ضياع الرُّوح
انتقلتُ شابًّا حَدَثًا إلى القاهرة مُفَعَّمًا بطاقةِ التعلُّم، ممتلئًا عن آخري بإرادة واحدة؛ وهي أن أتعلّم علومَ الإسلام، وبالفعل لم تكد تُلامِسُ قدماي حيَّ الدرَّاسَةِ بالقاهرة القديمة إلَّا والتمستُ سَكَنًا لي بجانب الجامع الأزهر، وصار برنامجي اليوميّ رتيبًا بعض الشيء إلى أن تخرجتُ في الجامعة؛ أصحو قبيل الفجر وأذهبُ للصلاة في جامع الإمام الحسين، وأقرأ وردي اليوميَّ من القرآن، ثم أذهب إلى الجامعة الأزهريّة، ومن ثمّ أعود لأدرك ما يمكن إدراكُه من دروس الجامع الأزهر في الفقه وأصوله، والكلام والمنطق، وعلوم اللغة من نحو وصرف وأدب وبلاغة.
وقع الكلامُ في عقلي موقعًا، وتلبّسْتُ بحالةٍ كبريائيّة منه، إذ عكفتُ على دراسة الكلام والمنطق وحضور دروسهما عكوفًا جعلني أهجر ما عداهما، وأعدّهما العلمَ لا غير. درستُ الكلامَ على المذهب الأشعريّ مع مَيل إلى الماتريديّة بعد حين، ونزوع شديد نحو الاعتزال نهاية الأمر. أورثتني دراسةُ العقيدة على طريقة المتكلّمين نوعًا من الجَفَاف الرُّوحي الذي جعلتُ أعانيه مدّة ليست بالقليلة. وأصابني ضمورٌ روحيّ وضياعٌ أفقدَنِي طلاوةَ الإيمان، فكنتُ أقف في صلاتي أستدعي الخشوع، فلا تأتيني إلا العَبْرَةُ بعد العَبْرَة على ما وصلتْ إليه نفسي.
وما زاد في الأمر من سوءٍ ما أثقلتْني به كتبُ الكلام والفِرَق من حَسَدٍ وبُغْضٍ اندفن في قيعاني تُجاه كلّ ما يخالفني؛ إلى أن صار اللهُ في عالَمي إلهًا نستملكه، ونتحاسد لأجله، ونتباغض في سبيله. حاولتُ الهروبَ بقلبي المُتْعَب، وروحي الضّائعة إلى علوم العربية، وحاولتُ فيها نفسي أجمع شتاتها، فوقفتُ عليها في اللغة، وجعلتْ روحي تتظاهر حتى بَدَتْ منطوقةً بلسان غير اللسان. اقتحمتُ هذه العلومَ فرارًا من أخرى نَكْفُرُ فيها أو نبتدع إن أخطأنا أو خالفنا إجماع مَنْ أجمع. وهكذا ولجتُ بابَ الأدب والشِّعْر هربًا من الفكرة والرأي، ومدافعةً لكلِّ جدل أو إرادةِ جدل.
تكشَّفَتْ نفسي في ابتعادي عمّا أرهقها لكنّها ظلّت في فقرِها الروحي غير مؤتلفة؛ عطشى تعاني ممّا أسماهُ الرفاعيُّ بالظّمأ الأنطولوجي للمقدس، «الحنين إلى الوجود... ظمأ الكينونة البشريّة» ، وما أمعن في إضنائِها أكثر ما نعيشه في عالَم استهلاكيّ من الطراز الأوّل؛ تتكاثر فيه حاجاتُ الإنسانِ دون تَنَاهٍ، فنعيش بسببها آلامًا متواترة تنتهبُ وجودَنا، ولا يستطيع معها أحدُنا مهما بَلَغَتْ به النعمةُ من رخاء ماديّ تحصيلَ هذه الحاجات جميعها لعدم تناهيها، فنحن ودون إرادة منا نعيش عالمًا «ديدنه توهينُ المنظومة الروحيّة... والمغالاة في شأن المنظومة الماديّة» ، عالمًا يعيش فيه الإنسانُ «وكأنّ التغيُّرَ والتقلُّبَ طبعُه وديدنُه، فكأنّه منذور للحركة التي لا تتوقّف، وللاضطراب الذي لا قرار معه» .
وبذلك، انطفأ وِجْدَاني أو قارب، وأصاب روحي عطشٌ، واحتلّ الظمأُ نفسي تحت هذه الظلال، وعشتُ متألِّمًا، أطلب الرِّيَّ في غير الله؛ في القراءة والموسيقى والأسفار الأرضيّة، وأخيرًا طلبتُه في الحبّ الأرضيّ الذي علّمني معنى الحبّ في عذوبته، ومعنى أن أعرف نفسي وأحبها، بل وأوصَلَنِي إلى حبّ الله، وأخذتُ عنه أنَّ الحقيقة الإلهيّة الباطنة في الأشياء «لا يمكن أن يظفر بها أحدٌ بطريق مباشر ووقتيّ إلا هؤلاء الذين اختاروا أنْ يخضعوا لشروطٍ خاصَّة؛ أنْ يحملوا أنفسَهم على الحبّ، وأن يكونوا أنقياءَ القلب، مساكينَ بالروح» ، فالعشق - درجة عالية من درجات الحب - هو ذلك الأسطرلاب الذي يكشف الأسرار كما يرى جلال الدين الرومي .
ذاكَ هو أنت، أو غسق الأنا
لم تفارقْ نفسي مُلَاحقَةَ الإلهيّ في كل شيءٍ، فطلبتُ اللهَ في كُلٍّ، ولم أنزع أبدًا - على تَقَلُّبِي بين المذاهب - إلى جحودٍ به. طلبتُه في مدوّنات الكلام والفرق، فألفيتُه إلهًا عقليًّا جافًّا وجامدًا تتنازعه الفرقُ وتتناحر عليه، فما قبلتُه، وقلتُ: لا أحبّ الجامدين. وطلبتُه في مدونات الفقه، فظهر ربًّا ماسخًا يريد التسلُّط على كلِّ شيء في حياتي وحياة الناس، فأشحتُ عنه وقلتُ: لا أحب المتسلِّطِين. وطلبتُه في مدوّنات التصوّف الطُّرُقِيّ، فوجدتُ أصحابَهُ يُلْزِمُون السَّالِكَ مسالكَ، ويُلبسونَه ملابسَ، ويقمعونه مقامعَ، فما أسلمتُ قيادي، وانطردتُ لَمَّا اعترضتُ، وقلتُ: لستُ أحب الخرافة. وطلبتُه في أدبيَّات الإسلام السياسيّ، فوجدتُ إلهًا شائهًا؛ مَلِكًا توَّاقًا إلى السُّلطة، والاستبداد بالحكم، والتحكُّم في رقاب الناس، فقلتُ: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا» (النمل: 34). طلبتُه في الأشياء من حولي، وطفقتُ عنه مسحًا بالآثار، فما كاد يظهر إليّ إلا بالقدر الذي يتخفّى فيه؛ وعرفتُ أنَّ الإيمان الذي يُتوصَّل إليه بغيره ليس إيمانًا، وعرفتُ أنَّ الإنكارَ الذي يكون بالآثار ليس إنكارًا، بل هو إيمان، فكيف يطمئنُّ إيمانٌ بالأسباب شديدةِ الخفاء، وكيف يستقيمُ إنكارٌ من شدّة الظهور؟!
ما وجدتُ الله إلا في نفسي، وما رأيتُه حقًّا إلا عندما رأيتُني حقًّا، فالدليل عليه هو، والطريق به إليه، ومن استعانَ به أعانه، ومن طلبه دون وساطة تجلّى عليه وإليه. عندما نتَّصل به بهذه الصورة في أنفُسِنا؛ ندرك عن طريق تجربته واختباره أنّه إلهُ العالَمين حقًّا وصدقًا، وأنّه رحمان تتَّسع رحمتُه كلَّ شيء في الدنيا والآخرة؛ بل ولعلَّها تتسع للمُنكِر قبل المؤمن، وللجاحد والمعاند قبل المُذعن، ونعرف أن كلَّ تصوير له حدّ، وكلَّ عقيدة فيه تحييز، وكلَّ مذهب إليه مقطوع الصلة، فهو لا يُحَدّ، ولا يحويه مذهب أو اعتقاد.
إدراك الله الرحمانيّ في الذَّات يُذَوِّبُ النفس ويصْهرُها في رأفةٍ، ويجعلها تقف موقفًا منغمسًا في الرحمة تجاه الخلق المتكاثر بالله، فالمخلوقات على تنوُّعها وتدرُّجها وترتُّبها تظهر لعارف الله في نفسِه على أنّها آثارُ الله الإلهيّة المباشرة، وعلى أنّها كلمات الله وأنفاسه في العالَم. إنّ الله - في مفهوم المتصوفة - هو الكنز المخفيّ الذي ظهر للعالَم في العالَم بالعالَم. استُلْهِمَ مفهومُ الكنز المخفيّ من حديث قدسيّ يقول: «كنتُ كنزًا لم أُعْرَف، فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ، وتعرَّفتُ إليهم فعرفوني» . تكاثَر الوجودُ الواحدُ في مخلوقاته العديدة إذن، وعمَّت أنفاسُه التجديديّة المُتَّصِلَة الكونَ كلّه. ورغم أنَّ الصوفيّة يرون الطُرُقَ إلى الله على عدد أنفاس الخلائق كما يجري على ألسنتهم، إلّا أنَّ من أقصر طرقه إليه وأشدّها لصوقًا بالإنسان استبطانُ الذّات ومعرفة الله كامنًا فيها، يداخلها فيُخارجُها، يُباطنِها ويظاهرها، ويفترق عنها إذ يتّصل بها.
وجدتُ الرفاعيَّ يرمي إلى ذلك في مشروعه الفكري؛ أنْ يجدَ الإنسانُ نفسَه، وأن يعرف اللهَ فيها، وأن يسلك بالله سلوكًا رحمانيًّا في العالَم، ولا يتحقّق هذا إلّا بفهم بديل عن الدين حاول إبرازَ معالمِه، ووضع أيدينا على مفهوم الرّحمة كمفهوم مركزيّ لفهم الدين، ومفهوم مفتاحيّ لمعالجة القرآن والتّعاطي معه. يقول: «رأيتُ الرحمةَ تمثّل مفتاحَ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن، فقد اتخذت الرحمةُ فضاءً واسعًا في القرآنِ الكريم لم تتخذه في الكتابِ المقدّس وغيرِه من نصوص الأديان، إذ وردت بصيغٍ متنوّعة في القرآن تصرّح بشمولِها كلَّ شَيْءٍ وعدمِ خروجِ أيّ شَيْءٍ عنها، وهو ما تحدّثتْ به آياتٌ متعددةٌ» ، بل وإنِ احتُسِبَت البسملةُ آيةً في كلِّ سورة من سور القرآن كما يرى جماعةٌ من المفسِّرين، فهذا يعني أنَّها «تبوح بلغة الرحمة التي يتأطَّرُ بها المضمونُ الكليُّ [لِسُوَر القرآن]، و[أن] معناها يتنوّع بتنوّع مقاصد السور وما ترمِي إليه مفاهيمُها... إنّها حاكمة على كلِّ المفاهيم التي تتحدَّث عنها آياتُ [أيّ سورة]... إنّ افتتاحَ كلِّ سورة بالبسملةِ يعني أن الرحمةَ الناطقةَ بها البسملةُ مهيمنةٌ على المدلول العامّ للسورة» .
يؤسِّس الرفاعي فهمه للدين إذن على «إعادةِ تعريف الإنسان، وإعادةِ تعريف الدين، وإعادةِ قراءة نصوصه في أفق العصر، وإعادةِ تحديد وظيفته في الحياة، والكشف عمَّا يمكن أن يقدّمَه الدينُ للإنسان من احتياجاتٍ روحيَّة وأخلاقية وجمالية، وما يترقبه الإنسانُ من عواطفٍ ورفقٍ وشفقة ورحمة يمنحها الدينُ للحياة، وما يُلهِمَه للروح من سكينة، وللقلب من طمأنينة». وفي ضوء ذلك يعيد تعريفَه الخاصّ للدين «بوصفه حياةً في أُفق المعنى؛ تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية» .
عرفانُ التَّحرير
حضرتُ معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2014م كما اعتدتُ ألّا يمرّ عام إلا وأشارك فيه زائرًا، وكانت أولى مصافحات عيني لاسم عبد الجبار الرفاعي، إذ وقعتُ على كتابه الذي كان بعنوان: «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدّين» ، فتساءلتُ؛ أيّ نزعة إنسانيّة تلك يريد هذا الكاتبُ إنقاذَها؟ طالعتُ فهرسَ الكتاب، فأَخَذَتْنِي فصولُه وأسرتْني أسماؤُها، ولم يمرّ كثيرُ وقت إلّا وطالعتُ الكتابَ كلّه، وخرجتُ بانطباع عامّ عن شخصيّة هذا الكاتب، وعرفتُه حينئذٍ مهمومًا بالإنسان، مأخوذًا بقول ابن عربي الذي صَدَّرَ به كتابَه: «واعلَم أنّ الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله» . يعني الرفاعيُّ بالإنسانيَّة في الدين التحرُّر؛ التحرُّر من نسيان الإنسان في اللاهوت، التحرُّر من الأيديولوجيا التي أنهكت الإنسانَ والدين، التحرُّر من تراثنا العنيف واستلهام تجاربه الإنسانيّة في رحمانيّتها؛ يعني بها أن يكون الإيمان منبعًا من منابع الرحمة، ومعينًا ينضب بمعانيها في عوالِم الإنسان الباطنة والخارجة.
انحفر اسمُ الرفاعي في عقلي منذ ذلك الحين مفكِّرًا لامعًا، يفكِّر داخل سياق الدين لا خارجه، وجعلتُ أتَتَبَّعُ مقالاتِه هنا وهناك في بعض الصّحُف والدوريّات والمواقع الإلكترونيّة، وأتابع إصداراتِه من الكتب التي كان يختارُ عناوينَها بذائقة مُدهشة تَنُمُّ عن امتلاكه قريحة الأديب والشَّاعر. مرّ الزمانُ عليّ وأنا واقع - بسببه هو وغيره من ملابسات وشخوص - تحت سطوةِ ما يسمّيه بالتصوف المعرفيّ الذي يسعى إلى أن تكون له مقولة معرفيّة عبر مَزْجِ الذَّوق بالنظر العقلي؛ كتصوّف الحلاج والنفَّري وابن عربي وعبد الحقّ بن سبعين والسهروردي وجلال الدين الرومي وغيرهم. يُعرِّف الرفاعيّ هذا النوع من التصوّف بأنّه: «تصوف عقلي، خرج على الأنساق المغلقة الحرفيّة لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءةً لها خارجَ إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر الموروثة» .
كان اهتمامي بهذا النوع من التصوّف بالنسبة إليّ تحريرًا من الأنساق المغلقة التي وقعتُ فيها بواسطة لاهوت المتكلمين ومدوَّنات الفقهاء، ففي لاهوت التصوّف المعرفي نجد الإنسانَ واقعًا في المركز منه، بل وعليه يكون مدارُ الدّين كلّه، لأنّه مَجْلىً من مجالي الحقّ، ولأنّ فيه من روح الله؛ وبذلك تنفتح هذه المدرسةُ على التأويل، وتدور في أنساق معرفيّة متعددة لا تعرف الانغلاق، ولا تُكَفِّر الآخر - أيًّا كان - ولا تنفيه ولا تنبذه، لأنها ترى الله في كلٍّ، ولأنها حرَّرت نفسَها بصورة تامّة من المقولات المنطقيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة واستدلالاتها التي استهوتِ المُتَكَلِّمَة والفقهاء فوقعوا في دوائرِها المغلقة. يقول: «تحرّرَ تفكيرُ التصوّف الفلسفيّ من القوالب الصّارمة ، فتغلّب عليها، وصار يفكّر خارجها بحريّة لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق، ومقولاتُه، ومحاججاتُه، وأداوتُه، وانفردَتْ كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنّها فتحت آفاقًا للتأويل تتخطَّى الفهمَ الحرفيَّ المغلق للنصوص الدينيّة» .
عن طريق الرفاعي تخفَّفْتُ من أعباءِ هذه السّطوة المعرفيّة أيضًا، فإنّه وإنْ كان يرى ضرورةَ إحياء هذا الجانب التراثي وبثِّه في النَّاس، وتداوله بين المتخصِّصين دراسةً واستكشافًا، إلّا أنَّه لا يرى الانغلاق في مداراتِه التي لا تنتهي أيضًا، إذ يرى وجوبَ مناقشته والتعامُل معه بأدواتٍ نقديّة تُثْرِي وجودَه. يقول: «التصوُّفُ الفلسفيّ في تراثنا مَنْجَمٌ ثمين للمعنى الميتافيزيقيّ والروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ، غير أنّ اكتشاف ما تزخر به طبقاتُ هذا المنجم يتطلّب وجود مُكْتَشِفٍ بارع يغوص في تلك الطبقات، فيصطاد الجواهرَ الغاطسة في رُكَامِ أقوال وعبارات وشروح العُرَفَاءِ المملَّة، ويغربلها من ترويض تصوُّف الاستعبادِ» .
ورغم ما يُنسب إلى مشروع الرفاعي من كونه تصوّفًا مُقَنَّعًا إلّا أنّه لا يُسْلِمُ قيادَه للتصوف، بل ولا يُسْلِمُ قيادَه لشيء أبدًا، فهو صاحب عقلٍ نقديّ حُرّ؛ ينتقي ما يناسبه من مسلكٍ في فهمه الرحمانيّ لله والدين والإنسان والعالَم؛ وما كان من أمرٍ إلا أن التقى في مسار فكره مع هذا النَّمَطِ من التَّفكير والرأي، إذ الرفاعيُّ من أنصار التصوّف الذي ينبسط على الوجود ويجعله أكثر رحابةً، ويرى العرفان «كنز الأديان، وعصارة معناها الروحي والأخلاقي والجمالي، لذلك يحرصُ الكلامُ الجديد على توظيف رؤية العرفاء لنمط الصلة بالله، المؤسسة على المحبّة المُتبادَلة بين الله وعباده، ويستأنفُ مقولاتِهم في النجاة والخلاص، ليكسر احتكارَ الرحمة الإلهية، والادعاء باختصاص النجاة والخلاص بديانة أو فرقة أو طائفة دون سواها» ، ويقف موقفًا مضادًّا من التصوّف الذي يكتفي باستبطان الذّات فحسب، أو ذلك الذي يُؤْخَذُ فيه المريدُ بممارسات قاسية من التقشّف والزّهد وتعذيب البدن واعتزال الحياة، فالتصوّف لديه سلاح ذو حَدَّيْنِ؛ «وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبه للثغراتِ في كتب المتصوّفة والوهنِ الذي يتغلغل في طيَّاتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريَّةٌ وليسَتْ نُصُوصًا مقدّسة» .
إنسانٌ مُعَذَّب
كان أولُ تواصُل بيني وبين الرفاعي مستهلّ عام 2020م، إذ أرسلتُ إليه رسائل يائسٍ من الجواب؛ أطلب فيها مساعدةً في أمر ما، وكان ليأسي المذكور أسباب منها؛ أنّه لا يجمعني به سابقُ معرفة من قريب أو بعيد، ولستُ بالنسبة إليه إلّا واحدًا من قُرَّائِهِ ومتابعيه، وأيضًا ما استقرّ في نفسي - لتجاربَ سَبْقَتْ - من تَرفُّعِ كثير من الأكاديميّين العرب وإحجامهم عن التواصل الإلكترونيّ؛ إمّا لكبر يُلِمّ بهم، أو لأنّهم لا يلقون لهذا النوع من التواصُل بالًا من الأساس.
باغتَني الرفاعيُّ بردٍّ سريع يمتلئ بالودّ الغامر، ثُمَّ كان أنْ أرسلتُ إليه بعضَ المقالات التي أكتبها في بعض المواقع، فكان يخصّني بالنُّصح، يستحسن منها ما يستحسن، ويُعَقِّب على بعضها بتؤدة وحبّ وأناة طريفة، فوقفتُ به على بعضِ مواطن قصوري وضعفي. توطّدَتْ بيننا العلاقةُ سريعًا وتواترتْ بيننا المكالماتُ والرسائلُ وتَسَلْسَلَتْ؛ حتى دعاني إلى المشاركة بالترجمة في مجلّته الرَّائدة في تجديد الفكر الديني (قضايا إسلامية معاصرة) إثْر مطالعته بعض ترجماتي، وكان من ثمار هذا التعاوُن أنْ شاركتُ في عدَدَيْها السابقَيْنِ - يتناولان موضوع مشكلة الشرّ - ببعض التَّرجمات التي وقعتْ منه موقعًا حَسَنًا، وما كان لها أن تتخلّق إلا بتشجيعه المستمر، وإمداده إيّاي بالمدد المعنويّ والروحيّ اللازم.
خلال هذين العامَين، عرفتُ الرفاعيَّ مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا وصديقًا وأبًا عطوفًا، واستحكمتْ بيننا أواصرُ المحبّة واشتدَّتْ حلقاتُها، فكان أن طلب منِّي العملَ على مراجعة مشروعه الفكريّ لغويًّا حول فلسفته في الدين؛ وهو ما تَجَلَّى في كتبه: («الدين والظمأ الأنطولوجي»، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، «الدين وإنقاذ النزعة الإنسانيّة»، «الدين والكرامة الإنسانيّة»، «مقدِّمة في علم الكلام الجديد»)، إذ كان بصدد إصدارها في طبعة جديدة، وفي حُلَّة حديثة مَزيدة ومُنَقَّحَة.
بدأنا رحلةَ مراجعة فصول هذه الكتب فصلًا فصلًا؛ يقوم هو على مراجعة كلّ فصل بنفسه فيزيد ويُنقص، ويقدِّم ويؤخِّر، وما فاجأني أن كان يطلب مني الرأيَ فيما يكتب، وفيما ينقّح ويُعدِّل، وفي تنسيق فصوله وأجزائها، مستمعًا إليَّ بإنصات تامّ وكأنه أُذُن؛ يقبل مني ما يقبل، ويردّ عليّ ما يردّ؛ مُنَاقِشًا إيّاي، ومُعْتَبِرُنِي ندًّا له ولستُ بندّ. لا ينفكّ الرفاعي عن محاولات التعرّف على نفسه بكل طريقة وفي كل شيء، وهو لا يكتفي بولادة واحدة، وإنما يستزيد ولاداته في ديمومة لابثة؛ وأن يولد بتلامذته، وأن يُفَعِّم حيواته بهم، نَحْوٌ من هذا الضرب، وسلوك خاصّ تُجاه التجديد الروحي. انظر إليه يقول: «ولدتُ ولاداتٍ عديدة في حياتي، وما زلتُ أولدُ كلّ يوم من جديد. أولد كل يوم من جديد عبر أخطائي، أولد كل يوم من جديد عبر تجاربي، أولد كل يوم من جديد عبر مطالعاتي، أولد كل يوم من جديد عبر مجازفتي باستئناف النظر في أفكاري، أولد كل يوم من جديد عبر تهوّري في عبور ما هو قارٌّ ومغلق في هويتي، أولد كل يوم من جديد عبر مقدرتي على تجاوز ذاتي، أولد كل يوم من جديد عبر إدراكي لتناقضاتي، أولد كل يوم من جديد عبر اكتشافي لعجزي وجهلي وضعفي، أولد كل يوم من جديد عبر توطُّني التراث وتشبُّعي بمناخاته أكثر من خمسة وأربعين عامًا، أولد كل يوم من جديد عبر قراءاتي وهرولتي المزمنة وراء كل فكرة ومفكر وكتاب ومقال جديد، أولد كل يوم من جديد عبر أسفاري الروحية القلبية العقلية، أولد كل يوم من جديد عبر تنوع وتعدد صداقاتي مع المختلفين عقائديًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا، أولد كل يوم من جديد عبر رحلاتي بين البلدان. الولادة الأثرى تتجلى في أني أولد كل يوم من جديد عبر تلامذتي وأبنائي، بعد أن حررتهم من كافة أنماط التبعيات والعبوديات، ومنها، العبودية لي؛ فحرروني هم فيما بعد من عبودياتي» .
بعد أن انتهينا من مجموع كتبه، قررت كتابة هذه الشهادة، التي استثقلتُها بدايةَ الأمر لِمَا ألفيتُ فيها من مسؤوليّة أتقاصر عنها، إلى جانب تَهَيُّبِي شيطانَ الكتابةَ، إلّا أنَّه كعادَتِه أضرم داخلي جذوةً من ناره الخلَّاقة مرة أخرى. يكتب الرفاعيُّ شذراتِه الإيمانيّة وصورة الإله الرحمانيّ لا تغيب عن ناظره لحظة، يكتب وانهمامه بالإنسان المعذَّب في الأرض لا تنطوي في لاهوته. إنّ الفكرة الرَّئيسَةَ التي رأيتُها تسكن كيانَ هذا الرجل وتسري فيه سريانَ الدم من العروق؛ هي السعي نحو الخلاص الإنسانيّ أرضيًّا؛ عن طريق تَفْعِيل الدين خالِصًا مُخَلِّصًا في نطاق حياتِه الفرديَّة الخاصَّة. إنّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسانَ - أيّ إنسان - يُعاني فقرًا وجوديًّا مُلازِمًا له طول حياته، إذ يفتقر «في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ، لا نهائيّ، لا محدود» ؛ ومن أجل ذلك يسعى إلى إثراء ذاته وإغنائها بكل طريق وطريقة، فيقطع في ذلك مسالك شتّى، ويهوي مهاويَ! وهو في هذا القطع إنْ جَانَبَ سبيلَه إلى المقدَّس، بقيَ في لُجَّةِ عذابِه عائمًا ما دام يرجو إرواء وجودِه بغيره.
لذا فالمقدَّسَ لدى كاتبنا ضرورة وجوديّة لا تنمحي، وحاجة إنسانيّة تداهم الإنسانيّة، ولذلك يتَحَتَّم الوفاءُ بها، والتحقُّق فيها. يقول: «الظمأ الأنطولوجي للمقدَّس يجتاح حياةَ كلِّ إنسان، بوصفِ هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلَّصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في عالَمٍ غارِق بالآلام، ويتسلَّح بطاقة وجوديَّة تجعلُه قادرًا على العيش بأقلّ ما يمكنُ من المرارات والمواجع، ليخرج من القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن الظلام إلى النور» . لا يمكن للإنسان إذن إرواء ذاته، ومَلْئِها بالمعنى بغير هذا المقدَّس. وليس استبدادُ القلق الوجوديّ بالإنسان وتشظِّيه في العالَم إلا مَظْهرًا من مظاهر ابتعادِه عن مصدر الإرواء الحقيقيّ الذي لا ينضب معينُه ولا ينتهي إمدادُه، وما اغترابُه في هذا العالم إلا حالة لازمة لابتعاده عن هذا النوع من الإرواء الحقيقيّ غير المُزَيَّف.
يُولَدُ الإنسانُ وهو في حالة اغتراب حقيقيّ، إذ يفقد دفءَ أمِّه وغذاء رَحِمِهَا في انفصاله عنها بعدما كانا كُلًّا، ويمعن اغترابُه في التوحُّش والإِقْفَارِ ما دامَ منفصلًا عن الله مغتربًا عنه؛ وهو إن أراد نفيَ إملاقِه الروحي، وتشظّيه الميتافيزيقيّ، وخلوّ ذاته عن المعنى في المعنى، فلا سبيل له إلّا عن طريق ائتلافه واجتماعه بالإلهيّ في نفسه واتصاله به، وإذا لم «يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ؛ [الذي] يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفىً عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي» . وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ الرفاعي لا يعني بالاغتراب الميتافيزيقي تفسير فيورباخ الذي يرى أنّ «خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الإنسان مُستلَبًا، عندما صيّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء. الإله في مفهوم فويرباخ مجرد أحلام الإنسان بالكمال» ، وإنّما يعني به الرفاعي: اغترابه عن وجود إلهيّ له حقيقة في الخارج يتشتَّتُ عنها الإنسان وينفصل.
تحريرُ اللاهوتِ من لاهوتِ التّحرير
لا يتجاهل الرفاعيُّ الشرَّ الدينيّ الكائنَ في العالَم، فهو مهموم به انهمامَه بالإنسان ذاته في مأساته الخاصّة، لذا فإنّه يدرك أنّ المقدّس قد يكون مصدرًا جامحًا للشر الأخلاقيّ، فيقول: «مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان... يمكن أن يكون التَدَيُّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد» . ومن أجل ذلك عمل على تجفيف تلك المنابع التي يمكن من خلالها أن يتفشّى هذا النوع من الشرّ المعتمد في وجودِه أساسًا على الدِّين وفكرة المقدَّس؛ ومن هنا جاء تعبيرُه «إنقاذ الإنسانيّة في الدِّين».
يبحث الرفاعي في الكراهية والمصادر التي تشتقّ منها مفاهيمَها الخاصّة، ويرى التراثَ الإسلاميَّ الكلاميَّ والفقهيَّ منبعًا تَستقي منه، لذا دعا إلى ضرورة التحرّر من أسرِه العنيف عن طريق التعامل معه بوصفه استجابةً لمرحلة زمانيّة بعينها؛ لا يمكن تمريرُها وتسليط منطقها الخاصّ على جميع الأزمنة الإنسانيّة الأخرى، إذ ليس التراثُ إلّا «مجموعةَ الممارسات الدينيَّة والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، وهو مفهوم ثقافيّ أنثروبولوجيّ، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسبقات والميول، ومقدّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلّعات الدينية الموروثة من عصور سالفة» . وللمحافظة على جذوة الإيمان متّقدةً، فإنه يدعو إلى إيمان نقديّ يمتلك قدرةَ تَجَاوُزِ الكمِّ التراكميِّ من الشروح والتأويلات المُتَوَلِّدة عن مُجْريَات التاريخ وأحداثه.
كما يدعو الرفاعيُّ إلى وجوب تطهير اللغة من عنف ألفاظِها المتراكمة عبر التاريخ، والتي يستعملها آحادُنا في أحاديثه اليومية دون دراية؛ يقول: «تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحيّة المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصِّراع الدينيّ والطائفيّ، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم» . ليس الأمرُ تطهيرَ اللغة ممّا تراكم فيها من تراكيب وأساليب تتوسَّل التعبير في العنف الكامن فيها فحسب، لكن لا بدّ من التجديد فيها أيضًا، والانتقال عنها إلى غيرها، إذ يتحتّم علينا الانتقال بها من لغة الفقهاء والمتكلِّمين القديمة إلى لغة أخرى حديثة تبتعد عن ألغاز القديمة ومعمياتها، إلى لغةٍ «تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان» .
ولم يقف كاتبُنا عند محاولاتِه الصَّارمة تجفيف المنابع الصريحة التي يستقي منها الشرُّ الدينيُّ مفاهيمَه ومقولاته، لكنّه عمل أيضًا على رفض المحاولات المُضْمَرَة التي من خلالِها يُسْتَرَقُ الدِّينُ؛ كمحاولات أسلمة المعرفة ، والتّجاوز بالدين عن حدوده الأنطولوجيّة في أيّ نسق؛ دينيًّا كان أم فلسفيًّا. من الأفكار التي أولاها الرفاعيّ اهتمامًا بالغًا ونحن في هذا الصَّدَد موضوع ترحيل الدين عن نطاقه الأنطولوجي الرّحب إلى سياقات أخرى وظيفيّة؛ تعمل على سلبه وتكريسه لخدمة أهدافٍ ضيّقة تُمِيتُ رحمانيتَه ورحابتَه الأنطولوجيّة، فتجعله أكثر عنفًا وانغلاقًا ونبذًا للآخر. ومن هنا جاء نقدُه لعلي شريعتي وحسن حنفي اللَّذَيْنِ حاوَلَا بما يملِكان من أدواتٍ معرفيَّة ومهاراتيّة اختزالَ الدين، وتحويله من ثقافة إلى أيديولوجيا عن طريق تثويره، واستلاب رسالته الأصيلة، واستنطاق اليسارِ فيه، لذا يرفض ما سُمِّي «لاهوت التحرير»، وانتقد محاولات شريعتي العشوائيّة لأدلجة الدين، ومحاولات حنفي تخفيض أبعاده الميتافيزيقيّة على حساب الدنيويّة منها.
لا يترك الرفاعيُّ مفهومَه عن «الأيديولجيا» عائمًا غائمًا لا يمكن الوقوف عليه، لكنّه يؤكِّد على أنّه لا يعني بها - في أي كتاب من كتبه - «علم الأفكار، أي دراسة الأفكار دراسةً علميّة... [وإنّما يعني بها] نظامًا لإنتاج المعنى السياسيّ، يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبَة لإنتاج حقيقة متخيّلة، وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ موهم، [وهي بهذا المعنى] تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع» ، فـ «الأيديولجيّ يُزَيِّف اللغةَ؛ يُحْدِثُ انقطاعًا بين الدالِّ والمَدْلُول، بين القول وبين الواقع الذي يتكلّم عليه» . ومن هنا تأتي خطورتُها بشتى أنواعها وأنماطها وتجلِّياتها – في نظر الرفاعي- من أنّها «نسق مغلق، يُغَذِّي الذهنَ بمجموعةِ معتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ نِهَائِيَّةٍ، تعلنُ الحرب على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، فتنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظَّاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ» ، وفيها «يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجر مجالَه الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ ويسقطُ في فخِّ الأيديولوجيا. يتحوَّل الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداةٍ للصِّراع على السُّلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهتْ إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا» .
تحت ظلال تعريفه الأثير للدين من أنّه «حياةٌ في أُفُقِ المعنى»، يُعْمِل الرفاعيُّ مَعَاوِلَ هَدْمِه ويُلَاحِق كلَّ فكرة تتجاوز بالدين طبيعتَه وغاياتِه الموضوعة له من كونه «نظامًا لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، تفرضه حاجةُ الكائنِ البشريِّ الأبديَّةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعيَّة» . ومن ذلك محاولاتُ استراقِه واستلابِه عن طريق أدلجته لدى علي شريعتي، أو تثويره فيما سُمِّي «لاهوت التحرير» لدى حسن حنفي وغيرِه. يشرح الرفاعيُّ «لاهوتَ التحرير»، فيقول إنّه «مصطلح تداوله الباحثون في الستينات من القرن الماضي، وإنْ كان مدلولُه يواكب الأديانَ في مُخْتَلَفِ العُصُورِ، فالأديانُ تسعى إلى مناهَضَةِ الظُّلْمِ والتَّسَلُّط والاستبداد والطغيان... وفي السبعينيّات من القرن العشرين اهتمَّتْ مجموعة من المفكّرين بصوغ رؤيةٍ للمقاومة، تتخطَّى الفقه، وتعمل على الاستناد إلى العقيدة كمنطلقٍ للثورة، بتحليل المدلولِ الاجتماعيِّ لأصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة» .
يُحَدِّثُنَا الرفاعيُّ عن علاقته بحسن حنفي وما أُطْلِقَ عليه «اليسار الإسلامي»، ومن ثَمَّ يُحَلِّلُ أفكارَ مشروعه الأساسية ومنطلقاته الفكريَّة؛ منتهيًا إلى نقدها. يقول: «لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي يختزلُ الدِّينَ في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفةَ المحوريَّةَ للدِّين. الدين أعمق من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعيّان للدين. تحويل الدين إلى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بُعْدٍ واحد، واختزال الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهيّ في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة، والآخرة في الدنيا... وحين يتحوّل الدينيُّ إلى دنيويّ تختلط الحدودُ بينهما، فيجري تعميمُ الفهم الدينيّ لكافَّة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يُفضي إلى التَّضحية بالعَقْلِ والخبرة البشرية المستقلَّة عمَّا هو ديني» .
ورغم ما وجّهه الرفاعي إلى شريعتي من نقد قد يبدو عنيفًا إلّا أنّه لم يُخْفِ إعجابَه بروحه وإيمانه وحسّه الفنيّ، وكان يدرك أنّه ينتقد فيه هذا البُعْد الأصيل من فكره، والخيط الممتدّ في أعماله من ترحيل للدين من سعة الأنطولوجيا إلى ضيق الأيديولوجيا، وأنَّ له أبعادًا أخرى كثيرة قد يقبلها ولا يرفضها. يقول الرفاعي: «تتجلّى في شخصية علي شريعتي أبعادٌ عديدة؛ تتمثّل في: المثقف الرسولي، الداعية النبوي، الأخلاقي، المؤمن، الإنسان، النبيل، الغيور، الشهم، الشاعر، الفنان، الرؤيويّ، الأديب، الناقد، العاطفيّ، العاشق، المتمرد، القَلِق، المُتَبَرِّم، الحالم، الثائر، الفدائيّ... تتداخل في تفكيرِ ومشاعرِ وأحاسيسِ شريعتي عقليةُ الفنَّان، حساسيّات الشاعر، مشاعر العاشق، غيرة المؤمن، ذوق المتصوف، ذوق العارف، أشواق العارف، بوح الشجاع، جسارة المتمرّد، تهوُّر المغامر. وهي أبعاد تبدو متنافرةً؛ ذلك لأنَّها عادةً لا تجتمع كلّها وتتوحَّد في شخصيَّة واحدة بإيقاع كأنَّه متناسق، إلّا في حالات نادرة» .
يُسَدِّد الرفاعيُّ سهامَه أيضًا إلى فكرةٍ تراها جماعاتٌ دينيّة كثيرة أصلًا محوريًّا من أصول الديانة؛ نبع عنها كثيرٌ من العنف الدينيّ في شتّى أنحاء العالم، ما وضع الدِّين في مأزق، وجعله محلّ اتِّهام دائمٍ؛ ألا وهي فكرة الخلافة والدولة الدينيّة، فيرى القائلين بها أسرى الماضي البعيد، ولا يملكون قدرةَ تخطِّي حدود التراث الفقهيّ والعقديّ المرهون بالتاريخ في هذه المسألة، إذ لا يستطيعون فهمَ «المواطنة» فهمًا يتناغم والعصر الحديث، ولا يعرفون فكرةَ العقد الاجتماعيّ بين الحاكم والمحكوم، إلى غير ذلك من وهمٍ طوباويّ، واستدعاء للماضي في الحاضر، وكأنّ الزمان لديهم مفهومٌ جامد قد توقّف هنالك منذ قرون بعيدةٍ دون أن يجري.
يرى الرفاعيُّ محاولاتِ تديين السياسة وخلع أنماط دينية على السُّلطة السياسيَّة توظيفًا للدين وإظلامًا له، إذ يعني حضورُ الدينيّ في السياسيّ -لدى نظامه الفكريّ- دولةً دينيّةً تنتمي إلى «ما قبل الدولة الحديثة؛ دولةً يَعْتَمِدُ تدوينُ دستورِها ومختلفُ تشريعاتها وقوانينها وبرامجها على علم الكلام والفقه وفتاوى الفقهاء» ؛ ما يؤدّي إلى استخدام «مُختلف الوسائل المشروعة كالانتخابات، أو غير المشروعة كالعنف المسلح، بغيةَ بناءِ هذه الدولة، وإغراق حياة المسلمين بأوهام الوعود الخلاصيَّة، والزَّجّ بأعداد غفيرة من الشباب إلى التضحية بمستقبلهم ومصائرهم» . ويُلفِتُ الرفاعيُّ النظر إلى: «أنَّ الإنسانَ الذي هو موضوع دولة المسلمين أمس هو الإنسان بوصفه مسلمًا بالمعنى الكلاميِّ والفقهيّ، أمَّا الإنسانُ الذي هو موضوعُ الدَّولةِ الحديثة فهو الإنسان بوصفه مواطنًا. الإنسانُ بوصفه مسلمًا هو الذي كان يحدّدُ هُويَّةَ الدولة، ويتحكَّم تعريفُه بتوصيف هويتها. كلُّ تشريع وقرار وموقف يُتَّخَذُ في إطار توصيفِ مسلمٍ ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للإسلام، وكلّ ما لا ينتمي إلى الإسلام يُفترض ألّا يكون مكوِّنًا لماهية هذه الدولة" .
غَيْهَبُ الفقهِ والكلامِ الغَابِر
نستقي ممّا سبق أنَّ الحاجةَ أَصْبَحَتْ مُلِحَّةٌ إذن - كما يرى الرفاعيُّ - إلى تفعيل «فلسفة الفقه»، وإلى «علم كلام جديد»، وإلى شجاعة استخدام مناهج حديثة كـ «الهرمنيوطيقا» في تفسير النصوص وفهمها. تأتي محاولاتُ الكاتب هنا استئنافًا للمسألة الدينيّة التي تؤرِّق تفكيرَه. نعم، يحتاج الإنسانُ إلى الدِّين، لكنّ الدينَ يعيش أزمةً بما نتلقَّاه في مجتمعاتنا بمناهجه القديمه، وأفكارِه الزمانيّة المُتَجَاوَزَة، ودوائره التأويليّة الجامدة؛ ما يُحَتِّمُ علينا البحثَ عن أدواتٍ جديدةٍ للفهم، ومن ثَمَّ محاولة ابتناء مناهج فكريّة أخرى تضع الإنسانَ المسلم وغير المسلم ومصالحه وحاجاته نُصْبَ عينيها. ولهذا جاءت محاولاتُ الرفاعيّ في مساهماتٍ تجديديّة غير واهمة، لا تتنكّر للإنسان ولا آلامه وآماله، ولا للدين في أزمته المعاصرة، ولا للعالَم الواقع ومشكلاته المُتَكَاثِرَة؛ ومن هنا انْبَعَثَتْ دعواتُه التجديديّة صوب أبنية الفقه والكلام القديمة المُوشِكَةِ على الانهيار وتدمير بني آدم، وما افتعلاه من مناهج في تأويل الدين وفهم العالَم.
يميّز كاتبُنا بين الفقه وفلسفته فيرى الفقهَ «يتناول ما هو معروف الأحكامَ الشرعيّة لعمل المُكَلَّف، أي أنّه علمُ استنباط الأحكام الشرعيَّة، وتحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة بنحوٍ مستدلّ؛ بالتّوكُّؤ على أدواتٍ وقواعد يجري تنقيحُها في أصول الفقه، بينما لا تبحث فلسفةُ الفقه أسلوبَ الاستنباط، ولا علاقة له ببيان الموقف العمليّ تجاه الشريعة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدانٍ آخر؛ يتناول فيه تشريحَ ماهيّة الفقه، واكتشاف طبيعة نسيجِه الداخليّ ومكوّناته، وكيفيّة نشأته وتطوّره، وتفاعله مع المؤثّرات الزمانيّة والمكانيّة والبيئة الجغرافيّة، والتأثير المتبادل بينه وبين الأعراف والعادات والتقاليد، والعصر الذي أُنْتِجَ في فضائه الثقافي ومحيطه الجغرافيّ، مضافًا إلى دراسة اصطباغ الفقه بمسبقات الفقيهِ وخلفياته ومنظوره الذاتي، ولون ثقافته، وميوله، وبيئته الخاصّة» .
حاز الفقهاءُ سلطةً واسعةً بوصفهم ناطقين عن الشَّارع، مُوَقِّعين عنه كما يُعَبِّر ابنُ القيِّم ، ولم تُعتبر نتاجاتُهم البشريّةُ بشريَّةً، وسعوا هم على مرّ التاريخ أن تكون لهم مقولةٌ في كلّ شيء يخصّ الإنسانَ من مناحي الحياة وضروبها، «واستحوذ الفقهُ على الدين الإسلاميّ بالتدريج، إلى أن احتكرَه بشكل شبه تامٍّ» ، فلا نكاد نجد أمرًا وإن كان مُغْرِقًا في الدنيويّة إلَّا وللفقيه قول مسموع فيه، فجرى تقديسهم عبر الزَّمان على ما حازوا من سلطان على الناس وحيواتهم باسم الكلام الإلهيّ، وصار النّاسُ في حاجة دائمة إليهم ما دامتْ لا تستقيم حياتُهم في الدنيا والآخرة إلّا بوجودِهم. يرى الرفاعيُّ دارسَ الفقه القديم لا يلبث «يغرق... في تفاصيل مدوَّنته التي تضخّمت بالتدريج، وانحسرتْ - تبعًا لتضخُّمِها- معظمُ آفاقِ التفكير الدينيّ الأخرى، وفرضت حضورَها الصّارم على كلِّ ما يتَّصِلُ بأقوال وأفعال المسلم، وأخضعتْ كلَّ حياتِه لمعاييرها. وذلك يفرض تدشين علم قادرٍ على إجراء حفريّات عميقةٍ في المدوّنة الفقهيّة، من خلال تفكيك الأنساق المُوَلِّدَة للمعرفة الفقهيّة، والكشف عن العناصر المختبئة في عمليّة الاستنباط، وأثرها البالغ في توالد المعرفة وتشعّبها ونموها؛ وهذه مهمّة تتكفلها (فلسفةُ الفقه)، وهي علم لا يعتمد العُدَّة المنهجية والمفاهيميّة المعروفة في أصول الفقه أو الفقه، وإنّما ينفتح على فلسفة العلم، والعلوم الإنسانية، والاجتماعيّة المختلفة، ويتوكَّأ على مناهجها ومفاهيمها» .
يحاول الرفاعيّ تفعيلَ فلسفتِه الفقهيّة وجعلها قَيْدَ التطبيق، وهو يدرس الخلاف المُتجدِّد كل عام حول «الهلال» ؛ واضعًا بها أنموذجًا تطبيقيًّا للفلسفة الفقهيّة، إذ يقوم بالحفر عميقًا في البنية الفقهيّة وهي تتناول هذا الموضوع، منتهيًا إلى أنَّ الخلافَ في حقيقته ليس إلّا «محاولة استملاكه رمزيًّا، واحتكاره بغية إثراء رأس المال المقدّس... [وأنّ] الخلاف هو على هلالَين وليس على هلال واحد، فهلال الفقهاء غير هلال الفلكيّين؛ هلالُ [الفقهاء] مؤطَّر بمعنى دينيّ، في حين أنّ هلال الفلكيّين هلال ماديّ، مجرّد من المضمون الديني؛ بوصفه ظاهرةً كونيّة» .
ننتقل الآن إلى ميدان الرفاعيّ الأثير الذي يراه مُنْطلقًا لأيّ تجديد حقيقيّ في الدين، أعني «علم الكلام الجديد». للرفاعيّ قدم السّبق فيه، فكان له اهتمام خاصّ بمسألة تجديد البحث الكلاميّ، بل ويراها أصلًا لأيّ عملية تجديديّة للفكر الإسلاميّ، ولا يمكن لفكر إسلاميّ جديد يريد النهوضَ بنفسه أنْ تكون له قائمة حقيقيّة ونجوع دون التَّحرر من أسر الكلام القديم، ومحاولة ابتناء علم للكلام جديد يقع الإنسانُ منه موقعَ الأصل والمركز. إنَّ «أية بدايةٍ لتجديد التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلمِ الكلام ومسلّماتِه ومقدِّماتِه المنطقية والفلسفية فإنّها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات، لأنَّ علم الكلام يمثل نظرية المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يُحدّد طريقةَ التفكير ونوع مقدّماته ونتائجه» .
صدرتْ مجلةُ «قضايا إسلامية معاصرة» - أسسها ويديرها الرفاعيُّ - مهمومةً بالتجديد، وتناولتْ في خمسة أعداد منها موضوعَ الكلام الجديد . وصدر للرفاعي حديثًا كتاب بعنوان «مقدمة في علم الكلام الجديد»، يقول فيه: «انشغلتُ سنواتٍ طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعتُ البلبلةَ والغموضَ، والتشوُّشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد موضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسَّةَ لتأليف مقدِّمة تحدِّد الإطار العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفِّر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريق ترسم المعالم الأساسيّة لعلم الكلام الجديد» . تكمن أهميّة التجديد في علم الكلام لدى الرفاعيّ «في إطلاق حرية التفكير في العقيدة، وتعدُّد وتنوُّع الآراء والمواقف والمقولات الكلامية. ويعبّر اختلافُ المقولات ووفرتها عن تجسُّد اجتهادات ووجهات نظر متنوعة أفضى إليها التفكيرُ الكلاميُّ، مضافًا إلى أنَّها علامة فارقة على منح كلّ مسلم الحق في اختيار عقيدته، بل وحرمة تقليد غيره في المعتقد» .
يرفض الرفاعي في علم الكلام الجديد أن تكون هناك أجوبة نهائية باتّة للأسئلة الميتافيزيقيّة، فيقول: «ما قاله مؤسِّسُو الفرق ومُؤَلِّفو المقولات الكلاميّة بخصوص رؤيتِهم لله، وصفاته وأفعاله، والوحي والنبوة، وما فهموه من النصوص الدينية، ليس إلا إجابات مرحليّة؛ تعبر عن زمانهم وبيئاتهم وثقافتهم، وما اكتنف حياتَهم الشخصية، وما عاشوه من ظروف مختلفة، عبَّرتْ عنها الصراعاتُ على السلطة والثروة في عصرهم... في علم الكلام الجديد يُعاد بناءُ مفاهيم الذات والصفات، والإيمان والكفر، والقضاء والقدر... كذلك يُعاد إنقاذُ صورة الله التي تشكَّلَتْ في فضاء النِّزاعات، والحروب، والاستبداد، وتَفَشِّي العبوديات، ورسمُ صورة تليق بعدالته، ورحمته، وجماله» . علم الكلام القديم الذي وُلِدَ في عصوره المختلفة إذن لم يكن إلّا «مرآة لحياة المجتمعات الإسلامية، ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة في تلك المجتمعات آنذاك، وتم لاحقًا تعميم الآراء والمقولات الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات. وهي مقولات وآراء لا تعرف أسئلةَ حياتنا الراهنة» ؛ ما يدعو إلى ضرورة العمل على ابتناء كلام جديد يناسب راهن العصر وأسئلته وتحديّاته، ويتساوق مع الإنسان ولا يتناساه؛ مُلَبِّيًا حاجاته الروحيّة والماديّة في الدّنيا قبل الآخرة.
ينبني التجديدُ في علم الكلام على أصول فصَّلها الرفاعيُّ في كتابه؛ منها: إعادة تعريف الإنسان، والكشف عمّا يمكن أن يُقَدِّمه الدينُ إليه من معنى روحيّ وجماليّ، والإقبال على التراث دراسة واستكشافًا، واستلهام جوانبه العقليّة والروحيّة منه والتقاط ما هو حيّ ومُحْييٍ منه وترك ما هو ميّت ومُمِيت فيه، والإقبال على العلوم والمعارف الحديثة ومحاولة استيعابها، ولا سيما العلوم الإنسانيّة، ومحاولة استخدام المناهج والأدوات الحديثة في فهم النصوص وتفسيرها، ودراسة الأديان ومقارنتُها، والكشف عن أنماط التديُّن والإيمان عبر التاريخ، وضرورة التحرُّر من التفسيرات الحرفيّة المغلقة للنصوص الدينيّة، وعدم الانغلاق في التراث ومحاولة استحداث أفكارٍ جديدة تخدم الإنسان دون الخروج عن النّسق الميتافيزيقي للدين؛ أفكارٍ تفسِّر الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا لا يكون فيه النبيُّ منفعلًا بصورة سلبيَّة، بل متفاعلًا بصورة إيجابيّة، وتبني الصِّلةَ بين الله وعبده على أساس من المحبة لا على القهر والاستعباد، وتوقظ المعنى الروحيّ وتعزِّزه في النفس الإنسانية لتجد هناءها في هذا العالَم، أفكارٍ تتسامح وتعدّدية تأويل النص القرآنيّ، وتنفتح على الأفهام والأطروحات الجديدة.
إنّه مع تكاثر دعوات التجديد والإصلاح في علم الكلام، وتوالُد الأطروحات التي تتبنّى اسم التجديد، فإنّ الرفاعيّ يطرح معيارًا يمكن على أساسه تصنيف فكر ما بأنّه كلام جديد، أو مفكِّر ما على أنّه متكلِّم جديد؛ «ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأنَّ طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية» . ولا يعني الرفاعيّ بالتجديد في فهم الوحي إهدارَ مضمونه الميتافيزيقي بأي معنًى، بل يرى أيّ محاولة تنأى بالوحي عن طبيعته الإلهيّة لا تدخل في نطاق الكلام الجديد، إذ الوحي - في نظره - ذو بعدَين؛ «بعد إلهيّ، وبعد بشريّ، فهو من حيث تعبيره عن الله إلهيّ، وهو من حيث تعبيره عن الإنسان بشريّ» ، ولذلك على المتكلم الجديد أنْ «يفكِّك بين الوحي من حيث هو، أي حقيقة الوحي، ومن حيث تمثُّلاته المتنوِّعة في الحياة الفردية والمجتمعية في مختلف العصور، و[أنْ] يحرص على تحرير معنى الوحي من إكراهاتِ التاريخ وصراعاتِ البشر وحروبِهم» .
جاءَ تثمينُ الرفاعيُّ للدَّورِ الذي قام به أمين الخولي في السياق العربيّ من الدعوة إلى استخدام «الهرمنيوطيقا» أداةً في فهم النصوص الدينيّة من جهة كونِه من أوائل من دعا إلى استخدم أدوات منهجية جديدة في الفهم والتأويل، بل وكان أوّل من حاول أن يجد للهرمنيوطيقا مكانًا في السياق العربي والإسلاميّ. يرفض الخولي انحصارَ الدعوة إلى الاجتهاد الفقهيّ دون الاجتهاد الكلاميّ، ويرى التطوّرَ سنةً شاملةً تُلَابِسُ جميع المعارِف الإنسانيّة بأنواعها، وهي تشمل العقائد بدورها كذلك. يجب على العقائد –مثلها مثل الأحكام الفقهيّة - مواكبة مجريات الأحداث والأزمان لتظلّ مواءمة لحاجات الإنسان الروحيّة والمعنويّة، ملبِّيَةً إيّاها، لذا يرفض الخولي أيَّ قراءة لاتاريخيّة للتراث، فالتراث بشتى أنواعه وضروبه لم يكن إلّا ناطقًا عن ظروف عصره الذي ظهر وتشكّل فيه، مُستَجِيبًا لراهن زمانه، ومعالجًا مشكلاتِه التي كان يعاني منها.
وقد تناول الرفاعيَّ أمين الخولي بوصفه أوَّل هرمنيوطيقيّ في الإسلام قبل تلميذه محمد أحمد خلف الله ، وقبل نصر حامد أبو زيد في أعماله الهرمنيوطيقيّة ، يقول: «فرادةُ الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة لتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهجِ الجديدةِ في تفسير النصوص في مجال الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ وتتبعٍ يمكن القولُ إنَّ الخولي هو أولُ هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالَم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية» . ورغم أنَّ الرفاعيّ يرى كلَّ مَنْ يرى رأيًا جديدًا في الوحي - داخل إطار الدينيّ لا خارجًا عنه - صاحبُ رؤية كلاميّة تجديديّة، إلّا أنّه تعثّر في الوقوف على رأي للخولي في ذلك؛ ما يحمله على القول بأنّه لم يمارس التجديد في البحث الكلاميّ، ولكنّه قضى حياتَه لابثًا في الدعوة إلى التجديد فحسب، مهمومًا بإقحام الهرمنيوطيقا داخل سياق التفكير الدينيّ لدى الباحث المسلم.
ولنعرِّج قليلًا على «الهرمنيوطيقا» ومعناها. صدرتْ عن «قضايا إسلاميّة معاصرة» خمسةُ أعداد تتناولها . تعني الهرمنيوطيقا (نظرية التأويل) باختزالٍ «المبحثَ الخاصّ بدراسة عمليّات الفهم؛ وخاصة فيما يتعلّق بتأويل النصوص» ، وهي - حسب تعبير رودولف بولتمان Rudolf Bultmann-: «فنُّ فهمِ تعبيراتِ الحياة المكتوبة» . «تأتي كلمةُ هرمنيوطيقا من الفعل اليوناني Hermeneuein، ويعني (يُفَسِّر)، والاسم Hermeneia، ويعني (تفسير). ويبدو أنّ كليهما يتعلق لغويًّا بالإله هرمس Hermes؛ رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو؛ الذي كان بحكم وظيفته يُتْقِنُ لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الآلهة الخالدة، ثم يُتَرْجِمُ مقاصدَها وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر... ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا، وخصائص الإله هرمس هي صواب مؤكَّد» .
وقبل الانتقال عن علم الكلام الجديد ينبغي الإتيان على مقابلة الرفاعي بين محمد إقبال ومحمد عبده والتي بَدَتْ صادمة لدى لبعض، إذ انتهى إلى زيف ما يُسْنَد إلى محمد عبده من تجديد، مُثَمِّنًا الدور الذي لعبه محمد إقبال الذي لو لم ينغمس في السياسة ودروبها لأخرج لنا منهجًا كلاميًّا متكامل البنيان. لم يتعدَّ التجديدُ المنسوبُ إلى محمد عبده نطاقَ إطلاق بعض الفتاوى الجديدة مع الإبقاء على أصول الفقه والكلام راسخًا في أصل مقالاتِه الدينيّة؛ وتجريد علم الكلام من أثقاله الخلافيّة، وتطعميه ببعض الآراء والرّؤى العقلانيّة. ورغم كل ما نسب إلى محمد عبده من إصلاح ديني وتجديد إلا أنَّه كان مسكونًا بالماضي، بل ولم يغادره قيد أنملة؛ و«بناءً على ذلك لا يمكننا وضعُ جهود محمد عبده وأمثاله في خانة الكلام الجديد، لأنه كان يفكّر بذهنيةٍ كلاميَّةٍ قديمة، ويفتقر للحسِّ التاريخي، ولم يجتهد في بناء مفهومٍ للوحي خارج الذهنية التقليدية. علمُ التوحيد لديه هو الكلامُ التقليدي ذاته» .
ما بدا صادمًا في رأي الرفاعيّ نجد صداه حتى لدى من يتناولون محمد عبده تناوُلًا تبجيليًّا – إن صحّ القولُ - ويرونَه مُجَدِّدًا كلاميًّا، فلأحمد الطيِّب مثلًا بحث صغير بعنوان «الإمام محمد عبده متكلِّمًا»، يقول فيها: «وتُعَدُّ (رسالة التوحيد) للإمام محمد عبده النّصَّ الوحيد المُوَثَّق، الذي يبحثُ فيه عن فلسفة الإمامِ الكلاميّة، ورؤيته التجديديّة ومدى تَحَرُّرِه من علم الكلام التقليديّ أو تأثّره به» . يرى الطيِّبُ أنّه رغم تحرُّر محمد عبده من المذهبيّة الكلاميّة ودورانه مع الفلاسفة تارة، ومع المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة تارةً أخرى إلّا أنّه لم يأتِ في الحقيقة برأي جديد لم يكن موجودًا في التراث الفلسفيّ أو الكلاميّ من قبل، وأنّه إنْ أردنا الوقوف على مظاهر التجديد في رسالته تلك فإنّها لن تخرج عن كونه لا يتقيّد بمذهب عقديّ بعينه، ولا تتجاوز اعتداده الشديد بالعقل مرجعيةً يضع لها حدودَها، ولا تتعدَّى تجديدَه في أساليب البرهنة بما يُلامِسُ فلسفات عصره ومعارفها . وهذا ما نراه أيضًا في تناوُلِ حسن الشافعيّ لمحمد عبده إلا أنّه يزيد في ذلك حُسْنَ ترتيبه للمسائل الكلاميّة من حيث وزنها وأهميّتها في نظر الفكر المعاصر، ووقوفه موقفًا معتدلًا بين الكلام والتصوف، وبين متقدّمي المتكلمين ومتأخِّريهم.
أمّا محمد إقبال فقد كان على خلاف ذلك، إذ «سعى إلى زحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفيةً بذاتها، وإنّما اغتنتْ بما استوعَبَتْهُ، وتمثَّلَتْه في معارف الآخر» كما رأى الرفاعي. فمع إقبال يدخل الكلامُ الجديدُ مسارًا مختلفًا تُوضَع فيه لبناتٌ أساسيّة يُبْتَنَى عليها، ولا تُكَرِّرُ الماضي ولا تنحو نحوَه، وخلافًا لمحمد عبده الذي لم يَرَ رأيًا في الوحي جديدًا غير الرأي القديم الذي أعاده وكرّره بلغة مدرسيَّة، فإنّ محمد إقبال قد ناقش مسألة الوحي نقاشًا جديدًا يجعله من واضعي لبنات هذا العلم الناشئ. يقول الرفاعيّ: «كتب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وهو أول نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد... عالج فيه التجربة الدينيّة، وصاغ مفهومًا للوحي يتمحور حول هذه التجربة، وميَّز بين تجربةِ الأنبياء وتجربة العرفاء؛ ذلك أنَّ الثانية يبقى صاحبُها حبيسًا فيها ولا يخرج من فضائها، فيما يتخطّى النبيُّ تجربتَه الشخصيّة، لأنها تمنح شخصيّته إرادة تغيير العالَم، وجعل إقبال الحاجةَ لوحي الرسالة الإلهية تختصُّ بمرحلةٍ من مراحل الوعي البشريّ، فإذا بلغ العقلُ رشدَه اعتمد على نفسه، ولم يعُد بحاجة إلى ما هو خارج عنه كي يتطوَّر ويتكامل» .
وبمراعاة ما سبق ذِكرُه من أمر هذه المقارنة؛ يرجو الرفاعيُّ «الباحثين والمهتمين بالشيخ محمد عبده العودة إلى تراثه وغربلته، وتقييمه ونقده، والخلاص من الأحكام التبجيلية، ومنطق الثناء، والمديح الزائف... [التي تمنع من التمييز] بين المعرفة البسيطة في آثار محمد عبده، والمعرفة المركبة في آثار محمد إقبال» ، فالأزمة الحقيقيّة - كما يرى - في المحاولات التجديديّة رغم جرأتها أنّها «لم تغادرْ المناهجَ التقليديَّةَ الموروثة، إذ كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه في فهمه ونقده، وقلّما حاول بعضُهم توظيفَ مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في فهم الدِّين ونَقْدِ التُّراث» .
الإيمانُ لغةً للحبّ
يرنو الرفاعيّ إلى الانتقال بالدين من ضيق الأيديولوجيا إلى سَعَة الأنطولوجيا، ومن أطلال الفقه السَّليط إلى رَبْوَةِ الفلسفة، ومن ركام الكلام الغابر إلى آخرَ إنسانيٍّ جديد، وإلى أنسنة الديني بديلًا عن تديين الدنيويّ، وإلى لاهوت الحريَّة بديلًا عن لاهوت الاسترقاق، وإلى لغة تراحُميّة بدلًا من لغة اصطراعيّة. ويذهب – في أعماله كلِّها - إلى تطهير ساحة الدين من دَنَس السياسة وافتقارها الروحي، وإلى تحرير اللاهوت بديلًا عن لاهوت التحرير، وإلى مفارقة عنف الأسماء إلى أنفاس الرحمان، وإلى عبادة الله عن حب ورغبة لا عن خوف ورهبة، وإلى الارتحال بالدّين من فضاء المعتقد والمذهب إلى رحابة الإيمان حيث تتحدّثُ الأديانُ لغةً واحدة، وحيث يستوحي المؤمنون «إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة؛ تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم» ، وحيث يتكشّف «الإيمانُ حقيقةً يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةً تتوحّد في فضائها، ومنبعًا مُلهِمًا للحياة الدينية فيها» .
ليس تعدُّد الصور الإلهيّة في العالَم إلّا لتعدّد الأفهام واختلاف الأنظار؛ يقول الرفاعي: «صورةُ اللهِ هي أول ممارسة تأويلية مارسها البشر، إذ اشتقّ أول البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوّرون اللهَ على صورهم المتنوعة، المنتزعة من عوالمهم المتنوعة. بنو آدم لا صورة نهائية يصلون إليها، لذا فإن الله لا صورة نهائية له. اللاتناهي للصور هنا هو لاتناهي وعي بني آدم وتأويلهم» . لعلّ ما يذهب إليه الرفاعيّ من تنوّع صُوَرِ اللهِ في أذهان البشر تبعًا لتعدُّد تأويلاتهم الخاصّة استدعاءٌ لما يذهب إليه ابنُ عربي من أنّ تعدُّد الأديان والآلهة في العالم راجع إلى ظهورات أسماءِ الله وتقيُّدها بصورةِ الحقّ في أذهان البشر؛ انظر إليه يقول: «والذَّوقُ مُخْتَلِف، ولمَّا ذُقْنَا هذا الأمرَ كان التّنَزُّلُ فُرْقَانيًّا، فقلنا هذا حلال، وهذا حرام، وهذا مباح، وتَنَوَّعَتِ المَشَارِبُ، واختلفتِ المذاهبُ، وتميَّزَتِ المراتبُ، وظهرتِ الأسماءُ الإلهيَّةُ والآثارُ الكونيّةُ، وكثُرَتِ الأسماءُ والآلهةُ في العالَم» .
ورغم هذه الرؤية المنفتحة للرفاعيّ في التعدّديّة الدينيّة إلّا أنّه يرى أنّ الإيمان لا يمكن تحقُّقُه إلّا في صورة اتِّباع دين من الأديان، وتلمّس منطقه الخاص في العبادات، فعلى كلّ مؤمن ممارسة دينه بانحصارٍ في منطقها الشعائريّ، إذ الإيمان: «جَذْوَةٌ مُشْتَعِلَة؛ وهذه الجذوة بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئًا فشيئًا حتى تنطفئ. ما لم تتكرَّر الطقوسُ والصلاة في سياق عبادِيّ مرسوم، يذبل الإيمانُ، ويذوي حتى يصير حطامًا... القولُ بأنّ لكل شخص عبادته وصلاته الخاصّة كلام غريب على منطق الأديان... وأغرب منه محاولاتُ بعض الناس ترقيع والتقاط عناصر متضاربة من أديان مختلفة... وممارستها بشكل يمحق الدِّين، وينتحل حالةً زائفةً للإيمان» . وبذلك لا يرى الرفاعيّ خلاصًا للإنسان إلّا في الإيمان المُعَزَّز بدين خاصّ له منطقه الشعائريّ، وعلى هذا الدّين أن يكون رحمانيًّا يتوسّل صفات اللهِ في العفو والصّفح؛ يتخلق بها ويتمثّلها في سلوكه تُجاه العالَم... هكذا يعيش الإنسانُ تلتزمه كرامتُه وحريتُه قيمتَين ثابتَتَيْن في كينونة نفسه، ويحيا عين إنسانيّته، فهو مصنوع في أصله على عين الله؛ نفخ فيه من روحه، وعلَّمَه، وظهر من خلاله في هذا العالَم الكبير.
يصير الإنسانُ هكذا إنسانًا متجانسًا بالألوهية الكامنة فيه؛ يسلك في عالمه سلوكًا إيمانيًّا متوسِّلًا رحمة الإله، متخلِّقًا بأخلاقه عفوًا وصفحًا، وبذلك ينطوي الشرُّ الدينيّ في العالم منطمسًا بتآلف الأديان في طيَّاتِ الفضاء الإيماني، ومساقاتِه المنبسطة بالحبّ.
يقول فلاسفةُ اليونان إنّ الإنسانَ حيوان ناطق، والنطق فيه علامة على وجود العقل الذي يمتازُ به عن سائر الحيوان، ويقول الرفاعي إنّ الإنسانَ حيوان كريم؛ حيوان بما أُودِعت فيه من حياةٍ هي نفخة إلهيّة مخصوصة، وكريم بالمنح والفضل الإلهيّ السَّاري في وجوده؛ «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء: 70). تتخذ الكرامة في سياقها القرآني قيمة عليا تبتني عليها وتشتق منها قيم الدين ومقاصده عند الرفاعي. يتحدث عن هدف كتابه الأخير "الدين والكرامة الإنسانية" بقوله: "هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين. الإنسانُ يولَد مُكرّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله اللهُ قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض" .
من مهامِّ الدِّين الرحمانيّ - الذي أرادَه الله، والذي يفتقر إليه الإنسان لنفي اغترابه في انفصاله عن الله - أن يحافظ على كرامة الإنسان، وأن يُرَسِّخ وجودها في العالَم، فـ «التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي، أي أنَّه مكوّنٌ ذاتيّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغضّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية» .
خِتَامُ رَاجٍ
عانقتْني أوراقُ الإيمانِ تلك فعانقتُها، وتحسَّسْتُ بها شغافَ قلبي، ومواطنَ الحبّ داخلي، فكنت أقرأ نصوصَها، فلا تمكث تقرأني وتصوّبني، ترميني وتتلقّفُني، منهمرةً عليّ دون إمساك، منسابة عليَّ نهرًا يروي الظامئ وما وَرَد، مناجيةً إيّايَ نجوى حبيب انشقّ الفؤادُ عنه، وأصدق أقول إنَّنِي خرجتُ عنها إليها في طور وجوديّ آخر، وشأن من شؤون الله. خرجتُ عنها مبهوت العقل، آمِن القلب، وديع الروح، مُتَمَثِّلًا غاية الرفاعيّ في قوله: «غرضُ كتاباتي سكينةُ الروح، وطمأنينةُ القلب، وإيقاظُ العقل» .
طالعتُ هذه المجموعة وطالعتْني، قرأتُها وقرأتْني، وما خرجتُ عنها يوم خرجتُ إلّا إليها، أَتَظَاهَرُ بها عليها. إنّها رحلة إيمانيّة لمن أراد الإيمان، ودفاتر نقديّة لمن رام العقل، وأفكار مثيرة لمن أراد الجدل.
وكما تظهر الأسماءُ الإلهيّة في العالم وتتكشّف وتتجلّى في محالِّها، فإنّه ما عاينتُ اسمًا ظاهرًا في منطوقها، أو كامنًا بين ألفاظها وسطورها كاسم الله الرحمن الرحيم الذي لم يغب عنّي لحظةً مدّةَ إقامتي بجنباتها، ونزولي عليها، ونزولها عليّ. ويكفيها حسنًا وجمالًا ما أُلْبِسَتْ من رداء رحمانيّ، ولا أحسب يخلو قُرَّاؤها عن أربع؛ متفاعل معها بالقبول والإثبات في عصر يعتريه الشكُّ والريبة، أو معتبرٍ إياها نصًّا مؤسِّسًا يُحشِّي عليه شرحًا ونقدًا، أو مستضيئٍ بها أمورًا وأبوابًا لم يطرقْها قبل، أو مُناهضٍ للمقدَّس تَحَيَّد بها إن قرأها دون استبداد مِنْ تَحَيُّز.
وأنتهي إلى قول ورجاء؛ تمتاز هذه المجموعة في أجزائها وثناياها التي تناقش ما يتعلّق بالدين، بطريقة مازجة بين العقل والروح والأسلوب الأدبي بأنّها الأفضل والأكثر نجوعًا وتأثيرًا في رأيي ، وما زلتُ أرجو الرفاعي كتابة سيرته الذاتية بأسلوبه الأدبيّ الفلسفيّ، وألّا يحرمنا تدوين رواية أو قصّة تحكي فلسفتَه الإيمانيّة - على الطريقة الحديثة - يحشد فيها آراءه الدينيّة بطريقته التي يَغْشَى فيها الروحُ العقلَ، والعقلُ الروحَ، فتنفذ إذا ما كان النفاذُ بسلطان.
انتقلتُ شابًّا حَدَثًا إلى القاهرة مُفَعَّمًا بطاقةِ التعلُّم، ممتلئًا عن آخري بإرادة واحدة؛ وهي أن أتعلّم علومَ الإسلام، وبالفعل لم تكد تُلامِسُ قدماي حيَّ الدرَّاسَةِ بالقاهرة القديمة إلَّا والتمستُ سَكَنًا لي بجانب الجامع الأزهر، وصار برنامجي اليوميّ رتيبًا بعض الشيء إلى أن تخرجتُ في الجامعة؛ أصحو قبيل الفجر وأذهبُ للصلاة في جامع الإمام الحسين، وأقرأ وردي اليوميَّ من القرآن، ثم أذهب إلى الجامعة الأزهريّة، ومن ثمّ أعود لأدرك ما يمكن إدراكُه من دروس الجامع الأزهر في الفقه وأصوله، والكلام والمنطق، وعلوم اللغة من نحو وصرف وأدب وبلاغة.
وقع الكلامُ في عقلي موقعًا، وتلبّسْتُ بحالةٍ كبريائيّة منه، إذ عكفتُ على دراسة الكلام والمنطق وحضور دروسهما عكوفًا جعلني أهجر ما عداهما، وأعدّهما العلمَ لا غير. درستُ الكلامَ على المذهب الأشعريّ مع مَيل إلى الماتريديّة بعد حين، ونزوع شديد نحو الاعتزال نهاية الأمر. أورثتني دراسةُ العقيدة على طريقة المتكلّمين نوعًا من الجَفَاف الرُّوحي الذي جعلتُ أعانيه مدّة ليست بالقليلة. وأصابني ضمورٌ روحيّ وضياعٌ أفقدَنِي طلاوةَ الإيمان، فكنتُ أقف في صلاتي أستدعي الخشوع، فلا تأتيني إلا العَبْرَةُ بعد العَبْرَة على ما وصلتْ إليه نفسي.
وما زاد في الأمر من سوءٍ ما أثقلتْني به كتبُ الكلام والفِرَق من حَسَدٍ وبُغْضٍ اندفن في قيعاني تُجاه كلّ ما يخالفني؛ إلى أن صار اللهُ في عالَمي إلهًا نستملكه، ونتحاسد لأجله، ونتباغض في سبيله. حاولتُ الهروبَ بقلبي المُتْعَب، وروحي الضّائعة إلى علوم العربية، وحاولتُ فيها نفسي أجمع شتاتها، فوقفتُ عليها في اللغة، وجعلتْ روحي تتظاهر حتى بَدَتْ منطوقةً بلسان غير اللسان. اقتحمتُ هذه العلومَ فرارًا من أخرى نَكْفُرُ فيها أو نبتدع إن أخطأنا أو خالفنا إجماع مَنْ أجمع. وهكذا ولجتُ بابَ الأدب والشِّعْر هربًا من الفكرة والرأي، ومدافعةً لكلِّ جدل أو إرادةِ جدل.
تكشَّفَتْ نفسي في ابتعادي عمّا أرهقها لكنّها ظلّت في فقرِها الروحي غير مؤتلفة؛ عطشى تعاني ممّا أسماهُ الرفاعيُّ بالظّمأ الأنطولوجي للمقدس، «الحنين إلى الوجود... ظمأ الكينونة البشريّة» ، وما أمعن في إضنائِها أكثر ما نعيشه في عالَم استهلاكيّ من الطراز الأوّل؛ تتكاثر فيه حاجاتُ الإنسانِ دون تَنَاهٍ، فنعيش بسببها آلامًا متواترة تنتهبُ وجودَنا، ولا يستطيع معها أحدُنا مهما بَلَغَتْ به النعمةُ من رخاء ماديّ تحصيلَ هذه الحاجات جميعها لعدم تناهيها، فنحن ودون إرادة منا نعيش عالمًا «ديدنه توهينُ المنظومة الروحيّة... والمغالاة في شأن المنظومة الماديّة» ، عالمًا يعيش فيه الإنسانُ «وكأنّ التغيُّرَ والتقلُّبَ طبعُه وديدنُه، فكأنّه منذور للحركة التي لا تتوقّف، وللاضطراب الذي لا قرار معه» .
وبذلك، انطفأ وِجْدَاني أو قارب، وأصاب روحي عطشٌ، واحتلّ الظمأُ نفسي تحت هذه الظلال، وعشتُ متألِّمًا، أطلب الرِّيَّ في غير الله؛ في القراءة والموسيقى والأسفار الأرضيّة، وأخيرًا طلبتُه في الحبّ الأرضيّ الذي علّمني معنى الحبّ في عذوبته، ومعنى أن أعرف نفسي وأحبها، بل وأوصَلَنِي إلى حبّ الله، وأخذتُ عنه أنَّ الحقيقة الإلهيّة الباطنة في الأشياء «لا يمكن أن يظفر بها أحدٌ بطريق مباشر ووقتيّ إلا هؤلاء الذين اختاروا أنْ يخضعوا لشروطٍ خاصَّة؛ أنْ يحملوا أنفسَهم على الحبّ، وأن يكونوا أنقياءَ القلب، مساكينَ بالروح» ، فالعشق - درجة عالية من درجات الحب - هو ذلك الأسطرلاب الذي يكشف الأسرار كما يرى جلال الدين الرومي .
ذاكَ هو أنت، أو غسق الأنا
لم تفارقْ نفسي مُلَاحقَةَ الإلهيّ في كل شيءٍ، فطلبتُ اللهَ في كُلٍّ، ولم أنزع أبدًا - على تَقَلُّبِي بين المذاهب - إلى جحودٍ به. طلبتُه في مدوّنات الكلام والفرق، فألفيتُه إلهًا عقليًّا جافًّا وجامدًا تتنازعه الفرقُ وتتناحر عليه، فما قبلتُه، وقلتُ: لا أحبّ الجامدين. وطلبتُه في مدونات الفقه، فظهر ربًّا ماسخًا يريد التسلُّط على كلِّ شيء في حياتي وحياة الناس، فأشحتُ عنه وقلتُ: لا أحب المتسلِّطِين. وطلبتُه في مدوّنات التصوّف الطُّرُقِيّ، فوجدتُ أصحابَهُ يُلْزِمُون السَّالِكَ مسالكَ، ويُلبسونَه ملابسَ، ويقمعونه مقامعَ، فما أسلمتُ قيادي، وانطردتُ لَمَّا اعترضتُ، وقلتُ: لستُ أحب الخرافة. وطلبتُه في أدبيَّات الإسلام السياسيّ، فوجدتُ إلهًا شائهًا؛ مَلِكًا توَّاقًا إلى السُّلطة، والاستبداد بالحكم، والتحكُّم في رقاب الناس، فقلتُ: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا» (النمل: 34). طلبتُه في الأشياء من حولي، وطفقتُ عنه مسحًا بالآثار، فما كاد يظهر إليّ إلا بالقدر الذي يتخفّى فيه؛ وعرفتُ أنَّ الإيمان الذي يُتوصَّل إليه بغيره ليس إيمانًا، وعرفتُ أنَّ الإنكارَ الذي يكون بالآثار ليس إنكارًا، بل هو إيمان، فكيف يطمئنُّ إيمانٌ بالأسباب شديدةِ الخفاء، وكيف يستقيمُ إنكارٌ من شدّة الظهور؟!
ما وجدتُ الله إلا في نفسي، وما رأيتُه حقًّا إلا عندما رأيتُني حقًّا، فالدليل عليه هو، والطريق به إليه، ومن استعانَ به أعانه، ومن طلبه دون وساطة تجلّى عليه وإليه. عندما نتَّصل به بهذه الصورة في أنفُسِنا؛ ندرك عن طريق تجربته واختباره أنّه إلهُ العالَمين حقًّا وصدقًا، وأنّه رحمان تتَّسع رحمتُه كلَّ شيء في الدنيا والآخرة؛ بل ولعلَّها تتسع للمُنكِر قبل المؤمن، وللجاحد والمعاند قبل المُذعن، ونعرف أن كلَّ تصوير له حدّ، وكلَّ عقيدة فيه تحييز، وكلَّ مذهب إليه مقطوع الصلة، فهو لا يُحَدّ، ولا يحويه مذهب أو اعتقاد.
إدراك الله الرحمانيّ في الذَّات يُذَوِّبُ النفس ويصْهرُها في رأفةٍ، ويجعلها تقف موقفًا منغمسًا في الرحمة تجاه الخلق المتكاثر بالله، فالمخلوقات على تنوُّعها وتدرُّجها وترتُّبها تظهر لعارف الله في نفسِه على أنّها آثارُ الله الإلهيّة المباشرة، وعلى أنّها كلمات الله وأنفاسه في العالَم. إنّ الله - في مفهوم المتصوفة - هو الكنز المخفيّ الذي ظهر للعالَم في العالَم بالعالَم. استُلْهِمَ مفهومُ الكنز المخفيّ من حديث قدسيّ يقول: «كنتُ كنزًا لم أُعْرَف، فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ، وتعرَّفتُ إليهم فعرفوني» . تكاثَر الوجودُ الواحدُ في مخلوقاته العديدة إذن، وعمَّت أنفاسُه التجديديّة المُتَّصِلَة الكونَ كلّه. ورغم أنَّ الصوفيّة يرون الطُرُقَ إلى الله على عدد أنفاس الخلائق كما يجري على ألسنتهم، إلّا أنَّ من أقصر طرقه إليه وأشدّها لصوقًا بالإنسان استبطانُ الذّات ومعرفة الله كامنًا فيها، يداخلها فيُخارجُها، يُباطنِها ويظاهرها، ويفترق عنها إذ يتّصل بها.
وجدتُ الرفاعيَّ يرمي إلى ذلك في مشروعه الفكري؛ أنْ يجدَ الإنسانُ نفسَه، وأن يعرف اللهَ فيها، وأن يسلك بالله سلوكًا رحمانيًّا في العالَم، ولا يتحقّق هذا إلّا بفهم بديل عن الدين حاول إبرازَ معالمِه، ووضع أيدينا على مفهوم الرّحمة كمفهوم مركزيّ لفهم الدين، ومفهوم مفتاحيّ لمعالجة القرآن والتّعاطي معه. يقول: «رأيتُ الرحمةَ تمثّل مفتاحَ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن، فقد اتخذت الرحمةُ فضاءً واسعًا في القرآنِ الكريم لم تتخذه في الكتابِ المقدّس وغيرِه من نصوص الأديان، إذ وردت بصيغٍ متنوّعة في القرآن تصرّح بشمولِها كلَّ شَيْءٍ وعدمِ خروجِ أيّ شَيْءٍ عنها، وهو ما تحدّثتْ به آياتٌ متعددةٌ» ، بل وإنِ احتُسِبَت البسملةُ آيةً في كلِّ سورة من سور القرآن كما يرى جماعةٌ من المفسِّرين، فهذا يعني أنَّها «تبوح بلغة الرحمة التي يتأطَّرُ بها المضمونُ الكليُّ [لِسُوَر القرآن]، و[أن] معناها يتنوّع بتنوّع مقاصد السور وما ترمِي إليه مفاهيمُها... إنّها حاكمة على كلِّ المفاهيم التي تتحدَّث عنها آياتُ [أيّ سورة]... إنّ افتتاحَ كلِّ سورة بالبسملةِ يعني أن الرحمةَ الناطقةَ بها البسملةُ مهيمنةٌ على المدلول العامّ للسورة» .
يؤسِّس الرفاعي فهمه للدين إذن على «إعادةِ تعريف الإنسان، وإعادةِ تعريف الدين، وإعادةِ قراءة نصوصه في أفق العصر، وإعادةِ تحديد وظيفته في الحياة، والكشف عمَّا يمكن أن يقدّمَه الدينُ للإنسان من احتياجاتٍ روحيَّة وأخلاقية وجمالية، وما يترقبه الإنسانُ من عواطفٍ ورفقٍ وشفقة ورحمة يمنحها الدينُ للحياة، وما يُلهِمَه للروح من سكينة، وللقلب من طمأنينة». وفي ضوء ذلك يعيد تعريفَه الخاصّ للدين «بوصفه حياةً في أُفق المعنى؛ تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية» .
عرفانُ التَّحرير
حضرتُ معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2014م كما اعتدتُ ألّا يمرّ عام إلا وأشارك فيه زائرًا، وكانت أولى مصافحات عيني لاسم عبد الجبار الرفاعي، إذ وقعتُ على كتابه الذي كان بعنوان: «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدّين» ، فتساءلتُ؛ أيّ نزعة إنسانيّة تلك يريد هذا الكاتبُ إنقاذَها؟ طالعتُ فهرسَ الكتاب، فأَخَذَتْنِي فصولُه وأسرتْني أسماؤُها، ولم يمرّ كثيرُ وقت إلّا وطالعتُ الكتابَ كلّه، وخرجتُ بانطباع عامّ عن شخصيّة هذا الكاتب، وعرفتُه حينئذٍ مهمومًا بالإنسان، مأخوذًا بقول ابن عربي الذي صَدَّرَ به كتابَه: «واعلَم أنّ الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله» . يعني الرفاعيُّ بالإنسانيَّة في الدين التحرُّر؛ التحرُّر من نسيان الإنسان في اللاهوت، التحرُّر من الأيديولوجيا التي أنهكت الإنسانَ والدين، التحرُّر من تراثنا العنيف واستلهام تجاربه الإنسانيّة في رحمانيّتها؛ يعني بها أن يكون الإيمان منبعًا من منابع الرحمة، ومعينًا ينضب بمعانيها في عوالِم الإنسان الباطنة والخارجة.
انحفر اسمُ الرفاعي في عقلي منذ ذلك الحين مفكِّرًا لامعًا، يفكِّر داخل سياق الدين لا خارجه، وجعلتُ أتَتَبَّعُ مقالاتِه هنا وهناك في بعض الصّحُف والدوريّات والمواقع الإلكترونيّة، وأتابع إصداراتِه من الكتب التي كان يختارُ عناوينَها بذائقة مُدهشة تَنُمُّ عن امتلاكه قريحة الأديب والشَّاعر. مرّ الزمانُ عليّ وأنا واقع - بسببه هو وغيره من ملابسات وشخوص - تحت سطوةِ ما يسمّيه بالتصوف المعرفيّ الذي يسعى إلى أن تكون له مقولة معرفيّة عبر مَزْجِ الذَّوق بالنظر العقلي؛ كتصوّف الحلاج والنفَّري وابن عربي وعبد الحقّ بن سبعين والسهروردي وجلال الدين الرومي وغيرهم. يُعرِّف الرفاعيّ هذا النوع من التصوّف بأنّه: «تصوف عقلي، خرج على الأنساق المغلقة الحرفيّة لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءةً لها خارجَ إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر الموروثة» .
كان اهتمامي بهذا النوع من التصوّف بالنسبة إليّ تحريرًا من الأنساق المغلقة التي وقعتُ فيها بواسطة لاهوت المتكلمين ومدوَّنات الفقهاء، ففي لاهوت التصوّف المعرفي نجد الإنسانَ واقعًا في المركز منه، بل وعليه يكون مدارُ الدّين كلّه، لأنّه مَجْلىً من مجالي الحقّ، ولأنّ فيه من روح الله؛ وبذلك تنفتح هذه المدرسةُ على التأويل، وتدور في أنساق معرفيّة متعددة لا تعرف الانغلاق، ولا تُكَفِّر الآخر - أيًّا كان - ولا تنفيه ولا تنبذه، لأنها ترى الله في كلٍّ، ولأنها حرَّرت نفسَها بصورة تامّة من المقولات المنطقيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة واستدلالاتها التي استهوتِ المُتَكَلِّمَة والفقهاء فوقعوا في دوائرِها المغلقة. يقول: «تحرّرَ تفكيرُ التصوّف الفلسفيّ من القوالب الصّارمة ، فتغلّب عليها، وصار يفكّر خارجها بحريّة لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق، ومقولاتُه، ومحاججاتُه، وأداوتُه، وانفردَتْ كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنّها فتحت آفاقًا للتأويل تتخطَّى الفهمَ الحرفيَّ المغلق للنصوص الدينيّة» .
عن طريق الرفاعي تخفَّفْتُ من أعباءِ هذه السّطوة المعرفيّة أيضًا، فإنّه وإنْ كان يرى ضرورةَ إحياء هذا الجانب التراثي وبثِّه في النَّاس، وتداوله بين المتخصِّصين دراسةً واستكشافًا، إلّا أنَّه لا يرى الانغلاق في مداراتِه التي لا تنتهي أيضًا، إذ يرى وجوبَ مناقشته والتعامُل معه بأدواتٍ نقديّة تُثْرِي وجودَه. يقول: «التصوُّفُ الفلسفيّ في تراثنا مَنْجَمٌ ثمين للمعنى الميتافيزيقيّ والروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ، غير أنّ اكتشاف ما تزخر به طبقاتُ هذا المنجم يتطلّب وجود مُكْتَشِفٍ بارع يغوص في تلك الطبقات، فيصطاد الجواهرَ الغاطسة في رُكَامِ أقوال وعبارات وشروح العُرَفَاءِ المملَّة، ويغربلها من ترويض تصوُّف الاستعبادِ» .
ورغم ما يُنسب إلى مشروع الرفاعي من كونه تصوّفًا مُقَنَّعًا إلّا أنّه لا يُسْلِمُ قيادَه للتصوف، بل ولا يُسْلِمُ قيادَه لشيء أبدًا، فهو صاحب عقلٍ نقديّ حُرّ؛ ينتقي ما يناسبه من مسلكٍ في فهمه الرحمانيّ لله والدين والإنسان والعالَم؛ وما كان من أمرٍ إلا أن التقى في مسار فكره مع هذا النَّمَطِ من التَّفكير والرأي، إذ الرفاعيُّ من أنصار التصوّف الذي ينبسط على الوجود ويجعله أكثر رحابةً، ويرى العرفان «كنز الأديان، وعصارة معناها الروحي والأخلاقي والجمالي، لذلك يحرصُ الكلامُ الجديد على توظيف رؤية العرفاء لنمط الصلة بالله، المؤسسة على المحبّة المُتبادَلة بين الله وعباده، ويستأنفُ مقولاتِهم في النجاة والخلاص، ليكسر احتكارَ الرحمة الإلهية، والادعاء باختصاص النجاة والخلاص بديانة أو فرقة أو طائفة دون سواها» ، ويقف موقفًا مضادًّا من التصوّف الذي يكتفي باستبطان الذّات فحسب، أو ذلك الذي يُؤْخَذُ فيه المريدُ بممارسات قاسية من التقشّف والزّهد وتعذيب البدن واعتزال الحياة، فالتصوّف لديه سلاح ذو حَدَّيْنِ؛ «وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبه للثغراتِ في كتب المتصوّفة والوهنِ الذي يتغلغل في طيَّاتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريَّةٌ وليسَتْ نُصُوصًا مقدّسة» .
إنسانٌ مُعَذَّب
كان أولُ تواصُل بيني وبين الرفاعي مستهلّ عام 2020م، إذ أرسلتُ إليه رسائل يائسٍ من الجواب؛ أطلب فيها مساعدةً في أمر ما، وكان ليأسي المذكور أسباب منها؛ أنّه لا يجمعني به سابقُ معرفة من قريب أو بعيد، ولستُ بالنسبة إليه إلّا واحدًا من قُرَّائِهِ ومتابعيه، وأيضًا ما استقرّ في نفسي - لتجاربَ سَبْقَتْ - من تَرفُّعِ كثير من الأكاديميّين العرب وإحجامهم عن التواصل الإلكترونيّ؛ إمّا لكبر يُلِمّ بهم، أو لأنّهم لا يلقون لهذا النوع من التواصُل بالًا من الأساس.
باغتَني الرفاعيُّ بردٍّ سريع يمتلئ بالودّ الغامر، ثُمَّ كان أنْ أرسلتُ إليه بعضَ المقالات التي أكتبها في بعض المواقع، فكان يخصّني بالنُّصح، يستحسن منها ما يستحسن، ويُعَقِّب على بعضها بتؤدة وحبّ وأناة طريفة، فوقفتُ به على بعضِ مواطن قصوري وضعفي. توطّدَتْ بيننا العلاقةُ سريعًا وتواترتْ بيننا المكالماتُ والرسائلُ وتَسَلْسَلَتْ؛ حتى دعاني إلى المشاركة بالترجمة في مجلّته الرَّائدة في تجديد الفكر الديني (قضايا إسلامية معاصرة) إثْر مطالعته بعض ترجماتي، وكان من ثمار هذا التعاوُن أنْ شاركتُ في عدَدَيْها السابقَيْنِ - يتناولان موضوع مشكلة الشرّ - ببعض التَّرجمات التي وقعتْ منه موقعًا حَسَنًا، وما كان لها أن تتخلّق إلا بتشجيعه المستمر، وإمداده إيّاي بالمدد المعنويّ والروحيّ اللازم.
خلال هذين العامَين، عرفتُ الرفاعيَّ مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا وصديقًا وأبًا عطوفًا، واستحكمتْ بيننا أواصرُ المحبّة واشتدَّتْ حلقاتُها، فكان أن طلب منِّي العملَ على مراجعة مشروعه الفكريّ لغويًّا حول فلسفته في الدين؛ وهو ما تَجَلَّى في كتبه: («الدين والظمأ الأنطولوجي»، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، «الدين وإنقاذ النزعة الإنسانيّة»، «الدين والكرامة الإنسانيّة»، «مقدِّمة في علم الكلام الجديد»)، إذ كان بصدد إصدارها في طبعة جديدة، وفي حُلَّة حديثة مَزيدة ومُنَقَّحَة.
بدأنا رحلةَ مراجعة فصول هذه الكتب فصلًا فصلًا؛ يقوم هو على مراجعة كلّ فصل بنفسه فيزيد ويُنقص، ويقدِّم ويؤخِّر، وما فاجأني أن كان يطلب مني الرأيَ فيما يكتب، وفيما ينقّح ويُعدِّل، وفي تنسيق فصوله وأجزائها، مستمعًا إليَّ بإنصات تامّ وكأنه أُذُن؛ يقبل مني ما يقبل، ويردّ عليّ ما يردّ؛ مُنَاقِشًا إيّاي، ومُعْتَبِرُنِي ندًّا له ولستُ بندّ. لا ينفكّ الرفاعي عن محاولات التعرّف على نفسه بكل طريقة وفي كل شيء، وهو لا يكتفي بولادة واحدة، وإنما يستزيد ولاداته في ديمومة لابثة؛ وأن يولد بتلامذته، وأن يُفَعِّم حيواته بهم، نَحْوٌ من هذا الضرب، وسلوك خاصّ تُجاه التجديد الروحي. انظر إليه يقول: «ولدتُ ولاداتٍ عديدة في حياتي، وما زلتُ أولدُ كلّ يوم من جديد. أولد كل يوم من جديد عبر أخطائي، أولد كل يوم من جديد عبر تجاربي، أولد كل يوم من جديد عبر مطالعاتي، أولد كل يوم من جديد عبر مجازفتي باستئناف النظر في أفكاري، أولد كل يوم من جديد عبر تهوّري في عبور ما هو قارٌّ ومغلق في هويتي، أولد كل يوم من جديد عبر مقدرتي على تجاوز ذاتي، أولد كل يوم من جديد عبر إدراكي لتناقضاتي، أولد كل يوم من جديد عبر اكتشافي لعجزي وجهلي وضعفي، أولد كل يوم من جديد عبر توطُّني التراث وتشبُّعي بمناخاته أكثر من خمسة وأربعين عامًا، أولد كل يوم من جديد عبر قراءاتي وهرولتي المزمنة وراء كل فكرة ومفكر وكتاب ومقال جديد، أولد كل يوم من جديد عبر أسفاري الروحية القلبية العقلية، أولد كل يوم من جديد عبر تنوع وتعدد صداقاتي مع المختلفين عقائديًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا، أولد كل يوم من جديد عبر رحلاتي بين البلدان. الولادة الأثرى تتجلى في أني أولد كل يوم من جديد عبر تلامذتي وأبنائي، بعد أن حررتهم من كافة أنماط التبعيات والعبوديات، ومنها، العبودية لي؛ فحرروني هم فيما بعد من عبودياتي» .
بعد أن انتهينا من مجموع كتبه، قررت كتابة هذه الشهادة، التي استثقلتُها بدايةَ الأمر لِمَا ألفيتُ فيها من مسؤوليّة أتقاصر عنها، إلى جانب تَهَيُّبِي شيطانَ الكتابةَ، إلّا أنَّه كعادَتِه أضرم داخلي جذوةً من ناره الخلَّاقة مرة أخرى. يكتب الرفاعيُّ شذراتِه الإيمانيّة وصورة الإله الرحمانيّ لا تغيب عن ناظره لحظة، يكتب وانهمامه بالإنسان المعذَّب في الأرض لا تنطوي في لاهوته. إنّ الفكرة الرَّئيسَةَ التي رأيتُها تسكن كيانَ هذا الرجل وتسري فيه سريانَ الدم من العروق؛ هي السعي نحو الخلاص الإنسانيّ أرضيًّا؛ عن طريق تَفْعِيل الدين خالِصًا مُخَلِّصًا في نطاق حياتِه الفرديَّة الخاصَّة. إنّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسانَ - أيّ إنسان - يُعاني فقرًا وجوديًّا مُلازِمًا له طول حياته، إذ يفتقر «في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ، لا نهائيّ، لا محدود» ؛ ومن أجل ذلك يسعى إلى إثراء ذاته وإغنائها بكل طريق وطريقة، فيقطع في ذلك مسالك شتّى، ويهوي مهاويَ! وهو في هذا القطع إنْ جَانَبَ سبيلَه إلى المقدَّس، بقيَ في لُجَّةِ عذابِه عائمًا ما دام يرجو إرواء وجودِه بغيره.
لذا فالمقدَّسَ لدى كاتبنا ضرورة وجوديّة لا تنمحي، وحاجة إنسانيّة تداهم الإنسانيّة، ولذلك يتَحَتَّم الوفاءُ بها، والتحقُّق فيها. يقول: «الظمأ الأنطولوجي للمقدَّس يجتاح حياةَ كلِّ إنسان، بوصفِ هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلَّصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في عالَمٍ غارِق بالآلام، ويتسلَّح بطاقة وجوديَّة تجعلُه قادرًا على العيش بأقلّ ما يمكنُ من المرارات والمواجع، ليخرج من القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن الظلام إلى النور» . لا يمكن للإنسان إذن إرواء ذاته، ومَلْئِها بالمعنى بغير هذا المقدَّس. وليس استبدادُ القلق الوجوديّ بالإنسان وتشظِّيه في العالَم إلا مَظْهرًا من مظاهر ابتعادِه عن مصدر الإرواء الحقيقيّ الذي لا ينضب معينُه ولا ينتهي إمدادُه، وما اغترابُه في هذا العالم إلا حالة لازمة لابتعاده عن هذا النوع من الإرواء الحقيقيّ غير المُزَيَّف.
يُولَدُ الإنسانُ وهو في حالة اغتراب حقيقيّ، إذ يفقد دفءَ أمِّه وغذاء رَحِمِهَا في انفصاله عنها بعدما كانا كُلًّا، ويمعن اغترابُه في التوحُّش والإِقْفَارِ ما دامَ منفصلًا عن الله مغتربًا عنه؛ وهو إن أراد نفيَ إملاقِه الروحي، وتشظّيه الميتافيزيقيّ، وخلوّ ذاته عن المعنى في المعنى، فلا سبيل له إلّا عن طريق ائتلافه واجتماعه بالإلهيّ في نفسه واتصاله به، وإذا لم «يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ؛ [الذي] يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفىً عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي» . وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ الرفاعي لا يعني بالاغتراب الميتافيزيقي تفسير فيورباخ الذي يرى أنّ «خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الإنسان مُستلَبًا، عندما صيّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء. الإله في مفهوم فويرباخ مجرد أحلام الإنسان بالكمال» ، وإنّما يعني به الرفاعي: اغترابه عن وجود إلهيّ له حقيقة في الخارج يتشتَّتُ عنها الإنسان وينفصل.
تحريرُ اللاهوتِ من لاهوتِ التّحرير
لا يتجاهل الرفاعيُّ الشرَّ الدينيّ الكائنَ في العالَم، فهو مهموم به انهمامَه بالإنسان ذاته في مأساته الخاصّة، لذا فإنّه يدرك أنّ المقدّس قد يكون مصدرًا جامحًا للشر الأخلاقيّ، فيقول: «مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان... يمكن أن يكون التَدَيُّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد» . ومن أجل ذلك عمل على تجفيف تلك المنابع التي يمكن من خلالها أن يتفشّى هذا النوع من الشرّ المعتمد في وجودِه أساسًا على الدِّين وفكرة المقدَّس؛ ومن هنا جاء تعبيرُه «إنقاذ الإنسانيّة في الدِّين».
يبحث الرفاعي في الكراهية والمصادر التي تشتقّ منها مفاهيمَها الخاصّة، ويرى التراثَ الإسلاميَّ الكلاميَّ والفقهيَّ منبعًا تَستقي منه، لذا دعا إلى ضرورة التحرّر من أسرِه العنيف عن طريق التعامل معه بوصفه استجابةً لمرحلة زمانيّة بعينها؛ لا يمكن تمريرُها وتسليط منطقها الخاصّ على جميع الأزمنة الإنسانيّة الأخرى، إذ ليس التراثُ إلّا «مجموعةَ الممارسات الدينيَّة والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، وهو مفهوم ثقافيّ أنثروبولوجيّ، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسبقات والميول، ومقدّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلّعات الدينية الموروثة من عصور سالفة» . وللمحافظة على جذوة الإيمان متّقدةً، فإنه يدعو إلى إيمان نقديّ يمتلك قدرةَ تَجَاوُزِ الكمِّ التراكميِّ من الشروح والتأويلات المُتَوَلِّدة عن مُجْريَات التاريخ وأحداثه.
كما يدعو الرفاعيُّ إلى وجوب تطهير اللغة من عنف ألفاظِها المتراكمة عبر التاريخ، والتي يستعملها آحادُنا في أحاديثه اليومية دون دراية؛ يقول: «تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحيّة المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصِّراع الدينيّ والطائفيّ، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم» . ليس الأمرُ تطهيرَ اللغة ممّا تراكم فيها من تراكيب وأساليب تتوسَّل التعبير في العنف الكامن فيها فحسب، لكن لا بدّ من التجديد فيها أيضًا، والانتقال عنها إلى غيرها، إذ يتحتّم علينا الانتقال بها من لغة الفقهاء والمتكلِّمين القديمة إلى لغة أخرى حديثة تبتعد عن ألغاز القديمة ومعمياتها، إلى لغةٍ «تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان» .
ولم يقف كاتبُنا عند محاولاتِه الصَّارمة تجفيف المنابع الصريحة التي يستقي منها الشرُّ الدينيُّ مفاهيمَه ومقولاته، لكنّه عمل أيضًا على رفض المحاولات المُضْمَرَة التي من خلالِها يُسْتَرَقُ الدِّينُ؛ كمحاولات أسلمة المعرفة ، والتّجاوز بالدين عن حدوده الأنطولوجيّة في أيّ نسق؛ دينيًّا كان أم فلسفيًّا. من الأفكار التي أولاها الرفاعيّ اهتمامًا بالغًا ونحن في هذا الصَّدَد موضوع ترحيل الدين عن نطاقه الأنطولوجي الرّحب إلى سياقات أخرى وظيفيّة؛ تعمل على سلبه وتكريسه لخدمة أهدافٍ ضيّقة تُمِيتُ رحمانيتَه ورحابتَه الأنطولوجيّة، فتجعله أكثر عنفًا وانغلاقًا ونبذًا للآخر. ومن هنا جاء نقدُه لعلي شريعتي وحسن حنفي اللَّذَيْنِ حاوَلَا بما يملِكان من أدواتٍ معرفيَّة ومهاراتيّة اختزالَ الدين، وتحويله من ثقافة إلى أيديولوجيا عن طريق تثويره، واستلاب رسالته الأصيلة، واستنطاق اليسارِ فيه، لذا يرفض ما سُمِّي «لاهوت التحرير»، وانتقد محاولات شريعتي العشوائيّة لأدلجة الدين، ومحاولات حنفي تخفيض أبعاده الميتافيزيقيّة على حساب الدنيويّة منها.
لا يترك الرفاعيُّ مفهومَه عن «الأيديولجيا» عائمًا غائمًا لا يمكن الوقوف عليه، لكنّه يؤكِّد على أنّه لا يعني بها - في أي كتاب من كتبه - «علم الأفكار، أي دراسة الأفكار دراسةً علميّة... [وإنّما يعني بها] نظامًا لإنتاج المعنى السياسيّ، يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبَة لإنتاج حقيقة متخيّلة، وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ موهم، [وهي بهذا المعنى] تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع» ، فـ «الأيديولجيّ يُزَيِّف اللغةَ؛ يُحْدِثُ انقطاعًا بين الدالِّ والمَدْلُول، بين القول وبين الواقع الذي يتكلّم عليه» . ومن هنا تأتي خطورتُها بشتى أنواعها وأنماطها وتجلِّياتها – في نظر الرفاعي- من أنّها «نسق مغلق، يُغَذِّي الذهنَ بمجموعةِ معتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ نِهَائِيَّةٍ، تعلنُ الحرب على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، فتنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظَّاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ» ، وفيها «يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجر مجالَه الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ ويسقطُ في فخِّ الأيديولوجيا. يتحوَّل الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداةٍ للصِّراع على السُّلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهتْ إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا» .
تحت ظلال تعريفه الأثير للدين من أنّه «حياةٌ في أُفُقِ المعنى»، يُعْمِل الرفاعيُّ مَعَاوِلَ هَدْمِه ويُلَاحِق كلَّ فكرة تتجاوز بالدين طبيعتَه وغاياتِه الموضوعة له من كونه «نظامًا لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، تفرضه حاجةُ الكائنِ البشريِّ الأبديَّةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعيَّة» . ومن ذلك محاولاتُ استراقِه واستلابِه عن طريق أدلجته لدى علي شريعتي، أو تثويره فيما سُمِّي «لاهوت التحرير» لدى حسن حنفي وغيرِه. يشرح الرفاعيُّ «لاهوتَ التحرير»، فيقول إنّه «مصطلح تداوله الباحثون في الستينات من القرن الماضي، وإنْ كان مدلولُه يواكب الأديانَ في مُخْتَلَفِ العُصُورِ، فالأديانُ تسعى إلى مناهَضَةِ الظُّلْمِ والتَّسَلُّط والاستبداد والطغيان... وفي السبعينيّات من القرن العشرين اهتمَّتْ مجموعة من المفكّرين بصوغ رؤيةٍ للمقاومة، تتخطَّى الفقه، وتعمل على الاستناد إلى العقيدة كمنطلقٍ للثورة، بتحليل المدلولِ الاجتماعيِّ لأصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة» .
يُحَدِّثُنَا الرفاعيُّ عن علاقته بحسن حنفي وما أُطْلِقَ عليه «اليسار الإسلامي»، ومن ثَمَّ يُحَلِّلُ أفكارَ مشروعه الأساسية ومنطلقاته الفكريَّة؛ منتهيًا إلى نقدها. يقول: «لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي يختزلُ الدِّينَ في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفةَ المحوريَّةَ للدِّين. الدين أعمق من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعيّان للدين. تحويل الدين إلى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بُعْدٍ واحد، واختزال الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهيّ في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة، والآخرة في الدنيا... وحين يتحوّل الدينيُّ إلى دنيويّ تختلط الحدودُ بينهما، فيجري تعميمُ الفهم الدينيّ لكافَّة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يُفضي إلى التَّضحية بالعَقْلِ والخبرة البشرية المستقلَّة عمَّا هو ديني» .
ورغم ما وجّهه الرفاعي إلى شريعتي من نقد قد يبدو عنيفًا إلّا أنّه لم يُخْفِ إعجابَه بروحه وإيمانه وحسّه الفنيّ، وكان يدرك أنّه ينتقد فيه هذا البُعْد الأصيل من فكره، والخيط الممتدّ في أعماله من ترحيل للدين من سعة الأنطولوجيا إلى ضيق الأيديولوجيا، وأنَّ له أبعادًا أخرى كثيرة قد يقبلها ولا يرفضها. يقول الرفاعي: «تتجلّى في شخصية علي شريعتي أبعادٌ عديدة؛ تتمثّل في: المثقف الرسولي، الداعية النبوي، الأخلاقي، المؤمن، الإنسان، النبيل، الغيور، الشهم، الشاعر، الفنان، الرؤيويّ، الأديب، الناقد، العاطفيّ، العاشق، المتمرد، القَلِق، المُتَبَرِّم، الحالم، الثائر، الفدائيّ... تتداخل في تفكيرِ ومشاعرِ وأحاسيسِ شريعتي عقليةُ الفنَّان، حساسيّات الشاعر، مشاعر العاشق، غيرة المؤمن، ذوق المتصوف، ذوق العارف، أشواق العارف، بوح الشجاع، جسارة المتمرّد، تهوُّر المغامر. وهي أبعاد تبدو متنافرةً؛ ذلك لأنَّها عادةً لا تجتمع كلّها وتتوحَّد في شخصيَّة واحدة بإيقاع كأنَّه متناسق، إلّا في حالات نادرة» .
يُسَدِّد الرفاعيُّ سهامَه أيضًا إلى فكرةٍ تراها جماعاتٌ دينيّة كثيرة أصلًا محوريًّا من أصول الديانة؛ نبع عنها كثيرٌ من العنف الدينيّ في شتّى أنحاء العالم، ما وضع الدِّين في مأزق، وجعله محلّ اتِّهام دائمٍ؛ ألا وهي فكرة الخلافة والدولة الدينيّة، فيرى القائلين بها أسرى الماضي البعيد، ولا يملكون قدرةَ تخطِّي حدود التراث الفقهيّ والعقديّ المرهون بالتاريخ في هذه المسألة، إذ لا يستطيعون فهمَ «المواطنة» فهمًا يتناغم والعصر الحديث، ولا يعرفون فكرةَ العقد الاجتماعيّ بين الحاكم والمحكوم، إلى غير ذلك من وهمٍ طوباويّ، واستدعاء للماضي في الحاضر، وكأنّ الزمان لديهم مفهومٌ جامد قد توقّف هنالك منذ قرون بعيدةٍ دون أن يجري.
يرى الرفاعيُّ محاولاتِ تديين السياسة وخلع أنماط دينية على السُّلطة السياسيَّة توظيفًا للدين وإظلامًا له، إذ يعني حضورُ الدينيّ في السياسيّ -لدى نظامه الفكريّ- دولةً دينيّةً تنتمي إلى «ما قبل الدولة الحديثة؛ دولةً يَعْتَمِدُ تدوينُ دستورِها ومختلفُ تشريعاتها وقوانينها وبرامجها على علم الكلام والفقه وفتاوى الفقهاء» ؛ ما يؤدّي إلى استخدام «مُختلف الوسائل المشروعة كالانتخابات، أو غير المشروعة كالعنف المسلح، بغيةَ بناءِ هذه الدولة، وإغراق حياة المسلمين بأوهام الوعود الخلاصيَّة، والزَّجّ بأعداد غفيرة من الشباب إلى التضحية بمستقبلهم ومصائرهم» . ويُلفِتُ الرفاعيُّ النظر إلى: «أنَّ الإنسانَ الذي هو موضوع دولة المسلمين أمس هو الإنسان بوصفه مسلمًا بالمعنى الكلاميِّ والفقهيّ، أمَّا الإنسانُ الذي هو موضوعُ الدَّولةِ الحديثة فهو الإنسان بوصفه مواطنًا. الإنسانُ بوصفه مسلمًا هو الذي كان يحدّدُ هُويَّةَ الدولة، ويتحكَّم تعريفُه بتوصيف هويتها. كلُّ تشريع وقرار وموقف يُتَّخَذُ في إطار توصيفِ مسلمٍ ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للإسلام، وكلّ ما لا ينتمي إلى الإسلام يُفترض ألّا يكون مكوِّنًا لماهية هذه الدولة" .
غَيْهَبُ الفقهِ والكلامِ الغَابِر
نستقي ممّا سبق أنَّ الحاجةَ أَصْبَحَتْ مُلِحَّةٌ إذن - كما يرى الرفاعيُّ - إلى تفعيل «فلسفة الفقه»، وإلى «علم كلام جديد»، وإلى شجاعة استخدام مناهج حديثة كـ «الهرمنيوطيقا» في تفسير النصوص وفهمها. تأتي محاولاتُ الكاتب هنا استئنافًا للمسألة الدينيّة التي تؤرِّق تفكيرَه. نعم، يحتاج الإنسانُ إلى الدِّين، لكنّ الدينَ يعيش أزمةً بما نتلقَّاه في مجتمعاتنا بمناهجه القديمه، وأفكارِه الزمانيّة المُتَجَاوَزَة، ودوائره التأويليّة الجامدة؛ ما يُحَتِّمُ علينا البحثَ عن أدواتٍ جديدةٍ للفهم، ومن ثَمَّ محاولة ابتناء مناهج فكريّة أخرى تضع الإنسانَ المسلم وغير المسلم ومصالحه وحاجاته نُصْبَ عينيها. ولهذا جاءت محاولاتُ الرفاعيّ في مساهماتٍ تجديديّة غير واهمة، لا تتنكّر للإنسان ولا آلامه وآماله، ولا للدين في أزمته المعاصرة، ولا للعالَم الواقع ومشكلاته المُتَكَاثِرَة؛ ومن هنا انْبَعَثَتْ دعواتُه التجديديّة صوب أبنية الفقه والكلام القديمة المُوشِكَةِ على الانهيار وتدمير بني آدم، وما افتعلاه من مناهج في تأويل الدين وفهم العالَم.
يميّز كاتبُنا بين الفقه وفلسفته فيرى الفقهَ «يتناول ما هو معروف الأحكامَ الشرعيّة لعمل المُكَلَّف، أي أنّه علمُ استنباط الأحكام الشرعيَّة، وتحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة بنحوٍ مستدلّ؛ بالتّوكُّؤ على أدواتٍ وقواعد يجري تنقيحُها في أصول الفقه، بينما لا تبحث فلسفةُ الفقه أسلوبَ الاستنباط، ولا علاقة له ببيان الموقف العمليّ تجاه الشريعة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدانٍ آخر؛ يتناول فيه تشريحَ ماهيّة الفقه، واكتشاف طبيعة نسيجِه الداخليّ ومكوّناته، وكيفيّة نشأته وتطوّره، وتفاعله مع المؤثّرات الزمانيّة والمكانيّة والبيئة الجغرافيّة، والتأثير المتبادل بينه وبين الأعراف والعادات والتقاليد، والعصر الذي أُنْتِجَ في فضائه الثقافي ومحيطه الجغرافيّ، مضافًا إلى دراسة اصطباغ الفقه بمسبقات الفقيهِ وخلفياته ومنظوره الذاتي، ولون ثقافته، وميوله، وبيئته الخاصّة» .
حاز الفقهاءُ سلطةً واسعةً بوصفهم ناطقين عن الشَّارع، مُوَقِّعين عنه كما يُعَبِّر ابنُ القيِّم ، ولم تُعتبر نتاجاتُهم البشريّةُ بشريَّةً، وسعوا هم على مرّ التاريخ أن تكون لهم مقولةٌ في كلّ شيء يخصّ الإنسانَ من مناحي الحياة وضروبها، «واستحوذ الفقهُ على الدين الإسلاميّ بالتدريج، إلى أن احتكرَه بشكل شبه تامٍّ» ، فلا نكاد نجد أمرًا وإن كان مُغْرِقًا في الدنيويّة إلَّا وللفقيه قول مسموع فيه، فجرى تقديسهم عبر الزَّمان على ما حازوا من سلطان على الناس وحيواتهم باسم الكلام الإلهيّ، وصار النّاسُ في حاجة دائمة إليهم ما دامتْ لا تستقيم حياتُهم في الدنيا والآخرة إلّا بوجودِهم. يرى الرفاعيُّ دارسَ الفقه القديم لا يلبث «يغرق... في تفاصيل مدوَّنته التي تضخّمت بالتدريج، وانحسرتْ - تبعًا لتضخُّمِها- معظمُ آفاقِ التفكير الدينيّ الأخرى، وفرضت حضورَها الصّارم على كلِّ ما يتَّصِلُ بأقوال وأفعال المسلم، وأخضعتْ كلَّ حياتِه لمعاييرها. وذلك يفرض تدشين علم قادرٍ على إجراء حفريّات عميقةٍ في المدوّنة الفقهيّة، من خلال تفكيك الأنساق المُوَلِّدَة للمعرفة الفقهيّة، والكشف عن العناصر المختبئة في عمليّة الاستنباط، وأثرها البالغ في توالد المعرفة وتشعّبها ونموها؛ وهذه مهمّة تتكفلها (فلسفةُ الفقه)، وهي علم لا يعتمد العُدَّة المنهجية والمفاهيميّة المعروفة في أصول الفقه أو الفقه، وإنّما ينفتح على فلسفة العلم، والعلوم الإنسانية، والاجتماعيّة المختلفة، ويتوكَّأ على مناهجها ومفاهيمها» .
يحاول الرفاعيّ تفعيلَ فلسفتِه الفقهيّة وجعلها قَيْدَ التطبيق، وهو يدرس الخلاف المُتجدِّد كل عام حول «الهلال» ؛ واضعًا بها أنموذجًا تطبيقيًّا للفلسفة الفقهيّة، إذ يقوم بالحفر عميقًا في البنية الفقهيّة وهي تتناول هذا الموضوع، منتهيًا إلى أنَّ الخلافَ في حقيقته ليس إلّا «محاولة استملاكه رمزيًّا، واحتكاره بغية إثراء رأس المال المقدّس... [وأنّ] الخلاف هو على هلالَين وليس على هلال واحد، فهلال الفقهاء غير هلال الفلكيّين؛ هلالُ [الفقهاء] مؤطَّر بمعنى دينيّ، في حين أنّ هلال الفلكيّين هلال ماديّ، مجرّد من المضمون الديني؛ بوصفه ظاهرةً كونيّة» .
ننتقل الآن إلى ميدان الرفاعيّ الأثير الذي يراه مُنْطلقًا لأيّ تجديد حقيقيّ في الدين، أعني «علم الكلام الجديد». للرفاعيّ قدم السّبق فيه، فكان له اهتمام خاصّ بمسألة تجديد البحث الكلاميّ، بل ويراها أصلًا لأيّ عملية تجديديّة للفكر الإسلاميّ، ولا يمكن لفكر إسلاميّ جديد يريد النهوضَ بنفسه أنْ تكون له قائمة حقيقيّة ونجوع دون التَّحرر من أسر الكلام القديم، ومحاولة ابتناء علم للكلام جديد يقع الإنسانُ منه موقعَ الأصل والمركز. إنَّ «أية بدايةٍ لتجديد التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلمِ الكلام ومسلّماتِه ومقدِّماتِه المنطقية والفلسفية فإنّها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدِّمات، لأنَّ علم الكلام يمثل نظرية المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يُحدّد طريقةَ التفكير ونوع مقدّماته ونتائجه» .
صدرتْ مجلةُ «قضايا إسلامية معاصرة» - أسسها ويديرها الرفاعيُّ - مهمومةً بالتجديد، وتناولتْ في خمسة أعداد منها موضوعَ الكلام الجديد . وصدر للرفاعي حديثًا كتاب بعنوان «مقدمة في علم الكلام الجديد»، يقول فيه: «انشغلتُ سنواتٍ طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعتُ البلبلةَ والغموضَ، والتشوُّشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد موضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسَّةَ لتأليف مقدِّمة تحدِّد الإطار العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفِّر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريق ترسم المعالم الأساسيّة لعلم الكلام الجديد» . تكمن أهميّة التجديد في علم الكلام لدى الرفاعيّ «في إطلاق حرية التفكير في العقيدة، وتعدُّد وتنوُّع الآراء والمواقف والمقولات الكلامية. ويعبّر اختلافُ المقولات ووفرتها عن تجسُّد اجتهادات ووجهات نظر متنوعة أفضى إليها التفكيرُ الكلاميُّ، مضافًا إلى أنَّها علامة فارقة على منح كلّ مسلم الحق في اختيار عقيدته، بل وحرمة تقليد غيره في المعتقد» .
يرفض الرفاعي في علم الكلام الجديد أن تكون هناك أجوبة نهائية باتّة للأسئلة الميتافيزيقيّة، فيقول: «ما قاله مؤسِّسُو الفرق ومُؤَلِّفو المقولات الكلاميّة بخصوص رؤيتِهم لله، وصفاته وأفعاله، والوحي والنبوة، وما فهموه من النصوص الدينية، ليس إلا إجابات مرحليّة؛ تعبر عن زمانهم وبيئاتهم وثقافتهم، وما اكتنف حياتَهم الشخصية، وما عاشوه من ظروف مختلفة، عبَّرتْ عنها الصراعاتُ على السلطة والثروة في عصرهم... في علم الكلام الجديد يُعاد بناءُ مفاهيم الذات والصفات، والإيمان والكفر، والقضاء والقدر... كذلك يُعاد إنقاذُ صورة الله التي تشكَّلَتْ في فضاء النِّزاعات، والحروب، والاستبداد، وتَفَشِّي العبوديات، ورسمُ صورة تليق بعدالته، ورحمته، وجماله» . علم الكلام القديم الذي وُلِدَ في عصوره المختلفة إذن لم يكن إلّا «مرآة لحياة المجتمعات الإسلامية، ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة في تلك المجتمعات آنذاك، وتم لاحقًا تعميم الآراء والمقولات الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات. وهي مقولات وآراء لا تعرف أسئلةَ حياتنا الراهنة» ؛ ما يدعو إلى ضرورة العمل على ابتناء كلام جديد يناسب راهن العصر وأسئلته وتحديّاته، ويتساوق مع الإنسان ولا يتناساه؛ مُلَبِّيًا حاجاته الروحيّة والماديّة في الدّنيا قبل الآخرة.
ينبني التجديدُ في علم الكلام على أصول فصَّلها الرفاعيُّ في كتابه؛ منها: إعادة تعريف الإنسان، والكشف عمّا يمكن أن يُقَدِّمه الدينُ إليه من معنى روحيّ وجماليّ، والإقبال على التراث دراسة واستكشافًا، واستلهام جوانبه العقليّة والروحيّة منه والتقاط ما هو حيّ ومُحْييٍ منه وترك ما هو ميّت ومُمِيت فيه، والإقبال على العلوم والمعارف الحديثة ومحاولة استيعابها، ولا سيما العلوم الإنسانيّة، ومحاولة استخدام المناهج والأدوات الحديثة في فهم النصوص وتفسيرها، ودراسة الأديان ومقارنتُها، والكشف عن أنماط التديُّن والإيمان عبر التاريخ، وضرورة التحرُّر من التفسيرات الحرفيّة المغلقة للنصوص الدينيّة، وعدم الانغلاق في التراث ومحاولة استحداث أفكارٍ جديدة تخدم الإنسان دون الخروج عن النّسق الميتافيزيقي للدين؛ أفكارٍ تفسِّر الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا لا يكون فيه النبيُّ منفعلًا بصورة سلبيَّة، بل متفاعلًا بصورة إيجابيّة، وتبني الصِّلةَ بين الله وعبده على أساس من المحبة لا على القهر والاستعباد، وتوقظ المعنى الروحيّ وتعزِّزه في النفس الإنسانية لتجد هناءها في هذا العالَم، أفكارٍ تتسامح وتعدّدية تأويل النص القرآنيّ، وتنفتح على الأفهام والأطروحات الجديدة.
إنّه مع تكاثر دعوات التجديد والإصلاح في علم الكلام، وتوالُد الأطروحات التي تتبنّى اسم التجديد، فإنّ الرفاعيّ يطرح معيارًا يمكن على أساسه تصنيف فكر ما بأنّه كلام جديد، أو مفكِّر ما على أنّه متكلِّم جديد؛ «ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأنَّ طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية» . ولا يعني الرفاعيّ بالتجديد في فهم الوحي إهدارَ مضمونه الميتافيزيقي بأي معنًى، بل يرى أيّ محاولة تنأى بالوحي عن طبيعته الإلهيّة لا تدخل في نطاق الكلام الجديد، إذ الوحي - في نظره - ذو بعدَين؛ «بعد إلهيّ، وبعد بشريّ، فهو من حيث تعبيره عن الله إلهيّ، وهو من حيث تعبيره عن الإنسان بشريّ» ، ولذلك على المتكلم الجديد أنْ «يفكِّك بين الوحي من حيث هو، أي حقيقة الوحي، ومن حيث تمثُّلاته المتنوِّعة في الحياة الفردية والمجتمعية في مختلف العصور، و[أنْ] يحرص على تحرير معنى الوحي من إكراهاتِ التاريخ وصراعاتِ البشر وحروبِهم» .
جاءَ تثمينُ الرفاعيُّ للدَّورِ الذي قام به أمين الخولي في السياق العربيّ من الدعوة إلى استخدام «الهرمنيوطيقا» أداةً في فهم النصوص الدينيّة من جهة كونِه من أوائل من دعا إلى استخدم أدوات منهجية جديدة في الفهم والتأويل، بل وكان أوّل من حاول أن يجد للهرمنيوطيقا مكانًا في السياق العربي والإسلاميّ. يرفض الخولي انحصارَ الدعوة إلى الاجتهاد الفقهيّ دون الاجتهاد الكلاميّ، ويرى التطوّرَ سنةً شاملةً تُلَابِسُ جميع المعارِف الإنسانيّة بأنواعها، وهي تشمل العقائد بدورها كذلك. يجب على العقائد –مثلها مثل الأحكام الفقهيّة - مواكبة مجريات الأحداث والأزمان لتظلّ مواءمة لحاجات الإنسان الروحيّة والمعنويّة، ملبِّيَةً إيّاها، لذا يرفض الخولي أيَّ قراءة لاتاريخيّة للتراث، فالتراث بشتى أنواعه وضروبه لم يكن إلّا ناطقًا عن ظروف عصره الذي ظهر وتشكّل فيه، مُستَجِيبًا لراهن زمانه، ومعالجًا مشكلاتِه التي كان يعاني منها.
وقد تناول الرفاعيَّ أمين الخولي بوصفه أوَّل هرمنيوطيقيّ في الإسلام قبل تلميذه محمد أحمد خلف الله ، وقبل نصر حامد أبو زيد في أعماله الهرمنيوطيقيّة ، يقول: «فرادةُ الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة لتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهجِ الجديدةِ في تفسير النصوص في مجال الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ وتتبعٍ يمكن القولُ إنَّ الخولي هو أولُ هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالَم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية» . ورغم أنَّ الرفاعيّ يرى كلَّ مَنْ يرى رأيًا جديدًا في الوحي - داخل إطار الدينيّ لا خارجًا عنه - صاحبُ رؤية كلاميّة تجديديّة، إلّا أنّه تعثّر في الوقوف على رأي للخولي في ذلك؛ ما يحمله على القول بأنّه لم يمارس التجديد في البحث الكلاميّ، ولكنّه قضى حياتَه لابثًا في الدعوة إلى التجديد فحسب، مهمومًا بإقحام الهرمنيوطيقا داخل سياق التفكير الدينيّ لدى الباحث المسلم.
ولنعرِّج قليلًا على «الهرمنيوطيقا» ومعناها. صدرتْ عن «قضايا إسلاميّة معاصرة» خمسةُ أعداد تتناولها . تعني الهرمنيوطيقا (نظرية التأويل) باختزالٍ «المبحثَ الخاصّ بدراسة عمليّات الفهم؛ وخاصة فيما يتعلّق بتأويل النصوص» ، وهي - حسب تعبير رودولف بولتمان Rudolf Bultmann-: «فنُّ فهمِ تعبيراتِ الحياة المكتوبة» . «تأتي كلمةُ هرمنيوطيقا من الفعل اليوناني Hermeneuein، ويعني (يُفَسِّر)، والاسم Hermeneia، ويعني (تفسير). ويبدو أنّ كليهما يتعلق لغويًّا بالإله هرمس Hermes؛ رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو؛ الذي كان بحكم وظيفته يُتْقِنُ لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الآلهة الخالدة، ثم يُتَرْجِمُ مقاصدَها وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر... ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا، وخصائص الإله هرمس هي صواب مؤكَّد» .
وقبل الانتقال عن علم الكلام الجديد ينبغي الإتيان على مقابلة الرفاعي بين محمد إقبال ومحمد عبده والتي بَدَتْ صادمة لدى لبعض، إذ انتهى إلى زيف ما يُسْنَد إلى محمد عبده من تجديد، مُثَمِّنًا الدور الذي لعبه محمد إقبال الذي لو لم ينغمس في السياسة ودروبها لأخرج لنا منهجًا كلاميًّا متكامل البنيان. لم يتعدَّ التجديدُ المنسوبُ إلى محمد عبده نطاقَ إطلاق بعض الفتاوى الجديدة مع الإبقاء على أصول الفقه والكلام راسخًا في أصل مقالاتِه الدينيّة؛ وتجريد علم الكلام من أثقاله الخلافيّة، وتطعميه ببعض الآراء والرّؤى العقلانيّة. ورغم كل ما نسب إلى محمد عبده من إصلاح ديني وتجديد إلا أنَّه كان مسكونًا بالماضي، بل ولم يغادره قيد أنملة؛ و«بناءً على ذلك لا يمكننا وضعُ جهود محمد عبده وأمثاله في خانة الكلام الجديد، لأنه كان يفكّر بذهنيةٍ كلاميَّةٍ قديمة، ويفتقر للحسِّ التاريخي، ولم يجتهد في بناء مفهومٍ للوحي خارج الذهنية التقليدية. علمُ التوحيد لديه هو الكلامُ التقليدي ذاته» .
ما بدا صادمًا في رأي الرفاعيّ نجد صداه حتى لدى من يتناولون محمد عبده تناوُلًا تبجيليًّا – إن صحّ القولُ - ويرونَه مُجَدِّدًا كلاميًّا، فلأحمد الطيِّب مثلًا بحث صغير بعنوان «الإمام محمد عبده متكلِّمًا»، يقول فيها: «وتُعَدُّ (رسالة التوحيد) للإمام محمد عبده النّصَّ الوحيد المُوَثَّق، الذي يبحثُ فيه عن فلسفة الإمامِ الكلاميّة، ورؤيته التجديديّة ومدى تَحَرُّرِه من علم الكلام التقليديّ أو تأثّره به» . يرى الطيِّبُ أنّه رغم تحرُّر محمد عبده من المذهبيّة الكلاميّة ودورانه مع الفلاسفة تارة، ومع المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة تارةً أخرى إلّا أنّه لم يأتِ في الحقيقة برأي جديد لم يكن موجودًا في التراث الفلسفيّ أو الكلاميّ من قبل، وأنّه إنْ أردنا الوقوف على مظاهر التجديد في رسالته تلك فإنّها لن تخرج عن كونه لا يتقيّد بمذهب عقديّ بعينه، ولا تتجاوز اعتداده الشديد بالعقل مرجعيةً يضع لها حدودَها، ولا تتعدَّى تجديدَه في أساليب البرهنة بما يُلامِسُ فلسفات عصره ومعارفها . وهذا ما نراه أيضًا في تناوُلِ حسن الشافعيّ لمحمد عبده إلا أنّه يزيد في ذلك حُسْنَ ترتيبه للمسائل الكلاميّة من حيث وزنها وأهميّتها في نظر الفكر المعاصر، ووقوفه موقفًا معتدلًا بين الكلام والتصوف، وبين متقدّمي المتكلمين ومتأخِّريهم.
أمّا محمد إقبال فقد كان على خلاف ذلك، إذ «سعى إلى زحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفيةً بذاتها، وإنّما اغتنتْ بما استوعَبَتْهُ، وتمثَّلَتْه في معارف الآخر» كما رأى الرفاعي. فمع إقبال يدخل الكلامُ الجديدُ مسارًا مختلفًا تُوضَع فيه لبناتٌ أساسيّة يُبْتَنَى عليها، ولا تُكَرِّرُ الماضي ولا تنحو نحوَه، وخلافًا لمحمد عبده الذي لم يَرَ رأيًا في الوحي جديدًا غير الرأي القديم الذي أعاده وكرّره بلغة مدرسيَّة، فإنّ محمد إقبال قد ناقش مسألة الوحي نقاشًا جديدًا يجعله من واضعي لبنات هذا العلم الناشئ. يقول الرفاعيّ: «كتب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وهو أول نصّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد... عالج فيه التجربة الدينيّة، وصاغ مفهومًا للوحي يتمحور حول هذه التجربة، وميَّز بين تجربةِ الأنبياء وتجربة العرفاء؛ ذلك أنَّ الثانية يبقى صاحبُها حبيسًا فيها ولا يخرج من فضائها، فيما يتخطّى النبيُّ تجربتَه الشخصيّة، لأنها تمنح شخصيّته إرادة تغيير العالَم، وجعل إقبال الحاجةَ لوحي الرسالة الإلهية تختصُّ بمرحلةٍ من مراحل الوعي البشريّ، فإذا بلغ العقلُ رشدَه اعتمد على نفسه، ولم يعُد بحاجة إلى ما هو خارج عنه كي يتطوَّر ويتكامل» .
وبمراعاة ما سبق ذِكرُه من أمر هذه المقارنة؛ يرجو الرفاعيُّ «الباحثين والمهتمين بالشيخ محمد عبده العودة إلى تراثه وغربلته، وتقييمه ونقده، والخلاص من الأحكام التبجيلية، ومنطق الثناء، والمديح الزائف... [التي تمنع من التمييز] بين المعرفة البسيطة في آثار محمد عبده، والمعرفة المركبة في آثار محمد إقبال» ، فالأزمة الحقيقيّة - كما يرى - في المحاولات التجديديّة رغم جرأتها أنّها «لم تغادرْ المناهجَ التقليديَّةَ الموروثة، إذ كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه في فهمه ونقده، وقلّما حاول بعضُهم توظيفَ مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في فهم الدِّين ونَقْدِ التُّراث» .
الإيمانُ لغةً للحبّ
يرنو الرفاعيّ إلى الانتقال بالدين من ضيق الأيديولوجيا إلى سَعَة الأنطولوجيا، ومن أطلال الفقه السَّليط إلى رَبْوَةِ الفلسفة، ومن ركام الكلام الغابر إلى آخرَ إنسانيٍّ جديد، وإلى أنسنة الديني بديلًا عن تديين الدنيويّ، وإلى لاهوت الحريَّة بديلًا عن لاهوت الاسترقاق، وإلى لغة تراحُميّة بدلًا من لغة اصطراعيّة. ويذهب – في أعماله كلِّها - إلى تطهير ساحة الدين من دَنَس السياسة وافتقارها الروحي، وإلى تحرير اللاهوت بديلًا عن لاهوت التحرير، وإلى مفارقة عنف الأسماء إلى أنفاس الرحمان، وإلى عبادة الله عن حب ورغبة لا عن خوف ورهبة، وإلى الارتحال بالدّين من فضاء المعتقد والمذهب إلى رحابة الإيمان حيث تتحدّثُ الأديانُ لغةً واحدة، وحيث يستوحي المؤمنون «إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة؛ تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم» ، وحيث يتكشّف «الإيمانُ حقيقةً يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةً تتوحّد في فضائها، ومنبعًا مُلهِمًا للحياة الدينية فيها» .
ليس تعدُّد الصور الإلهيّة في العالَم إلّا لتعدّد الأفهام واختلاف الأنظار؛ يقول الرفاعي: «صورةُ اللهِ هي أول ممارسة تأويلية مارسها البشر، إذ اشتقّ أول البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوّرون اللهَ على صورهم المتنوعة، المنتزعة من عوالمهم المتنوعة. بنو آدم لا صورة نهائية يصلون إليها، لذا فإن الله لا صورة نهائية له. اللاتناهي للصور هنا هو لاتناهي وعي بني آدم وتأويلهم» . لعلّ ما يذهب إليه الرفاعيّ من تنوّع صُوَرِ اللهِ في أذهان البشر تبعًا لتعدُّد تأويلاتهم الخاصّة استدعاءٌ لما يذهب إليه ابنُ عربي من أنّ تعدُّد الأديان والآلهة في العالم راجع إلى ظهورات أسماءِ الله وتقيُّدها بصورةِ الحقّ في أذهان البشر؛ انظر إليه يقول: «والذَّوقُ مُخْتَلِف، ولمَّا ذُقْنَا هذا الأمرَ كان التّنَزُّلُ فُرْقَانيًّا، فقلنا هذا حلال، وهذا حرام، وهذا مباح، وتَنَوَّعَتِ المَشَارِبُ، واختلفتِ المذاهبُ، وتميَّزَتِ المراتبُ، وظهرتِ الأسماءُ الإلهيَّةُ والآثارُ الكونيّةُ، وكثُرَتِ الأسماءُ والآلهةُ في العالَم» .
ورغم هذه الرؤية المنفتحة للرفاعيّ في التعدّديّة الدينيّة إلّا أنّه يرى أنّ الإيمان لا يمكن تحقُّقُه إلّا في صورة اتِّباع دين من الأديان، وتلمّس منطقه الخاص في العبادات، فعلى كلّ مؤمن ممارسة دينه بانحصارٍ في منطقها الشعائريّ، إذ الإيمان: «جَذْوَةٌ مُشْتَعِلَة؛ وهذه الجذوة بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئًا فشيئًا حتى تنطفئ. ما لم تتكرَّر الطقوسُ والصلاة في سياق عبادِيّ مرسوم، يذبل الإيمانُ، ويذوي حتى يصير حطامًا... القولُ بأنّ لكل شخص عبادته وصلاته الخاصّة كلام غريب على منطق الأديان... وأغرب منه محاولاتُ بعض الناس ترقيع والتقاط عناصر متضاربة من أديان مختلفة... وممارستها بشكل يمحق الدِّين، وينتحل حالةً زائفةً للإيمان» . وبذلك لا يرى الرفاعيّ خلاصًا للإنسان إلّا في الإيمان المُعَزَّز بدين خاصّ له منطقه الشعائريّ، وعلى هذا الدّين أن يكون رحمانيًّا يتوسّل صفات اللهِ في العفو والصّفح؛ يتخلق بها ويتمثّلها في سلوكه تُجاه العالَم... هكذا يعيش الإنسانُ تلتزمه كرامتُه وحريتُه قيمتَين ثابتَتَيْن في كينونة نفسه، ويحيا عين إنسانيّته، فهو مصنوع في أصله على عين الله؛ نفخ فيه من روحه، وعلَّمَه، وظهر من خلاله في هذا العالَم الكبير.
يصير الإنسانُ هكذا إنسانًا متجانسًا بالألوهية الكامنة فيه؛ يسلك في عالمه سلوكًا إيمانيًّا متوسِّلًا رحمة الإله، متخلِّقًا بأخلاقه عفوًا وصفحًا، وبذلك ينطوي الشرُّ الدينيّ في العالم منطمسًا بتآلف الأديان في طيَّاتِ الفضاء الإيماني، ومساقاتِه المنبسطة بالحبّ.
يقول فلاسفةُ اليونان إنّ الإنسانَ حيوان ناطق، والنطق فيه علامة على وجود العقل الذي يمتازُ به عن سائر الحيوان، ويقول الرفاعي إنّ الإنسانَ حيوان كريم؛ حيوان بما أُودِعت فيه من حياةٍ هي نفخة إلهيّة مخصوصة، وكريم بالمنح والفضل الإلهيّ السَّاري في وجوده؛ «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء: 70). تتخذ الكرامة في سياقها القرآني قيمة عليا تبتني عليها وتشتق منها قيم الدين ومقاصده عند الرفاعي. يتحدث عن هدف كتابه الأخير "الدين والكرامة الإنسانية" بقوله: "هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين. الإنسانُ يولَد مُكرّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله اللهُ قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض" .
من مهامِّ الدِّين الرحمانيّ - الذي أرادَه الله، والذي يفتقر إليه الإنسان لنفي اغترابه في انفصاله عن الله - أن يحافظ على كرامة الإنسان، وأن يُرَسِّخ وجودها في العالَم، فـ «التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي، أي أنَّه مكوّنٌ ذاتيّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغضّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية» .
خِتَامُ رَاجٍ
عانقتْني أوراقُ الإيمانِ تلك فعانقتُها، وتحسَّسْتُ بها شغافَ قلبي، ومواطنَ الحبّ داخلي، فكنت أقرأ نصوصَها، فلا تمكث تقرأني وتصوّبني، ترميني وتتلقّفُني، منهمرةً عليّ دون إمساك، منسابة عليَّ نهرًا يروي الظامئ وما وَرَد، مناجيةً إيّايَ نجوى حبيب انشقّ الفؤادُ عنه، وأصدق أقول إنَّنِي خرجتُ عنها إليها في طور وجوديّ آخر، وشأن من شؤون الله. خرجتُ عنها مبهوت العقل، آمِن القلب، وديع الروح، مُتَمَثِّلًا غاية الرفاعيّ في قوله: «غرضُ كتاباتي سكينةُ الروح، وطمأنينةُ القلب، وإيقاظُ العقل» .
طالعتُ هذه المجموعة وطالعتْني، قرأتُها وقرأتْني، وما خرجتُ عنها يوم خرجتُ إلّا إليها، أَتَظَاهَرُ بها عليها. إنّها رحلة إيمانيّة لمن أراد الإيمان، ودفاتر نقديّة لمن رام العقل، وأفكار مثيرة لمن أراد الجدل.
وكما تظهر الأسماءُ الإلهيّة في العالم وتتكشّف وتتجلّى في محالِّها، فإنّه ما عاينتُ اسمًا ظاهرًا في منطوقها، أو كامنًا بين ألفاظها وسطورها كاسم الله الرحمن الرحيم الذي لم يغب عنّي لحظةً مدّةَ إقامتي بجنباتها، ونزولي عليها، ونزولها عليّ. ويكفيها حسنًا وجمالًا ما أُلْبِسَتْ من رداء رحمانيّ، ولا أحسب يخلو قُرَّاؤها عن أربع؛ متفاعل معها بالقبول والإثبات في عصر يعتريه الشكُّ والريبة، أو معتبرٍ إياها نصًّا مؤسِّسًا يُحشِّي عليه شرحًا ونقدًا، أو مستضيئٍ بها أمورًا وأبوابًا لم يطرقْها قبل، أو مُناهضٍ للمقدَّس تَحَيَّد بها إن قرأها دون استبداد مِنْ تَحَيُّز.
وأنتهي إلى قول ورجاء؛ تمتاز هذه المجموعة في أجزائها وثناياها التي تناقش ما يتعلّق بالدين، بطريقة مازجة بين العقل والروح والأسلوب الأدبي بأنّها الأفضل والأكثر نجوعًا وتأثيرًا في رأيي ، وما زلتُ أرجو الرفاعي كتابة سيرته الذاتية بأسلوبه الأدبيّ الفلسفيّ، وألّا يحرمنا تدوين رواية أو قصّة تحكي فلسفتَه الإيمانيّة - على الطريقة الحديثة - يحشد فيها آراءه الدينيّة بطريقته التي يَغْشَى فيها الروحُ العقلَ، والعقلُ الروحَ، فتنفذ إذا ما كان النفاذُ بسلطان.
عبد الجبار الرفاعي
عبد الجبار الرفاعي is on Facebook. Join Facebook to connect with عبد الجبار الرفاعي and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com