتاهة لا تنتهي، إذ يفاجئنا في "صيف في ستوكهولم" بكونه مفتونا بلعنة السرد. هل كان لزاما علينا انتظار مؤلفه الأخير الموسوم بـ "الكاتب وظله "لتكتمل الرؤية حول طبيعة هذا المفكر الذي يخون كل فراسة مفتونة بالتصنيف.
الكتابة حين تحايث الواقع الوعي النقدي: يؤشر كتاب "الكاتب وظله" لعبد الكبير الخطيبي والصادر عن منشورات الاختلاف 2008 عن طبيعة الوعي النقدي والمشروع الجمالي لعبد الكبير الخطيبي. ويقع هذا المؤلف في 128 صفحة ويتشكل من العناوين الآتية: علامات الانتماء ـ الطريق إلى الأنا ـ رغبة السوسيولوجيا ـ الطريق إلى الآخر ـمن الأنطولوجيا إلى السيميولوجيا ـعلى هامش الفلسفة ـ علم النفس الدقيق ـ تقولون حكاية فائقة؟ ـ سياسة الرسائل ـ الهوية اللينة ـ الرغبة في الاستنساخ.
ويعد هذا الكتاب بمثابة سيرة ذاتية فكرية لا تخضع لقواعد السير الذاتية المعهودة في أدبيات هذا النمط التعبيري المخصوص، وهوما يتجلى في رغبة الخطيبي في الكتابة على نحو مختلف. انه لا يسرد حياته منذ الولادةإلى الزمن الذي كتب فيه هذا المؤلف. كما أن الكتابة لم تأت نتيجة رغبة ذاتية صرف،وإنما نتيجة رغبة غيرية صادرة عن صديق له حثه على أن يكتب سيرته الذاتية. ويقول عبد الكبير الخطيبي في هذا الصدد في الصفحة الثالثة عشرة من كتابه المذكور: "كتبت هذا المؤلف الصغير استجابة لصديق اقترح علي أن أفصح للقراء عن مساري الفكري، وافقت على ذلك بالرغم من التردد والمصاعب التي يفترضها جنس الشخصورة الذاتية. Autoportrait.
ويسرد عبد الكبير الخطيبي في هذا العمل تطوره الفكري، وذلك عبر مساره الجامعي،وقراءاته المتنوعة والمتعددة، وأسفاره المتكررة، ولقاءاته مع الآخر، وسفره مثلا إلى فرنسا لاستكمال تكوينه الأكاديمي الجامعي "السوربون" في شعبة السوسيولوجيا، مما مكنه من اكتشاف طرق حديثة في هذا المجال، واكتساب خبرة أكاديمية، ومناهج استقاها من أساتذته أمثال "ريمون آمون،أندريه لورواغوران، روجيه باستيد ـ غوربيتس، وهنري لوفيبر".سافر الخطيبي إلى فرنسا سنة 1958، حيث بدأ دراساته ليحظى بتكوين جامعي متميز، ثم أكمل هذا التكوين بقراءات نوعية لماكس فيبر، ووالتر بنيامين، وموريسبلانشو، وجاك دريدا، ورولان بارث. وكان الكثير من هؤلاء أصدقاء له طيلة ثلاثينعاماً. ولم يقصر الخطيبي قراءته عليهم، بل قرأ لآخرين من أمثال فريدريك نيتشه،وسيغموند فرويد، وكيرغارد، وخورخي لويس بورخيس، وميشيل فوك، إضافة إلى افتتانه بأبي العلاء المعري وابن خلدون.ويحكي كتاب "الكاتب وظله" عن مغامرات الخطيبي مع السوسيولوجيا، فبعد عودته إلى المغرب سنة 1964 أصبح مديراً لمعهد السوسيولوجيا سنة 1966 وبتعبيره فقد كان لهذا المعهد الفضل في تكوين مجموعة من الطلبة الباحثين أمثال عبد الله الحمودي، وعبد الله حرزني، وأحمد الزكاري. وسيعرف هذا المعهد مجموعة من الأزمات كان وراءها "المخزن" حيث أغلقه بشكل نهائي سنة 1970، وتم تعويضه في معهد العلوم الاجتماعية قبل أن يختفي هو الآخر نهائيا. وكان هذا مؤشرا على خوف الدولة من السوسيولوجيا بوصفها علما يدرس قضايا المجتمع وتحولاته.كان عبد الكبير الخطيبي منذ كتاباته الأولى مشغولا بالغير والغيرية، وفي "الكاتب وظله" يعود لهذه التيمة بشكل مقتضب ودقيق ليناقشها من خلال علاقته بالشعر كمكون من مكوناته الفكرية، ومن خلال رؤية نقدية للعلامة الرافضة للآخر، أو العلاقة الاندماجية المفضية إلى الذوبان فيه. ويذكرنا هذا الأمر بأطروحته الجامعية التي عنونها بـ "فكر آخر". ويستحضر عبد الكبير الخطيبي في هذا السياق قراءته لفيكتور سيكالين وفكرة "الغريب المحترف" التي أفرد لها صفحات من روايته الذائعة الصيت "صيف في ستوكهولم" سنة 1990، فقد كانت علاقته مع الغير مبنية على النقد المزدوج لهوية الذات وهوية الآخر، ومتوسلة بالحوار والانفتاح. وعلى الرغم من أن الآخر يظل دائما هو الآخر، فقد كان الخطيبي يؤمن بأهمية الحوار والتواصل معه. وهذا التعلق لا يوازيه إلا إيمانه بالصيرورة والتطور بوصفهما جدلا لا يسير في اتجاه التاريخ، بل في اتجاه الذات.
كما نستشف من الكتاب أن تكوين الخطيبي لا ينحصر في مجال دون آخر، بل هو تكوين يتقاطع مع مجموعة من الحقول ويشتبك معها في إطار معانقة أسئلة المعرفة الإنسانية الرحبة والعميقة. لقد استفاد هذا الكاتب الشمولي ـ والذي وصفه جاك دريدا بالنموذجي ـ من السيميولوجيا في أواخر الستينيات و بداية السبعينيات، واعتمد عليها لقراءة "العلامات" التي ينتظم بها العيش داخل المجتمع: الجسد، السرد الشفهي، الوشم، الكاليغرافيا، الزربية، الرسم التقليدي، الشيء الذي أعطانا كتاب "الاسم العربي الجريح" سنة 1974، و" كتاب الدم" سنة 1974.
ويتمثل التنوع المعرفي عند الخطيبي في تغيير اهتمامه المتواصل؛ حيث سيناقش سنة 1969 شهادة الدكتوراه في موضوع "الرواية المغاربية" تحت إشراف جاك بيرك وأمام لجنة مكونة من رولان بارث وإيتيرنبل. وتأشيرا على هذا التنوع يروي الخطيبي حكاية علاقته بالفلسفة، فيعتبر نفسه من المفكرين الذين تمركزوا على هامش الفلسفة، وهنا نستحضر الدرس الديريدي "هوامش الفلسفة". ولذلك لن نستغرب الوصف الذي أطلقه على نفسه "الغريب المحترف". ولقد مكنه هذا الهامش من نسج خيوط متعددة مع السوسيولوجيا،فكان بذلك من الأوائل الذين أسسوا لنقد الميتافيزيقا الإسلامية والغربية، وتمظهراتها في الفن الإسلامي وفي الصوفية، وفي الموت، والحب، والجسد، والمقدس، والمرأة، والجنس. ويرد في هذا السياق كتبه "المغرب العربي المتعدد" و" النقد المزدوج" و" فكر الآخر". هذا علاوة على توسيع مفهوم النقد عنه باتجاه الاستشراق، وتوسيع اهتمامه باتجاه ما هو بصري وبخاصة الفن التشكيلي الذي عمد إلى قراءته بشغف عاشق كما هو الأمر بالنسبة إلى بول كلي.
أثر كاتب: لقد كان عبد الكبير الخطيبي مثل الرحل الذين تحدث عنهم جيل دولوز في وقت غدا فيه الإنسان كائنا أحاديا ومنعزلا. ولقد كشفت الندوة التي نظمها المركز السينمائي بمعية المجلة الفلسفية ـ "الأزمنة الحديثة" في إطارالدورة الحادية عشرة للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة ( 2010) عن ولع الخطيبي بالصورة السينمائية، وهو اهتمام ظل خافتا على الأقل في نظر المهتمين بتجربته الفكرية والأدبية التي أهلته ليحظى بجائزة "لازيو" الإيطالية عن مجمل أعماله الأدبية، التي يمكن حصرها في: "الذاكرة الموشومة"، "كتاب الدّم"، "ألف ليلة وثلاث ليال"، "حب مزدوج اللغة"، "صيف في استوكهولم"، "ثلاثية الرباط"، كما نشر الخطيبي أربعة دواوين شعرية: "المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية"، "سندباد"، "إهداء إلى السنة المقبلة"، "من فوق الكتف"، "ظلال يابانية". وألف نصين مسرحيين وهما: "موت الفنانين" و" النبي المقنع". وفي مجال الدراسات النقدية والفكرية أصدر عبد الكبير الخطيبي "أنطولوجيا أدب شمال أفريقيا"، "الرواية المغاربية"، "الكُتّاب المغاربة من عهد الحماية إلى 1965"، "الفرنكوفونية واللغاتالأدبية"، "الكلام"، "الاسم العربي الجريح"، "القيء الأبيض: الصهيونية والضمير الشقي"، "فن الخط العربي"، "مغرب متعدّد"، "المفارقة الصهيونية"، "الجسد الشرقي".
أيعد عبد الكبير الخطيبي من طينة الفلاسفة النسقيين الذين يمكن تصنيفهم والتعرف عليهم من خلال وحدة مرجعية محددة، أم كان متعددا يمارس صناعة السؤال خارج كل نسقية مفهومية قارة وثابتة؟ وبالتالي كان رجلا يفكر انطلاقا من التخوم حيث تتراجع كل كلية لتفسح المجال أمام انبثاقات الجذر والأثر والعلامة من دون استناد إلى مركز محدد؟
فحين نفكر في الخطيبي علينا أن نعدد الجهة التي ننظر منها إليه: أكان سوسيولوجيا (الذاكرة الموشومة) أم سيميولوجيا على شاكلة صاحب "الكتابة في درجة الصفر" (فن الخط العربي)، أم أركيولوجيا على منوال صاحب "تاريخالجنسانية" (كتاب الدم)، أم ناقدا مثل صديقه مؤلف "الكتابة والاختلاف" (صور الأجنبي في الأدب الفرنسي)، أم أنتروبولوجيا سيرا على نهج "مدارات حزينة"، أم ناقدا تشكيلياوسينمائيا مولعا بماتيس، أم رجل مفاهيم على شاكلة صاحب "التجريبية والذاتية بحث فيالطبيعة البشرية" مترصدا خطى دا"يد هيوم. وفي خضم هذا التعدد في الاهتمامات كانالخطيبي شغوفا بمقاربة موسيقى الجاز بإيقاعات اكناوة، وبما هو اتنولوجي باحث بمسألة التراث في البوادي المغربية، كما أنه لم يخف ولعه الشديد بثقافة الساموراي وبالإرث الأدبي والفكري الياباني منذ ياسوناري كواباتا وأكوتاجاوا ريونوسكيه، وجونيشورو تاينزاكي، ويوكو ميشيما، وكوبو ايب، ونيوميكو اينتشي،وساواكو آريوشي،وكينزا بيورو أوي. ومن يتأمل ديوانه الموسوم بـ "المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية" يرى فيه شاعرا شبيها بنيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت". لكن المتاهة لا تنتهي، إذ يفاجئنا في "صيف في ستوكهولم" بكونه مفتونا بلعنة السرد. هل كان لزاما علينا انتظار مؤلفه الأخير الموسوم بـ "الكاتب وظله "لتكتمل الرؤية حول طبيعة هذا المفكر الذي يخون كل فراسة مفتونة بالتصنيف.
الكتابة حين تحايث الواقع الوعي النقدي: يؤشر كتاب "الكاتب وظله" لعبد الكبير الخطيبي والصادر عن منشورات الاختلاف 2008 عن طبيعة الوعي النقدي والمشروع الجمالي لعبد الكبير الخطيبي. ويقع هذا المؤلف في 128 صفحة ويتشكل من العناوين الآتية: علامات الانتماء ـ الطريق إلى الأنا ـ رغبة السوسيولوجيا ـ الطريق إلى الآخر ـمن الأنطولوجيا إلى السيميولوجيا ـعلى هامش الفلسفة ـ علم النفس الدقيق ـ تقولون حكاية فائقة؟ ـ سياسة الرسائل ـ الهوية اللينة ـ الرغبة في الاستنساخ.
ويعد هذا الكتاب بمثابة سيرة ذاتية فكرية لا تخضع لقواعد السير الذاتية المعهودة في أدبيات هذا النمط التعبيري المخصوص، وهوما يتجلى في رغبة الخطيبي في الكتابة على نحو مختلف. انه لا يسرد حياته منذ الولادةإلى الزمن الذي كتب فيه هذا المؤلف. كما أن الكتابة لم تأت نتيجة رغبة ذاتية صرف،وإنما نتيجة رغبة غيرية صادرة عن صديق له حثه على أن يكتب سيرته الذاتية. ويقول عبد الكبير الخطيبي في هذا الصدد في الصفحة الثالثة عشرة من كتابه المذكور: "كتبت هذا المؤلف الصغير استجابة لصديق اقترح علي أن أفصح للقراء عن مساري الفكري، وافقت على ذلك بالرغم من التردد والمصاعب التي يفترضها جنس الشخصورة الذاتية. Autoportrait.
ويسرد عبد الكبير الخطيبي في هذا العمل تطوره الفكري، وذلك عبر مساره الجامعي،وقراءاته المتنوعة والمتعددة، وأسفاره المتكررة، ولقاءاته مع الآخر، وسفره مثلا إلى فرنسا لاستكمال تكوينه الأكاديمي الجامعي "السوربون" في شعبة السوسيولوجيا، مما مكنه من اكتشاف طرق حديثة في هذا المجال، واكتساب خبرة أكاديمية، ومناهج استقاها من أساتذته أمثال "ريمون آمون،أندريه لورواغوران، روجيه باستيد ـ غوربيتس، وهنري لوفيبر".سافر الخطيبي إلى فرنسا سنة 1958، حيث بدأ دراساته ليحظى بتكوين جامعي متميز، ثم أكمل هذا التكوين بقراءات نوعية لماكس فيبر، ووالتر بنيامين، وموريسبلانشو، وجاك دريدا، ورولان بارث. وكان الكثير من هؤلاء أصدقاء له طيلة ثلاثينعاماً. ولم يقصر الخطيبي قراءته عليهم، بل قرأ لآخرين من أمثال فريدريك نيتشه،وسيغموند فرويد، وكيرغارد، وخورخي لويس بورخيس، وميشيل فوك، إضافة إلى افتتانه بأبي العلاء المعري وابن خلدون.ويحكي كتاب "الكاتب وظله" عن مغامرات الخطيبي مع السوسيولوجيا، فبعد عودته إلى المغرب سنة 1964 أصبح مديراً لمعهد السوسيولوجيا سنة 1966 وبتعبيره فقد كان لهذا المعهد الفضل في تكوين مجموعة من الطلبة الباحثين أمثال عبد الله الحمودي، وعبد الله حرزني، وأحمد الزكاري. وسيعرف هذا المعهد مجموعة من الأزمات كان وراءها "المخزن" حيث أغلقه بشكل نهائي سنة 1970، وتم تعويضه في معهد العلوم الاجتماعية قبل أن يختفي هو الآخر نهائيا. وكان هذا مؤشرا على خوف الدولة من السوسيولوجيا بوصفها علما يدرس قضايا المجتمع وتحولاته.كان عبد الكبير الخطيبي منذ كتاباته الأولى مشغولا بالغير والغيرية، وفي "الكاتب وظله" يعود لهذه التيمة بشكل مقتضب ودقيق ليناقشها من خلال علاقته بالشعر كمكون من مكوناته الفكرية، ومن خلال رؤية نقدية للعلامة الرافضة للآخر، أو العلاقة الاندماجية المفضية إلى الذوبان فيه. ويذكرنا هذا الأمر بأطروحته الجامعية التي عنونها بـ "فكر آخر". ويستحضر عبد الكبير الخطيبي في هذا السياق قراءته لفيكتور سيكالين وفكرة "الغريب المحترف" التي أفرد لها صفحات من روايته الذائعة الصيت "صيف في ستوكهولم" سنة 1990، فقد كانت علاقته مع الغير مبنية على النقد المزدوج لهوية الذات وهوية الآخر، ومتوسلة بالحوار والانفتاح. وعلى الرغم من أن الآخر يظل دائما هو الآخر، فقد كان الخطيبي يؤمن بأهمية الحوار والتواصل معه. وهذا التعلق لا يوازيه إلا إيمانه بالصيرورة والتطور بوصفهما جدلا لا يسير في اتجاه التاريخ، بل في اتجاه الذات.
كما نستشف من الكتاب أن تكوين الخطيبي لا ينحصر في مجال دون آخر، بل هو تكوين يتقاطع مع مجموعة من الحقول ويشتبك معها في إطار معانقة أسئلة المعرفة الإنسانية الرحبة والعميقة. لقد استفاد هذا الكاتب الشمولي ـ والذي وصفه جاك دريدا بالنموذجي ـ من السيميولوجيا في أواخر الستينيات و بداية السبعينيات، واعتمد عليها لقراءة "العلامات" التي ينتظم بها العيش داخل المجتمع: الجسد، السرد الشفهي، الوشم، الكاليغرافيا، الزربية، الرسم التقليدي، الشيء الذي أعطانا كتاب "الاسم العربي الجريح" سنة 1974، و" كتاب الدم" سنة 1974.
ويتمثل التنوع المعرفي عند الخطيبي في تغيير اهتمامه المتواصل؛ حيث سيناقش سنة 1969 شهادة الدكتوراه في موضوع "الرواية المغاربية" تحت إشراف جاك بيرك وأمام لجنة مكونة من رولان بارث وإيتيرنبل. وتأشيرا على هذا التنوع يروي الخطيبي حكاية علاقته بالفلسفة، فيعتبر نفسه من المفكرين الذين تمركزوا على هامش الفلسفة، وهنا نستحضر الدرس الديريدي "هوامش الفلسفة". ولذلك لن نستغرب الوصف الذي أطلقه على نفسه "الغريب المحترف". ولقد مكنه هذا الهامش من نسج خيوط متعددة مع السوسيولوجيا،فكان بذلك من الأوائل الذين أسسوا لنقد الميتافيزيقا الإسلامية والغربية، وتمظهراتها في الفن الإسلامي وفي الصوفية، وفي الموت، والحب، والجسد، والمقدس، والمرأة، والجنس. ويرد في هذا السياق كتبه "المغرب العربي المتعدد" و" النقد المزدوج" و" فكر الآخر". هذا علاوة على توسيع مفهوم النقد عنه باتجاه الاستشراق، وتوسيع اهتمامه باتجاه ما هو بصري وبخاصة الفن التشكيلي الذي عمد إلى قراءته بشغف عاشق كما هو الأمر بالنسبة إلى بول كلي.
أثر كاتب: لقد كان عبد الكبير الخطيبي مثل الرحل الذين تحدث عنهم جيل دولوز في وقت غدا فيه الإنسان كائنا أحاديا ومنعزلا. ولقد كشفت الندوة التي نظمها المركز السينمائي بمعية المجلة الفلسفية ـ "الأزمنة الحديثة" في إطارالدورة الحادية عشرة للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة ( 2010) عن ولع الخطيبي بالصورة السينمائية، وهو اهتمام ظل خافتا على الأقل في نظر المهتمين بتجربته الفكرية والأدبية التي أهلته ليحظى بجائزة "لازيو" الإيطالية عن مجمل أعماله الأدبية، التي يمكن حصرها في: "الذاكرة الموشومة"، "كتاب الدّم"، "ألف ليلة وثلاث ليال"، "حب مزدوج اللغة"، "صيف في استوكهولم"، "ثلاثية الرباط"، كما نشر الخطيبي أربعة دواوين شعرية: "المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية"، "سندباد"، "إهداء إلى السنة المقبلة"، "من فوق الكتف"، "ظلال يابانية". وألف نصين مسرحيين وهما: "موت الفنانين" و" النبي المقنع". وفي مجال الدراسات النقدية والفكرية أصدر عبد الكبير الخطيبي "أنطولوجيا أدب شمال أفريقيا"، "الرواية المغاربية"، "الكُتّاب المغاربة من عهد الحماية إلى 1965"، "الفرنكوفونية واللغاتالأدبية"، "الكلام"، "الاسم العربي الجريح"، "القيء الأبيض: الصهيونية والضمير الشقي"، "فن الخط العربي"، "مغرب متعدّد"، "المفارقة الصهيونية"، "الجسد الشرقي".