أ. د. عادل الأسطة - "عافت خطونا المدن"

لمريد البرغوثي الشاعر الفلسطيني المقيم، الآن، في مصر قصيدة عنوانها "طال الشتات" جعلها عنواناً لديوان شعري أصدره في العام 1987، والقصيدة تمزج ما بين الشكل العمودي وشكل القصيدة الحديثة.
وتبدو المقاطع التقليدية الشكل فيها هي الأجمل، إذ تدخل إلى القلب، لغنائيتها الجميلة، وتستقر في الذاكرة.
كتب مريد القصيدة بوحي من حرب العام 1982، الحرب التي قاتل فيها الفدائيون قتال الأبطال، واضطروا بعد ذلك إلى الانسحاب من بيروت، فلم يسندهم العرب ولم يقفوا إلى جانبهم.
شرح القصيدة يسيء إليها ويفقدها جمالياتها، ويستطيع القارئ أن يعود إليها، ولقد تذكرت القصيدة وأنا أتابع صفحات الفيسبوك وبعض الفضائيات، فقد أدرج نشطاء فيسبوكيون مقاطع البرامج من الفضائيات المصرية يأتي فيها المذيعون ومن استضافوهم على ما يجري في غزة الآن.
بعض ما ورد في هذه المقاطع يبرز أن بعض إخوتنا العرب ملّوا من الحرب التي لا تنتهي، ومن المصريين، غير المذيعة بالطبع، مواطن مصري اسمه توفيق عكاشة، لقد عبر بصراحة عن رأيه وحمل ما يجري الآن على أرض غزة للفلسطينيين، أنا شخصياً تذكرت قصيدة مريد البرغوثي التي مطلعها:
طال الشتات وعافت خطونا المدن وأنت تمعن بعدا أيها الوطن
وتوقفت أمام العبارة: وعافت خطونا المدن.
قبل أن تبدأ الحرب على غزة بأيام التفت أيضاً على صفحة الفيسبوك إلى ما يشبه الكاريكاتور، حيث يتحدث مواطن خليجي إلى مواطن خليجي آخر ويقول له: متى يخلصنا الإسرائيليون من الفلسطينيين.
وفي الحفر عن جذور سيتذكر المرء أدبيات فلسطينية كثيرة أتى كتابها على ضجر المواطن العربي من العبء الفلسطيني وعبء قضيته على الحاكم العربي وبعض المواطنين العرب، وهذا ما دفع محمود درويش، ذات يوم، لأن يصرخ: يا وحدنا. بل وما دفعه لأن يكتب، غير مرة، في الموضوع نفسه، ويمكن هنا الإشارة إلى بعض مقالات كتابه النثري الجميل: في وصف حالتنا (1987). "ويا لحم الفلسطيني فوق موائد الحكام، يا حجر التوازن والتضامن بين جلاديك، حرف الضاد لا يحميك، فاختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطيني....... ويا لحم الفلسطيني في دول القبائل والدويلات التي اختلفت على ثمن الشمندر والبطاطا وامتياز الكاز، واتحدت على طرد الفلسطيني من دمه".
مريد البرغوثي في قصيدته يلامس قضية أخرى مهمة تتمثل في السؤال التالي: ما السر وراء اندفاع الفلسطيني المستمر والدائم نحو التضحية، على الرغم من أننا، حتى اللحظة، لم ننجز الدولة؟ وأبيات مريد تغني عن شرحها، فهي واضحة ومفهومه، وهي أجمل بكثير من نثرها:
طال الشتات وعافت خطونا المدن وأنت تمعن بعداً أيها الوطن
كأن حبك ركض نحو تهلكة ونحن نركض لا نبطي ولا نهنُ
يقول من لم يجرب ما نكابده كأن أجملهم بالموت قد فتنوا
ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا كفى ازدحاما على كفّي واتزنوا
يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتنا هل مات بالنار أم أودى به الشجن
لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا فبعثرتنا على أمواجها السفن
ارجع فديتك إن قبرا وإن سكنا فدونك الأرض لا قبر ولا سكنُ.
هل يكرر المرء حقاً قول الشاعر:
كأن حبك ركض نحو تهلكة ونحن نركض لا نبطي ولا نهن؟
ومنذ الخروج من بيروت وحتى اليوم، حتى الحرب الدائرة حالياً في غزة، ما زال كثيرون من شبابنا يركضون نحو التهلكة، لا يبطئون ولا يهنون. هل فتنوا بالموت الذي لو حكى بالفصحى لصاح بهؤلاء: اتزنوا. وثمة بيننا من يحكي بالفصحى نيابة عن الموت، ولا أحد يصغي من هؤلاء الشباب الذين ما زالوا يزدحمون على كفّي الموت.
في متابعة ما يجري على أرض غزة يجد المرء نفسه يتساءل: هل أهل غزة ملومون حين يقاومون؟ أنا شخصياً سأجد نفسي أدون الخربشة التالية:
"ماذا يتوقعون من غزة وأهلها غير ما يفعلونه؟ لقد حاصروهم في الخندق الأخير، حاصروهم براً وبحراً وجواً ومن الشرق والغرب والشمال والجنوب، غدا حالهم: ألقوه في اليم مكتوفا وخشوا عليه من الغرق.
أكثر سكان غزة لاجئون قراهم ومدنهم على مرمى العصا وغزة تضيق بسكانها وبهم، ومنذ 1948 وهم يتعرضون لهجمات ما إن تنتهي حتى تبدأ. حصار في حصار، وعلى مرمى الحجر يتنعم اليهود بالأراضي التي اغتصبوها وسرقوها، حقاً ماذا يتوقع العرب والعالم وتوفيق عكاشة وبعض رداحات الفضائيات ودولة إسرائيل من غزة وأهلها؟".
والطريف أن بعض الفلسطينيين، ومنهم خالد مشعل، ما زال يأمل بأن تحرك الأنظمة العربية ساكناً، ما زالوا متفائلين بالعرب، ومثل خالد مشعل مواطنون فلسطينيون كثر يصغي إليهم المرء من على شاشات الفضائيات وفي الشارع وفي الحافلة، نعم يصغي إليهم المرء ويحتار ماذا يقول، أيقول إن العرب لم يحركوا ساكناً في 1982 وفي 2002، ويومها لم تكن أوضاع سورية والعراق وليبيا واليمن والسودان ومصر على ما هي عليه الآن من بؤس يدفعنا نحن لأن نتعاطف مع الشعوب العربية وندعو لها بأن يخلصها الله من مآزقها التي هي أكثر بكثير من مآزقنا نحن، على رأي حسن خضر في مقال له في الأيام قبل عشرة أيام، إذ رأى فيما نعانيه تفصيلاً صغيراً إزاء التفاصيل الكبيرة فيما يجري في الدول الوارد ذكرها آنفا. (8/7/2014).
كان مريد البرغوثي كتب في قصيدته، معبراً عن يأسه من العرب:
أهذا صوتك المخذول نادى؟ أم أنك قد يئست من المنادى؟
أم أنك في المدى آنست نارا، وحين قصدتها حالت رمادا؟
..................................... .....................................
لقد خذلوك حيا ثم ميتا بما خافوا انتباهك والرقادا
وبأسك لم يهز بهم قناة وقد هز المقابر والجمادا
فأنت السيف فانبذهم غمادا وأنت السقف فاجعلنا عمادا
ولا تطع القرابة في عدو وعاند من "تريد" له عنادا.
والحكاية تتكرر.
يوم الخميس قتلت إسرائيل أربعة أطفال كانوا فوق سطح بيتهم يلعبون، وبعدها بساعات اصطادت ثلاثة فتيان على الشاطئ، فقتلتهم أيضاً.
هل كان هؤلاء يطلقون الصواريخ؟ أم أن إسرائيل رأت فيهم وقود الحرب القادمة، فما بين كل حربٍ وحربٍ حربٌ أخرى. وسأتذكر مساء الخميس قصيدة لمحمود درويش صدر "بها كتابه" "أثر الفراشة" (2007)، وقد كتبها في حادث موت/ قتل أهل الفتاة الغزية هدى أبو غالية التي قتل أهلها وهم يتنزهون على شاطئ البحر بقذيفة إسرائيلية، وبقيت هي وحدها على قيد الحياة:
"وفي البحر بارجة تتسلى/ بصيد المشاة على شاطئ البحر:/ أربعة، خمسة، سبعة/ يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلا/ لأن يدا من ضباب/ يدا ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي/ يا أبي! قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا".
على صفحة الفيسبوك خربشت قبل أيام تحت عنوان "مسكينة غزة هذه" وأحصيت معاناة المدينة منذ 1956، ولم يرق العنوان لصديق غزي، إذ رأى أن المساكين هم العرب والذين لا يقاومون، فما تقوم به غزة هو عمل بطولي. هل أخطأت التعبير؟
في قصة غسان كنفاني "ورقة من غزة" تبتر ساق ناديا جراء العدوان، وفي قصيدة درويش تسعف يد إلهية هدى، لكنها تفقد أهلها، والخميس استشهد سبعة أطفال، وثمة منا من عاف البحر أيضاً وعاف دولة إسرائيل وعاف العرب و...

------
عن جريدة الأيام 22/7/2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى