المستشار بهاء المري - يوميات وكيل نيابة: عدم المعقولية.. زوجان

عدم المعقولية

زوجان

اليوم وعلى إثر حصول مشاجرة بين رواد السوق بناحية كذا، ترَكت إحدى البائعات طفلها الرضيع فوق عربتها الكارو واشتركت فى الشجار وإذ اشتد الهرج والمرج، خافت الدابة ونفَرَت بالعربة، فسقط الرضيع على الأرض ولقى فى الحال مصرعه .
هكذا سُطِّرت الواقعة فى محضر الشرطة، وعُرضت مُرفقا بها ما انطوت عليه التحريات من عدم وجود شبهة جنائية فى حصول الوفاة.
وقال طبيب الوحدة الصحية فى تقريره، إنَّ الإصابات المشاهدة بجثة الرضيع يمكن حصولها من مثل السقوط من فوق عربة كارو، وأنَّ الوفاة تُعزَى إلى ما أحدثته هذه الإصابات من نزيف بالمخ وصدمة .
وأقرّت الأم أنها التى تسببت بخطئها فى موت صغيرها، وبحصول الوفاة وفق ذلك التصوير الذى أورَدَته الشرطة بمحضرها، وبالتالى أضحت الأوراق أخذاً بهذه الأقوال ترشح للدفن دونما حاجة إلى تشريح، لا سيما أنَّ التشريح إجراء يتأذى له الشعور العام، ولا يتعين اللجوء إليه إلا حيث لا يكون هناك مناص من إجرائه، أو فى الأحوال التى يتعذر فيها نهائياً تحديد سبب الوفاة.
وبالرغم من تَطابُق أقوال الأم مع هذا التصوير، إلا أن الشك قد تطرق إلى وجدانى، ذلك أنَّ المنطق القويم والمجرى العادى للأمور يتأبى معهما تصوُّر أن تقوم أى أمّ مهما كانت عديمة الحرص فى رعاية طفلها بتركه فوق عربة كارو فى قلب سوق نشبت فيه مشاجرة لتشترك فى الشجار، حتى وإن كانت هى من أطراف هذا الشجار، ومن ثم أحسستُ أنَّ للواقعة تصوير آخر لم تكشف عنه الأوراق، وأنه لن يميط اللثام عنه سوى مناقشة هذه الأم الثكلى بمعرفتى، وبالتالى فقد أرجأتُ التصريح بالدفن وأمرتُ بإحضار هذه الأمّ.
وجئ بالأم إلى سراى النيابة، امرأة ريفية ممن يطحنهن الفقر والشقاء، الذين بدت ملامحهما جلية على وجهها وملابسها وكل كيانها، نالت الدموع من مآقيها فتورمت منها المآقى، واختلط الدمع بغبار السوق على وجنتيها فاغبر وجهها، ووقفَت تترنح من هول فجيعتها وكأنها ثملة، وبدا لى حين تأملتها أنَّ بها إصابات بالوجه والكفين وتمزيقاً بذيل جلبابها.
وسألتها عن ظروف الواقعة وملابساتها ولكنها لم تجِب، ونظرَت نحوى وهمَّت بالكلام ثم أحجمَت، وظلَّت صامتة لا تنبس بحرف، فأحسستُ بحجم مرارتها وما بداخلها من إحباط وألم، وبعد حين من الرفق بها ومواساتها، تمتمَت بحركة من شفتيها لا تدل عن قول واضح، ثم عادت إلى ذات الصمت من جديد .
وقبل أن أعود إليها مرة أخرى، أنهى إلىّ الحاجب نبأ حضور ثلاثة رجال من أهل القرية يقولون أنهم شهود الواقعة، فأذنتُ بدخولهم واستمعتُ إلى ثلاثتهم فأجمعوا على رواية واحدة، إنَّ المرأة وزوجها كانا يفترشان عربتهما الكارو داخل السوق ويمارسان البيع من فوقها، وبينما هما كذلك جاء خفير يطلب الزوج للنقطة، بيْدَ أنَّ الزوج غافَله وفرّ هاربا، فأصرَّ الخفير أن يأخذ الزوجة كرهينة بدلا منه، فحدثت بينهما مشادة كلامية تدخل على إثرها عدد من الأهالى، ولكن الخفير لم يقتنع، وحين رفضَت الزوجة الانصياع لأمره، جذبها من فوق العربة جذبة قوية أطاحت بوليدها من حِجرها، وما أنْ استقرَّ أرضاً حتى كان قد لقى حتفه، بينما تعلَّقت ملابسها هى بالعربة واصطدم بها وجهها.
ولم تكن هذه الصورة هى الوجه الوحيد لهذه المأساة فحسب، بل أضاف أولئك الشهود، أنَّ هذا الابن القتيل هو ثمرة زواج دام بين أبويه عشر سنوات، طافا خلالها بشتى عيادات الأطباء حتى كان الحمل، ولما حان وقت قطافها حدث أمر ما، فتمَّ استئصال الرحم.
وما أن فرغتُ من سماع الشهود، حتى حضر الزوج الهارب، فدعوته إلى غرفة التحقيق لسماع أقواله، وحين رأته الزوجة أسرَعت إليه فى لهفة وفزع شديدين، وضمته بين ذراعيها ضمَّة قوية، وراحت تبكى بكاءً هيستيريا كان يزلزل جسديهما الملتصقين، فانفجر الرجل باكيا بكاء لا يقل مرارة عن بكائها، وضمَّها هو الآخر إلى صدره، وأخذ كل منهما يربت على ظهر صاحبه فى مشهد مأساوى حزين، واختلطت عبارات العزاء بينهما بصوت النحيب حتى أضحت غير مفهومة .
وتلاشى عندهما الإحساس بالمكان والزمان، ولم يعبأ كلاهما بغير صاحبه، واستمر بينهما العزاء الحزين.
قالت الزوجة وهى تنظر فى عينيه وتهزه برفق من كتفيه وما زالت دموعها تنساب على خديها:
- لا تحزن، ولا تفعل بنفسك هكذا، فأنا التى سأزوجك بأخرى، ولسوف يعوضك الله بولد غيره، ولن أتخلى عنك أبداً!
فيعلو نحيب الرجل ويضع يده برفق على فيها ويقول لها بصوت متهدج :
- إنى لا أبكى من أجلى، بل أبكى عليك، لقد ذقتِ الأمرين حتى رأته عيناك، عشر سنوات من العذاب والإنفاق، وانتظار طويل رهيب، و.. و.. و...!
ثم يطرق الباب طارق فينتبهان، ويلملم كل منهما أشلاء نفسه ويمسحان دموعهما ثم ينظران تجاهى، فأمرتُ بتنحيتهما سريعاً قبل أن يلاحظا دمعاً قد ترقرق فى أعين أخرى!
ويذهب ذلك المجرم غليظ القلب إلى غياهب السجن، ويبقى ذلك الموقف الإنسانى الحزين، مجسداً لأبهى صور المودة والرحمة، إنهم أناس بسطاء، وإنما قلوبٌ رقيقة، ومشاعر سامية، وأحاسيس راقية!

بهاء المري‎.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
599
آخر تحديث
أعلى