خلال سنة 1969، أعدَّت منظمة اليونسكو برنامجا دوليا لتدريس البيولوجيا تحت عنوان : "بيولوجيا الجماعات البشرية". و قد وضعت هذه المنظمة خطةً لتطبيقه على مستوى جميع مناطق العالم. حسب التقسيم الذي كانت تعتمده اليونسكو آنذاك، المغرب صُنِّفَ كبلد إفريقي. و من أجل هذا التطبيق، قامت اليونسكو بتنظيم حلقات تدريبية لفائدة أساتذة العلوم الطبيعية، الأفارقة، تحت إشراف أساتذة جامعيين مرموقين. و كان على كل بلد إفريقي أن يعين أستاذين اثنين لتمثيل بلدهم و للمشاركة في هذه الحلقات التدريبية.
تم اختياري أنا من الرباط لأشارك في التدريب لمدة شهرين و زميل لي في الدراسة و التدريس من الدار البيضاء لمدة شهر واحد. و كان التدريب منظما بعاصمة مدغشقر (كانت مُستعمرة فرنسية نالت استقلالَها سنة 1960)، تاناناريڤ Tananarive. كان عمري آنذاك 25 سنة و كانت أول مرة سأمتطي فيها الطائرة. لا أخفي أني كنت مضطربا بعض الشيء و خصوصا أن المسافة طويلة جدا إضافة إلى عدم وجود خط مباشر بين المغرب و مدغشقر. كان علينا أن نذهب إلى باريس ثم مرسيليا ثم العودة إلى إفريقيا بعد توقُّف بمطار دار السلام بتنزانيا.
أشرفََ على التدريب أستاذان، الأول من المغرب، Albert Sasson، يهودي مغربي كان أستاذا في علم الجراثيم، و في نفس الوقت، عميدا لكلية العلوم. كان أستاذي لما كنت أدرس بهذه الأخيرة و هو الآن عضو أكاديمية الحسن الثاني للعلوم و التقنيات. الأستاذ الثاني René Heller كان فرنسيا متخصصا في علم النبات.
بالطبع، جل الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية كانت ممثلة في هذا التدريب. و كان على الحاضرين أن يُصيغوا جدادات fiches حول بيولوجيا الجماعات البشرية (تطور الجماعات البشرية، السكان و البيئة، الديمغرافيا و المستوطنات البشرية، التناسل البشري، و سائل البقاء، الخ.). بمساعدة الأستاذين المذكورين، تمهيدا لتأليف مرجع موجه للاستعمال من طرف المدرس يوزع على الجهات المعنية في إفريقيا.
كانت مشاركتي في هذا التدريب تجربةً كبيرةً بكل المقاييس. لقد ساهمتْ في بناء شخصيتي على المستوى الفردي و على الصعيدين الاجتماعي و العلمي. اللقاء مع الأنداد الأفارقة كان غنيا من خلال تبادل الأفكار و التعرف على ثقافات أخرى و كذلك على منظوماتهم التربوية.
أما الاستفادة الكبرى، فكانت على الصعيد العلمي إذ أتِيحت لنا الفرصة للاحتكاك مع كبار الأساتذة في مجال العلوم. و أكثر من هذا و ذاك، إن هذه التجربة ستفتح لي فيما بعد أبوابا أخرى للتعاون مع هيئات و منظمات جهوية و دولية أخرى.
في الستينيات، كانت مدغشقر بلدا فقيرا إذ كان ناتِجٌها الداخلي الخام يساوي 673 مليون دولار أمريكي بينما الناتِج الداخلي الخام للمغرب، في نفس الفترة، يتجاوز ملياري دولار أمريكي (سنة 2019، كان الناتِج الداخلي للمغرب يناهز 120 مليار دولار أمريكي).
و فضلا عن كل هذا، لقد تعرفنا على مدغشقر و على طبيعتها الخلابة. مدغشقر بلد جميل جدا من حيث الطبيعة. كم من نباتات و حيوانات درسناها بكلية العلوم بالرباط ولم نتعرف عليها إلا من خلال الصور و رأيناها بأم أعيننا.
و في هذا الصدد، حدثنا أستاذ علم النبات بالكلية عن نباتات مفترسة أو آكلات اللحوم carnivores. رأيناها بأم أعيننا تصطاد الحشرات لما تحط فوقها. حدثنا أستاذ علم الحيوان عن حشرات نادرة تمتاز بأشكالها الغريبة و ألوانها الزاهية. رأيناها بأم أعيننا. و رأينا قِردة نادرة lémuriens لا توجدُ إلا في مدغشقر. و رأينا نباتات تدافع عن نفسها بالانكماش عند اللمس و أسماك بإمكانها أن تعيش خارج الماء و بذور مستطيلة عندما تسقط من الشجرة تُغرس مباشرة في الأرض الرطبة. و رأينا شجرة baobab ذات الجدع الضخم الذي تطلبت الإحاطةُ به ثمانيةَ أشخاص متماسكين بالأيدي. و كم هي كثيرة الأشجار المثمرة (ثمارٌ تؤكل) التي تنبت في الغابات أو في الخلاء...
أما سكان مدغشقر، أغلبهم ناس بسطاء، جلُّهم يدينون بالمسيحية و يتكلمون الفرنسية علما أن جل الأنشطة التجارية و المطاعم يديرها هنود أسيويون و صينيون و لبنانيون و فرنسيون. المسلمون قلائل لكن العربَ مروا من هذه الجزيرة الضخمة و لا يزال أثرُ مرورهم واضِحاً من خلال أسماء أيام الأسبوع التي هي كالتالي :alatnine, attalat, alaroubia alkhamisti, alzouma, sabutsi, alahadi.
و قد قمنا بزيارة للمقر الذي كان مَنفِياً فيه المغفور له محمد الخامس هو و أفراد عائلته بمدينة Antsirabé. و قد زرناه غرفة بغرفة و تعرفنا على المكان الذي كان يجلس فيه للاستماع للراديو ليطلع على ما يجري في المغرب. و هذا المقر هو عبارة عن فندق Hôtel des thermes خُصِّص بأكمله للعائلة الملكية. كان سكان المدينة و خصوصا الحي الذي يوجد به الفندق يُكنّون احتراما كبيرا لجلالة الملك بحكم أن مدينة Antsirabé كان يوجد بها سكان مسلمون غالبا ما يكون هو إمامُ صلواتهم. و قد حضينا باستضافةٍ من العائلة الملغاشية التي كانت لها صداقة وثيقة مع الأسرة الملكية.
و أخيرا إليكم بعضَ المواقف و الأحداث التي عِشتُها أو كنتٌ مُستغرِبا منها خلال مقامي في تاناناريڤ:
1.و أنا في طريقي من المطار إلى الفندق الذي سأقيمُ به، رأيتُ شيئاً عُجابا : ناسٌ كثيرون (رجال و نساء) يمشون حُفاةً. و ما زاد استغرابي هو أنه، من بين هؤلاء الحُفاة، هناك ناسُ يرتدون ملابسَ أنيقة (بدلات أوروبية مع ربطة عُنُق). ما كان راج ببالي هو أنه ربما هؤلاء الناس ليس لهم الإمكانيات المادية لشراء الأحذية. لكن عندما رأيتُ البدلات الأنيقة و ربطةَ العنق، لم يعد ما راج ببالي مُقنِعاً. بعد مرور أيامٍ معدودة، شاهدتُ نفسَ المنظر في أماكنَ أخرى. بل العمال الذين كانوا يشتغلون بالفندق يرتدون أزياءَ أوروبية و ربطة عنق لكن أقدامَهم حافية. و هو ما دفعني إلى طلبِ تفسيرٍ من أحد عمال هذا الفندق. كان جوابُه هو أن المشيَ بأقدامٍ حافية عادةُ متوارثة و لها فوائد صحية. و لهذا، لا تستغرب إذا رأيتَ تناقضاً بين الملابس الأنيقة و الأقدام الحافية. و أضاف : هذا لا ينفي أن بعضَ الناس ليس لهم الإمكانيات لشراء الأحذية.
2.خرجتُ من الفندق لأتعرَّفَ على مدينة تاناناريف. ما أثارَ انتباهي، في أحد الأسواق، هو تنوُّع الفواكه و وجودُها بكثرة. كانت هذه الفواكه مطروحةً فوق الأرض على شكل كوماتٍ و يبعها نساءُ و رجالُ و أطفالٌ بدون ميزانٍ. سألتُ عن ثمنها، فإذا بها أثمانٌ بخسةٌ لا تُصدَّق. فبإمكان المشتري أن يحصلَ على كومة فاكهة (موز، أناناس و فواكه أخرى لم يسبق لي أن عرفتُها) مقابلَ ثمنٍ يُساوي ما كنا نعرفُه، نحن المغاربة، ب"جوج أو ربعَ دريال". لم أصدِّق ما رأيتُه و سمعتُه. فلما استفسرتُ عن الأمر، كان الجواب : جلُّ هذه الفواكه تنبت في الغابات أو في الخلاء. و كل مَن أراد أن يقطُفَها، فهي له. اتَّضح أمرُ الثمن البخس.
3.ذات مساء و أنا خارج من الفندق لأمشي بعض الوقت في الشارع الرئيسي للمدينة، فإذا بي أرى شخصا شديد التواضع جالسا على الأرض و أمامه مصحف يقرأ فيه. أحسست إحساسا غريبا و في نفس الوقت أُعْجِبْتُ بالمنظر. فاقتربتُ منه و سألته : هل أنت ملغاشي (أي من مدغشقر). قال لا. و من أي بلد أنت؟ قال من جزر القُمُرْ Îles Comores. إذن أنت مسلم. قال نعم. و ماذا تفعل هنا؟ قال جئت من الجزر لأسترزف لأن بلدي فقير. و قلتُ له أسمعني شيئا من القرآن. فقرأ بعض الآيات و لو بنطق صعب. ناولتُه بعض النقود و انصرفت. جُزُر القُمُرْ، المتموقعة شمال مدغشقر، دولة عربية تنتمي لجامعة الدول العربية و تعاني من فقر كبير. فصرتُ كلما خرجتُ من الفندق، أبحث عنه لأتجاذب معه أطراف الحديث.
4.صُدفةً، التقيتُ مع أستاذ فرنسي كان يدرسني علم بيئة النبات بكلية العلوم بالرباط. فألح على أن أتناول معه وجبة عشاء بمنزله. لما وصلنا إلى المنزل، قال لي : اليوم، ستأكل معي وجبة، أنا متأكد، أنك لم تأكلها من قبل. قلتُ : ما هي هذه الأكلة؟ لن أقول لك أي شيء حتى أضعها فوق المائدة. فوضعها فوق المائدة. قال : هل عرفتها؟ قلتُ بصراحة لا أعرفها. قال : و إذا قلتُ لك ما هي، هل ستأكلها؟ قلتُ سنرى. إنها أفخاذ الضفدع. بمجرد ما سمعتُ كلمةَ ضفدع، اشمأزت نفسي و امتنعتُ عن الأكل و لم أعد أقدر على النظر إليها. قال : هذا شيء طبيعي لأننا كلنا نشمئز من رؤية الضفادع و لكن أنا واثق أنك بمجرد ما تتناول فخِذا واحدة، سوف تقول هل من مزيد؟ توكلت على الله و أخذتُ واحدة. و هذا ما حدث. إنها لذيذة جدا.
5.صُدفةً كذلك، التقيتُ مفتشا فرنسيا للعلوم الطبيعية كان يعمل بالدار البيضاء. فألح هو الآخر أن أتناول معه وجبة عشاء في أحد مطاعم المدينة. لما اطلعنا على لائحة الوَجَبات، اختار هو steak tartare. كنت أسمع عن هذه الوجبة لكني لم أتناولها في حياتي. إنها عبارة عن لحم مطحون (كفتة) مخلوط بالتوابل يؤكل نيئا، أي بدون طبخ. سألني : هل تعرفها؟ قلت نعم أعرفها، لكني لا أريد أن آكل لحما نيئا. قال لي : من هذه الناحية، اطمئن. هذا أحسن مطعم يجيد تحضير هذه الأكلة. و الدليل على ذلك، منذ أن حللتُ بمدغشقر و أنا أتناولها بهذا المطعم. أنظر، لا أزال حيا. توكلت على الله و قبلتُ. كانت أسوأ ليلة قضيتها ألما و تألما ببطني و أمعائي.
6. أثناء الرجوع إلى المغرب، كان على الطائرة أن تتوقَّفَ بروما ليلةً بأكملها. أقمتُ بفندق و كان عليَّ أن أستيقظَ في الصباح الباكر لأكونَ بمطار روما على الأقل ساعتين قبل الإقلاع علما أن الوقت المطلوب للوصول إلى هذا المطار لا يتجاوز عادةً نصفَ الساعة. اقتنيتُ تذكِرةَ الحافلة المخصَّصة لهذا الغرض و امتطيتُها في الصباح الباكر مع ركَّابٍ آخرين. بعد دقائق من تحرُّكِها، توقَّفت الحافلةُ عن السير بسبب ازدحام كثيف للسيارات بالطريق المؤدي إلى المطار. و إذا تحرَّكت، تتحرَّكُ بعض الأمتار و تتوقَّف و هكذا لمدَّة فاقت الساعة و النصف بكثير. بدأ الغضبُ ينتشر داخل الحافلة لأن الركَّابَ كلهم اقترب موعدُ إقلاعُ طائراتِهم، بما فيهم أنا. كما بدأ الصياح و الاحتجاجُ على السائق ليجدَ حلاًّ لهذه الورطة التي هو غير مسئولٍ عنها. لم يبق إلا نصف ساعة على إقلاع طائرتي و طائرات عدد كبير من الرُّكاب. من حُسن حظنا أن السائقَ شَعرَ بحدَّة الموقف، فاستجاب لاحتجاج المسافرين و اتَّصل بالمطار و أخبرَ المسئولين بما حدث. فيما يخُصُّني أنا شخصيا، لما دخلتُ المطارَ جَرياً و حاملاً حقيبتي، نادى عليَّ شخصٌ : "هل أنتَ أحمد الحطاب؟" قلتُ نعم. قال اتبعني. قلتُ له : عليَّ أن أسجِّلَ حقيبتي أولا. قال : الطائرة في انتظارِك منذ عِدَّة دقائق. نحن على علمٍ بما حدث. لا حاجةَ لتسجيل حقيبتِك. خُدها معك إلى الطائرة. لقد رتَّبنا كل شيء.
تم اختياري أنا من الرباط لأشارك في التدريب لمدة شهرين و زميل لي في الدراسة و التدريس من الدار البيضاء لمدة شهر واحد. و كان التدريب منظما بعاصمة مدغشقر (كانت مُستعمرة فرنسية نالت استقلالَها سنة 1960)، تاناناريڤ Tananarive. كان عمري آنذاك 25 سنة و كانت أول مرة سأمتطي فيها الطائرة. لا أخفي أني كنت مضطربا بعض الشيء و خصوصا أن المسافة طويلة جدا إضافة إلى عدم وجود خط مباشر بين المغرب و مدغشقر. كان علينا أن نذهب إلى باريس ثم مرسيليا ثم العودة إلى إفريقيا بعد توقُّف بمطار دار السلام بتنزانيا.
أشرفََ على التدريب أستاذان، الأول من المغرب، Albert Sasson، يهودي مغربي كان أستاذا في علم الجراثيم، و في نفس الوقت، عميدا لكلية العلوم. كان أستاذي لما كنت أدرس بهذه الأخيرة و هو الآن عضو أكاديمية الحسن الثاني للعلوم و التقنيات. الأستاذ الثاني René Heller كان فرنسيا متخصصا في علم النبات.
بالطبع، جل الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية كانت ممثلة في هذا التدريب. و كان على الحاضرين أن يُصيغوا جدادات fiches حول بيولوجيا الجماعات البشرية (تطور الجماعات البشرية، السكان و البيئة، الديمغرافيا و المستوطنات البشرية، التناسل البشري، و سائل البقاء، الخ.). بمساعدة الأستاذين المذكورين، تمهيدا لتأليف مرجع موجه للاستعمال من طرف المدرس يوزع على الجهات المعنية في إفريقيا.
كانت مشاركتي في هذا التدريب تجربةً كبيرةً بكل المقاييس. لقد ساهمتْ في بناء شخصيتي على المستوى الفردي و على الصعيدين الاجتماعي و العلمي. اللقاء مع الأنداد الأفارقة كان غنيا من خلال تبادل الأفكار و التعرف على ثقافات أخرى و كذلك على منظوماتهم التربوية.
أما الاستفادة الكبرى، فكانت على الصعيد العلمي إذ أتِيحت لنا الفرصة للاحتكاك مع كبار الأساتذة في مجال العلوم. و أكثر من هذا و ذاك، إن هذه التجربة ستفتح لي فيما بعد أبوابا أخرى للتعاون مع هيئات و منظمات جهوية و دولية أخرى.
في الستينيات، كانت مدغشقر بلدا فقيرا إذ كان ناتِجٌها الداخلي الخام يساوي 673 مليون دولار أمريكي بينما الناتِج الداخلي الخام للمغرب، في نفس الفترة، يتجاوز ملياري دولار أمريكي (سنة 2019، كان الناتِج الداخلي للمغرب يناهز 120 مليار دولار أمريكي).
و فضلا عن كل هذا، لقد تعرفنا على مدغشقر و على طبيعتها الخلابة. مدغشقر بلد جميل جدا من حيث الطبيعة. كم من نباتات و حيوانات درسناها بكلية العلوم بالرباط ولم نتعرف عليها إلا من خلال الصور و رأيناها بأم أعيننا.
و في هذا الصدد، حدثنا أستاذ علم النبات بالكلية عن نباتات مفترسة أو آكلات اللحوم carnivores. رأيناها بأم أعيننا تصطاد الحشرات لما تحط فوقها. حدثنا أستاذ علم الحيوان عن حشرات نادرة تمتاز بأشكالها الغريبة و ألوانها الزاهية. رأيناها بأم أعيننا. و رأينا قِردة نادرة lémuriens لا توجدُ إلا في مدغشقر. و رأينا نباتات تدافع عن نفسها بالانكماش عند اللمس و أسماك بإمكانها أن تعيش خارج الماء و بذور مستطيلة عندما تسقط من الشجرة تُغرس مباشرة في الأرض الرطبة. و رأينا شجرة baobab ذات الجدع الضخم الذي تطلبت الإحاطةُ به ثمانيةَ أشخاص متماسكين بالأيدي. و كم هي كثيرة الأشجار المثمرة (ثمارٌ تؤكل) التي تنبت في الغابات أو في الخلاء...
أما سكان مدغشقر، أغلبهم ناس بسطاء، جلُّهم يدينون بالمسيحية و يتكلمون الفرنسية علما أن جل الأنشطة التجارية و المطاعم يديرها هنود أسيويون و صينيون و لبنانيون و فرنسيون. المسلمون قلائل لكن العربَ مروا من هذه الجزيرة الضخمة و لا يزال أثرُ مرورهم واضِحاً من خلال أسماء أيام الأسبوع التي هي كالتالي :alatnine, attalat, alaroubia alkhamisti, alzouma, sabutsi, alahadi.
و قد قمنا بزيارة للمقر الذي كان مَنفِياً فيه المغفور له محمد الخامس هو و أفراد عائلته بمدينة Antsirabé. و قد زرناه غرفة بغرفة و تعرفنا على المكان الذي كان يجلس فيه للاستماع للراديو ليطلع على ما يجري في المغرب. و هذا المقر هو عبارة عن فندق Hôtel des thermes خُصِّص بأكمله للعائلة الملكية. كان سكان المدينة و خصوصا الحي الذي يوجد به الفندق يُكنّون احتراما كبيرا لجلالة الملك بحكم أن مدينة Antsirabé كان يوجد بها سكان مسلمون غالبا ما يكون هو إمامُ صلواتهم. و قد حضينا باستضافةٍ من العائلة الملغاشية التي كانت لها صداقة وثيقة مع الأسرة الملكية.
و أخيرا إليكم بعضَ المواقف و الأحداث التي عِشتُها أو كنتٌ مُستغرِبا منها خلال مقامي في تاناناريڤ:
1.و أنا في طريقي من المطار إلى الفندق الذي سأقيمُ به، رأيتُ شيئاً عُجابا : ناسٌ كثيرون (رجال و نساء) يمشون حُفاةً. و ما زاد استغرابي هو أنه، من بين هؤلاء الحُفاة، هناك ناسُ يرتدون ملابسَ أنيقة (بدلات أوروبية مع ربطة عُنُق). ما كان راج ببالي هو أنه ربما هؤلاء الناس ليس لهم الإمكانيات المادية لشراء الأحذية. لكن عندما رأيتُ البدلات الأنيقة و ربطةَ العنق، لم يعد ما راج ببالي مُقنِعاً. بعد مرور أيامٍ معدودة، شاهدتُ نفسَ المنظر في أماكنَ أخرى. بل العمال الذين كانوا يشتغلون بالفندق يرتدون أزياءَ أوروبية و ربطة عنق لكن أقدامَهم حافية. و هو ما دفعني إلى طلبِ تفسيرٍ من أحد عمال هذا الفندق. كان جوابُه هو أن المشيَ بأقدامٍ حافية عادةُ متوارثة و لها فوائد صحية. و لهذا، لا تستغرب إذا رأيتَ تناقضاً بين الملابس الأنيقة و الأقدام الحافية. و أضاف : هذا لا ينفي أن بعضَ الناس ليس لهم الإمكانيات لشراء الأحذية.
2.خرجتُ من الفندق لأتعرَّفَ على مدينة تاناناريف. ما أثارَ انتباهي، في أحد الأسواق، هو تنوُّع الفواكه و وجودُها بكثرة. كانت هذه الفواكه مطروحةً فوق الأرض على شكل كوماتٍ و يبعها نساءُ و رجالُ و أطفالٌ بدون ميزانٍ. سألتُ عن ثمنها، فإذا بها أثمانٌ بخسةٌ لا تُصدَّق. فبإمكان المشتري أن يحصلَ على كومة فاكهة (موز، أناناس و فواكه أخرى لم يسبق لي أن عرفتُها) مقابلَ ثمنٍ يُساوي ما كنا نعرفُه، نحن المغاربة، ب"جوج أو ربعَ دريال". لم أصدِّق ما رأيتُه و سمعتُه. فلما استفسرتُ عن الأمر، كان الجواب : جلُّ هذه الفواكه تنبت في الغابات أو في الخلاء. و كل مَن أراد أن يقطُفَها، فهي له. اتَّضح أمرُ الثمن البخس.
3.ذات مساء و أنا خارج من الفندق لأمشي بعض الوقت في الشارع الرئيسي للمدينة، فإذا بي أرى شخصا شديد التواضع جالسا على الأرض و أمامه مصحف يقرأ فيه. أحسست إحساسا غريبا و في نفس الوقت أُعْجِبْتُ بالمنظر. فاقتربتُ منه و سألته : هل أنت ملغاشي (أي من مدغشقر). قال لا. و من أي بلد أنت؟ قال من جزر القُمُرْ Îles Comores. إذن أنت مسلم. قال نعم. و ماذا تفعل هنا؟ قال جئت من الجزر لأسترزف لأن بلدي فقير. و قلتُ له أسمعني شيئا من القرآن. فقرأ بعض الآيات و لو بنطق صعب. ناولتُه بعض النقود و انصرفت. جُزُر القُمُرْ، المتموقعة شمال مدغشقر، دولة عربية تنتمي لجامعة الدول العربية و تعاني من فقر كبير. فصرتُ كلما خرجتُ من الفندق، أبحث عنه لأتجاذب معه أطراف الحديث.
4.صُدفةً، التقيتُ مع أستاذ فرنسي كان يدرسني علم بيئة النبات بكلية العلوم بالرباط. فألح على أن أتناول معه وجبة عشاء بمنزله. لما وصلنا إلى المنزل، قال لي : اليوم، ستأكل معي وجبة، أنا متأكد، أنك لم تأكلها من قبل. قلتُ : ما هي هذه الأكلة؟ لن أقول لك أي شيء حتى أضعها فوق المائدة. فوضعها فوق المائدة. قال : هل عرفتها؟ قلتُ بصراحة لا أعرفها. قال : و إذا قلتُ لك ما هي، هل ستأكلها؟ قلتُ سنرى. إنها أفخاذ الضفدع. بمجرد ما سمعتُ كلمةَ ضفدع، اشمأزت نفسي و امتنعتُ عن الأكل و لم أعد أقدر على النظر إليها. قال : هذا شيء طبيعي لأننا كلنا نشمئز من رؤية الضفادع و لكن أنا واثق أنك بمجرد ما تتناول فخِذا واحدة، سوف تقول هل من مزيد؟ توكلت على الله و أخذتُ واحدة. و هذا ما حدث. إنها لذيذة جدا.
5.صُدفةً كذلك، التقيتُ مفتشا فرنسيا للعلوم الطبيعية كان يعمل بالدار البيضاء. فألح هو الآخر أن أتناول معه وجبة عشاء في أحد مطاعم المدينة. لما اطلعنا على لائحة الوَجَبات، اختار هو steak tartare. كنت أسمع عن هذه الوجبة لكني لم أتناولها في حياتي. إنها عبارة عن لحم مطحون (كفتة) مخلوط بالتوابل يؤكل نيئا، أي بدون طبخ. سألني : هل تعرفها؟ قلت نعم أعرفها، لكني لا أريد أن آكل لحما نيئا. قال لي : من هذه الناحية، اطمئن. هذا أحسن مطعم يجيد تحضير هذه الأكلة. و الدليل على ذلك، منذ أن حللتُ بمدغشقر و أنا أتناولها بهذا المطعم. أنظر، لا أزال حيا. توكلت على الله و قبلتُ. كانت أسوأ ليلة قضيتها ألما و تألما ببطني و أمعائي.
6. أثناء الرجوع إلى المغرب، كان على الطائرة أن تتوقَّفَ بروما ليلةً بأكملها. أقمتُ بفندق و كان عليَّ أن أستيقظَ في الصباح الباكر لأكونَ بمطار روما على الأقل ساعتين قبل الإقلاع علما أن الوقت المطلوب للوصول إلى هذا المطار لا يتجاوز عادةً نصفَ الساعة. اقتنيتُ تذكِرةَ الحافلة المخصَّصة لهذا الغرض و امتطيتُها في الصباح الباكر مع ركَّابٍ آخرين. بعد دقائق من تحرُّكِها، توقَّفت الحافلةُ عن السير بسبب ازدحام كثيف للسيارات بالطريق المؤدي إلى المطار. و إذا تحرَّكت، تتحرَّكُ بعض الأمتار و تتوقَّف و هكذا لمدَّة فاقت الساعة و النصف بكثير. بدأ الغضبُ ينتشر داخل الحافلة لأن الركَّابَ كلهم اقترب موعدُ إقلاعُ طائراتِهم، بما فيهم أنا. كما بدأ الصياح و الاحتجاجُ على السائق ليجدَ حلاًّ لهذه الورطة التي هو غير مسئولٍ عنها. لم يبق إلا نصف ساعة على إقلاع طائرتي و طائرات عدد كبير من الرُّكاب. من حُسن حظنا أن السائقَ شَعرَ بحدَّة الموقف، فاستجاب لاحتجاج المسافرين و اتَّصل بالمطار و أخبرَ المسئولين بما حدث. فيما يخُصُّني أنا شخصيا، لما دخلتُ المطارَ جَرياً و حاملاً حقيبتي، نادى عليَّ شخصٌ : "هل أنتَ أحمد الحطاب؟" قلتُ نعم. قال اتبعني. قلتُ له : عليَّ أن أسجِّلَ حقيبتي أولا. قال : الطائرة في انتظارِك منذ عِدَّة دقائق. نحن على علمٍ بما حدث. لا حاجةَ لتسجيل حقيبتِك. خُدها معك إلى الطائرة. لقد رتَّبنا كل شيء.