كتاب كامل أ. د. عادل الأسطة - حزيران الذي لا ينتهي... الجزء -3- (50- 70)

50 :
( كيف وجدت نفسي أقف إلى جانب الألمان )
لم يكن لدي ، حتى العام 1974اطلاع كامل على ( الهولوكست ) . تماما كما لم يكن لدي أي وعي سياسي - وما زلت غير واع سياسيا - . ولكني وجدت نفسي أقف إلى جانب الألمان .
حكاية أبي المتكررة عن الألمان والإنجليز ، ووقوف الإنجليز إلى جانب الحركة الصهيونية - يومها : اليهود - جعلتني أميل إلى الألمان . ولطالما كرر أبي حكايته مع صديقه اليهودي ( صموئيل ) .
كان لأبي ، قبل العام 1948، أصدقاء يهود ، وكانت له علاقات غرامية مع فتيات يهوديات كن يغنين له بالعبرية ( التشتكني من عيني التشتكني من شفتي ، كخا عوسيم بتل أبيب كخا عوسيم بيروشلايم ) . وأما حكاية أبي مع صاحبه اليهودي والموقف من الإنجليز والألمان فتختصرها عبارة ( صموئيل ) لأبي ، وهما مراهقان : " شوف يا مصطفى ، إن انتصرت ألمانيا صرنا حميركم وركبتمونا ، وإن انتصرت بريطانيا صرتم حميرنا وركبناكم " ، ولتكرار أبي العبارة مرارا كررتها بدوري ، في كتاباتي مرارا ، وهكذا وجدت نفسي ألمانيا ، حتى قبل أن أذهب ، في العام 1987، إلى ألمانيا ، لأدرس فيها .
بعد هزيمة حزيران كنت أمر بالقرب من سوق الخضار القديم ، في مدينة نابلس ، وكان وسط المدينة تقريبا ، وكنت ألاحظ صاحب عريشة بطيخ يعرض بضاعته ويرسم على بطيخة الصليب المعكوف ، أي شعار النازية ، وكنت أصغي إلى بعض الناس يحذرونه من الجيش الإسرائيلي الذي قد يعتقله إن شاهد البطيخة ، بدعوى أنه نازي أو يؤيد النازية ، ولم أكن أفهم هذا جيدا.
في شتاء العام 1974تقريبا ، أو قبل هذا بقليل أو بعده بقليل ، كنت أتابع ، من خلال التلفاز الأردني ، ولم نكن نشاهد ، في حينه ، إلا قناة التلفزيون الأردني وقناة التلفزيون الإسرائيلي ، مسلسلا عنوانه ( كومبات ) وهو يصور الحرب العالمية الثانية . وكلما انتصر الألمان في معركة وجدتني أنتشي ، وكذلك أبي الذي كان يشتم ( هتلر ) لحماقته التي سببها أنه توسع في الحرب ، وهكذا خسرها ، وخسرنا نحن بخسارتها يافا وحيفا .
كان مسلسل ( كومبات ) يريني ما جرى في الحرب العالمية الثانية ، ويمدني بمعلومات عن المعارك . وكما كان أبي يشتم ( هتلر ) كان يشتم الطليان وينعتهم بالرخاوة ، وأنهم هم سبب آخر من أسباب هزيمة ألمانيا .
كان أبي يتحدث عن الألمان كما لو أنه ألماني . ولا شك أنه ، في حديثه ، كان مدفوعا بخسارته بلاده التي كان الإنجليز السبب الرئيس فيها منذ إصدار وعد بلفور .
في العام 1974 كنت وأبي غالبا ما نشاهد مباريات كأس العالم ، وقد كانت يومها تبث بالمجان ، عبر شاشة التلفزيون الأردني وشاشة التلفزيون الإسرائيلي ، ويبدو أن دولة قطر لم تكن موجودة على الخارطة ، أو أنها لم تكن دولة عظمى ، كما هي الآن ، لتحرم الفقراء من مشاهدة مباريات كرة القدم إلا من خلال رسوم اشتراك .
في مباريات كأس العالم تلك وجدتني أنا وأبي ألمانيين ، نفرح لفوز ألمانيا ونحزن لخسارتها ، ويوم أقيمت المباراة النهائية ، بين ألمانيا ، وأظن هولندا ، تابعت المباراة بلهفة ، وحين سجل ( جيرارد مولر ) هدف الفوز الثاني ، وأظن أن المباراة انتهت بنتيجة 2/1 لصالح ألمانيا شعرت أن الفلسطينيين انتصروا على إسرائيل . ولطالما ترددت العبارة " عدو عدوي صديقي " وكان الألمان أعداء لليهود الذين طردونا من يافا وحيفا .
بعد أربع سنوات سأقرأ أدبيات فلسطينية يسارية تميز بين اليهود والصهيونية ، وتدين ( الهولوكست ) وتصف ( هتلر ) بالمجرم ، بل وتتعاطف هذه الأدبيات مع الضحايا اليهود . كانت رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " 1969 التي قرأتها في العام 1977 واحدة من تلك الروايات ، بخاصة بعد أن أعادت نشرها دار صلاح الدين في القدس، وفي 1978أيضا قرأت حكاية سميح القاسم ( الاوتوبيوغرافية ) " إلى الجحيم أيها الليلك " ، وفيها يأتي على معسكرات النازية،ولم أقرأ أي مقطع من كتاب ( ادولف هتلر ) " كفاحي " إلا حين قرأت قصة سميح القاسم الطويلة " الصورة الأخيرة في الألبوم " 1979 التي صدرت أيضا عن منشورات صلاح الدين .
هل بقيت ألمانيا حين قرأت أدبيات اليساريين ، أم تراني صرت يساريا ؟
في العام 1987 سأسافر إلى ألمانيا الغربية لأدرس فيها ، وحين أزور ألمانيا الشرقية ، وأقارن ما كانت عليه الدولتان سأكتشف أنني كنت برجوازيا صغيرا ينحاز إلى اللافت المبهر ، ولو كنت مواطنا ألمانيا شرقيا ، لربما وجدتني قتيلا على سور برلين ، متسللا إلى العالم الرأسمالي ، أهو قرن الموز الذي دفع بعض الألمان الشرقيين إلى الهجرة أم بنطال الجينز ؟
" اسمع يا مصطفى ! إن انتصر الألمان صرنا حميركم وركبتمونا ، ولم ينتصر الألمان فصرنا نحن الحمير ، والحق ، كل الحق ، على الطليان والمعكرونة ، كما كان عمي يقول عازيا الأمر إلى رخاوة الطليان الذين أهدونا في العام 1982 كأس العالم الذي فازوا فيه بكرة القدم.
( هايل هتلر )( باي هتلر )
خربشات 16/7/2016

***

51 :
( محمود درويش وفدوى طوقان في مدرج سمير الرفاعي في الجامعة الأردنية )
في الجامعة الأردنية بدأ وعيي ينضج خطوة خطوة . من قراءة أشعار الأرض المحتلة إلى التعرف على طلاب فتحاويين أو من الجبهة الديمقراطية ، وحتى على طلاب من الحزب الشيوعي ، وظلت علاقتي بهم حذرة عموما ، فلم أقترب من أي فصيل ، وإن التفت إلى نشاطاتهم .
تعرفت إلى شباب من الجبهة الديموقراطية وكانوا من نابلس ، وفيما بعد غدوا يعملون في السعودية ونسوا الجبهة وأثروا .
ولاحظت نشاط طلاب فتح ، وكانوا غالبا من أبناء الريف الفلسطيني القريب من مدينة نابلس . كان هؤلاء ينشطون في إحياء أمسيات تراثية ويشكلون فرقة دبكة ، ويقرؤون الشعر .
وتعرفت إلى طلاب شيوعيين من منطقة الخليل ، لم يكونوا مجتهدين قدر ما كانوا نشيطين ، وأما سمير عبدالله الطالب المقدسي فكان أشهر من نار على علم . كان نشيطا ثم انطفأ نشاطه فجأة ، ولم ألتق به إلا حين درسنا معا في جامعة النجاح ، وعرفت أنه أكمل الدكتوراه في موسكو ..
وفي الجامعة الأردنية كانت الأصابع تشير إلى أستاذين يدرسان في كلية التجارة ، وهما د.محمد الحلاج الذي درسني القضية الفلسطينية ، ود.اسماعيل عبد الرحمن ، إن لم تخني الذاكرة ، وكان شيوعيا ، وعرفت فيما بعد ، من خلال الكتب ، أنه التقى بمحمود درويش في ألمانيا الشرقية وفي موسكو ، يوم كان محمود درويش في الحزب الشيوعي الإسرائيلي . ولم أعد أذكر إن كنت درست معه مساقا في كلية التجارة ، وأظن أنه انتهى إلى رجل هادن الحكم الأردني ليحافظ على وظيفته في الجامعة الأردنية .
كانت ثمة هالة تحيط بالدكتورين ؛ الحلاج واسماعيل ، مردها الفكر السياسي الذي حملاه ، أو أنه السحر السياسي الذي بدأ يترك أثره علينا وفينا ويلفت أنظارنا إلى عوالم أخرى غير قراءة الأدب ودراسته . الاحتلال والجسور وعذابات الإقامة في الأردن لأشهر دون أن يسمح لنا بالعودة إلى الضفة متى شئنا ، وربما منظر الجسور في عبورها ذهابا وإيابا والذل الذي نعاني منه من الطرفين ؛ الأردني والاسرائيلي ، وربما هي بقايا حزيران وبقايا أيلول والكراهية الدفينة التي نجمت عن ضياع الوطن من ناحية ، وإعاقة من يعمل على مقاومة الاحتلال من ناحية ثانية . ولن أنكر أن تلك الأيام كانت أياما قاسية وصعبة لما حفلت به من كراهية خفية وظاهرة بين الفلسطينيين والآخرين (؟).
كنت طالبا مجتهدا وحذرا في الوقت نفسه . ولم اشأ أن ازج نفسي بنشاط سياسي ، ولكني لم أنس أنني فلسطيني عاش الهزيمة وشاهدها بأم عينيه ، وتابع أخبار أيلول بجوارحه كلها ، ومازال يعاني من رحلة الشتاء والصيف على الجسر ؛جسر المذلة . ولهذا لم أكن أغض النظر عن نشاطات الطلاب النشيطين ، وحتى لو غضضت الطرف عنها فإنها هي لن تغض نظرها عني .
مرة أقمت في شقة يملكها أهل الكاتب حمادة فراعنة الذي كان سجينا ، وقد عثر عليها صديقي نعيم النقيب الذي كنت أقيم معه في غرفة في جبل النزهة ، هي من بيوت جحا ، وكان له صديق يدرس معه في كلية التجارة وهو من مخيم الجلزون ، وكانا منسجمين معا انسجاما لافتا ، وكان مزاجي يختلف عن مزاجهما . وذات نهار وأنا وحدي في الشقة أنظفها عثرت على منشورات للجبهة الديموقراطية ، وفوجئت بها وعرفت أنهما كانا ينتميان للجبهة ، ولما كان مزاجي لا يتطابق ومزاجهما فقد أبديت لهما رغبتي بترك الشقة ، ولم أفصح لهما عن السبب إطلاقا ، ولم أذكر هذا لأحد ، نوعا من السرية ، فأنا أسافر إلى الضفة الغربية ، وأنا أيضا أدرس في الأردن ، ولم تكن الجبهة مقبولة للجانبين ؛ الأردني والاسرائيلي ، ولا أنا كنت أقبل أن أكون مخبرا لأي من الطرفين ، فهذه خيانة عظمى . وسأعرف لاحقا أن نعيم ، حين التقى في عمان بأخيه عبد الكريم ، غدا ملتحقا بحركة فتح مثل أخيه .
في تلك الأيام كانت أشعار الأرض المحتلة تنتشر انتشار النار في الهشيم ؛ أشعار محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان ، ولما كان الطلاب الفتحاويون ينشطون ثقافيا وتراثيا ، فقد أحيوا حفلة في مدرج سمير الرفاعي ، وقرؤوا قصائد لدرويش وفدوى ، ومنها قصيدة درويش التي يخاطب فيها فدوى :
نحن في حل من التذكار ، فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليل ،
وأما قصيدة فدوى فكانت القصيدة التي مطلعها :
على أبواب يافا يا أحبائي
وقفت وقلت للعينين : قفا نبك .
كان أحمد يوسف ، وهو طالب من اللبن قرب نابلس ، يقرأ قصيدة درويش ويمثل شخصه ، وكانت فاتنة غوشة ، وهي من القدس ، تقرأ قصيدة فدوى ، كما لو أنها فدوى .
فيما بعد ، حين يعود أحمد يوسف إلى الضفة ، بعد أن أنهى البكالوريوس ، سيعتقل لمدة ثلاث سنوات ، بتهمة الانتماء إلى حركة فتح ، وسألتقي به في العام 1980، وأنا أدرس في الجامعة الأردنية ماجستير اللغة العربية ، وسأنفق معه بضعة أيام ، نزور فيها معا جريدة الرأي ، ليلتقي بصديق له أخذ يعمل في الجريدة ، بل وغدا محسوبا على النظام الأردني ، وقد دعانا معا لتناول طعام الغداء ، فذهب أحمد واعتذرت أنا ، فلم أكن أتقبل ما آل اليه صديقه ، ولعل قصة صديقه تستحق أن تروى .
هكذا تعرفت إلى محمود درويش وإلى فدوى طوقان أكثر وأكثر ، ومع أنني من نابلس مدينة فدوى ، إلا أنني لم أكن أعرف الكثير عنها وعن اشعارها ، وحين قرأت في العام 1986سيرتها الذاتية " رحلة جبلية ..رحلة صعبة " التفت إلى المثل الذي أوردته عن موقف أهل نابلس منها ومن اشعارها في بداية حياتها الشعرية ، حيث لم يعترفوا بشاعريتها .
أوردت فدوى في سيرتها المثل التالي ( زمار البلد لا يطرب ) ، ويبدو أنني ، وأنا في نابلس ، كنت مثل أهل المدينة ، لا أطرب لأشعار الشاعرة ، فلما أصغيت إلى بعض قصائدها في الجامعة أحببت التعرف إليها .
خربشات 16/7/2016 مساء

***

52 :
( بيوت جحا وقصة صديق من بيت جحا )
من بيوت جحا التي أقمت فيها غرفة في جبل النزهة .
كنت أبحث عن سكن ، ولما لم أجد رحب بي الطالب نعيم النقيب الذي كان استأجر غرفة في جبل النزهة بالقرب من مخيم الحسين أخبره عنها أقاربه الذين استقروا في المخيم منذ نشأته ،بعد العام 1948 .
لقد رغب نعيم ، في بداية غربته ودراسته ، أن يظل قريبا من اهله ، لعله يستانس بهم حتى يعتاد أجواء عمان ،وكان هؤلاء يعملون ، إن لم تخني الذاكرة ، خياطين ، وقد تعرفت إليهم .
كانت الغرفة منعزلة عن البيوت والغرف الأخرى ، وهي تطل على المخيم ، فيستأنس المرء ، ليلا ، باضواء بيوت المخيم ، ولا يشعر بالخوف ، إن بقي وحيدا .
لم يكن في الغرفة مطبخ أو مرحاض ، ففيها يستحم المرء ، وفيها يصنع الشاي والقهوة ويتناول الوجبات السريعة العابرة . وأما المرحاض فكان يقع بعيدا عنها مسافة تقدر بعشرة أمتار . وفي فصل الشتاء كان الأمر يتعقد ، بخاصة إذا ما هطل الثلج ، وهو ما كان في العام الذي أقمت فيه في الغرفة . وما خفف من الشعور بالحرج في أثناء الاستحمام أن نعيم كان لا يأتي إلى الغرفة إلا بعد العاشرة ليلا .
في ألمانيا ، في 1987، حين أقمت في شقة مكونة من غرفتين ، لهما مطبخ صغير وحمام لا تنقطع عنه المياه الساخنة ، و لا التدفئة المركزية ، عرفت التربية الاسبرطية التي ربيتها في المخيمات . كما لو أنني ولدت في اسبارطة ، ولذلك تمكنت من العيش في بيت جحا الذي يشبه غرف الجبيهة. والآن غالبا ما أكرر السؤال : كيف كنت أتقبل الإقامة في تلك الغرف ؟
في العام 1972 في بداية دراستي تعرفت إلى أحمد زغب ، وهو طالب من قرية جماعين ، بالقرب من مدينة نابلس ، وكان أحمد حصل على المرتبة الأولى في الضفة الغربية في الفرع الأدبي ، وقد اختار دراسة الأدب الإنجليزي ، وتعرفت إلى صديقه أحمد بن جحا ، ولم يخطر ببالي أن أسأله عن قريبه جحا ، ويبدو أنه ، مع مرور الأيام ، رغب عن أن ينتمي إلى عائلة جحا ، تلافيا للنكت والدعابات والطرائف التي الحقت بشخصية جحا ، فآثر أحمد السلامة وانتمى إلى عائلتها .
كان أحمد طريفا ومحدثا لبقا أيضا . وكان يتكلم ببطء وبثقة ، على الرغم من قصر قامته . لقد كان يفيض كلاما يزيد على قصره ، كما لو أنه يكمل ما نقص منه ، وكان ذا مشاعر وطنية فياضة اوقعت أبناء فتح ، لوقت محدد ، في غرامه ، فوثقوا فيه وعدوه منهم .
ذات مرة استدان مني مبلغا من المال . وكلمة مبلغ قد تبدو اليوم مثيرة للضحك ، ولكنها في حينه ، لطالب مثلي راتبه الشهري عشرون دينارا ، تعد حقا مبلغا . فقد كنت أنفق في اليوم الواحد ما يقارب النصف دينار فقط ، وكان هذا يعد مبلغا . وقد وعدني أحمد أن يعيد الدينار ، خلال أسابيع ، ما زالت مستمرة ، على الرغم من مرور أربعين عاما . وعندما طلبت الدينار منه ، بعد وقت ، أجابني بأنه لن يعيده ، فماذا أنا فاعل؟ وكان هذا هو الدرس الأول من مجموعة دروس اعطيتها في الإقراض ، فقبل سنوات قليلة ، وتحديدا في انتفاضة الأقصى ، جاءني زميل دراسة ، درس معي ومع أحمد ، وطلب مني مبلغ مائتي شيكل ، حتى يكمل قسط ابنته ، ووعد أن يعيدها ، وأخذ يتهرب مني ، ولم يعد يزورني في مكتبي في الجامعة ، وذات نهار التقيت به ، في السوق ، في البلدة القديمة ، وذكرته بها فأجابني بصراحة مطلقة : لا أريد أن أعيدها . والطريف أن اسمه محمد وهو ابن نمر ، ولم أعقب على صراحته ، فقد أخافني اسم عائلته . وهناك كثيرون نصبوا علي أيضا ، ولم أقاضهم ، وكانت إجابتهم واضحة صريحة : لا نريد أن نعيد المبلغ ، فماذا أنت فاعل؟
ليس ما سبق هو المهم في قصة أحمد بن جحا الذي غدا كاتبا يؤلف الكتب في طرائف الملوك والأمراء . فما كان مهما هو المفاجأة التي عرفناها لاحقا .
كان أحمد يدعي أنه ابن فتح ما هتف لغيرها ( أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ) ، وزعم أنه يقوم بدور مهم في الحرب الأهلية اللبنانية ، وأنه يقدم خدمات مهمة للحركة ، وقد أرانا صورة جواز سفره الأردني مختوما بختم منطقة حدودية سورية لبنانية ، أظنها المصنع . هل صدقناه يومها ؟
سيغدو أحمد صحفيا لامعا في الصحافة الأردنية ، مثل رؤوف علوان في رواية نجيب محفوظ " اللص والكلاب " ، وسينشر باسم آخر ، وسيغدو مستشار الأمير ومقربا منه ، بل وسيؤلف كتابا عن نكت الأمير ودعاباته ، وقد عرفت هذا من خلال مشاهدتي برنامجا تلفازيا بثته القناة الأردنية ذات صباح جمعة .
الله الله يا أحمد . والله حكايتك مثل حكايات جحا ، ومثل حكاياتي مع بيوت جحا ، فمن منا كان جحا ؟ أنا أم أنت أم البيوت ؟
ولم يكن أحمد هو الوحيد الذي يسلك سلوك الفهلويين ، فقد عرفت ، من زملائي ، من يسلك سلوكه ، وإن لم يغد جزءا من النظام ، ولم يكن يتظاهر بأنه فتحاوي ، ليغطي على انتمائه الحقيقي- كان أشيع وخمن أنه انتمى للمخابرات الأردنية حفظها الله لحماية الوطن .
كان لي أصدقاء ريفيون مرحون يحبون دائما أن يشخصوا وأن يأكلوا في مطعم أساتذة الجامعة ، حيث يأتيهم النادل يعرض عليهم قائمة الطعام ، ويحضره لهم ، مقابل خدمات إضافية يدفعها الأساتذة ، ولم أكن أسلك سلوكهم فاتهموني بالبخل - طول عمري متقشف - ، وأرادوا أن يكرموني ذات نهار ، ودعوني لتناول الطعام معهم ، في جناح الأساتذة ، على اعتبار ما سأكون . وعندما انتهينا من تناول الطعام طلبوا مني الخروج أولا ، وأما هم فسيدخلون إلى الحمامات ليغسلوا أيديهم وليحاسبوا ، وقد أنجزوا القسم الأول ، ولم يحاسبوا ، فقد انسلوا واحدا واحدا ، وعرفت أنهم صعاليك ظرفاء .
هل اختلف هؤلاء حقا عن أحمد بن جحا ؟ ربما احتاج المرء أن يمر عشرون عاما ، حتى تعود الثورة إلى الضفة وتستلم السلطة ليعرف ما نحن فيه وما صرنا إليه . كما لو أننا خرجنا من معطف مقامات الهمذاني ، ومن مقامات الكدية تحديدا . وسأتذكر زميلي الذي نصحني بدراسة الأدب العربي ، لأتعلم من نصوصه القيم العربية الأصيلة ، والتقاليد والأعراف والعادات ، ويبدو أننا لم نبتعد عن هذا كثيرا ، ولهذا أحببنا شعر الصعاليك وقصائد المتنبي ومقامات بديع الزمان .
ومع ما سبق أتذكر جحا وبيوت جحا وأحمد بن جحا . وهذا كله كان بفضل حزيران ، فلولاه هل كنت سأسكن في تلك البيوت؟
خربشات 17/7/2016

***

53 :
( ليلة القبض على سر السكين )
كانت بيوتنا الفقيرة في المخيم ، والبسيطة أيضا ، تكتظ بالأبناء ؛إخوة وأخوات . وكما ذكرت ، فأنا من أسرة منجابة مخلافة ولادة ، فلي سبعة إخوة ذكور ، وست أخوات ، ويبدو أن الأخير من الذكور أدرك مأساة كثرة الإخوة ، فآثر الانسحاب مبكرا ، فقد ولد ميتا .
كان بيتنا متواضعا ، و يكبر باستمرار ، وقلما مر عام دون أن يجري أبي إضافات إليه أو تغييرات فيه ، ولشد ما كان هذا يزعجني ، ويزعج أمي و إخوتي وأخواتي ، فالترميمات في البيت وهو مسكون شيء لا يحتمل ، ولكنها الضرورة .
أذكر أنه كان في الدار شجرة ليمون وشجرة خوخ ، وكان ثمة نباتات وياسمينة ذات رائحة فواحة . ولكن هذه كلها ، مع نهاية 60 ق 20 غدت من الماضي ، فقد حلت محلها غرف جديدة وصالون ، وكان لا بد من غرفة للبنات وأخرى للذكور ، وكانت المشكلة الكبرى يوم تزوج أخي الذي يكبرني ، وأقام معنا في غرفة خاصة به .
عندما كنت أريد الدراسة ، كنت أنتظر الليل . أنام في السابعة مساء لأصحو في العاشرة ليلا ، حيث يغلق أبي جهاز التلفاز ، بناء على طلبي ، وأسهر في الصالون حتى الثانية فجرا ، بخاصة في أيام الشتاء .
كانت المشاكل ، في البيت ، تزداد حين نعود من المدرسة ، حيث يكتظ البيت بنا ، فيؤدي الاجتماع معا إلى حركشات ، من هنا وهناك ، وهكذا تصرخ أمي بي طالبة مني أن أخرج من البيت فهو لم يخلق للرجال . ولم أكن أعصي لها أمرا ، تلافيا للمشاكل ورغبة في الخروج من الأمكنة الضيقة ، و كنت أخرج إلى الشارع أو إلى النادي ، حيث كان يفتح أبوابه في الثانية ظهرا ، وحتى يحين الوقت كنت أركن ، مع آخرين ، إلى سور مدرسة الذكور .
في المساء ، حين يحل الليل ويغلق النادي أبوابه ، أذرع ، مع أصدقائي ، الشوارع .
كان ثمة مساحات في المخيم ، وكان هناك شارع رئيس واسع ، بين مدرسة الذكور ومدرسة الإناث ، وهكذا نصبح مهندسي شوارع ، وقد لا نعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة ، بخاصة إذا لم يكن الجو ممطرا .
ذات ليلة وأنا أسير مع صديقي عاطف - و أهله من اللد ، وله أخ في عمان انتمى للجبهة الشعبية - باح لي بما كان يفكر فيه .
كان عاطف يتأبط سكينا ، مثل تأبط شرا ، ويكزدر في الشارع يتربص بأحد الأشخاص ، ممن دارت حولهم الشبهات ، وأخبرني أنه سوف يطعن ذلك الشخص ، وانتهى الأمر بأن ذهب كل واحد منا إلى بيته ، ومر الأمر بسلام . ولم أفش هذا السر لأحد إلا بعد انتقال عاطف إلى الرفيق الأعلى .
مع بداية حزيران تفتح وعينا على أمرين : المقاومة والعملاء . وكنا نعرف عن المقاومين ، بعد أن يسجنوا ، وأما العملاء فكنا نعرف عنهم من خلال ما يشاع عنهم ، ومن خلال صلتهم بالحكم العسكري وتعاونهم معه ، فقد كان هؤلاء يستصدرون التصاريح للمغتربين ، وكانوا أيضا يسعون في لم شمل بعض العائلات ، مقابل مبالغ مالية عالية .
في فترة من الفترات شعر هؤلاء المتعاونون بأهميتهم ، فقد غدوا موضع سؤال كثيرين من الناس الذين يمنعون من السفر أو الذين يريدون لم شمل بعض أقاربهم ، بل وكانوا يسيرون مرفوعي الرأس ، كما لو أنهم
يقدمون حلولا لمشاكل مستعصية ، كما لو أنهم منقذون لورطات هذا الشعب ، ولا يعني هذا أنهم لم يتعرضوا لمحاولات اغتيال أو لحرق سياراتهم وبيوتهم .
في العام 1976 عينت معلما في المدرسة الصلاحية في نابلس ، وأخذ بعض الطلاب يحذرونني من زملاء لهم تدور حولهم الشبهات .
في هذه البيئة نشأنا وكبرنا وكبر معنا الشك وأخذت حياتنا تتسمم ، ولم يكن الأمر في الجامعة الأردنية مختلفا ، فقد لازمنا أيضأ الشك والحذر والخوف ، ليس من عملاء الاحتلال وحسب ، بل أيضا من طلاب يعملون لصالح المخابرات الأردنية التي كانت تنشط في الجامعة فلم يكن أيلول وأحداث 1971 غائبا عن الذهن ، وأذكر أن أحد أبناء إحدى العائلات النابلسية ، حين درس في الجامعة الأردنية ، غدا أشهر من نار على علم في هذا الجانب ؛أعني إخلاصه للمخابرات الأردنية ، وكان يشار إليه بالبنان ، واستقر به المقام هناك وما عاد يزور نابلس إلا في فترات متباعدة .
ما من عاطل عن العمل إلا دارت حوله شبهات ، وما من شخص يدخن الحشيش او يتعامل به ، يبيعه أو يوزعه إلا دارت حوله الشبهات ، بل إن الشبهات نالت من أشخاص كانوا منحرفين أخلاقيا ، وفي فترات متأخرة ، حين أخذت الفصائل تتكاثر وتتناحر فيما بينها لأجل انتخابات نقابة أو ناد دارت الشبهات حول بعض أفرادها ، حيث أخذ كل فصيل يشوه الآخر .
في أثناء الانتفاضة الأولى ، هرب بعض المتعاونين إلى داخل فلسطين ، بخاصة من كانت أوراقهم مكشوفة ، ومات هؤلاء هناك ، ولم يعز فيهم ، حين أقام بعض أقاربهم بيوت عزاء ، إلا القليلون.
ما زلت اتذكرني أنا وعاطف نسير معا ، في الشارع الرئيس وسط المخيم ، وهو يفضي إلي بالسر .
هل كان عاطف مكلفا من أحد ؟ هل كان ينتمي إلى فصيل ؟ وما الذي جعله يفضي إلي بالسر ؟ وربما كانت مشاعرنا الوطنية الفياضة وحديثنا المستمر عن المقاومة وتعاطفنا معها هي ما جعلته يثق بي .
خربشات 18/7/2016

***

54 :
( لصوص المدافن .....لصوص الكتب )
لمحمود درويش قصيدة ظهرت في ديوانه " ورد أقل " 1985عنوانها " لصوص المدافن " يأتي فيها على ما يقوم به الإسرائيليون في فلسطين من سرقات الآثار . والقصيدة ، في موضوعها والفكرة التي فيها ، تذكر بقصيدة كتبها الشاعر بعد هزيمة حزيران ، وعنوانها " يوميات جرح فلسطيني " ، وكان خاطب فيها فدوى طوقان وأتى على ما كان يقوم به وزير الدفاع الإسرائيلي ، في حينه ، (موشيه دايان ) ، وكان هذا مغرما بالآثار ، يحتفظ بها ويبيعها ويثرى من ورائها ، ولذلك أخذ ، بعد الحرب ، يبحث عنها في الضفة الغربية .
كان درويش يرى أن الإسرائيليين يبحثون في الآثار على ما يؤكد جذورهم في فلسطين ، ليقولوا إن الفلسطيني عابر في سفر الحضارة ، ولا تاريخ له ، ولا شاهد على وجوده في فلسطين . والطريف أن ما ذهب إليه عن ( دايان ) يعززه كاتب إسرائيلي من دعاة السلام ، ومن مؤسسي دولة إسرائيل وهو الكاتب الشهير ( أوري افنيري ) وقد أتى على الفكرة غير مرة ، وأظن ان فدوى طوقان التي زارت بيت ( موشيه دايان ) بعد الحرب ، بطلب منه ، مع ابن عمها العلامة المرحوم قدري طوقان ومع رئيس بلدية نابلس ، في حينه ، المرحوم حمدي كنعان ، أتت على ما شاهدته في بيت الوزير .
على الجسر ، وأنا أسافر ذهابا وايابا ، مرة أو مرتين كل عام ، كان هناك لصوص ظرفاء ، لا يبحثون عن الآثار في متاعنا ، وإنما ينظرون في عناوين الكتب التي نعود بها من عمان إلى الضفة الغربية ، ليقرروا ما يسمح له منها بالدخول ، وما لا يسمح له . ولم يكن أمام المرء إلا الرضوخ لما يقرره الضابط الذي كان يعرف العربية ويقرأ عناوين الكتب ، وقد يتصفح مقدماتها .
في باديء الأمر لم نكن نناقش الضابط ، وكنا نتقبل ما يصدر عنه بصفته أعلم منا وادرى بما يهدد أمن دولته العتيدة ، فالكلمة كانت لدى شعراء المقاومة سلاحا يقاتلون به ، وقد صدق الإسرائيليون ما قاله محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وآخرون - وكانوا أصلا قد صدقوه قبل الانتصار الساحق ، فسجنوا ، قبل الحرب ، الشعراء والكتاب ، حتى لا يحرضوا على الدولة ، فتخسر الحرب .
مع مرور الأيام أخذنا نفاوض الضابط على الكتب التي يصادرها ، وقد نطلب منه أن يسمح لنا بإعادتها إلى عمان كاملة ، ما قرر مصادرته وما لم يقرر مصادرته ، وأحيانا تتم تسوية ما كان يعيد إلينا بعض ما قرر مصادرته ، مقابل موافقتنا على التخلي عن بعض الكتب .
كنا نرضى من الغنيمة بالإياب وبما نستطيع العودة به من الكتب التي لم تكن متوفرة في الضفة الغربية ، ولم نكن نعرف أن الضابط يصادر ما يصادر لأسباب لا صلة لها بأمن الدولة المصونة .
هناك لصوص مال ولصوص ذهب ولصوص أثاث ولصوص ملابس ؛داخلية وخارجية( بلاطين وكلاسين ) و ... و ... ولم يكن المرء يلتفت كثيرا إلى لصوص الكتب ، وإن وجدوا .
مرة فصلت الجامعة الأردنية عضو هيئة تدريس من حملة الدكتوراه ، لأنه سرق كتابا من مكتبة جامعتها ، وربما يكون بعضنا سرق كتابا من مكتبة صديقه أو من مكتبة عامة أو مكتبة تجارية .
هناك من يروج لسرقة الكتب ،وهناك من يقول : ما اتيس ممن يعير كتابا إلا الذي يعيد الكتاب الذي استعاره .
حتى اللحظة لم أقرأ كتاب ( جان جينيه ) الفرنسي " يوميات لص " ، لأقرأ ما كتبه عن سرقات الكتب .
لا اقصد ، هنا ، بسرقات الكتب سرقات أفكار الكتب ، أو سرقات الرسائل العلمية ،فهذه السرقات خطيرة ، وتسحب الشهادة من حاملها ، وما أقصده هنا هو سرقة الكتب لتقرأ .
على الجسر كان بعض الضباط المخولين بفحص الكتب يقوم بسرقة الكتب بطريقة يخوله بها القانون ، ولم تكن هذه الكتب المصادرة تتلف ، فقد كان الضابط ، كما أشيع ، يأخذها ويبيعها ، بأسعار مرتفعة ، لمكتبات الجامعات الإسرائيلية ، وليثرى من وراء ذلك . ولم يكن يهمه أمن الدولة وهو يصادر الكتب .
لقد أثرت الكتب المصادرة على الجسور فينا ، وجعلتنا نفكر جيدا في الكتاب حين نشتريه ، بل ونفكر في مصيره بعد اقتنائه : أنغامر به ونضعه في حقائبنا ونحن متوجهون إلى الضفة أم نهديه لأصحابنا ؟
ثمة كتب عديدة نشأ بيننا وبينها صداقة متينة ، ورغبنا في أن تظل موجودة في مكتباتنا ، ولكن اللصوص الظرفاء ، على الجسر ، كانوا يحولون بيننا وبين هذه الكتب ، وقد ذكرت منها " ديوان الوطن المحتل " الذي أعده المرحوم يوسف الخطيب .
من الكتب التي صودرت نسختي من كتاب المفكر العربي السوري صادق جلال العظم " النقد الذاتي بعد الهزيمة " ، وهوكتاب قرأته وأنا في مرحلة البكالوريوس وأفدت منه وظللت أحن إليه ، ومن الكتب التي رغبت في الاحتفاظ بها ، عدا ديوان الوطن المحتل ، رواية الروائي عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط" .
كنت قرأت الرواية في العام 1981 قبل أن تطبع في الضفة بعشر سنوات ، ولما عدت إلى نابلس في 1982 تخليت عنها في عمان ، وأهديتها لصديقة صديقتي المقيمة في شرق الأردن ، وهي من هناك أصلا . وكم حزنت لأنني لم أتمكن من الاحتفاظ بهذه الرواية التي كانت فاتحة معرفتي بالروائي النجدي الذي تابعت إصداراته بشكل لافت .
كلما قررت العودة إلى الضفة فكرت في أمر الكتب التي اشتريتها من مكتبات عمان ، وفي أمر المجلات التي تركتها كلها ؛ المعرفة السورية والموقف الأدبي السورية وأفكار الأردنية والثقافة العربية الليبية وأقلام العراقية .
الآن ربما الشيء الوحيد الذي أجيزه هو سرقة الكتب ، لأنني أدرك أنه ليس هناك من يرغب فيها ، وبالتالي فإنه يترفع عن سرقتها . كم كان الإسرائيلي المكلف بفحص الكتب ظريفا . حقا انه لص ظريف . وليت الأمور اقتصرت ، لدى ابناء العمومة،على سرقة الكتب . ليت !
خربشات 19/7/2016

***
55:
( رفيق الرفيق رفيق ،وسابع بيت لجار الرفيق ...... أيضا ...رفيق )
في العام 1976 التقيت في بيت خالي في الزرقاء بعضو الجبهة الديمقراطية صالح رأفت .
خالتي هي زوجة عم زوجة الرفيق ، وأنا قد اغدو ، بناء عليه ، أيضأ رفيقا .
عرفت ، في الجامعة الأردنية ، شبابا وشابات من نابلس ، وكان قسم منهم نشيطا في الجبهة الديمقراطية ، ومن هؤلاء نبيل سبع العيش الذي كان يدرس في كلية التجارة ، وهو شاب مرح وحبوب ، ولا أذكر من عرفني به ، وإن كنت أذكر أنه هو من حببني بفيروز التي لم أكن أصغي إليها ، لأنني كنت برجوازيا صغيرا حقا ، فقد كنت أقرن بين صوت المغنية وشكلها ، ولا أدري ممن سمعت العبارة التالية عنها : فيروز تسمع ولا ترى . وهذا لا شك يعكس نفسياتنا البرجوازية المحمضة التي ربينا عليها ، ففلانة وجهها قطع نصيبها ، وفلانة تقول للقمر انزل أقعد مكانك ، والله جميل يحب الجمال ، وعبس وتولى ....الخ .. الخ
كان نبيل يقيم في شقة في شارع السلط ، مقابل سينما زهران ، مع رفيق من رفاق الجبهة الديمقراطية هو موسى الشخشير ، وأغلب الظن أن موسى ، بعد أيلول ، ترك الجبهة واشترى متجرا في جبل الحسين لبيع الأدوات المنزلية وسرعان ما باعه لحافظ الشنار . وسأعرف فيما بعد أن موسى هو الأخ الأكبر لبلال الشخشير ( ابو العز ) الذي تعرفت إليه الروائية سحر خليفة ، بعد خروجه من السجن ، وزودها بمعلومات كثيرة أفادت منها في كتابة روايتها . كما لو أن بلال هو المؤلف الضمني لرواية سحر . وسأتعرف الى بلال لاحقا ، وقد كان قارئا للماركسية ، ويجادل فيها ، وكان يرى في الديموقراطية مثاله ، فدافع عنها على أنها التنظيم الوحيد الصحيح . وقد ظهر شيء من هذا في روايتي سحر خليفة .
في كافتيريا الجامعة أصغيت إلى نبيل ، وتعرفت إلى سوسن التي سرعان ما تزوجت وتركت الجامعة ، وسألتقيها لقاء عابرا وحيدا مع زوجها في بيت خالي . ( لن يعود نبيل إلى الضفة إطلاقا ، وسيترك الجبهة وكل نشاط سياسي وسيعمل في السعودية ويستقر فيها ، وأحيانا أعرف أخباره من أخيه الذي علمته في المدرسة قبل 40 عاما ) .
في تلك الأيام كان اليساريون يرسلون أبناءهم وأفراد أحزابهم إلى الاتحاد السوفييتي ، وكانوا يشترطون في العضو الموفد للدراسة أن يخدم تنظيمهم ، وشاعت الأقاويل عن تنظيمات وأحزاب تبيع المقاعد بمبالغ مالية . ولم أعد أذكر كيف تطرق الحديث ، مع السيد صالح رأفت ، إلى أسرتي ، وقد اعلمته أن لي أخا يدرس التوجيهي ، وأبدى صالح استعداده لمساعدته ليدرس في دولة اشتراكية ، ولكني لم أتابع الموضوع ، أو أن أخي لم يتشجع . ( كانت الجبهة تؤيد التدخل السوري في لبنان ، ولم يكن الرئيس حافظ الأسد أسفر عن وجهه الحقيقي إزاء م .ت . ف ).
ربما أراد السيد صالح رأفت مساعدة أسرة لاجئة . ربما ! علما بأنه ، بعد سنوات قليلة ، أرسل ابنة خالتي إلى روسيا لتدرس هناك . يومها لم أكن حفظت العبارة ( رفيق الرفيق رفيق ، وسابع بيت لجار الرفيق رفيق ) ، وأظن أنني أخذت أكررها لاحقا ، لأن بعض التنظيمات اليسارية أخذت تعد على تنظيمها أفرادا كانوا قريبين منها . وهنا تكمن مشكلتي ومشكلة التنظيمات اليسارية معا . ( كان لصلة القرابة والمعرفة الشخصية دور كبير في الحصول على المنح ، ولم تكن الفصائل تختلف عن النظام الأردني في شأن منح البعثات ، فالنظام كان يمنحها للعشائر الموالية )سيتأكد لي لاحقا أن أحد أخطاء التنظيمات كان قبول من هب ودب ، وأن ما كان يكتب في لوائح التنظيم كان مجرد كتابة لا تؤخذ بعين الاعتبار . ففي اللوائح الداخلية كان يفترض أن يظل العضو ستة أشهر تحت الرقابة ، ويخضع للاختبار ، حتى يتؤكد من قابليته وصلاحيته أيضا ، لأن يكون رفيقا وملتزما . ولكن ما كان يكتب شيء وما كان يحدث شيء آخر ، فبمجرد أن يوافق المرء على الانضمام يعلن رفيقا ويطلب منه تنظيم رفاق وتوزيع نشرات سرية و ...و ... ولم يكن يراعى إطلاقا إن كان مقتنعا بالأمر او لديه استعداد وإرادة فولاذية . ولهذا غالبا ما كنت عضوا سرعان ما ينفلش ، وأعتقد أنني حزبي رديء ، ولا أصلح لأن أكون في تنظيم إطلاقا .
رفيق الرفيق رفيق وسابع بيت لجار الرفيق رفيق ، وأتذكر أنني ، في عمان ، أعطيت دروسا في الماركسية ، في بيوت رفاق في الجبهة الديموقراطية .
وغالبا ما كان القلق يساورني ، بخاصة أنني سأعود إلى الضفة ، إذ غالبا ما كان المنظمون يساقون ، من الجسر ، إلى السجن . كما لو أن هناك خللا ما . كما لو أن الانتماء إلى تنظيم سري أمر سهل وعابر ومجرد ( بريستيج ) . ( كنت ومعي أعداد مجلة الحرية التي يوفرها لي الرفاق أشعر بالخوف نفسه الذي أشعر به وأنا عائد من القدس ومعي مجلة الجديد وجريدة الاتحاد ) . ( حين سمح للصحف والمجلات المصرية ، بعد اتفاقية كامب ديفيد ، بالتوزيع في فلسطين قرأت قصة قصيرة لنجيب محفوظ عنوانها " التنظيم السري " وقد راقت لي كثيرا لأسباب منها ما لاحظته على تنظيماتنا السرية ).
وربما كان لعبارات قالها لي أستاذي الدكتور نهاد الموسى أثر كبير في عدم الجدية في الانتماء والتوجه نحو السياسة .
في أثناء دراستي في الجامعة الأردنية ، في 1980 / 1982 كنت أسيس كل شيء ، وكان الدكتور نهاد الموسى يقول لي : ولكن الوطن بحاجة إلى أكاديميين جيدين أيضأ ، وإلى متخصصين ، وهناك سياسيون كثر .
هل آثرت أن اغدو أكاديميا جيدا ؟
لست متأكدا من هذا ، ولكني غالبا ما كنت أفكر في أنني سأعود إلى الضفة ، ويجب ألا اعتقل على الجسر ، مثل كثيرين . أهو الجبن أم الحذر أم ...؟
رفيق الرفيق رفيق ، وسابع بيت لجار الرفيق رفيق .
خربشات 20/7/2016

***

56 :
( في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها الدموية )
سيختار الفلسطينيون في فلسطين التاريخية يوم الثلاثين من آذار يوما للدفاع عن الأرض ، وسيكتب الشعراء قصائد خاصة بهذه المناسبة ومثلهم سيفعل كتاب القصة القصيرة .
صار فارس رتيبة فارس أبو عرب ، مثله مثل عنترة بن شداد الذي كان ابن زبيبة ، فلما كر وفر وكر قال له أبوه : أنت حر.
وكان أهل القرية في قصة محمد علي طه " وصار اسمه فارس أبو عرب " ينادون فارسا باسم أمه ، لأنها ذات شخصية قوية غلبت على شخصية زوجها ، ثم لما دافع عن أرضه وتصدى للإسرائيليين الذين جاؤوا ليصادروا الأرض نسبه الناس لأبيه .
في آذار 1976 كنت أدرس في الجامعة الأردنية ، وكانت السنة الدراسية هي السنة الأخيرة ، وفيها درست مواد الأدب الحديث ، وأعاد د . عبد الرحمن ياغي تدريسنا مواد كان أخوه المرحوم هاشم درسنا إياها : " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ ،و " بجماليون " لتوفيق الحكيم ،و " أنشودة المطر " لبدر شاكر السياب ، و " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " لمحمود درويش .
وغالبا ما كان د.عبد الرحمن يعبر عن خلافه واختلافه مع أخيه . وبدا د.عبد الرحمن ناقدا أيديولوجيا متعصبا للماركسية والنقد الماركسي .
كان معجبا جدا بادباء الأرض المحتلة ، وكان يرى أنهم يفجرون التراث واللغة ، دون أن يكونوا درسوا في جامعات ، فلماذا لا نحذو نحن ، أبناء الأرض المحتلة ، حذوهم ؟ولماذا نبدو كسولين ؟
لقد كان يطلب منا أن نثقف أنفسنا ، ولم يرق له مستوانا ، وغالبا ما كان يعنفنا ، وهذا ما لم ينهجه أخوه د . هاشم الذي كان يعاملنا برفق ، ويرى أن الأمر يحتاج إلى صبر وأناة وروية ، وأن كل شيء يمكن أن ينجز وأن يتحقق بالهدوء ومع الأيام . بل وكان يرى أنه لا يمكن لي حركة التاريخ .
في أثناء دراستنا رواية " اللص والكلاب " عرض التلفزيون الأردني الرواية مسلسلا ، وكانت ، من قبل ، أخرجت فيلما سينمائيا قام شكري سرحان فيه بدور سعيد مهران ، وكمال الشناوي بدور رؤوف علوان . وصرنا نقارن بين الرواية والفيلم والمسلسل ، وكانت هذه بداية الالتفات إلى الروايات مسونمة ، ولاحقا المسرحيات ، فقد شاهدنا فيلم " سيدتي الجميلة " المأخوذ عن مسرحية " بجماليون " للكاتب الايرلندي الساخر ( برناردشو ) ، ومثل فيه محمود ياسين .
كنا من قبل نشاهد الأفلام المصرية ، مثل القاهرة الجديدة والسراب وميرامار والسمان والخريف والسكرية وقصر الشوق وبين القصرين وفي بيتنا رجل ولقيطة ليلة غرام و ...و ...و ... دون أن نلتفت كثيرا إلى العمل الأدبي ومؤلفه ، ولا أظن أن اسم نجيب محفوظ كان يعني لي ، حين أشاهد الفيلم ، شيئا ، مع أن جريدة القدس الصادرة في الضفة ، بعد حزيران ، أخذت تنشر بعض رواياته التي كتبها بعد الهزيمة ، على حلقات.( هنا أشير إلى بداية علاقتي بنجيب محفوظ ، فقد أخذت أتابع ما يصدر له من روايات ، وأخذت أشاهدها مسونمة ، مثل رواية " الكرنك " 1975 التي سرعان ما سونمت ، وساقرا أعمال المرحلة الفلسفية كلها وسأتابع نتاجه الجديد أيضا ).
في الثلاثين من آذار سيقيم طلاب الجامعة الأردنية احتفالا بالمناسبة وتضامنا مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام 1948، وستعلق الذكرى في الذاكرة ، وسأبحث عن قصائد الشعراء التي كتبت في المناسبة ، وسأقرأها بصوت عال .
لما عدت إلى نابلس ، بعد تخرجي في حزيران اشتريت ديوان سميح القاسم " وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم " الصادر حديثا ، وقرأت ما كتبه عن الأرض وعن المظاهرات التي انفجرت في مدن الضفة ، وفي العام 1977 أعادت دار الأسوار طباعة دواوين محمود درويش ؛ " أحبك أو لا أحبك " 1971،و " محاولة رقم 7 " 1974 ،و" أعراس " 1977، وكانت ثمة دار نشر أعادت طباعة قصيدة " أحمد الزعتر " في كراس خاص ، وباللغتين ؛ العربية والإنجليزية ، وكانت الترجمة من إنجاز رنا قباني زوجة الشاعر ، كما نشرت الدار نفسها قصائد لمعين بسيسو في المناسبة نفسها . وستلازمني هذه الدواوين لفترات طويلة جدا . سأقرأ قصيدة " الأرض " لدرويش مرارا و سأتوقف أمام سطره " خديجة لا تغلقي الباب : سنطردهم من هواء الجليل " وهو سطر سأظل أعود إليه وأنا أقرأ قصيدة " عابرون في كلام عابر " التي أثار ت ضجة كبيرة واختلف في تفسيرها وتأويلها : هل قصد الشاعر في قوله " اخرجوا من برنا من بحرنا " فلسطين كلها أم انه قصد فقط الضفة الغربية وقطاع غزة ؟
كانت الأحداث التي صاحبت يوم الأرض قد امتدت لفترة طويلة ، وقد عرفت تلك الأحداث بانتفاضة الطلبة ، وقد شهدت الضفة الغربية نشاطا أدبيا ملازما لمظاهرات الطلبة ، وعرف المغني مصطفى الكرد ، وعرفت فرق مسرحية ، بل وأقيم مسرح في نابلس ، وعرض مسرحية سعدالله ونوس " مأساة بائع الدبس " ، وسأحد نفسي أتابع هذا كله .
في ذلك العام عينت معلما في مدرسة قرية تل ، ثم سرعان ما انتقلت لأدرس في مدرسة الصلاحية الثانوية ، وكدت فيها أموت ، مع عشرة من زملائي ، بالغاز ، فقد حوصرنا في غرفة المعلمين التي احتمى بها الطلبة ، ورشقنا الجيش الإسرائيلي بقنابل الغاز المسيل للدموع ، ولما حاولنا الخروج من الغرفة انكسرت يد الباب وسدت علينا المنافذ وبدأنا نصرخ ، وبكى بعضنا موقنا أنه ، لا محالة ، هالك ، ولم ينقذنا إلا زميل كان في الغرفة المجاورة ، فقد سمع صراخ المعلمين وغامر وجاء وفتح الباب . ( ربما لسوء حظكم أنني لم أمت . ربما كان الله اراحكم من قراءة هذه الكتابة المملة . ربما وربما وربما ) .
في الثلاثين من آذار 1976 قالت لنا الأرض أسرارها الدموية ، ومتى ، أصلا ، لم تقلها من قبل ؟
في الثاني من تشرين ثان 1917صدر وعد ( بلفور )
وفي صيف العام 1948طرد أهلنا من فلسطين ، وارتكبت المجازر
وفي حزيران 1967 اكتمل تحرير الوطن ولم شمل العائلات (؟)
وفي أيلول 1970 حوصرنا في عمان ، واكتملت القصة في 1971 في احراش جرش
وفي 1973 ابتسمنا قليلا ، ثم
وفي الثلاثين من آذار قالت لنا الأرض أسرارها الدموية .
خربشات 21/7/2016

***

57 :
( طي ... النبي ولسان ضابط المخابرات )
لما أنهيت دراسة المرحلة الجامعية الأولى وهي مرحلة البكالوريوس ، في العام 1976 ، عدت إلى نابلس ، أبحث عن وظيفة .
كنت ملتزما مع الحكومة الأردنية ، وكان علي أن أخدم مقابل كل سنة ، درستها على حسابها ، سنتين . ولم تكن الحكومة تعارض تنفيذ الالتزام في الضفة الغربية ، فما زال النظام الأردني يحلم بالعودة إلى حكم الضفة ، ولهذا ظل يدفع إلى المعلمين الذين وظفوا في عهده ، رواتبهم .
عدت إلى نابلس ، كما عاد بطل الطيب صالح ، في روايته " موسم الهجرة إلى الشمال" ، و راويه الذي أنفق سبع سنوات من عمره ينقب عن شاعر مجهول .
عدت وكلي أمل في أن أظل في أرضي وبين أهلي ، ولا عشيرة - الحمد لله -لي ، وهنا أختلف مع راوي الطيب صالح ، ولأعمل أيضا معلما في مدارس الوطن .
لم يكن الحصول على وظيفة ، في تلك الأيام ، بالأمر المتيسر فورا ، وإن كان يمكن تحقيقه خلال أشهر أو عام على أكثر تقدير .
لم أترك صحيفة إلا قرأت إعلاناتها بحثا عن شاغر . سافرت إلى القدس وقدمت طلبات الى المدارس الخاصة فيها ، وذهبت إلى المعهد العربي في ابوديس ، وقابلت مدير مدارس الأيتام السيد حسني الأشهب ، وتقدمت بطلبات توظيف لمديرية التعليم في نابلس ، وذهبت إلى مدير منطقة نابلس السيد يوسف رضا المسؤول عن مدارس الوكالة ، ومعي كتاب توصية لم يجد نفعا . لا وذهبت إلى أريحا لأدرس في مدرسة المشروع الذي يديره السيد العلمي .
لم تمر أيام حتى عينت في المدرسة الثانوية في قرية تل ، وكنت أعطي إحدى وعشرين حصة للصف الأول الابتدائي وسبع حصص للصف الثاني الثانوي ، ووافقت على هذا حتى تثبت الوظيفة ، إذ كان يشترط في تعيين الحاصل على درجة البكالوريوس أن يعلم صفوف المرحلة الثانوية .
وأنا رجل محظوظ حقا في أشياء ، وفي أشياء أخرى حظي مثل حظ بدر شاكر السياب ، وإن كان حظي أفضل . ولأنني كذلك ، فلم أمكث في تل سوى أسابيع قليلة ، وسرعان ما انتقلت إلى المدرسة الصلاحية الثانوية في نابلس ، وكان التعيين في هذه امتيازا يشعر به صاحبه ، فلم تكن جامعة النجاح أسست ، وكانت المدرسة الثانوية موضع نظر خريجي الجامعات .
في ذلك العام ألغيت من المناهج مادة الفلسفة وكان يدرسها ، في المدرسة الصلاحية في نابلس ، الشاعر عبد اللطيف عقل ، فأسند إليه تدريس مادة اللغة العربية ، وهذا ما لم ينجح فيه ، فأرسل إلى قرية بورين ليعلم الاجتماعيات وحللت محله أدرس اللغة العربية ، وكما ذكرت من قبل فإن الله يكسر جملا ليتعشى ( .... ) وبقية المثل لديكم ، وإن لم أكن واويا على أية حال .
سأغدو زميلا للمعلمين الذين علموني قبل أربع سنوات ، وكان هذا مبهجا ومفرحا ومريحا إلى حد ما ، فالمدرسة في المدينة ، لا في القرية ، والمواصلات مؤمنة ومتوفرة ، ولكن المشكلة الكبرى كانت ، في تلك السنة ،في عدم انتظام الدراسة ، فمنذ الثلاثين من آذار ، إعلان يوم الأرض ، هاجت الضفة وماجت ، واشتعلت المظاهرات وعمت مدارس المدن بالدرجة الأولى . وزاد الطين بلة أن اسرائيل فرضت نوعا جديدا من الضرائب على التجار عرف باسم ضريبة القيمة المضافة ، فأضرب التجار وازداد الوضع تعقيدا ، وأصبحت أعلم في مدرسة تقود المظاهرات ، وكانت المدرسة العائشية ، وهي للإناث ، قريبة من مدرستي ، بل ملاصقة لها ، ما كان يدفع الطلاب إلى التوجه إليها لإخراج الطالبات ، ومن العشق ما قتل أحيانا .
لم يكن التعيين في الوظائف يتم نهائيا إلا بعد أن يعرض اسم المعلم على الإدارة المدنية التي ترسل اسم طالب الوظيفة إلى جهاز المخابرات ، لينظر في فصل المتقدم وأصله وعائلته ونشاطه وتوجهه السياسي ، إن كان له توجه ، والويل لمن يكون قريبا من فصيل تابع لمنظمة التحرير .
بعد أشهر قليلة من تعييني ساستدعى إلى ضابط مخابرات ، ليقابلني وليعرف إن كنت مؤدبا ومطيعا ولا خطر من ورائي فيما يمس أمن الدولة المصونة . وسأنتظر ساعات قبل أن أقابل الضابط ، وتلك كانت عادة رجال المخابرات ، فقد كانوا يمارسون علينا ضربا من السادية لا يصدق . يرسلون لك لكي تقابل الضابط في التاسعة ثم ينادون على اسمك في الثانية ظهرا ، وقد يقولون لك : ارجع غدا في التاسعة ، وقد يتكرر الأمر أسبوعا أسبوعين ، قبل أن تحظى بمقابلة أبناء شعب الله المختار .
وأنا في غرفة رجل المخابرات وجه إلي الأسئلة المعتادة ، ثم قال لي : ها هو طلب تثبيتك بين يدي ، وكل الأخبار عن نشاطك في المدرسة تصلني . ثم سألني ماذا سأفعل إن لم يوافق على توظيفي ؟!
أجبته إنني ملتزم مع الحكومة الأردنية ، فأنا طالب بعثة ، وعلي أن أخدم مقابل كل سنة سنتين ، وبالتالي فلي وظيفة في مدارس شرق الأردن ..
نظر إلي بتامل وقال : وماذا لو عينوك عند ( طي .. )النبي ، ويقصد في البادية في الصحراء .
وسأجيبه إنني ساعتاد على الأمر ، ولم أشأ أن آخذ وأعطي معه ، فأقول له : أنتم السابقون ، ولقد طردتمونا من مدننا وبلادنا ، ثم إنني أريد الوظيفة والبقاء في الضفة .
وسيقول لي : وإن عينت في الأردن ، فماذا عن أبيك وأمك وبعدك عنهما وعن إخوتك ؟
أجبته أن لأبي وأمي عشرة أبناء وبنات ، ولن يضيرهم غياب واحد .
وسأتصرف وأنا لست متأكدا من بقائي في المدرسة والوظيفة ، ويبدو أنني كنت على البركة ، أو هكذا أوحت له هيئتي في اللقاء .
سأعلم في المدارس الحكومية 14شهرا ، وسأغادر الى مدارس وكالة الغوث ، ولا أدري كيف كنت ، وأنا في المدرسة الحكومية ، أحث الطلاب على قراءة غسان كنفاني ومحمود درويش وآخرين ، فقد شكلت مكتبة صفية ، يسهم الطلاب ببعض قروش لشراء ما يصدر من كتب عن منشورات دار صلاح الدين والأسوار ، من كتب تقدمية . هل كنت أحسب للأمور حسابا؟هل كنت متهورا؟
لست أدري
خربشات 22/7/2016

***

58 :
( ممزير ،بن زوناه،بزونك )
حاييم شخصية يهودية لا ينساها سواقو مدينة نابلس وكل من كانت له علاقة بدائرة السير . وتعود أصول حاييم إلى لبنان ، وقد هاجر إلى فلسطين في أثناء حرب العام 1948 ، كما أعتقد ولست متأكدا من تاريخ هجرته ، ولكني على يقين من أنه أتى من لبنان ، وهو يتكلم العربية ويجيدها ، وحين يحاول مواطن فلسطيني أن ( يسوقها ) على حاييم ، يقول له :ألا تعرف من أين أنا ؟لقد حملت أمي بي وراء ال( بنك )في بيروت ، ويقصد حاييم أنه ابن حرام مصفى ، ولا أحد يستطيع أن يخدعه أو يتشاطر عليه ، إن حاول مواطن التذاكي .
ومنطقة وراء ال( بنك) في بيروت ، في زمن ازدهار بيروت ، وقبل الحرب الأهلية في لبنان التي بدأت في العام 1975 واستمرت خمسة عشر عاما ، كانت منطقة مزدهرة بالجميلات بائعات الهوى ، وكانت مورد طلاب الحب العطاشى لامراة . وربما تكون شتائم حاييم أيضا من أصول لبنانية ، وقد عرف عن اليهود ، العرب وغير العرب ، إنهم يحفظون الشتائم العربية ويستخدمونها لشتم العرب ، دون أن ينسوا ، طبعا ، قاموسهم الشتيمي .
( ممزير ،بن زونا) وفوق هذا ( بزونك )
ولعل الأخيرة مفردة تركية ، وقد أكثر من استخدامها بعض الحشاشين الكرماء الشجعان الذين تكاثروا في المخيم وشكلوا فئة اجتماعية أصبح يشار إليها بالبنان وباللسان وبالغمز والهمز واللمز ، وأظن أن بعض هؤلاء عاش في حلب بعد الهجرة ، فقد نسب إليها.
منذ بدا بعض الشباب في المخيم ينشطون سياسيا ، وانتموا ، لهذا ، لفصائل سياسية ، غدا هؤلاء موضع مراقبة الضباط العسكريين ، مثلهم مثل النشطاء السياسيين والفدائيين في المناطق المحتلة كلها . وغالبا ما كان هؤلاء يعتقلون ، بل وغالبا ما كانوا ، إن خرجوا من السجن ، موضع سؤال .
في تلك الأيام بدأ ثمة وعي ينتشر بين الشباب حول كيفية التعامل مع ضباط المخابرات ، إذا ما استدعى هؤلاء شخصا معينا ليستجوبوه عن علاقته بنشيط ما ، سياسيا او عسكريا.
هل يجيب المستدعى عن أسئلة ضابط المخابرات أم يلتزم الصمت أم تكون الإجابة : لا أعرف ،ولا أعرفه ، وأنا من المدرسة إلى الدار ومن الدار إلى المدرسة ، ولا علاقة لي بالسياسة والتنظيمات . إنني اهتم بدروسي أو عملي فقط ؟
ولما كان رجال المخابرات مناحيس ، ولهم عيون تخبرهم عن الأشخاص وصداقاتهم ، فإن الإجابات السابقة ما عادت تنطلي على المحققين الذين يأخذون بالصراخ والشتيمة ، بل وربما الضرب ، إذا ما اجابهم المدعو الإجابات السابقة التي غدا السابق ينقلها للاحق ، وهكذا بدات تتكر ر على لسان رجال المخابرات الشتائم ( ممزير ،بن زوناه ، بزونك )وأخرى عربية مثل ابن ...او أخو .....،وأصبحنا ممازير وأولاد زوناه وبزونكات ، وأصبحت أمهاتنا مثل أم حاييم وهي وراء ال( بنك) في بيروت .
مرة استدعيت لكي أسأل عن شخص اعتقل لانتمائه إلى تنظيم يساري ، وخرج بعد ثلاث سنوات ، وواصل نشاطه السياسي ، ولم يتخل عن تنظيمه ، إلا بعد ( أوسلو ) ، حيث سرق نقود التنظيم وهرب إلى المريخ ولم يعد إلا بعد أن كثر اللصوص وتساووا في السرقة ( وما في حدا ، الآن ، أحسن من حدا ، ولا أشرف من حدا ) . وكان هذا النشيط ، في نهاية 70 ق 20 تقرب مني ليضمني إلى تنظيمه ، ولكي أنشط في مركز شباب المخيم ثقافيا ( وفيما بعد ، لأنني كتبت عن تبدلات أحواله وصيرورته من اشتراكي إلى اشتراكي حتى الموت(؟) اتهمني بأن الموساد اسيادي ) .
مرة استدعيت لضابط المخابرات لكي أسأل عن علاقتي بالشيوعي المليونير ، قبل أن يصبح كذلك ، أي مليونيرا ، ويوم كان مناضلا ، وكنت خمنت أنني سوف أسأل عن اصدقائي ، وهذا بالتحديد ، فقد فكرت فبم ساجيب وماذا أنا قائل ؟
إن انكرت علاقتي به فسيشتمني المحقق ( ممزير ، بن زوناه ، بزونك) وستصبح أمي وأم حاييم سواء ، مع أن أمي لم تزر بيروت ، ولا تعرف( بنوك ) ها ولا اي ( بنك ) حتى في نابلس .
لقد فكرت في الأمر جيدا ، وحين سألني عن أصحابي ، بعد أن انتظرت أربع خمس ساعات ، أخذت أعدد له كل من حضر اسمه على لساني ، وأخرت اسم ذلك الفدائي حتى المنتصف . ولما ذكرت اسم ذلك الشخص الذي استدعيت أصلا لأجل أن أتحدث عنه ، قال لي المحقق :
- ولا ، أنا أسألك عن هذا . ما علاقتك به؟فأجبته :
- إنه جاري وهو من الطلاب المجتهدين . ولم ترق إجابتي له ، فقال لي :
- أنا اسألك عن نشاطه السياسي وعلاقتك به .
وهكذا غدوت ( ممزير ، وبن زوناه ، وبزونك ) وصارت أمي مثل أم حاييم ، علما أن أمي لم تكن حتى ذلك التاريخ قد أصدرت اي جواز سفر .
( ممزير ، بن زوناه ، وبزونك ) و...
خربشات 24/7/2019


***

59 :
( ليالي الشتاء الحزينة )
في منتصف 70 ق 20 لم تكن المستوطنات قد تكاثرت ، ولم تكن دولة أبناء العمومة شقت طرقا كثيرة جديدة تسير عليها حافلاتها وآليات ، ولذلك غالبا ما كانت سيارات الجيش الإسرائيلي تمر بالقرب من مخيم عسكر القديم الذي يقع على الشارع الرئيس بين نابلس والغور ، ولا تستطيع القوات الإسرائيلية أو سيارات المتنزهين اليهود تجنب السير عليه ، ولذلك كان المخيم بين فترة وفترة يتعرض للحصار وفرض منع التجول او العقاب الجماعي .
وليست دولة أبناء العمومة هي الملومة ، فالملوم هم أبناء المخيم الذين لم يحبوا الاحتلال ولم يريدوه ولم يرغبوا فيه ، ولأن ابناء المخيم ، وأنا منهم ، بربريون ولا يتعاملون مع الاحتلال الحضاري بالطرق الحضارية ، فقد تكرر قذف سيارات الجيش الاسرائيلي المارة ليلا ، بالحجارة ، وهذا كان يضايق الجيش أو المارين . ( كان رئيس بلدية الخليل الشيخ الجعبري رفض أن يقام أي مخيم بالقرب من مدينة الخليل حرصا علىنقاء الدم الآري ، وقد علمت بهذا مؤخرا ، ولذلك فإن مخيمات منطقة الخليل ، مثل العروب والفوار ، تبعد مسافة لا تقل عن 20 كلم عن المدينة ، ولم يشترط أهالي نابلس ورام الله وجنين وطولكرم مثل هذا الشرط )
ولم يغض الإسرائيليون الطرف عن بعض حجارة تلقى على سياراتهم ، وهذه عادة قديمة لديهم ، فهم يصرون على أن يتعاركوا مع أطفال الحجارة ولم يأخذوا برأي نجاتي صدقي القاص الفلسطيني في قصته ( معركة صبيان ) .. : إنها معركة صبيان .
كان نحاتي صدقي أصدر في العام 1951مجموعته القصصية الأولى " الأخوات الحزينات " ، وضمنها قصصا كان كتبها قبل العام 1948، ومن بينها قصة عنوانها " معركة صبيان " ، وقد أتى فيها على ما كان يقوم به أبناء القدس ، حين تمر سيارات اليهود في شوارع قريبة من القدس ، متجهة صوب الجامعة العبرية . كان الأطفال المقدسيون يقذفون تلك السيارات بالحجارة ، وكان اليهود يلاحقون الأطفال ويلقون القبض عليهم ثم يضربونهم ويهددونهم إذا ما كرروا فعلتهم .
ويبدو أن قذف الحجارة عادة تسري في دمنا ، ويبدو أن ( فرانز كافكا )في قصته " أبناء آوى وعرب " عبر عن واقعنا ، على الرغم من أنه ، كما أعرف ، لم يزر فلسطين . ويبدو أيضا أنه لم يخطيء حين ذهب إلى أن العداوة بين العرب وأبناء آوى تقع في الدم ، ولا أدري إن كان أبناء آوى رمزا لليهود . فهل العداوة بيننا وبينهم تقع حقا في الدم ؟
الله الله يا سموأل بن عادياء ، والله الله يا ابراهيم طوقان ، و الله الله يا يا شاعر اليهود ( رؤوبين)!!
في المعارك التي كان الأطفال يبدؤونها لإزعاج الاسرائيليين ، كان الاخيرون يعاقبوننا عقابا جماعيا . لقد أرادوا أن يؤدبونا نحن وأطفالنا أيضا ؛ أطفالنا لأنهم يقذفون الحجارة على السيارات الإسرائيلية ، ونحن لأننا لا نجيد تربيتهم ؛ - أي أطفالنا لا الجنود الإسرائيليين ، ونحن وأطفالنا أيضا لأننا لم ننتبه في العام 1948 إلى الموقع الذي أقيم فيه المخيم ، إذ كان يجب أن نتنبأ بهزيمة حزيران1967، و ونعرف أن سيارات الإسرائيليين ستستخدم الشارع هذا ، وبالتالي فكان يجب أن نحتج على إقامة المخيم في موقعه ، وكان لا بد من البحث عن موقع آخر بعيد عن الشارع لتمر سيارات الفاتحين بهدوء .
في الليالي التي كان الأطفال يرغبون فيها بممارسة هوايتهم المتمثلة بإلقاء الحجارة على سيارات الجيش كان الإسرائيليون يحبون السهر معنا وممازحتنا أيضا ، ولهذا فقد كانوا ينادون على الرجال من سن 14 إلى سن 50 عاما ليخرجوا إلى الشارع الرئيس قرب الجامع ، وكل من يعصي الأمر فسوف يعاقب .
وحتى يتأكد الإسرائيليون من أننا لبينا أوامرهم ، فقد كانت أعداد من الجنود تفتش البيوت لهذا السبب وربما لأسباب أخرى ، وهكذا تبدأ حفلة ليلية تستمر حتى الصباح ، فنحيا الليالي الملاح ، وغالبا ما كانت تلك الليالي تتحول بالفعل إلى ليال ملاح ، والفضل ، كل الفضل يعود لأصحاب الكيف من أبناء المخيم ، وكان هؤلاء يجتمعون يوميا في مقهى ما يكيفون وينبسطون ويدخنون ، فالراس ( اللي ما فيه كيف ، حلال قطعه بالسيف ) ، وتبدأ النكت والتعليقات التي تقصر الليالي الشتوية والصيفية وتجعل الأمر محتملا ، وقد أدرك إميل حبيبي أن السخرية من الاحتلال هي وسيلة من وسائل المقاومة ،فكتب روايته " المتشائل " وسخر فيها من أبناء العمومة ، ولم أستغرب ، لاحقا ، من سؤال وجهه لي يعقوب حجازي ، صاحب دار الأسوار العكاوية : هل تكيف ؟ولما أجبته بالنفي ابتسم وقال لي : إميل لم يكتب " المتشائل " إلا وهو مكيف ، فكيف ستصبح كاتبا ؟
وكنت يومها مشروع كاتب ، ولو كنت على ما أنا عليه اليوم ، لدونت حكايا أصحاب الكيف ، فقد كانوا يتفننون في الكلام ، وكانوا يقصرون علينا ليلنا الذي قد يستمر حتى الثالثة فجرا .
في ليلة من ليالي صيف 1979 كان جيراننا القدامى يحتفلون ، في بيتهم الجديد ، بعرس ابنهم الأكبر ، فؤاد ، واتفق أن قذف الأطفال الحجارة على السيارات الإسرائيلية ، ولم يغض الجيش الطرف عن حجر طائش ، فقد هرعت القوات الإسرائيلية وحاصرت المخيم واعتقلت من اعتقلت ، وكان من بين المعتقلين العريس ، ومن هذه الحادثة كتبت قصة العريس التي وردت في مجموعتي القصصية الأولى " فصول في توقيع الاتفاقية " 1979، وقد صدرتها بأسطر شعرية لمحمود درويش عن العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي .
خربشات 25/7/2016

***

60 :
( راوية المخيم : أحمد دحبور )
يرقد الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور ، الآن ، في المشفى ، على سرير الشفاء ، وكنت زرته يوم السبت برفقة القاص زياد خداش ، وابن الشاعر يسار ( 23 / 7 /2016 ) فتذكرت علاقتي بأشعاره وبه ، وهي علاقة تعود إلى العام 1979 بأشعاره ، وإلى العام 1997به هو شخصيا .
كانت أشعاره تركت أثرا كبيرا في ذائقتي الشعرية ، حتى ليمكن أن أعده شاعري الفلسطيني الثاني بعد المرحوم محمود درويش . وأذكر أننا أصدرنا في 70 ق 20 نشرة شبيهة بالمجلة عن مراكز الشباب الاجتماعية في مخيمات نابلس ، وأظن أننا أسميناها ( الفجر المنبثق ) ، وكتبت في أحد أعدادها مقالة عن صورة المخيم في الشعر الفلسطيني ، وكانت بعض قصائد أحمد التي كنت أقرأها في جريدة " الاتحاد " ومجلة " الجديد " الشيوعيتين ، كانت محور تلك الكتابة ، ولا أبالغ إذا ما قلت : لقد افتتنت ، في حينه ، بقصائده افتتاني بقصائد درويش ، ومنها قصيدته " احمد الزعتر " التي خص بها الفدائي الفلسطيني ابن المخيم ، وتحديدا ابن مخيم تل الزعتر .
كنت أحفظ بعض مقاطع أشعار أحمد دحبور عن ظهر قلب ، بل إنني عندما كنت أدرس في المدرسة العقربانية الإعدادية المختلطة - ، وكنت مسؤولا عن النشاط الثقافي فيها - اخترت قصيدة " العودة إلى كربلاء " ليحفظها الطلاب ويقرؤوها في النشاط الصباحي ، وكان هناك طلاب أعلمهم ، لديهم استعداد للحفظ والإنشاد ، ولن أنسى فيصل ونائل ومحمد الثلاثة المتميزين الذين استشهد أولهم وانتمى ثانيهم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، فسجن سنوات عديدة ، ولا أعرف إلام آل الثالث.
كان الطلاب هؤلاء يحفظون رثاء درويش لغسان كنفاني " غزال يبشر بزلزال " عن ظهر قلب ، وأخذوا يقرؤون درويش وكنفاني وسميرة عزام وأحمد دحبور إذا ما تيسرت قصائده وتوفرت لهم ، كما قرؤوا نتاج أدباء آخرين .
كما لو أن احمد دحبور كان يعبر عما يجيش في نفسي ، فهو ايضا ابن مخيم ، وانتمى ، خلافا لي ، وربما بحكم الموقع ، للثورة وشارك في نشاطها واندغم فيها ، وكتب عن المخيم وهمومه باعتباره راوية المخيم .
" اسمع ، أبيت اللعن ، راوية المخيم :
افتح له عينيك واسمع :
هذي الخرائب والصفائح والبيوت ،
فيها كبرت ،
بها كبرت ،
وفوضتني عن جهنم "
ولم يكن المخيم على ما هو عليه الآن . لقد كانت الحياة فيه أقل تعقيدا ، بل وكانت بسيطة جدا . ولم يكن الجانب العمراني فيه توسع . كانت بيوته تتكون من طابق أرضي ، فلم تكن وكالة الغوث تسمح ببناء بيوت تتكون من طابقين ، ولهذا كان التوسع أفقيا ، لا عموديا ، وهذا أدى إلى زوال الأشجار التي زرعت ، وإلى تقارب البيوت من بعضها البعض ، حتى أن الجار أخذ يعرف ما يدور في بيت جاره ، ومع مرور الأيام ما عادت الإقامة في المخيم تحتمل ، ولا أظن أننا ، الآن ، نكرر أسطر الشاعر في المخيم ، كما كنا نكررها في 70 ق 20 .
لقد اختلف كل شيء ، واسهم الإسرائيليون ، من خلال المتعاونين معهم ، فى إفساد الشباب وتشجيع المخدرات . ولم تبق أحوال المخيمات في المنافي ، بخاصة مخيمات لبنان ، بأحسن حالا ، ليفتخر المرء بها ، فهي التي فيها كبرنا ، وبها كبرنا ،وفوضتنا عن جهنم ، صارت جهنم اللاجئين .
كان الحس الفلسطيني في 70 ق 20 عاليا وعاليا جدا ، وقد لازمنا ، هنا في فلسطين ، وهناك في العالم العربي ، وكان هذا الحس بارزا وواضحا في قصائد أحمد التي تعد أفضل مثال لواقع السبعينيات من القرن العشرين فيما يخص الثورة واللاجئين .. من منا لم يطرب يومها لقول الشاعر :
أقول لكم عرفت السادة الفقراء
وكان الجوع يشحذ ألف سكين
وألف شظية نهضت ، من المنفى ، تناديني :
- غريب وجهك العربي بين مخيمات الثلج والرمضاء
بعيد وجهك الوضاء
- فكيف تعود ..؟
.........
أنا العربي الفلسطيني
أقول وقد بدلت لساني العاري بلحم الرعد :
ألا لا يجهلن أحد علينا بعد "
واليوم ، اليوم ربما بدا هذا الكلام مثيرا للحزن ، ولا أقول للشفقة والسخرية ، إذ يجب أن يقرأ في ضوء زمنه الكتابي وما كانت عليه الأوضاع في حينه ، ويجب عدم إغفال هذا كله.
مع ما سبق ظلت " العودة إلى كربلاء " ، لنزعتها الغنائية العالية ، القصيدة المحببة التي أقرؤها لهذا الشاعر ، والأمر يتعلق ، طبعا ، بالذائقة . يقول الشاعر في قصيدته هذه :
شاهدتهم - عين المخيم في لا تخطيء - و كانوا :
تاجرا
ومقامرا ،
ومقنعا ،
كانوا دنانير النخيل
ودخلت في موتي وحيدا استحيل
وطنا ، فمذبحة ، فغربة
وأتيت تسبقني يداي "
ولا أدري لماذا ظلت دنانير النخيل عالقة في ذهني على أنها دنانير الدخيل .
في تلك الأيام كنا نعتز بالمخيم وندافع عنه ، ولكننا ، أمام ضيقه علينا ، أخذنا نفكر بمغادرته والبحث عن سكن آخر ، ولهذا كتابة أخرى .
خربشات 26/7/2016

***

61 :
( الخروج من الجنة )
النكتة التي غالبا ما يرويها اللاجئون الفلسطينيون عما ألم بهم وما زال يلم بهم ، قبل أن تتعقد الأوضاع في العالم العربي وتصعب ، كانت تتعلق بمصيرهم يوم القيامة : أين سيذهب اللاجئون : إلى الجنة أم إلى النار ؟
هل كانت هذه النكتة حاضرة في ذهن كاتب الأغنية الثورية التي اذاعتها إذاعة الثورة بعد هزيمة حزيران واشتداد حركة المقاومة ؟ ( دبوا النار بهالخيام ،وارموا كروتة التموين ،لا صلح ولا استسلام ،إلا بتحريرك فلسطين ) وهل أدرك صاحب كلمات الأغنية أنه لا بديل أمام الفلسطينيين إلا العودة إلى البلاد التي طردوا منها ابتداء : فلسطين بمدنها وقراها وصحرائها أيضا ؟ وهل كان استوعب غسان كنفاني وأعماله الروائية والقصصية جيدا ؟
كان كنفاني قرأ الأدب الصهيوني ولاحظ أن الأدباء الصهيونيين ، شأن الساسة الصهيونيين ، رأوا أنه لا حل للمشكلة اليهودية إلا بالعودة إلى فلسطين ، فهل أيقن كنفاني أيضا أن لا حل للمشكلة الفلسطينية إلا بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم ؟
في العام 1978 ، وتحديدا في اليوم الأول من آذار رحلنا عن المخيم ، وبعنا بيتنا فيه ، واقمنا في حي جديد بدأ يتشكل . اشترينا الأرض في نهاية 1977 وأقمنا بيتنا الجديد ورحلنا ، وكان لا بد من الرحيل ، فالعائلة بحاجة إلى مزيد من الشقق للأبناء الذين كبروا ، عدا أن الإقامة في المخيم بدأت تبدو غير محتملة .
أذكر بيتنا في المخيم وتشكله وتوسعه غرفة غرفة . بدأ بغرفة بنتها لنا وكالة غوث اللاجئين ومنحتنا إياها في العام 1958 بعد أن طال انتظار أهالينا للعودة . كانت الغرفة منفصلة وحولها مساحة تقدر بمائتي متر وأكثر ، تنازل أبي طوعا ، ومن باب الشعور مع لاجئين مثله ، عما لا يقل عن خمسين مترا منها لجيران جدد،حتى يقيموا بيتا لهم.وربما كان سبب تنازله عن الخمسين مترا أنه كان يرى في المخيم مكانا طارئا مؤقتا لن يدوم ( لما دام المخيم أربعين عاما تساءل محمود درويش في قصيدته " نزل على بحر" 1986 : أفلا يدوم سوى المؤقت يا زمان البحر فينا ؟ ).
وطالت نباتات البعيد ، وطال ظل الرمل /المخيم فينا وانتشر ، وأيضا التعبير لدرويش ، وبدأ أبي يزرع الأشجار ويبني البيت غرفة غرفة . كلما تيسر له مبلغ من المال توسع في البناء ، وكان مهندسا ناجحا جدا ، كما لو أنه درس الهندسة المدنية في ( اكسفورد ) ، ولهذا غدا بيتنا ( من كل قطر أغنية ) وقصرا يروق للناظرين . غرفة هنا وغرفة هناك ، ومساحة تفصل بينهما ، وهي غير مسقوفة ، فإذا حل الشتاء كان لا بد من شادر ، وكانت رياح العطر الفرنسي الفاخر تهب علينا وتنتشر في بيتنا من مراحيض الجيران المحيطين بنا حائطا حائطا ،من الجهتين الغربية والجنوبية .
ولما كان الصيف يحل كان لا بد من نافذة تفتح ، حتى يتهوى البيت ويستمتع المرء بنسمات هواء عليلة . وكان العطر يهب ، ما جعل أبي يشعر بالمرارة والندم ، لأنه كان سخيا كريما منح جيراننا مساحة احتاج إليها يوم كبرت عائلته وامتدت ، ولأن جيراننا أقاموا مرحاضهم قرب نافذة غرفتنا الغربية .( في البداية كانت المراحيض في المخيم مشتركة وبعيدة عن البيوت ، بل وكان هناك حمام مشترك لأهل المخيم ، كما المدن القديمة ومنها نابلس . وكانت المراحيض العمومية بائسة جدا )
في المخيم كنا واللاجئين نتقاتل على كل شيء . نتقاتل على الحصول على المياه من عين المخيم ، ونتقاتل في الفرن ، مع الفران إن فضل أحد معارفه علينا وقدمه وخبز له عجينه دون مراعاة الدور ، وكنا نتقاتل يوم توزيع المؤن ، وتوزيع البقج . وأحيانا كان بعض الناس يتقاتلون مع بعضهم بعضا لأنهم أقارب بعضهم بعضا . كما لو أن روح قابيل حلت فينا ، وكما لو أن الاقارب إخوة يوسف أيضا ، وأتذكر معارك بين أقارب ، كان الدم فيها يسيل ، وكنا نتفرج على فريد شوقي ومحمود المليجي متجسدين في بعض الأهالي الذين يستخدمون اسياخ الحديد وأواني يستخدمها الفوالون لتحريك جرة الفول .( وأنا أقرأ قصة غسان كنفاني " زمن الاشتباك " ( الصغير يذهب الى المخيم ) أربط بين ما ورد فيها وبين ما عشناه )
في العام 1976 عينت معلما في مدارس الحكومة لمدة عام وثلاثة أشهر ، انتقلت بعدها إلى مدارس الوكالة في العقربانية ، بسبب الراتب الأعلى الذي تمنحه الوكالة . وكنت أعود إلى بيتنا في المخيم ، حتى أتناول طعام الغداء واسترخي قليلا ، من عناء التدريس والوقوف لمدة أربع خمس ساعات ، وكانت الغرفة التي استرخي فيها ، وهي غرفة أبي وأمي اللذين تخليا لي عنها كوني مدرسا يحتاج إلى غرفة يحضر فيها دروسه و .. و .. ، كانت الغرفة تقع على شارع سفلت حديثا ، وهو شارع رئيس تقريبا .
أحاول الاسترخاء فلا أتمكن ، ذلك أن أبناء المخيم كانوا يلعبون على الشارع بعربايات خشب ذات عجلات موبيليا ، وكانت هذه تزحك الشارع ، وتخرج صوتا يضرب في الرأس مباشرة ، أين منه صوت الكعب العالي في شوارع لندن ، صوت الكعب العالي الذي أتى عليه الشاعر توفيق صايغ في " المعلقة .ك " . ويومها كان لا بد من الرحيل عن المخيم والخروج من الجنة .
كان الناس ، مع مرور الأيام ، ومنهم أهلي ، قد يئسوا من إمكانية العودة ، فقد طال الانتظار ، والأسابيع والأشهر التي قيل لهم عنها ، لتحرير فلسطين ، طالت وغدت سنوات ، بل عقودا ، وبدأ بعض سكان المخيم يشترون أراضي قربه ليقيموا عليها بيوتا خاصة بهم.منهم من اشترى أراضي بعيدة ، ومنهم من استاجر في المدينة ، وهؤلاء قلة ،ومنهم من اشترى أرضا قريبة من المخيم ، ليظل قريبا من أهله ومعارفه وأصدقائه ( أحيانا يراودني السؤال التالي ، بخاصة حين أرى أصدقاء من المخيم استمرت صداقتهم خمسين عاما ، وما زالوا معا : " ماذا سيفعل هؤلاء لو عادوا إلى فلسطين ؟ هل سيعود كل إلى مدينته وقريته ، تاركا أصدقاء العمر ، متخليا عنهم ، أم ترى أن هؤلاء سيفضلون السكن قريبين من بعضهم ؟ .سؤال بسيط ، وربما ساذج ) .
في 1/3/1978 خرجنا من جنتنا : المخيم ، ومع ذلك بقينا نكرر الدعابة حول مصيرنا يوم القيامة : أين سيذهب اللاجئون : إلى الجنة أم إلى النار ؟
وتقول الدعابة ، ونوينا التزهزه ، على راي الشيوخ : في يوم القيامة وزع الناس على الجنة والنار ، وبقي اللاجئون الفلسطينيون ينتظرون ، ولما امتلأت الجنة ، ومثلها النار التي كفت عن القول : هل من مزيد ، بقي اللاجئون ينتظرون البت في مصيرهم ، ولما لم يكن لهم متسع هنا أو هناك ، فقد جاء الاقتراح من الأعلى : ابنوا لهم مخيمات .
هل كان الذي اخترع الدعابة التي أخذت تشيع بعد الخروج الفلسطيني المستمر ، هل كان ذا نبوءة بما سيؤول إليه الفلسطينيون ؟ولطالما تذكرنا الدعابة وكررناها ؛ بعد الرحيل عن بيروت 1982، وبعد الخروج من الكويت1990/1991 وبعد الخروج من العراق 2003 و ..و ..
وأنا أقرأ رواية الكاتبة سامية عيسى " خلسة في كوبنهاجن" 2013 تذكرت الدعابة ، إذ حتى في الدولة الاسكندنافية لم يجد الفلسطينيون حلا .
في بيتنا الجديد ثمة حديقة وثمة أشجار وثمة مساحات ارتداد بيننا وبين الجيران ، وأما الأشجار فحدث ولا حرج ، وغالبا ما أتذكر كيف اضطر أبي وأمي إلى ترك غرفتهما لي ، بعد أن أصبحت معلم مدرسة ( قد الدنيا ) . وكان لا بد من الإحسان اليهما .
خربشات 27/7/2016

***

62 :
( ادخلوا الشاعر إلى الجنة فصاح : يا وطني ! )
خرجنا من المخيم ولم نخرج منه . هل ظل المخيم يسكن فينا ؟ هل كنا مثل ميسون زوجة الخليفة التي حنت إلى بيت تخفق الأرياح فيه ، لأنه أحب إليها من قصر منيف ؟ هل كنا مثل تلك البدوية المتسولة التي راقت للأمير فتزوجها وأسكنها قصرا ، ومع ذلك وقفت أمام الطاقة وقالت : يا طاقة أريد رقاقة ؟
كتب ناظم حكمت :
أدخلوا الشاعر إلى الجنة
فصاح : يا وطني !
وقد استعار محمود درويش منه هذه الصرخة وضمنها في إحدى قصائده من ديوان " محاولة رقم 7 " 1974 ، وكان أحمد شوقي قال :
وطني لو شغلت بالخلد عنه / نازعتني إليه ، بالخلد ، نفسي ،
وغالبا ما أتساءل ، وقد أتيت على هذا : ماذا لو عاد اللاجئون إلى مدنهم وقراهم ؟ هل سيعود كل واحد من هؤلاء إلى مدينة أبيه وجده ، أم أنه سيختار مدينة يقيم فيها أصدقاؤه من المخيم ؟
لقد أقام في المخيم الواحد فلسطينيون ينتمون إلى قرى مختلفة ، وإلى مدن مختلفة ، وتشكلت بين هؤلاء صداقات ، وغدوا مع الزمن أبناء مخيم واحد ، كما لو أنهم أبناء قرية واحدة أو أبناء مدينة واحدة .
في بدايات نشأة المخيم كان المرء يستطيع أن يميز ، من خلال اللهجة ، المكان الذي انحدر منه المتكلم ، فقد كان لليافاويين لهجتهم ، وكان لأهل اللد وحيفا أيضا لهجتهم ، وكان لعرب الجماسيين لهجتهم ، ومع مرور الأيام ، ومع دخول أبناء هؤلاء المدرسة انصهرت اللهجات في لغة واحدة وكادت تختفي ، بل إنها اقتصرت ، أي اللهجات ، على الآباء ، ومع اندثار هؤلاء ، مع الزمن ، تكاد لهجاتهم الأصلية تندثر ، ولم يبق في المخيمات ، الآن ، ممن هاجروا من فلسطين إلا قليلون .
رحل أجدادنا ورحل ، من بعد ، آباؤنا وأمهاتنا ، ونحن ، الباقين ، أكثرنا ولدنا في الخيام أو في غرف الوكالة ، ودرسنا في المدارس معا ، وتصادقنا ، وما عادت لهجات مدن وقرى آبائنا تجري على ألسنتنا .
خرجنا من المخيم ولم نخرج منه ، وظللنا لفترة نجد أنفسنا فيه . هل بقينا نقول : أنا من هناك ، ولي ذكريات ؟
مازال أصدقاؤنا يقيمون في المخيم ، والحي الذي أقمنا فيه حي جديد كان في طور التكوين ، فلا نادي فيه ولا مقهى ولا أصدقاء أيضا لنا فيه ، وهكذا وجدنا أنفسنا مثل ميسون زوجة معاوية ومثل المتسولة ومثل ناظم حكمت وأحمد شوقي .
لمخيم تكثر فيه الصداقات أحب إلينا من بناية منعزلة
ويا عمارة : نريد أصدقاء وناديا
وادخلونا إلى المدينة فصرخنا : يا مخيمنا .
وكان هذا في البداية .
سأجد نفسي يوميا في المخيم . أذهب لرؤية الأصدقاء ، وأجلس في النادي معهم نشرب الشاي أو نتحدث في شؤون المخيم والسياسة ، ولما بدأت الفصائل تنشط ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ،ولم تعد ترى في حمل السلاح المجال الوحيد لتحرير الوطن ، فقد أخذت تلتفت إلى النقابات والأندية ولجان العمل التطوعي و .. و ..
ووجدت نفسي أنشط في نادي المخيم ، أخدم في مجال الثقافة ، باعتبار هذا ضربا من مقاومة الاحتلال ، فمن عاش تحت احتلال فليقاومه بالسلاح ، فإن لم يستطع فبالثقافة ، فإن لم يستطع فبمقاطعة بضائعه وعدم التعاون معه ، وذلك أضعف أشكال المقاومة ، وهكذا وجدت نفسي أقاوم من خلال الثقافة .
نشطت في نادي المخيم ، فأصدرت المجلة الأسبوعية ، وهي مجلة حائط ، وأصدرت مع لجان ثقافية في أندية أخرى مجلة الفجر المنبثق ، وأقمنا معرض كتاب ، بل وأخذنا نستدعي أدباء معروفين مثل الشاعر علي الخليلي والروائية سحر خليفة . أذكر أن سحر كانت قد أصدرت روايتها " الصبار " 1976، ولما كانت قريبة من اليسار ، وكان لهذا اليسار حضور في النادي ، فقد عقدنا لروايتها ندوة شاركت فيها ، وأخذت أتحدث عن اللغة والمرأة كما لو أنني ناقد كبير ، وأعتقد أنني لم أكن أعرف أبجديات النقد ، على الرغم من أنني درست الأدب العربي وكنت خريج الجامعة .
لم أكن قرأت من كتب النقد إلا أقلها ، ولم أكن قرأت من الروايات إلا ثلاثين أربعين رواية ، وكنت بدأت أعود أصابعي على الكتابة ، فنشرت مقالات في مجلة " البيادر " تحت عنوان " محاولة لقراءة رواية " ، وحين أنظر ، في هذه الأيام ، إلى ما كتبت تنتابني موجة من الضحك ، ولكن ما يواسيني أن محمود درويش تخلى عن ديوانه الشعري الأول " عصافير بلا أجنحة " 1960، وعد أشعاره الأولى مراهقة شعرية .
بقيت أنشط في نادي المخيم ، وفي اللجنة الثقافية تحديدا إلى أن فشلت في الانتخابات ونجح عباس محمود العقاد ، فحل محلي . أما كيف تم هذا ؟ فالأمر يعود إلى جناية الفصيلية على الشعب الفلسطيني ، ولعل ما يحتاج ، حقا ، إلى دراسة هو : هل خدمت الفصائل الشعب الفلسطيني أم أنها اساءت إليه ؟ ثم أيها كان أكثر : ضرر هذه الفصائل على الشعب أم نفعها ؟
كل ما في الأمر يا سادة أن الاتجاه الديني وحركة فتح أخذا يهتمان ، منذ نهاية 70 ق 20 ، بالنوادي والنقابات والجمعيات ، فأخذت تجرى الانتخابات ، ولما كان اليسار قليلا عديده ، مع أن الكرام قليل ، فإن من دعمني كان القليل الكرام الذي ما عاد ، مع الأيام ، من الكرام ، أو أنني أنا ما عدت كريما .
أخذت الانتخابات تجري ، وأخذ كل فصيل ينشط ويعد ويستعد ويدعو أنصاره لكي يفوز باللجنة الثقافية ، فتحرير فلسطين سيتم من خلال الوعي والثقافة ، وكان أن فاز عباس محمود العقاد وفشلت أنا ، فآثرت الانزواء .
كان المرشح المقابل لي عاملا لم ينه الصف الخامس الابتدائي ، وليس له من الثقافة نصيب ، ولكن نصيبه كان في كثرة عديد اتجاهه من ناحية ، وفي عباس محمود العقاد من ناحية ثانية ، فلقد كان العقاد صنوا لطه حسين ، وما كنت طه حسين الذي كنت أهاجمه دون أن أقرأه ، وإنما اهاجمه لهجوم أستاذي التحريري المرحوم د.عبد المجيد المحتسب عليه ، وأيضا لهجوم اليسار على طه حسين .
أحيانا شر البلية ما يضحك ، وما جرى كان شر بلية ، لا لفوز العقاد علي ، فقد كنت أعدني مثقفا ، وإذا بي ، مع الأيام ، أكتشف أنني كنت مثل ببغاء يكرر أفكار غيره دون أن يسائلها ، ولعل ما خفف الأمر علي ، لاحقا ، أن أكثر اليساريين تحولوا ، واكتشفوا أيضا أنهم كانوا ببغاوات يكررون الشعارات والعبارات ، ومثلهم أبناء حركة فتح : نفذ ثم ناقش .
كان فشلي في الانتخابات سببا أساسيا في انسحابي من النادي ، وكون لدي قناعة أن التغيير في المجتمع ليس بالأمر السهل ، وأنه ليس لكل مجتهد نصيب ، إلا إذا كانت له واسطة ، وكان وراءه فصيل كثير العدد . ومع مرور الأيام ، ومع تحولي إلى شخصية إشكالية أخذت أزور المخيم في المناسبات السياسية والاجتماعية ، وربما يكون لعملي الأكاديمي ، ولصيرورتي كاتبا وباحثا يحتاج إلى وقت للقراءة ، ربما يكون لهذا دور في الأمر
خربشات 27/7/2016

***

63 :
( الوحي حظ المهارة إذ تجتهد )
في العام 1976 بدأت أعود أصابعي على الكتابة ، ويبدو أنني كنت محظوظا ، فما كتبته وجد طريقه إلى النشر ، ورحب به المسؤولون عن مجلة " البيادر " التي أخذت تصدر في العام نفسه ، وكان قد صدر منها بعض أعداد ، وقد دب الخلاف بين المسؤولين عن تحريرها ، ما جعل الشاعر عبد اللطيف عقل والكاتب عادل سمارة ومحمد البطراوي ينسحبون منها ، وبقي يحررها جان نصرالله وجاك خزمو .
في تلك الأيام قرأت رواية الكاتب يحيى يخلف " نجران تحت الصفر " 1975 ، فقد أحضرت معي ، من عمان ، نسخة منها ، وكتبت عنها مقالتي الأدبية الأولى " محاولة لقراءة رواية " فراقت الكتابة لجان وجاك ونشراها ، وأعطيت نسخة الرواية للشاعر أسعد الأسعد الذي سرعان ما أعاد نشرها . وكانت رواية سحر خليفة الثانية " الصبار " 1976صدرت فقراتها وكتبت عنها مقالتي الثانية ، وسرعان ما نشرت ، وراق لي ديوان الشاعر خليل توما " أغنيات الليالي الأخيرة " الصادر عن منشورات صلاح الدين في القدس ، فرأيت في قصائده نزعة غنائية ذكرتني بأشعار محمود درويش في " آخر الليل " 1968 ، فكتبت أيضا عنه وأرسلت الكتابة إلى المجلة نفسها ، وغدا ما أكتبه مقروءا ويلقى قبولا ، وأظن أن هذا حدث بفضل حزيران .
كانت الساحة الأدبية في الضفة الغربية تفتقر إلى الكتاب ، فأكثر كتاب " الأفق الجديد " ، ممن كونوا أنفسهم ، وجدوا أنفسهم ، بسبب الحرب ، خارج الوطن ، ومن بقي مقيما ، مثل خليل السواحري ومحمود شقير ، أبعد لنشاطه السياسي ، وآثر بعض الكتاب ، مثل صبحي الشحروري ، الصمت ، إلى حين ، ثم أخذ يكتب باسم مستعار ، وهكذا لم أجد وأبناء جيلي من يقف حائلا أمامنا ، على الرغم من ضعف ما كنا نكتب ، أو بساطة ما نكتب وعدم رصانته .
لقد كانت كتاباتنا الأولى مجرد محاولات ، وأظنني لم أجاف الحقيقة حين استخدمت غير مرة كلمة " محاولة " ، فقد كانت الكتابة ، بالفعل،محاولات ليس أكثر . وأظن أن الساحة الأدبية ، لو كانت تحفل بأسماء أدبية بارزة ومهمة وذات شأن ، لما وجدت محاولاتنا الترحيب الذي لقيته ، ولربما طلب منا أن نعيد النظر فيها ، وغالبا ما أتذكر أسطرا شعرية لمحمود درويش فيها قدر من الهجاء لأدباء عرفوا دون أن يكونوا متمكنين .
في ديوانه " أعراس " 1977 يكتب درويش قصيدة عنوانها " وتحمل عبء الفراشة " يقول منها:
تأتي إلى مدن وتذهب . سوف تعطي الظل أسماء
القرى . وتحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياء .
وسوف تذهب .. سوف تذهب ، والقصيدة
خلف هذا البحر والماضي . ستشرح هاجسا فيجيء
حراس الفراغ العاجزون الساقطون من البلاغة
والطبول .
وكانت عبارة " حراس الفراغ " تروق لي ، بل وأخذت تروق لي وأنا في الجامعة . وأعتقد أن كثيرا من الكتاب الذين نشأوا بعد 1967 كانوا حراس فراغ ، ولذلك لم يصمد كثيرون منهم مع الأيام ، وسرعان ما انسحبوا من الحياة الأدبية والثقافية . وأظن أن نظرة درويش هذه لازمته لفترة ، بل إنه حين عاد إلى رام الله ، بعد اتفاقيات " أوسلو " ، واعترض على توزيعه جوائز الدولة ، كتب عن الفرق بين مرحلتين ، مرحلة الكتابة الضرورة ، ومرحلة الكتابة - الاحتراف ، باعتبار الكتابة حرفة . ولم يقو أي من الكتاب على الرد عليه ، باستثنائي ، فقد كتبت مقالة عنوانها " إلى محمود درويش وياسر عبد ربه " وكان الثاني وزيرا للثقافة في السلطة الوطنية ، وهاجمته فيها ، ولم تنشر جريدة " الأيام " المقالة ، فنشرتها في جريدة كانت تصدر في غزة أظن أن اسمها هو " الاستقلال " .
لقد كنا الكتاب الضرورة ، فدون جهودنا ، نحن الذين بدأنا الكتابة ، بعد حزيران ، وتحديدا في 70 ق 20 ما كان للحركة الأدبية والثقافية أن توجد .
في تلك الأيام كان للكاتب عادل سمارة وللشاعر عبد اللطيف عقل ، وللناقد محمد البطراوي ، دورهم الريادي في خلق حركة أدبية . وقد رعى هؤلاء الجيل الجديد ، بخاصة بعد إبعاد القاص خليل السواحري والقاص محمود شقير .
في قصيدة " لاعب النرد " يقول محمود درويش :
" والوحي حظ المهارة إذ تجتهد " .
وحين أدرس المنهج الاجتماعي الماركسي أتوقف أمام موقف الماركسيين من الموهبة " الموهبة قد تكون موجودة ، ولكنها تنمى أو تقتل " ، وهذا كلام صحيح ، فلولا المثابرة لربما كنت ، الآن ، مدرسا جامعيا يكتب دراسات بائسة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وهذا عموما هو حال أكثر الدراسات التي ينجزها الأكاديميون أغلبهم .
في العام 1979 أصدرت مجموعتي القصصية الأولى " فصول في توقيع الاتفاقية " عن دار الأسوار في عكا ، وحين استرجع ظروف كتابتها أضحك كثيرا .
لم أكن أفكر في كتابة القصة كثيرا . مرة حاولت ، وأنا في السنة الجامعية الثالثة ، في العام 1975، أن أكتب رواية عن معارفي ، وبدأت أكتب ثم سرعان ما مزقت ما كتبت . أما لماذا كتبت القصص القصيرة ، فالأمر يعود إلى الرقيب الإسرائيلي .
في العام الذي أصدرت فيه مجموعتي القصصية بدأت احرر صفحة " الشعب الثقافي " في جريدة " الشعب " ، إذ كلفني بالمهمة القاص أكرم هنية الذي عاد إلى الضفة في حينه . وأخذت استكتب كتاب القصة القصيرة ، فأخذوا يعتذرون ، لأن أعمالهم تعرض على الرقيب الإسرائيلي ، وهو ، بدوره ، يشطبها . ولما كنت ، في الجامعة الأردنية ، قرأت قصة القاص جمال أبو حمدان " أحزان عروة بن الورد " فقد أخذت اتكيء على التاريخ لقول الراهن من خلاله ، مقدما بذلك نموذجا للكتاب لتجاوز الرقابة ، وساعدني على هذا أن الرئيس المصري المرحوم أنور السادات زار القدس ، فتذكرت ما قام به الملك الكامل في زمن الحروب الصليبية ، وربطت بين الاثنين ؛السادات والكامل ، ونشرت القصة ولم يشطبها الرقيب .
هل أقول : مصائب حزيران كان فيها بعض الفوائد .
لولا حزيران لبقي الكتاب يكتبون وينشرون ، ولربما ما حدث فراغ أتيت لأعبئه . كما لو أنني من حراس الفراغ . ماذا أفعل ؟
" الوحي حظ المهارة إذ تجتهد ".
28/7/2016

***

64 :
( كابوس الاحتلال والأقدام المورقة )
ما بين العام 1980 و1982 أقمت في عمان للحصول على شهادة الماجستير من الجامعة الأردنية .
يقول المثل " رب ضلرة نافعة " ، وهذا ما حدث .
في ربيع العام 1980 تقدمت بطلب للعمل في مكتبة جامعة النجاح ، وتقدم معي ثلاثة وستون آخرون ، وكانت الجامعة بحاجة إلى ثمانية موظفين ، ولهذا قررت إجراء اختبارين للمتقدمين ، حتى تختار منهم أفضلها ؛ الاختبار الأول كان في علم المكتبات ، وأما الثاني فكان في الثقافة العامة . وقد كان اسمي الأول بين المتقدمين ، لا لأنني عبقري زمانه ، وإنما لأنني كنت في الجامعة الأردنية ، في فترة البكالوريوس ، من رواد المكتبة باستمرار ، فقد كنت أنفق فيها ساعات ، كما كنت أستعير منها الكتب ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية فإنني لما عينت معلما لم أنقطع عن القراءة ، فلم أختم العلم بالحصول على الشهادة ، وإنما واظبت على تثقيف نفسي ، وواصلت اقتناء الكتب وقراءتها ، بل وحض الطلاب على القراءة .
لم ألتفت إلى المثل الذي قاله لي مدير مدرسة الجاحظ / الصلاحية المرحوم أبو شوقي " كثير النط ،قليل الصيد "، وكان قال لي هذا المثل لما لاحظ أنني ، باستمرار ، أبحث عن فرص عمل أخرى أفضل . ووجدت نفسي أتابع الإعلانات في الجرائد ، بخاصة الإعلانات الصادرة عن جامعة النجاح وجامعات أخرى .
كنت تقدمت للعمل في جامعة النجاح التي كانت توظف حملة البكالوريوس ، ولكني لم أكن ذا حطوة ، أو لم يكن لي رصيد ، وربما لم يكن مرضيا عني ، فلم أكن على علاقة حسنة ببعض المسؤولين ، بل إنني كنت اهاجم قسما منهم ، وكنت أنشر مقالات باسم مستعار هو ( عادل الراوي وعادل بلاطة ) وحصل على الوظيفة بعض زملائي ، لا لأنهم أفضل مني علما ، وإنما لأنه لكل مجتهد نصيب ، على رأي توفيق الحكيم في مسرحيته . ( في هذه الفترة كنت قرأت رواية أميل حبيبي " المتشائل " مرتين ، وأخذت أكتب على غرارها ، رسائل تحت عنوان " رسائل من المخيم " ونشرتها في جريدة " الفجر " التي أشرف المرحوم علي الخليلي عليها ، ولا تنسى جهوده في تطوير الحركة الأدبية ورعايتها . وبعض ما أكتبه هنا كنت أوردته في بعض الرسائل التي نشرتها في 1979 ).
حين لاحظت اسمي في الإعلان قررت أن أذهب لمقابلة اللجنة ، فعدا الامتحان لا بد من مقابلة ترصد لها علامات من أجل التعيين ، وأعتقد أنني كنت موفقا في المقابلة ، ومع ذلك فلم أعين ، ووظف مكاني صديقي مهيب المصري الذي لم يتقدم للامتحانين ، ولم يحضر للمقابلة ، وهذا ، طبعا ، يتماثل مع المثل الشعبي " الذي يحرك العسل يتذوقه "، وكما كتب الحكيم ف " لكل مجتهد نصيب " وقد اجتهد صديقي المرحوم الذي ظللت أذكره بقصة تعيينه كلما التقينا .
كنت أعرف المرحومين يسرى صلاح وشوكت زيد وموسى الجيوسي ، وكانوا من مجلس أمناء الجامعة ، ولما راجعتهم في الأمر قالوا لي : نحن نتابع كتاباتك في الجريدة ، ولا نريد أن تعمل عملا إداريا ، والأفضل أن تحصل على منحة وأن تكمل تعليمك ، فتعود إلى الجامعة لتعمل في سلك التدريس ، ونعتقد أنك ، بهذا ، تفيد أكثر ، وقد تبدع ، وأما المرحوم شوكت زيد فاضاف : أنت لديك وظيفة ونريد أن نثبتك في مكان عملك ، ولما أخبرته أن صديقي مهيب كان يعمل أيضا في سلك التعليم ، ومع ذلك فقد وظفتموه ، ابتسم ، فلكل مجتهد نصيب .
اقترحت علي المرحومة يسرى صلاح أن تساعدني في الحصول على بعثة دراسية ، إن أنا حصلت على قبول من جامعة ما لمواصلة دراستي العليا ، واتكأت في كلامها على صلة المرحوم موسى الجيوسي بصندوق الطلبة الفلسطينيين في بيروت ، و قد أحضر لي المرحوم طلبا لاعبئه ، من أجل المنحة ، وهذا ما لم يتحقق ، على الرغم من حصولي على مقعد لدراسة الماجستير في الجامعة ، ( هنا اشير إلى أنني أخبرت الدكتور محمود السمرة بالأمر ، فكتب رسالة وجهها إلى زميله وصديقه د.محمد يوسف نجم ، يطلب فيها منه مساعدتي واعطائي منحة ، وهذا ما تم ، فقد وافق صندوق الطلبة على منحي قرضا ، لمدة ثاثة فصول ، دفعتها رسوما ، فلم يغط القرض أكثر من هذا ) ، ومع ذلك فقد سافرت واعتمدت على نفسي ، فعملت في مكتبة الجامعة ، وفي إحدى الجرائد الأردنية ، أكتب مقالات وتحقيقات ،مقابل مكافآت .
كان الكابوس الذي يلاحقني هناك مرعبا . غالبا ما حلمت بأنني في سيارة في طريقي إلى الجامعة الأردنية ، والأعشاب تنمو على قدمي . وكنت أصحو من النوم فزعا مرتعبا أتحسس قدمي .
في صيف العام 1981 كتب قصة عنوانها " الأقدام المورقة "ونشرتها ، ابتداء ، في مجلة الجديد الحيفاوية الشيوعية ،ثم أعدت نشرها ، لاحقا ، تحت عنوان " مكان آخر للعشب" .
في صيف العام 1980 ، إن لم تخني الذاكرة ، صحا أهل الضفة الغربية على خبر مفزع ومؤلم ، وهو " تفجير سيارات رؤساء البلديات " ، ومنهم السيد بسام الشكعة ، وكريم خلف /رام الله ، ومحمد ملحم/ حلحول . وقد أصيب أكثر هؤلاء إصابات بالغة ، وبترت قدما السيد الشكعة .
في الثانية ظهرا ، وكان منع التجول فرض على المدينة ، كنت في بيت خالتي ، قرب المقبرة الغربية ، وإذا بسيارة تأتي وينزل منها رجال بأيديهم كيس نايلون ، وفيه قدما بسام الشكعة . لقد دفنا جزءا من الرجل الذي ما زال على قيد الحياة ، وأظن أن الكابوس الذي عانيت منه ، في عمان ، وأنا أدرس الماجستير ، لم يبتعد كثيرا عما شاهدته وشاركت فيه .
سأنهي الماجستير في عامين ، وسأعود إلى الضفة ، وعيني على جامعة ما ، مثل النجاح أو بير زيت أو بيت لحم ، ولم يمر شهران على عودتي حتى عينت في جامعة النجاح .
هناك مقولة يكررها الناس في بلادنا عن مدينة عمان والدولة الأردنية هي : إنها تزدهر على مصائب الآخرين : مأساة 1948 ، وحرب1967، والحرب الأهلية اللبنانية 1975، والحرب العراقية 1980 وما تلاها ، ثم حرب الخليج 1991 ، وأخيرا ما يجري في سورية . ويبدو أنني مثل عمان ازدهرت على نكسات وتبعاتها .
في أثناء بحثي عن عمل في الجامعات لم أجد شاغرا ، فالتخصص المطلوب كان البلاغة ، وأنا كتبت في الأدب الفلسطيني والنقد ، ومع ذلك فقد عينت .
كانت سلطات الاحتلال طلبت من أساتذة الجامعات القادمين ، بتصاريح زيارة ، أن يوقعوا على قرار ما،وهذا ما رفضته م.ت.ف ، فأبعدت سلطات الاحتلال هؤلاء المدرسين ، وكان لا بد من تعبئة الفراغ .
أنا من حراس الفراغ ، ومصائب قوم عند قوم فوائد .
خربشات 29/7/2016

***

65 :
( ذات يوم شتائي ماطر جدا )
في تشرين ثاني من العام 1978عينت معلما في مدارس وكالة غوث اللاجئين . تركت المدينة والتدريس فيها ، وفي أفضل مدارسها الثانوية ، وذهبت الى الغور ، حيث الحر الشديد صيفا والجو الدافيء شتاء ، وحيث أزمة المواصلات والحاجز المقام ما بين المدرسة ونابلس ، قرب معسكر النصارية الذي كان معسكرا للجيش الأردني وغدا معسكرا للجيش الإسرائيلي . وكان هذا بسبب الراتب الشهري ( كنا نحصل في الحكومة على راتب يعادل 65 دينارا أردنيا وانخفضت العملة الإسرائيلية فغدا يعادل 45 دينارا ، وكان راتب الوكالة الضعف وأكثر ) .
لقد ورثت إسرائيل من الأردن معسكراتها أيضا ، كما ورثت الأردن من بريطانيا بناياتها العسكرية التي أنشأتها هي ، وكما ورثت بريطانيا من العثمانيين سجن نابلس المركزي ، وورث هؤلاء كلهم الأرض بمن عليها ( كما لو أنهم كلهم عباد الله الصالحين ) ، وهكذا خلال أقل من قرن كنا عثمانيين ورعايا بريطانيين واردنيين وإسرائيليين ، ومنا من حصل على تقاعد من الحكومات الثلاثة الأخيرة ، فسبح بحمد بريطانيا والأردن وإسرائيل أيضا ، وربما قبض بعض الموظفين راتبا رابعا من السلطة ، بحجة أنهم كانوا ،زمن الاحتلال ، منتمين للثورة المباركة .
خذوا مثلا أنا .
حصلت على الهوية الإسرائيلية مع بلوغي السادسة عشرة في العام 1970، وعلى جواز سفر أردني في العام 1972 عندما ذهبت الى الجامعة الأردنية ودرست على حساب حكومة جلالة الملك المعظم الذي لم ألتق به ، مع أن الفرصة سنحت لي لزيارته في القصر ، والتسليم عليه ، واستلام جائزتي منه يدا بيد ، ولكني كنت عاقا ، ولم أجدد جواز سفري الأردني ، منذ العام 1977( هكذا حظيت بجنسيتن معا ) ، ولما سافرت إلى ألمانيا ، في العام 1987حصلت على وثيقة إسرائيلية وسافرت من مطار اللد،وهو مطار فلسطيني لا إسرائيلي ، حتى لو لم تعترف الحكومة الأردنية بهذا ، ولم تأخذ برأيي ، ثم لما شرفت السلطة الوطنية حصلت على جواز سفرها ، وهو يطابق الهوية الإسرائيلية ، مضمونا لا شكلا ، وظللت أجدده واستخدمه في السفر ، على الرغم من أنني ضد ( أوسلو ) ولم أشارك ، حتى اليوم ، في أية انتخابات ، ولم أكن مبدئيا مثل حماس التي رفضت ( أوسلو ) وعارضته ، ثم انضوت تحت لوائه ، ووافقت على عقد صلح مع إسرائيل ، مثل صلح الحديبية ، وسبقتها حركة فتح في هذا ، فقارنت بين ( أوسلو ) وصلح الحديبية .
ذات يوم ماطر جدا من العام 1978 عدت في سيارة عمومية من مدرسة العقربانية الإعدادية المختلطة ،مع سائق من مدينة نابلس ، وهو من آل بسطامي ، وأخذنا الحديث مآخذ شتى ، ولم أعد أذكر ما الذي قادنا إلى حزيران والهزيمة والنازحين ومخيماتهم الجديدة التي زرت ، لاحقا ، بعضها ، مثل مخيم شنلر ومخيم البقعة الذي خلده الشاعر العراقي مظفر النواب في قصيدته ( وتريات ليلية).
تحدث السائق عن نزوحه في حزيران 67 إلى الأردن وعمله سائقا هناك على الخطوط الداخلية ، وعن السبب الذي حدا به إلى العودة .
قال السائق إنه أقل ذات يوم ركابا بينهم شرطي أردني -حاشا وكلا أن اعمم شخصيا ، فالشرطي لا يمثل إلا نفسه - ، وأخذ هذا الشرطي يتحدث عن المخيمات الجديدة ووظيفته فيها ، وحمد الله على الهزيمة التي مكنته من إشباع غريزته مع بعض النازحات .
ولم يحتمل السائق ما قاله الشرطي فقرر أن يعود إلى نابلس ، ولو تسللا ، وترك الأردن وعاد ليموت في وطنه ، ولا أنسى قصة سميرة عزام " لأنه يحبهم " التي أتت على نكبة 1948 وتحول الفلسطينيين ، بعضهم ، إلى اوغاد وجواسيس ولصوص وبغايا . ( في الأردن أقام طلاب فلسطينيون علاقات مع فتيات أردنيات والعكس حصل أيضا والأمر يحدث ولسنا ملائكة ) .
ما قصه علي السائق سمعته من المرحوم الحاج أبو محمد طقاطق الذي كان أحد وجوه مخيم عسكر ، ويعرف أسرار المخيم وما تلا النكبة من أحداث عاشها المخيم ، فقد أخبرني قصة مشابهة . حدثني عن المرأة التي تقطن في مخيم الفارعة وكانت ، ذات يوم ، تأخرت عن العودة إلى مخيمها وحل المساء ، ولم تجد حافلة تعيدها إلى المخيم ، فحاول شرطي أردني أن يستغلها في الفخارة القريبة من المخيم ، فاستطنبته بالله ، وأفصحت له عن سبب تأخرها ، هو الذي ظن أنها ، لتأخرها ، إمرأة ساقطة ) . ( هل كان الشاعر العراقي مظفر النواب سمع قصصا مثل هذه فكتب سطره : ويزيد عمان على الشرفة يستعرض أعراض سباياكم ، ويوزعهن كلحم الضأن لجيش الردة؟ )
في العام 1978 تعرفت إلى الناقد الشفوي المرحوم محمد البطراوي ، وزرته في بيته ، ونمت فيه ، صحبة القاص المرحوم محمد أيوب من خان يونس ، وكان البطراوي يرعى الأدباء الناشئين . وقد اقترح علي أن أكتب خمس قصص عن المخيم ، ليصدرها مع خمس قصص أخرى ، أيضا عن المخيم ، للقاص غريب عسقلاني ، حتى نبرز صورتين للمخيم ، صورة مخيم في غزة ، وصورة مخيم في الضفة ، وأعطيت القصص التي كانت تسجيلية بالدرجة الأولى إلى الناقد ، ولم تصدر المجموعة ، ولما لم أكن أملك نسخة منها ، فقد ضاعت القصص ، وبعض ما أكتبه هنا كنت كتبته هناك - أي فيها ، أي في القصص .
خربشات 30/7/2016

***

66 :
( أين ذهب فيصل ؟ )
ما بين تشرين أول 1978 وايلول 1982 درست في منطقة العقربانية ، وكانت المدرسة إعدادية ومختلطة ، والمادتان اللتان درستهما هما اللغة العربية والتربية الدينية ، واتفق أنني في هذه السنوات بدأت أقترب من اليسار ، كما بدأت أقرأ الفكر الماركسي والأدب اليساري .
حصلت على كتاب " أصول الفلسفة الماركسية " وقرأته ، ولما طبعت دار صلاح الدين كتابا ، من جزأين ، عن المادية الجدلية ، اشتريتهما وقرأتهما ، وكان فيهما خلاصة الفكر الماركسي ، ولكني أفدت كثيرا من أعمال الأدباء اليساريين ، ومن منشورات دار الفارابي والطليعة التي أخذت تصل إلى الضفة ، من خلال مكتبة الجعبة في رام الله تحديدا ، وكانت أكثر هذه المنشورات ذات توجه ماركسي ، وأذكر سلسلة كان عنوانها " دليل المناضل " ضمت كتبا صغيرة الحجم ومحدودة الصفحات ، وكانت أسعارها معتدلة . لقد أقبلت وغيري على اقتناء هذا الكنز الثمين ، في حينه ، ورأينا فيه صيدا قد لا يتكرر .
في تلك الفترة بدأت أقرأ ل( برتولد بريخت ) ول( بابلو نيرودا ) و ل ( ناظم حكمت ) ول ( جورج امادو ) و ل( غابرييل غارسيا ماركيز ) ول ( آنا زيغرز ) ، بل وقرأت رواية ( جوزيف كونراد ) " قلب الظلام " من ترجمة صلاح حزين ، وأفدت منها في كتابة مقالة نثرية جميلة أعدها البداية الأولى لأسلوبي الذي يعتمد على الربط بين الأدب والواقع ، وكان عنوان المقالة التي نشرتها في جريدة " الشعب" "كروتز الفلسطيني : من أبها إلى مخيم بلاطة " ، وللمقالة قصة .
في شتاء العام 1980 /1981 غرقت عائلة فلسطينية من مخيم بلاطة في أبها ، في السعودية ، فقد جرفها السيل ، وعادت إلى مخيم بلاطة جثثا ، وأقيم لها عزاء في نادي المخيم . ولقد رأيت في مصيرها ما لا يختلف عن مصير بطل رواية ( جوزيف كونراد ) " قلب الظلام " التي كنت فرغت من قراءتها .
أخذ ( كورتيز ) بطل رواية ( كونراد ) يبحث عن الذهب في إفريقيا ، ولأجل هذا نسي كل شيء ؛ نسي بلاده ونسي خطيبته ، وغدا افريقيا يمارس الطقوس والشعائر في البلاد التي ذهب إليها ، ثم مات ، فيم كانت خطيبته تنتظر عودته بالذهب ، حتى يتزوجا ، ولم تنل من خطيبها شيئا ، وكل ما وصل إليها رسالة تبلغها عن وفاته .
وذهب الفلسطيني ، ابن المخيم ، إلى السعودية ، ليعمل مدرسا ، وليحصل على المال ، حتى يبني بيتا ، حين يعود ، ويستقر في بلاده ، ولكنه عاد وأسرته جثثا . هكذا رأيت في نهايات العائلة ما رآه ( كونراد ) في نهاية بطله .
في المدرسة كنت وزملائي ، وأكثرهم من أبناء المخيمات ، نعلم بفرح كبير ، بل وبمتعة ، وكنا ننظر إلى أننا نقدم خدمة جليلة لأبناء المنطقة الفقراء ، ماديا واجتماعيا ، بل إننا رأينا أن ما نقوم به ليس عملا تفرضه الوظيفة التي تمنحنا الراتب ، بل إنه واجب وطني وأخلاقي إزاء أبناء شعبنا الذين ينبغي أن يتعلموا ويتطوروا ، حتى ينتهي الاحتلال ، ولما سبق فقد صادقنا الطلاب واهاليهم ، وكنا نزورهم في بيوتهم أحيانا ، لنشرح لهم أهمية إرسال أبنائهم إلى المدرسة .
كانت إحدى الطالبات ذكية جدا ، وتقبل على التعليم بشغف ، وكانت الأولى في صفها ، ولما أنهت الصف الأول الإعدادي ، أراد أبوها أن يزوجها ، وهذا ما لم يرق لنا ، فهي مازالت صغيرة ، وهي طالبة مجتهدة ومتفوقة ، ولذلك وجدنا أنفسنا نذهب إلى أبيها لنقنعه بأهمية استمرارها في الدراسة ، حتى تنهي الصف الثالث الإعدادي على الأقل ، وأظن أننا نجحنا في مهمتنا .
من الطلاب الذين لن أنساهم فيصل الذي قص علي عن عمله في المستوطنة وعن استغلال سماسرة العمل ، من أبناء منطقته له . تماما كما أنه قص علي عن طبيعة العمل في المستوطنة ، ومن وحي كلامه كتبت قصة " اين ذهب فيصل ؟ " ، وهي قصة تبدو تسجيلية إلى حد كبير ، وأذكر أنني ، لما نشرت القصة وقرأها أهل المنطقة ، أذكر أنها سببت مشاكل لفيصل مع الأشخاص الذين عمل معهم ، وحين روجعت في الأمر قلت إن القصة متخيلة والشخوص متخيلون ، وأن فيصل في القصة غير فيصل في الواقع ، وأمام احتجاج المعنيين اتفقنا على سحب النسخ من الطلاب ، وانتهى الأمر .
على أن المثير في قصة فيصل الحياتية ليس ما حدث بشان قصتي ، وإنما ما صار إليه ، وما آلت إليه حياته .
درس فيصل في جامعة النجاح الوطنية الهندسة ، وغالبا ما كان يزورني في المكتب ويتحدث معي ، وفوجئت به ،ذات يوم ، يزورني في البيت ، ليأخذ رأيي في أمر خطير .
كان فيصل يحمل حقيبة ( سامسوانيت ) وكان يضع فيها مسدسا ، وبينما هو يفتح حقيبته في المحاضرة ، إذا بزميل له يرى المسدس ، فارتعب وخاف ولم يدر ما يفعل ، وهكذا جاءني إلى البيت يستشيرني فيما سيقدم عليه .
كان فيصل يود أن يصفي زميله ، حتى لا يكتشف أمره ، ولم أشجعه على هذا أبدا ، وقلت له : إياك أن تفعل هذا ، وإن حدث وأبلغ زميلك أحدا ، وكان فيصل يخشى من وصول الأمر إلى الاحتلال ، فما عليك إلا أن تنكر أو أن تقول إن ما كان معك هو مسدس أطفال اشتريته هدية لأخيك . وأخذ فيصل برأيي ، وانتهت الأمور بسلام .
بعد أن عدت من ألمانيا في العام1991 التقيت بطلاب من العقربانية أخذت أدرسهم في الجامعة ، وكنت اسألهم عن أهلهم ومعارفهم ، وسألتهم عن فيصل واخيه عزمي . وقد عرفت أن فيصل استشهد في الانتفاضة ، وأن أخاه واصل دراسته ، وغدا فيما بعد يدرس الهندسة في الجامعة الأردنية .
كما لو أنني تنبأت بنهاية فيصل . فالقصة تنتهي باختفائه ،وعنوانها يشير إلى هذا " أين ذهب فيصل ؟ "
وأحيانا أشعر بالحزن ، فكثير من الطلاب الذين علمتهم ، وعرفتهم بأدب المقاومة وأدب غسان كنفاني دخلوا السجون وغدوا من المهتمين بالعمل الوطني ، ودفعوا لهذا ثمنا ما .
في تلك السنوات قرأت أعمال الطاهر وطار كلها ، وكم سحرنا هذا الروائي الجزائري ، كما قرأت ( انطون تشيخوف) و( بوشكين ) و ( جنكيز ايتماتوف ) وآخرين .
خربشات 31/7/2016

***

***

67
إن في قلوبهم لرافة لم يحظ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم"المتشائل"

في الرسالة التاسعة ، من الكتاب الأول ، من رواية إميل حبيبي (الوقائع الغريبة فياختفاء سعيد
أبي النحس المتشائل) 1974، يأتي سعيد على لقائه، في جامع الجزار ، حيث حشر الفلسطينيون
الباقون، بمعلمه الذي علمه في المدرسة، وقد التقيا بعد أن افترقا، بسبب حرب1948، ويتحدث
المعلم وطالبه عما يجري، ويقارن المعلم بين اليهود وغيرهم، فيرى أنهم ليسوا اسوأ من غيرهم
في التاريخ "والحقيقة، يا ولدي إنهم ليسوا اسوأ من غيرهم في التاريخ."
يعقد المعلم مقارنة بين ما فعله الصليبيون بأهل مدينة عكا في فترة الحروب الصليبية، وما فعله
الغزاة الجدد، ويأتي على المجازر التي ارتكبها الصليبيون، حيث قتلوا وذبحوا، وهذا ما لم يفعلـه
اليهود بأهلها، حين احتلوها ،إذ اكتفوا بترحيلهم. (لا تخفى سخرية إميل، هنا، إذ أن الصليبيين لـم
يهجروا السكان، بل ذبحوا اعدادا منهم، أما اليهود فقد أرادوا اجتثاث الوجود الفلسطيني، بالترحيل
والتهجير والأبعاد ، وأحيانا أرى أن عدم ارتكاب مجازر أكثر بحقنا في العام1948 يعود إلى أن
(الهولوكست كان قريب عهد.)
إن في قلوبهم لرأفة.
في نهاية 70ق20 وبداية 80ق20 قام الإسرائيليون بالترفيه عن أبناء اللاجئين في المخيمـات
الفلسطينية، فقد ارقهم، أعني الإسرائيليين، -على ما يبدو- ضيق الحياة في المخيمـات، وعدم
ترفيه أبنائها عن أنفسهم.اما كيف رفهوا عنهم ، فهذه هي القصة؟
أوحى الإسرائيليون لأتباعهم من مخاتير بأن يقوموا بتسجيل أسماء أبناء المخيم وبناتـه، ممن
يرغبون في زيارة فلسطين ، بتسجيل أسمائهم لديهم ، واتفقوا على تواريخ محددة، ووقت محدد
،يجتمع فيه الناس معا، قرب الجامع ، ليقلوهم إلى فلسطين ، وزيارتها.
وفي الموعد المحدد جاءت الحافلات الإسرائيلية، وأقلت اللاجئين واللاجئات إلى عكـا وحيفـا
ونهارية ومدن ومواقع سياحية أخرى، وكان هذا عملا غير مألوف، فمن قبل كنا نحن نذهب إلى مدننا وقرانا ، وإلى مدنهم ومواقعهم السياحية ، بحافلاتنا وعلى نفقتنا، وهكذا زرنا مدننا وقرانـا، وكذلك مدنهم ومواقعهم السياحية، فعرفنا (ناتانيا) و(نهارية) و(السخنة)، وكنا، في الأخيرة ،ندفع
رسم دخول، لندخل و نسبح في بركها، وننفق نهارا كاملا، وقد نقول ما قالته صفية، في رواية
غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) 1969، لزوجها سعيد. س، بعد أن رأت حيفا، بعد عشرين عاما من
سيطرة الحركة الصهيونية عليها": انظر، كيف جعلوها. لقد حولوها إلى جنة. "نعم قد نقـول مـا
قالته صفية ، دون أن ندرك ما أدركه سعيد .س "ذلك جزء من الحرب" و"إنهم يريدون ان يقولوا
لنا: انكم لا تستحقونها ("قبل سنوات قليلة جدا زار ابن اخ لي فلسـطين، بعد ان أخـذت الدولـة
الإسرائيلية تمنح التصاريح لزيارة الداخل الفلسطيني، وأعجب بما رأى، فقال لي: نحن لا نستحقها
. هم يستحقونها ، وابن أخي هذا ، مثل أكثر أبناء شعبنا ، ممن ليس لديهم وعي سياسي.)
نعم إن في قلوبهم لرأفة ، فقد لاحظ الإسرائيليون ، على ما يبدو ، ان بعض اهل نابلس، على سبيل
المثال، يقضون لياليهم الملاح على شواطيء (ناتانيا) ليليا، فيم لا يفعل هذا اللاجئون
واللاجئات، فقرروا ، أعني الإسرائيليين ، ان يرفهوا أيضا عن أبناء المخيمات ، وهكذا لجؤوا إلـى
ما لجؤوا اليه. وكنت ترى أهالي المخيم يقبلون على الـذهاب شـبابا وشـابات، إخوة وأخـوات
معا، ليروا تلك البلاد ، وليستمتعوا برحلة على حساب غيرهم.
وحدث ما لم يتوقعه الإسرائيليون ، فندموا.
كان الشباب ، على شاطيء البحر وفي البرك، يسبحون مع الفتيات اليهوديات، ويبـدو ان احـدهم
راقت له فتاة ، فتحرش بها ، وهات بهدلة.
فيما سمعته فإن الشرطة الإسرائيلية تدخلت في الأمر ولقنت أبناء المخيم درسا فـي الأخـلاق
، واخذت تبحث عن الشاب الذي تحرش بالفتاة ، وقلبت سرور الشباب والشابات الى غـم ونكـد
وهم ورعب وخوف ، واعادتهم في المساء إلى مخيمهم ، ولم تعد تكرر رحلاتها ، فهؤلاء اللاجئون
........لاجئون وعرب معا ، فكيف إذا كانوا عربا فلسطينيين يرون بلادهم أمام أعيـنهم ، وقد
سلبت منهم.؟ (مثل هذا حذث حتى في نابلس ذات ليلة عيد ، مع فتاة نابلسية، وقد أراد قسم منا أن يعتذر اهالي المخيم لأهالي نابلس فرفضت ، باعتبار الشاب لا يمثل إلا نفسه ، وكنت أول شـاب
من المخيم يقف في وجه يوسف رضا ويفشل خطة له باعتباره مسؤولا عن اللاجئين.)
هل كان الشاب قرأ رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) وأراد أن يسلك سلوكه ، فينتقم
ممن اغتصبوا بلاده باغتصاب بناتهم؟ أم أن مقاومة الاحتلال تتم بطرق شتى ، ونحن لسـنا أول
من يغتصب ، فقد اغتصب بعض الجنود الصهيونيين ، في حرب العـام1948، بعـض النسـوة
الفسطينيات ، وبقروا ، في دير ياسين ، بطون الحوامل؟.
للحقيقة وجهان
والثلج اسود فوق مخيمنا
وعاد أبناء المخيم إلى مخيمهم ، ويا فرحة ما تمت. عادوا مرعوبين خائفين ، وقد شـل الخـوف
اركانهم.
مرة قرات عبارة لكاتب فلسطيني يصف فيها ما يقوم به الاسرائيليون ازاء الفلسطينيين ، ونصها
"يقتلوننا ثم يبكون"، وهي شبيهة بعبارة اخرى هي "لا تجعلونا نقتلكم"، وحقا ان في قلوبهم رأفة

***

68 :
( التطبيع السري المبكر بين الدول العربية واسرائيل )
يخيل إلي أن كل شيء ، في عالمنا ، مفبرك ، كما يذهب نجوان درويش في قصيدته الجميلة الساخرة ( فبركة) ، والفبركة ، في القصيدة ، قريبة الصلة بنظرية المؤامرة وبما يذهب إليه إخواننا الإسلاميون : الماسونية ، فعلية القوم ، هنا وهناك ، ماسونيون ، وكم كنت أسخر من كلام أستاذي ، في الجامعة الأردنية عبد المجيد المحتسب الذي علمني مادة التفسير ومناهج المفسرين ولم يبق في ذاكرتي منها إلا كلمة أو بضع كلمات ، وهي ( الماسونية ) و ( المحفل الماسوني ) و ( عبد الناصر ماسوني ، ورقمه في المحفل 33 ) ، ولم أتوقف عن السخرية إلا حين أخذت اقرأ في الجرائد الأردنية الرسمية ، في صفحة الوفيات ، عن محفل المرحوم الملك حسين ، ومحفل الأمير حسن ، ينعيان شخصا من علية القوم ، وهذه ليست فبركة ، إلا إذا غدوت مشوش الذاكرة ، وأصبحت أخلط بين كلام الدكتور المرحوم المحتسب وبعض قراءاتي في الجرائد ، وقد مر على هذا كله أربعون عاما.
ولشدة هوسي ، في تلك الأيام ، بالماسونية ، فقد درست مساقا في الجامعة الأردنية عنوانه ( حاضر العالم الإسلامي ) ، مع أستاذ أظنه من دار الأشقر ، عزز فيه مقولات د.المحتسب ، وأظن أن مثل هذه المساقات فرخت ما يسمى اليوم ب( داعش ) ، لشدة هوسي بكلام د. المحتسب أخذت ، في نابلس ، اسأل زوج خالة لي عن الماسونية ، فأخبرني عن محفل لعلية القوم وبعض رؤساء البلديات ، واعلمني عن مكانه ، ولم يكن زوج خالتي هذا ينطق عن الهوى ، فقد كان صديقا لبعض هؤلاء ، وكان ،كما يقولون في نابلس ، مقرعة المدينة ، ويعرف أسرارها .
هل ما كتبه المرحوم إميل حبيبي في روايته " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " عن صباني نابلس ، وعلية القوم في عمان كان أيضا فبركة ، لأن إميل كان شيوعيا ، وكان على خلاف مع الأنظمة التي تدور في فلك أميركا ، ومنها النظام الأردني ؟
في روايته يكتب إميل ،في الكتاب الثاني ،وعنوانه ( يعاد ) رسالة ، هي الرابعة ، عنوانها ( كيف سبقت العروبة الأصيلة ، بالتشمير ، عصر التشمير ) ، ولم تكن كلمة تطبيع دارجة ، كما هي في زماننا ، وفي الرسالة يأتي على جهود العمال الفلسطينيين ، من محتلين عام 1948 و1967 ، في بناء الدولة العبرية ، ويرد على الصهيونية التي تزعم أنها حولت فلسطين من مستنقعات إلى جنة ، ويذهب إلى أن من حولها هم العمال الفلسطينيون الذين لم ينعم الإسرائيليون وحسب بنتاج أيديهم ، وإنما نعم به بعض علية القوم في الأردن أيضا ، ويتمادى المرحوم إميل فيذكر المرحوم الملك حسين ومن كان يقيم معه في قصري ( بسمان ) و( رغدان ) ، وبما أن ناقل الكفر ليس بكافر ، فإليكم ما كتبه إميل في هذا :
" ومن زرع القطن ، ثم جناه ، ثم حلجه ، ثم نسجه اثوابا يتيه فيها سادة رغدان وبسمان ، فقيل إن الاتحاد الوطني سيخيط منها لباسه الموحد ، فيتساوى أعضاؤه كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بملوكهم وبتقبع الكوفية ،رمز العروبية ، .......
من شيد المباني وشق الطرق وحرث الأرض وزرعها ، في إسرائيل ، غير العرب الباقية في إسرائيل ، فالعرب الباقية ، صبرا ، فيما احتلته دولتنا من أرض لم يجد لها أحمد الشقيري متسعا في ملفات خطبه الرنانة .
ولقد رأيتهم ، في ساحة العجمي في يافا ، شبابا في عمر التمر ، من غزة وجباليا وبيت حنون ودير البلح وخان يونس ورفح يتمايلون على سيارة المقاول كتمايل شواهد القبور فوق اخوتهم الشهداء في مقابر غزة .. " .
وفي السنوات الأخيرة ، حين نشرت وسائل الإعلام صورة للمرحوم الملك حسين ، في قصره ، تعود إلى العام 1966 ، وبيده عوزي إسرائيلي ، لم أصدق ، وتذكرت قصيدة نجوان ، وقلت إن الصورة فبركة في فبركة ، وإلا ما الذي يدفع شاعر المقاومة المرحوم سميح القاسم إلى مدح الملك عبد الله ، بعد هجاء والده المرحوم الملك حسين . رحم الله سميح القاسم ، فقد كان شاعرا مبدئيا ، وأنا أخطو خطاه ، ولذا أقول : الأمر فبركة ..
غير أن ما ازعجني ، على الجسر ، في الطرف الأردني ، في أثناء تنقلي ، بين العامين 1980- 1981 هو ما قام به بعض الجنود من مصادرة شراشف طاولة بلاستيك أخذتها هدية للمرحوم خالي فايز ،- وقد كان ضابطا في الجيش الأردني - ، بحجة أنها بضاعة إسرائيلية . وكان ينبغي ألا انزعج ، فهذا سلوك وطني لم ينقضه إلا ما عرفته لاحقا عن علية القوم .
كان بعض علية القوم ، في نابلس ، ممن يملكون شاحنات يصدرون بواسطتها الخضار والفواكه والحجارة من الضفة الغربية إلى الأردن ، كانوا يصدرون أيضا ، سرا،البضاعة الإسرائيلية ، إلى علية القوم ، من أصحاب المزارع،في عمان ، وقد كانوا يخفون كراتين البذور الإسرائيلية ، وكذلك رشاشات المياه ، أسفل الصناديق ، ويرسلونها ، ويكافئون السائق بمبلغ زهيد ، حتى اكتشف السواقون أنهم لا يأخذون من الرغيف إلا لقمة ، فآثروا أن يحصلوا على الرغيف كاملا ، وأخذوا يعملون لصالحهم .
فبركة ، فبركة .
كل ما كتب من قبل فبركة ، على رأي نجوان درويش ،
وخيال ، خيال شرقي ، على رأي إميل حبيبي في روايته " المتشائل "
والفنان مريض بالعصاب على رأي ( فرويد ) و ( ادموند ولسون )
ولم ينسنا الأمر كله إلا اتفاق ( أوسلو ) وما تبعه من عودة قياداتنا التي قاتلت في بيروت ، وأخذ بعض هؤلاء يقبلون على البضاعة الإسرائيلية إقبالا منقطع النظير ، غير عابئين بما يقوله بقايا الثوريين عن التطبيع . وكنت تسأل التاجر : كيف تحضر ، الآن ، البضاعة الإسرائيلية ، وقد غدت هناك بدائل واستيراد مباشر من تركيا وأوروبا والصين ، فيجيبك : إنهم علية القوم من الثوار العائدين ، لا يريدون إلا البضاعة الإسرائيلية ، ولم أسأله إن كان هذا بندا من بنود اتفاقية ( أوسلو )
خربشات 2/8/2016

***

69 :
( وغرير في المكتبة )
ما بين 1976- 1980 غدوت أشارك في الحياة الأدبية ، فأكتب مقالات في الصحف والمجلات ، ويمكن اعتبار ما كتبت محاولات دربت فيها أصابعي على الكتابة ، وكنت أفيد من بعض الكتب التي اقتنيتها وراقت لي ، مثل كتاب " النقد الأدبي الحديث ،أصوله واتجاهاته " للمرحوم أحمد كمال زكي ، وكتاب " قضايا الشعر المعاصر " للمرحومةنازك الملائكة،وكتاب " الشعر العربي المعاصر ، قضاياه وظواهره الفنية " للمرحوم عز الدين اسماعيل ، وقد أفدت من هذا الكتاب في كتابة مقالة طويلة عن " المدينة في شعر عبد اللطيف عقل " ، وكتاب " لعبة الحلم والواقع " للمرحوم جورج طرابيشي ، وقد بدأت اهتم بهذا الناقد وكتبه وترجماته ، ولما رأيت ترجمته التي صدرت عن دار الطليعة لموسوعة علم الجمال ، فقد اشتريتها ، وجربت أن أقرأ فيها ، كما اهتممت بكتب ماركسية حول نقد الشعر .
في العام 1980 قبلت طالبا ، من جديد ، في الجامعة الأردنية ، لإكمال دراساتي العليا ، ودرست مادة النقد الادبي الحديث مع الدكتور محمود السمرة ، وقدمت له بحثا عن القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة ، فراق له وسألني : ما رأيك أن تكتب فيه رسالة الماجستير ؟ و أجبته بأنني أفكر في هذا ، وكنت تجادلت طويلا مع الدكتور عبد الرحمن ياغي في الموضوع ، ولكني اكتشفت أنني لن أواصل العمل معه ، لتزمته الشديد وتعصبه لآرائه ، وقد فوجيء يوم عرف انني اخترت د.السمرة مشرفا ، واتهمني بانني أهرب إلى الظلال ، وكان د.ياغي يعتبر نفسه الناقد الأدبي الوحيد الذي يكتب نقدا جريئا وملتزما .
كان د.ياغي يكتب نقدا ينشره في الصحف ، وكان غالبا ما يقدم ، إلى القراء ، الأعمال الجديدة ، وكنت أتابع كتاباته كلها ، وقد درسنا في الماجستير كتابا أصدره عن رابطة الكتاب الأردنيين حول منهجه النقدي ، وهو المنهج الاجتماعي الماركسي ، وقد شرح لنا الكتاب في خمس محاضرات ، ثم تركنا في المكتبة تقرأ في مجلة لبنانية قديمة هي مجلة " المشرق " ، ليكتب كل واحد منا موضوعا ما يناقشه في نهاية الفصل ، وأظنني درست معه في البكالوريوس موضوعا خاصا في الأدب الحديث اعتمد على المجلة نفسها . وظل نقد د.ياغي ، لاحقا ، وعلى مدار عقدين ، لا يختلف عن نقده في بداية 80 ق 20 ، وفيما قرأته له من كتب فإنه لم يفد من المناهج النقدية الجديدة ، مثل البنيوية والسيميائية ، بل ومن كتب النقد الحديث لفن الرواية ، وظل يؤثر النقد الاجتماعي الماركسي ، وهو يميل إلى الإطالة والاقتباس وكثير من نقده يبدو لي اليوم لا طائل من ورائه . ولكن هذا لا يقلل من جهوده في خدمة الحركة الأدبية والثقافة الفلسطينية .
سجلت رسالة الماجستير في القصة القصيرة في الضفة والقطاع من 1967 إلى 1981 ، وكنت قرأت أكثر المجموعات التي صدرت ، وكتبت عنها مراجعات في الصحف ، بل وكنت شاركت في ندوات ، عقدت في رام الله ونابلس وغزة ، لمناقشتها ، ففي تلك الأيام كنا نتواصل مع الكتاب الفلسطينيين من غزة إلى الجليل بسهولة ، وكانت فلسطين التاريخية كلها لنا ولليهود معا ، من حيث جوب البلاد طولا وعرضا ، وبحرية كبيرة جدا .
حين بدأت أكتب الأطروحة كان علي أن اتتبع القصص القصيرة المنشورة في الصحف والمجلات ، فقد كانت المجموعات الصادرة لا تتجاوز العشر مجموعات ، وهكذا وجدتني أذهب إلى حيفا لاتتبع ما نشره كتاب الضفة والقطاع في جريدة " الاتحاد " ، وأما مجلات الأحزاب الصهيونية وصحفها ، مثل مجلة " الشرق " وجريدة " الأنباء " ، فقد كانت متوفرة في مكتبة بلدية نابلس التي سأنفق فيها ثلاثة أشهر تقريبا هي تموز و آب وايلول ، أقرأ القصص في الصحف والمجلات وألخصها على دفتر خاص ، لأفيد منها .
ولم تتكرر تجربتي في الجلوس في المكتبة ، وفي التنقل بين المدن ، للحصول على المصادر والمراجع ، بهذا الشكل ، إلا في ألمانيا ، حيث تنقلت بين أكثر من مدينة للإفادة من مكتباتها ، وأما بعد الحصول على الدكتوراه ، فقد تحولت إلى باحث منزلي تقريبا ، ونادرا ما أذهب إلى مكتبة عامة ، إذ أخذت أشتري ما أحتاج إليه من كتب ، فكونت مكتبة لا بأس بها .
كنت أذهب إلى حيفا وإلى مكاتب جريدة " الاتحاد "، وهناك تعرفت إلى المرحوم سلمان ناطور وانطوان شلحت وعفيف صلاح سالم ، والتقيت الإمبراطور المرحوم إميل حبيبي ، وإن كان اللقاء عابرا وسريعا ، كما التقيت بسميح القاسم الذي كان يحرر مجلة " الجديد ". وكنت في المقابل أجلس في قاعة المجلات والصحف في مكتبة بلدية نابلس من العاشرة صباحا حتى الخامسة أو السادسة مساء ، أقرأ في الصحف الصادرة بعد الاحتلال ، وقد صغت من قراءاتي هذه الفصل الأول من رسالة الماجستير ، وكان عنوانه " القصة القصيرة : عوائق ومؤثرات " وقد تتبعت فيه أثر الاحتلال ، في حزيران ، على الحركة الأدبية ، وهو فصل فيه من جهود الباحث ما فيه . إنه حقا بحث ، لا مجرد دراسة يمكن أن ينجزها المرء عن مجموعة قصصية ، أو عن مجموعات قصصية ، وهو جالس في بيته .
بعد أن انهيت الفصول الدراسية الثلاثة المطلوبة في الجامعة عدت أدرس في مدارس الوكالة في الغور ، وما بين بداية شباط ونهاية آيار كتبت بقية فصول الرسالة التي أنجزت في فترة قصيرة لم تتعد الاثنين والعشرين شهرا ، وقد ناقشتها في مجمع اللغة العربية الأردني في 14 / 8 / 1982 ، واجيزت . ( كنت أعكف على القراءة والكتابة ، خلال كتابة الرسالة ، ثماني ساعات متواصلة ، من 3 عصرا حتى 11 ليلا ) .
في تلك الأيام كنت ، دائما ، أضع يدي على قلبي : ماذا لو منعني الاحتلال من السفر إلى عمان لمناقشة الرسالة ، وماذا لو صادر النسخة الورقية المكتوبة بخط يدي ، وهي النسخة الوحيدة ؟
في بداية حزيران 1982 سافرت إلى الأردن لأناقش الرسالة ، وهناك سيبدأ حزيران آخر ، حزيران دموي سوف يفضي أيضا إلى أيلول جديد .
هل انتهى حزيران 1967 ؟
خربشات 3/8/2016

***

70 : (الحلقة الأخيرة )
( يذهب حزيران ، ويأتي حزيران:كأنه لا ينتهي )
في العام 1967،إثر الهزيمة ، التقت الشاعرة فدوى طوقان بشعراء الارض المحتلة ، وقرؤوا قصائد عن الحرب وما نجم عنها وانعكاسها عليهم ، ومن القصائد قصيدة فدوى " على أطلال يافا " وقصيدة محمود درويش " يوميات جرح فلسطيني" .
زارت الشاعرة مدن فلسطين ووقفت على اطلالها وبكت ما رأت ، ورحب بها الشعراء الذين رأوا في الهزيمة ( خطوة للخلف ، من أجل عشر للأمام ) على رأي الشاعر المرحوم توفيق زياد ، فهذه كبوة ، وكم يحدث أن يكبو الهمام ، وأما محمود درويش فقد خسر حلما جميلا وخسر لسع الزنابق وما خسر السبيلا .
وإذا كانت الشاعرة قبل الهزيمة مغرقة في وحدتها وعزلتها وتقوقعها على ذاتها،ولم تكتب في الموضوع الوطني إلا قصائد قليلة جدا،مثل " مع لاجئة في العيد " ، فإنها ،مع الهزيمة ، وبلقائها بالشعراء اليساريين ، تحولت ، مثلهم ، إلى شاعرة مقاومة ، وتقدم ، في قصائدها ، الموضوع الوطني ليحتل الصدارة .
وطال حزيران 1967 أكثر مما توقع راكب الحافلة الذي قال إن الاحتلال سيدوم سبعة أسابيع أو سبعة أشهر أو سبع سنوات . طال حزيران وطال الاحتلال الرحيم ، وافتتحت فيه سجون جديدة ، وعوقب أهل الأرض المحتلة 1967عقوبات جماعية ، ومنعوا احيانا من السفر ، وهدمت منازل المقاومين ، وأقيمت المستوطنات ، ولم تجد الرحلات التي شجع عليها الإسرائيليون ، من أجل التعايش ، نفعا . واشتدت المقاومة في خارج فلسطين ، وأصبح هناك ، في لبنان ، دولة داخل دولة ، هي دولة الفاكهاني ، وامتلك الفلسطينيون في جنوب لبنان مدافع وسيارات مصفحة و ..و .. وكان لا بد من حرب جديدة أوسع من حرب الليطاني 1978 وأكبر .
في الأول من حزيران غادرت الضفة إلى الأردن لأنهي الماجستير ، وهناك أخذت أتردد ، من جديد ، على رابطة الكتاب الأردنيين التي كان مقرها في جبل اللويبدة ، في شارع ابراهيم طوقان ، لأتابع النشاط الأدبي الذي كانت الرابطة تعقده ، وغالبا ما كان يومي الأحد والأربعاء .
وستبدأ الحرب .
سيبدأ حزيران من جديد ، وهذه المرة لم يبدأ في الخامس منه . سيبدأ يوما أبكر .
في الرابع من حزيران ستبدأ الحرب ، وستغزو القوات الإسرائيلية جنوب لبنان ، وخلال أيام ستصل إلى مشارف بيروت ، ليتواصل حزيران الذي لا ينتهي .
لماذا لم تبدأ اسرائيل حربها في الأول من حزيران ؟
ستغدو أخبار المعارك خبزنا وملحنا وفاكهتنا اليومية ، ومن جديد سنعود ثانية خبراء عسكريين نحلل المعارك ونتحدث عن الحرب باسترخاء ، فالجبهة مشتعلة ، ونحن على شرفات مبنى الرابطة ، أو في ساحات الجامعة نمارس حياتنا وترف الكلام .
ولم تنته الحرب في ستة أيام أو في سبعة أيام ليستريح ( بيغن ) في اليوم السابع ، وستغدو حربا مختلفة عن الحرب السابقة . وسيصمد الفدائيون والمقاومون حتى نهاية آب ، ليخرجوا في بداية أيلول إلى مناف جديدة ؛إلى الجزائر والسودان واليمن وليبيا وتونس و .... وستتواصل الهجرات الفلسطينية ، وستغدو قصيدة محمود درويش " مديح الظل العالي " القصيدة التي عبرت عما جرى ولخصته وكثفته،وسنحفظها ما استطعنا .
ما أصغر الدولة
ما أكبر الفكرة
وحين يعود الفلسطينيون في العام 1994 إلى دولتهم المنشودة ، ويحكمون مدنا محتلة في فلسطين المحتلة ، سنكرر :
ما أصغر الدولة
وحين نرى ما صرنا إليه ندرك أن حزيران لا ينتهي . أيوجد حقا شهر لا ينتهي ، أو زمن لا ينتهي ؟ وسنسقط في حفرة هذا الظل .
في العام 1990 كتب محمود درويش ديوانه " أرى ما أريد " وصدره بأسطر عن علاقته بالزمن ، وصراعهما معا . كتب الشاعر :
وأنا انظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر
واحدق في ذاكرة الماء ، وفي ذاكرة الليل
لا أبصر في هذا الليل
إلا آخر هذا الليل
دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية
وتقصر أيضا عمر الليل
لم يبق من الليل ومني شيء نتصارع فيه ... وعليه
لكن الليل يعود إلى ليلته
وأنا أسقط في حفرة هذا الظل .
ذهب حزيران 1967 وجاء حزيران 1982
كأننا لا رحنا ولا جئنا
و
" لكن الليل يعود إلى ليلته "
ونحن
نسقط في حفرة هذا ال ...... حزيران
خربشات 3/8/216
( ولا بد من توقف عن السرد )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى