يبدو أن نقاد اليوم في حيرة عند تناول القصيدة ومقارباتها، فهل ينحو الناقد ليعمل مشرط النقد بمبضع القديم على القصائد الحداثية، وهل يتغيا الحداثة لتطبيق نظرياتها على القصائد الكلاسيكية العمودية؟ إشكالية يتورط فيها النقاد، ومزالق يقع فيها كثير من الأكاديميين الذين انحازوا إلى المنهاجية والنظرية، كل بمفهومه، وقناعاته، فتخاتلت الذائقة، وأصبح النقد على المحك ليتصارع النقاد ما بين مؤيد ومطبق للقديم، وما بين حداثي يحاول أن يطوع القديم لمنهاجية الحداثي، وأقول: على النقاد ألا ينحازوا لآرائهم التي قد تفقد الدرس النقدي جمالياته وتشوهه، فلا القديم يصلح معه الدرس النقدي الحداثي، وإلا ظلمناه، ولا الحداثي يمكن أن يلتفت إلى الصورة البديعية والمحسنات اللفظية، وعمود الشعر لأن شكل القصيدة – في الأساس- قد تتغير، حتى القصيدة العمودية التي تكتب الآن لا يجب أن نطبق عليها معيار الشعر القديم، لأن سياقات العصر، ونمط وروح القصيدة، بل ونظمها، قد اختلف تمامًا، فالشاعر المعاصر – الآن – الذي يكتب الشعر العمودي لم يعد يقف على الأطلال، أو يبكي الديار، أو يتغزل في وصف الناقة، و التي قد لا يكون كمدينة قد رآها على الطبيعة، أو عايش سكنى الصحراء، ومن هنا فإن الإبداع ابن بيئته وعصره، ولا يجب أن نلتفت إلى الخلف، ولدينا علوم اللسانيات الجديدة، وعلوم اللغة، والبلاغة الجديدة التي جاوزت اللفظ والشكل والمضمون، إلى آفاق أكثر كونية، فغدت القصيدة براحًا يتسق مع متلاحقات العصر وتكنولوجياته وحداثته، بل ما بعديات الحداثة كذلك.
جغرافيا الشعر
تضع الشعرية الجديدة القارئ في نقطة ممتدة، يتماهى مع المبدع تارة، ويغوص في أحلامه الخاصة تارة أخرى، فيعيد إنتاجية النصّ الشعري بما يتغيَّاه، أو بما يشعر به، وما وصل إليه من شهقات هادرة، أو تموّجات صادحة من شعراء يغوصون في الذات والعالم والكون والحياة، ومع تثميننا للقصيدة الجديدة التي تتغيّا الجمال في ذاته، وربما القبح في ذاته كذلك، إلا أننا لا نهمل “الجغرافيا الشعرية” التي أوصلت القصيدة الجديدة إلى ماهيتها الآنية الحالمة، وأعني بذلك قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية كذلك، لكننا في هذا السياق النقدي لا يمكن الحكم بالطبع على الأجناس الشعرية بذات المعيارية النقدية، وبذات المنهجيات القديمة، إذ إننا نتبنى منطلقًا نقديًا مفاده: أن النص يطرح منهجياته ومدارسه، ولا بد أن يواكب الدرس النقدي كل شكل شعري بأدواته، بل وربما بظروف عصره كذلك، لذا لا يجدي نقد القصيدة الجديدة بآليات ومناهج الدرس النقدي البلاغي القديم، بل يتعدى الأمر إلى آفاق الكونية، إلى الآفاق الأكثر إنتاجية، والأكثر توجّهًا من وجهة النظر النقدية الفنية، ولن نقف عن “الحتمية التاريخية” بالطبع، وإلا فمن العبث أن نتأوّل النص الشعري النثري الجديد، أو قصيدة النثر بنفس المنهجيات التي تنظر للقصيدة من حيث الشكل أو المضمون، ومدى تضمينها للصور البلاغية والجمالية والذوق العام الخ. إن القراءة النقدية قد فتحت الباب عبر تشابك وتداخل الأنواع الأدبية لإنتاجية نصوص مغايرة في الشكل والمضمون والغرض الشعري إلى غير ذلك، وهذا يستتبع بالحتمية تطور النظريات النقدية، وإن ظلت اللغة هي الإشارية الدالة التي تتسع لكل الأشكال الجديدة، تستفيد من الأصالة لخدمة المعاصرة، وتستشرف للمعاصرة آفاقًا أكثر حداثة، وأغنى ترادفًا وتصويرًا – فيما نحسب – نتيجة لاختلاف العصر، واختلاف الذائقة الشعرية، ذائقة الشعر، وذائقة التلقّي والتي من بينها النقد الذي اتسعت مفاهيمه ليشمل السياقات والعلوم، ويستفيد من المنجز اللغوي الذي عمّق المعجم، واستفاد من كل المنجز الحداثي العصري لإنتاجية نصوص مغايرة تمامًا، ولا نقول بالطبع مقطوعة الجذور، فهي ليست نبتًا شيطانيًا، وإنما طبيعة النمو والتطور، والتوالد تستدعيان اختلاف الذائقة، ومن ثم يجب أن يتماهى المنطلق النقدي مع المنجز الشعري الجديد، كما لا يجب إغفال نظرية الفن للفن، والفن للحياة، وكل الأنساق الفلسفية واللغوية والجمالية التي استفادت من العلوم النظرية والعلوم التجريبية، وأخضعتها لمنطق “النص الشعري”، الذي يتسع لكل المفاهيم والأنساق والأشكال، ومن هنا كان لنا أن نطوّر القراءة الأدبية التي تستفيد من المنجز التراثي وتطوره لمساوقه الذائقة الآنية بحسب المنطلقات العصرية وتطوراتها المتلاحقة.
وأقول: لن تنجز الشعريّة بالطبع قصائد ميكانيكية، أو استاتيكية أو غير ذلك، وإن وجدنا الآن القصيدة التفاعلية، والروايات الرقمية، وقصص الشات والميديا وغير ذلك، كذلك لن تحدث الشعرية الجديدة بدعًا – كما أحسب – في المخترع اللغوي والجمالي، ولكنها تحاول الإسقاط – وهذا حق أصيل لها – المقولة الشعرية: (ما أرانا نقول إلا معادًا …. أو معارًا من لفظنا مكرورًا).
بل إنني أقول: “إنها أنتجت شعرية مغايرة، ولغة جديدة قديمة، لغة مستحدثة عبر نظريات اللغة كالاشتقاق والاختزال والإضمار والإيجاز وغير ذلك، مستفيدة من التطبيقات اللغوية ومن الظواهر الصوتية ومن الحدس الشعري وتغاير الذائقة ومن عدة تجاوزات تضاف للسابق، تسبقه وتعوّل عليه، ولا تنفيه مطلقًا، بل تأخذه في المعيّة، والذاكرة المرجعية في محاولة منها لإنتاجية نصوص دافقة عبر نهر اللغة والإبداع المتدفقين بالعقل الشعري للقصيدة الجديدة”.
ونحن بالطبع ضد التفسير للعمل الأدبي لأنه – فيما أحسب- لا يحيلنا إلى دلالات حقيقية في كشف خبايا النص وعلاقاته الداخلية، ولكننا مع التحليل الذي يدرس العلاقات المتشابكة التي تفكك النص ورموزه وبالتالي يسهل معه إعادة تركيبه وتبيان رؤاه و مقاصده الدفينة، ونقصد بمصطلح “الحقيقة الأدبية” هو المعالجة للجملة الأدبية متجاوزين تقييم المضمون أو أننا على حد قول “فاييخو”: لن نتلقى اللغة باعتبارها ثروة متشكلة مسبقًا، بل سنراها تولد وتموت أمام أعيينا، حيث تتمتع اللغة بوجود مقلق، كالوجود ذاته وهو ما نطلق عليه التساؤل الذاتي إذ الشاعر لا يرث لغة مكتملة فعلاً بقانونها للاستخدامات والمدلولات، بل إنه يناضل مع عناصر تندفع لتختفي ويحاول هو استعادتها حين تفلت منه، أو استنفاذها حين تستحوذ عليه.
إن الحداثة لا تعني القطعية للمنجز التراثي – بالطبع – بل إنها تتواشج معه في سيمفونية ممتدة، عبر هارموني اللغة “المطّاط”، الذي يطيق المدّ والجزر، وإلا فما جدوى العقل دون تجديد وابتكار وتحديث وهذا يجرنا للحديث: “كل محدثة بدعة”، ونحن هنا لن نحيل الإبداع لمذهبيات تعيقه عن النمو اللغوي، والتطور الحتمي للأفكار، بل سنقف، وسيقف كثيرون – عندئذ – يحاربون كل ما هو جديد، ولكن تأبى الطبيعة الإنسانية، طبيعة العقل، أن تتوقف عند مسلمات وبديهيات قد نكتشف فيما بعد أننا بتسليمنا الزمام لها، قد تخلفنا عن الركب الحضاري، أو أننا بصمتنا نرتكب جريمة في حق الإبداع واللغة وحق أنفسنا في التطور والابتكار والتفكير، وهو الحق الإنساني الأول للحياة.
إن الدرس النقدي الحديث – كما أرى – يجب أن يلتفت لكل السياقات الحديثة ويطرح وينفض عنه السياقات القديمة ليجاور الشعرية التي تتطور وتتماهى وتكتسب في كل زمان ومكان – الآن -أشكالاً متجددة، ولعل ذلك ما يؤكد زعمنا بأن النظرية النقدية القديمة لا تصلح بالكليّة أن نعوّل عليها الآن، لأنني أنطلق من رؤى مفادها: “أن النص يطرح منهجياته وسياقاته ودلالاته، ومن الخطأ أن يظل الناقد حبيسًا لمنهجيات ومذاهب ورؤى تواضع النقاد القدامى على وضعها دون تطوير ومراعاة للسياقات الآنية، ولا مانع لدينا أن نستفيد من شذرات النقد القديم ونضيف إليه – كما أضافت الشعرية – رؤى مغايرة، وإلا لن يتم تحديث للشعر والنقد على السواء.
حاتم عبدالهادي السيد
جغرافيا الشعر
تضع الشعرية الجديدة القارئ في نقطة ممتدة، يتماهى مع المبدع تارة، ويغوص في أحلامه الخاصة تارة أخرى، فيعيد إنتاجية النصّ الشعري بما يتغيَّاه، أو بما يشعر به، وما وصل إليه من شهقات هادرة، أو تموّجات صادحة من شعراء يغوصون في الذات والعالم والكون والحياة، ومع تثميننا للقصيدة الجديدة التي تتغيّا الجمال في ذاته، وربما القبح في ذاته كذلك، إلا أننا لا نهمل “الجغرافيا الشعرية” التي أوصلت القصيدة الجديدة إلى ماهيتها الآنية الحالمة، وأعني بذلك قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية كذلك، لكننا في هذا السياق النقدي لا يمكن الحكم بالطبع على الأجناس الشعرية بذات المعيارية النقدية، وبذات المنهجيات القديمة، إذ إننا نتبنى منطلقًا نقديًا مفاده: أن النص يطرح منهجياته ومدارسه، ولا بد أن يواكب الدرس النقدي كل شكل شعري بأدواته، بل وربما بظروف عصره كذلك، لذا لا يجدي نقد القصيدة الجديدة بآليات ومناهج الدرس النقدي البلاغي القديم، بل يتعدى الأمر إلى آفاق الكونية، إلى الآفاق الأكثر إنتاجية، والأكثر توجّهًا من وجهة النظر النقدية الفنية، ولن نقف عن “الحتمية التاريخية” بالطبع، وإلا فمن العبث أن نتأوّل النص الشعري النثري الجديد، أو قصيدة النثر بنفس المنهجيات التي تنظر للقصيدة من حيث الشكل أو المضمون، ومدى تضمينها للصور البلاغية والجمالية والذوق العام الخ. إن القراءة النقدية قد فتحت الباب عبر تشابك وتداخل الأنواع الأدبية لإنتاجية نصوص مغايرة في الشكل والمضمون والغرض الشعري إلى غير ذلك، وهذا يستتبع بالحتمية تطور النظريات النقدية، وإن ظلت اللغة هي الإشارية الدالة التي تتسع لكل الأشكال الجديدة، تستفيد من الأصالة لخدمة المعاصرة، وتستشرف للمعاصرة آفاقًا أكثر حداثة، وأغنى ترادفًا وتصويرًا – فيما نحسب – نتيجة لاختلاف العصر، واختلاف الذائقة الشعرية، ذائقة الشعر، وذائقة التلقّي والتي من بينها النقد الذي اتسعت مفاهيمه ليشمل السياقات والعلوم، ويستفيد من المنجز اللغوي الذي عمّق المعجم، واستفاد من كل المنجز الحداثي العصري لإنتاجية نصوص مغايرة تمامًا، ولا نقول بالطبع مقطوعة الجذور، فهي ليست نبتًا شيطانيًا، وإنما طبيعة النمو والتطور، والتوالد تستدعيان اختلاف الذائقة، ومن ثم يجب أن يتماهى المنطلق النقدي مع المنجز الشعري الجديد، كما لا يجب إغفال نظرية الفن للفن، والفن للحياة، وكل الأنساق الفلسفية واللغوية والجمالية التي استفادت من العلوم النظرية والعلوم التجريبية، وأخضعتها لمنطق “النص الشعري”، الذي يتسع لكل المفاهيم والأنساق والأشكال، ومن هنا كان لنا أن نطوّر القراءة الأدبية التي تستفيد من المنجز التراثي وتطوره لمساوقه الذائقة الآنية بحسب المنطلقات العصرية وتطوراتها المتلاحقة.
وأقول: لن تنجز الشعريّة بالطبع قصائد ميكانيكية، أو استاتيكية أو غير ذلك، وإن وجدنا الآن القصيدة التفاعلية، والروايات الرقمية، وقصص الشات والميديا وغير ذلك، كذلك لن تحدث الشعرية الجديدة بدعًا – كما أحسب – في المخترع اللغوي والجمالي، ولكنها تحاول الإسقاط – وهذا حق أصيل لها – المقولة الشعرية: (ما أرانا نقول إلا معادًا …. أو معارًا من لفظنا مكرورًا).
بل إنني أقول: “إنها أنتجت شعرية مغايرة، ولغة جديدة قديمة، لغة مستحدثة عبر نظريات اللغة كالاشتقاق والاختزال والإضمار والإيجاز وغير ذلك، مستفيدة من التطبيقات اللغوية ومن الظواهر الصوتية ومن الحدس الشعري وتغاير الذائقة ومن عدة تجاوزات تضاف للسابق، تسبقه وتعوّل عليه، ولا تنفيه مطلقًا، بل تأخذه في المعيّة، والذاكرة المرجعية في محاولة منها لإنتاجية نصوص دافقة عبر نهر اللغة والإبداع المتدفقين بالعقل الشعري للقصيدة الجديدة”.
ونحن بالطبع ضد التفسير للعمل الأدبي لأنه – فيما أحسب- لا يحيلنا إلى دلالات حقيقية في كشف خبايا النص وعلاقاته الداخلية، ولكننا مع التحليل الذي يدرس العلاقات المتشابكة التي تفكك النص ورموزه وبالتالي يسهل معه إعادة تركيبه وتبيان رؤاه و مقاصده الدفينة، ونقصد بمصطلح “الحقيقة الأدبية” هو المعالجة للجملة الأدبية متجاوزين تقييم المضمون أو أننا على حد قول “فاييخو”: لن نتلقى اللغة باعتبارها ثروة متشكلة مسبقًا، بل سنراها تولد وتموت أمام أعيينا، حيث تتمتع اللغة بوجود مقلق، كالوجود ذاته وهو ما نطلق عليه التساؤل الذاتي إذ الشاعر لا يرث لغة مكتملة فعلاً بقانونها للاستخدامات والمدلولات، بل إنه يناضل مع عناصر تندفع لتختفي ويحاول هو استعادتها حين تفلت منه، أو استنفاذها حين تستحوذ عليه.
إن الحداثة لا تعني القطعية للمنجز التراثي – بالطبع – بل إنها تتواشج معه في سيمفونية ممتدة، عبر هارموني اللغة “المطّاط”، الذي يطيق المدّ والجزر، وإلا فما جدوى العقل دون تجديد وابتكار وتحديث وهذا يجرنا للحديث: “كل محدثة بدعة”، ونحن هنا لن نحيل الإبداع لمذهبيات تعيقه عن النمو اللغوي، والتطور الحتمي للأفكار، بل سنقف، وسيقف كثيرون – عندئذ – يحاربون كل ما هو جديد، ولكن تأبى الطبيعة الإنسانية، طبيعة العقل، أن تتوقف عند مسلمات وبديهيات قد نكتشف فيما بعد أننا بتسليمنا الزمام لها، قد تخلفنا عن الركب الحضاري، أو أننا بصمتنا نرتكب جريمة في حق الإبداع واللغة وحق أنفسنا في التطور والابتكار والتفكير، وهو الحق الإنساني الأول للحياة.
إن الدرس النقدي الحديث – كما أرى – يجب أن يلتفت لكل السياقات الحديثة ويطرح وينفض عنه السياقات القديمة ليجاور الشعرية التي تتطور وتتماهى وتكتسب في كل زمان ومكان – الآن -أشكالاً متجددة، ولعل ذلك ما يؤكد زعمنا بأن النظرية النقدية القديمة لا تصلح بالكليّة أن نعوّل عليها الآن، لأنني أنطلق من رؤى مفادها: “أن النص يطرح منهجياته وسياقاته ودلالاته، ومن الخطأ أن يظل الناقد حبيسًا لمنهجيات ومذاهب ورؤى تواضع النقاد القدامى على وضعها دون تطوير ومراعاة للسياقات الآنية، ولا مانع لدينا أن نستفيد من شذرات النقد القديم ونضيف إليه – كما أضافت الشعرية – رؤى مغايرة، وإلا لن يتم تحديث للشعر والنقد على السواء.
حاتم عبدالهادي السيد