عثمان تلاف - إعتياد الموت

كان الموت مخيفاً جداً ، لا نحب سماع أخباره، ولا الحديث عنه، وإذا مات من نحب نشعر بطعنة في القلب ، حزن عميق يسكن الفؤاد ، كان الموت نقطة تحول في حياة الكثيرين منا. وكفى به واعظا!
ولكن مع انتشار الجريمة، وبزوغ ظاهرة الإعلام الشخصي ، " أنت الإعلام ولو كنت وحدك " أصبحت الأخبار تنثال من أقاصي الأرض وأدناها، بل وينقل الحدث مباشرةً. جرائد مثل جريدة الدار لا عمل لها.

الإشكال هاهنا كل معتوه له هاتف أو أشترى كاميرا - بعدما كان الأخير لتوثيق الذكريات - صار الإعلام الموازي والإعلام الأفضل ، ولا رقابة هنالك ، أي حدث هو خبر عاجل بالضرورة يستحق العالم أن يشاهده.

بالأمس رأيت في بعض حالات " الواتساب " خبر ذلك الطالب الذي ذبح زميلته في مصر ، ووجدت صاحبي أرفق المقطع وعلق " ضبحها" ، لا حسرة ، ولا حوقلة ولا استرجاع ، بكل برود " ضبحها" !!
تغيرت كيمياء بطني مباشرةً ، الأمر مفزع جدا ، علقت لأحدهم: كيف يطيب لك أن ترفع في حالتك حادثا مروعا كهذا؟
لم انتظر جوابا ، أحياناً نلتمس فقط ألا نرى تلك المشاهد ، لقد تفطرت قلوبنا حتى كادت تخرج من الحزن!

العالم اليوم يستسهل القتل ، ويتناقل أخباره وصوره ومشاهده الحية والمميتة في كل لحظة ، لنفقد معها بقايا إنسانيتنا المكلومة.
يتحول الموت سلعة يتجر بها الإعلام، وبلغة يسعد بها أصحاب الإعلام الموازي لنعتاد الموت ولنقتات على الجثث!

يقول المولى عز وجل: ﴿مِن أَجلِ ذلِكَ كَتَبنا عَلى بَني إِسرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسادٍ فِي الأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعًا وَمَن أَحياها فَكَأَنَّما أَحيَا النّاسَ جَميعًا وَلَقَد جاءَتهُم رُسُلُنا بِالبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثيرًا مِنهُم بَعدَ ذلِكَ فِي الأَرضِ لَمُسرِفونَ﴾

خبر الموت يفتح عندي نافذة يتسلل إليها ذكرى أولئك الذين رحلوا، يذكرني بموتي الذي لا أدري متى هو، كنت أبكيهم عند كل موت. وأبكي نفسي!
لا زلت أتذكر أول مرة أعرف فيها الموت عندما كنت طفلاً ، كان صادما لي أننا لا نخلد في هذه الحياة، أن نرحل قبل أن نحقق أهدافنا ، قبل أن نلتقي بمن نحب، أن نترك قلوب أصدقائنا يملؤها الحسرات.... كانت معضلتي التي بت أفكر فيها منذ تلك اللحظة: هل ستموت أمي قبلي؟ شكّل هذا السؤال مفهومي عن الموت، ولا زلت أفكر كيف سيكون حالي بعدها؟ وكيف تكون حالها بعدي؟ مجرد التفكير هكذا تدمع العين وينفطر القلب!

ساهموا في إحياء الناس، انقذوا الإنسانية من التسليع ، أنقذوا الموت من براثن الإنسان الحديث!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى