عندما نتحدث عن الحياة، أول فكرة تخطر بالبال، هي الحياة بمعناها البيولوجي علما أن الحياةَ، بمفهومها الواسع، هي كل ما يؤثِّث الفضاءَ الذي يعيش فيه البشرُ و يُحرِّكُه و يُنشِّطه و يجعله قابلا للتَّعايش و التَّساكن. و إذا كانت حياة الآنسان، ببُعدِها البيولوجي، تحتاج للماء و الهواء و الأكل لتستمرَّ، فالحياة، بمعناها الواسع، تغيَّرت و تتغيَّر مع تطور الإنسان فكريا و اجتماعيا.
و إذا كانت حاجيات الإنسان الأول homme primitif بسيطةً بحُكم اعتمادِه على الصيد و جني التِّمار و صُنع بعض الأدوات من الحجر و العظام و الخشب، فحاجيات الإنسان العاقل homo sapiens، منذ ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا، تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، أولا، بسبب تكاثر أعداده، ثانيا، بسبب عيشِه في مجتمعات منظمة، الكلُّ بسبب تطوُّر العقل و الفكر على مستوى الأفراد و الجماعات.
و هكذا، فإن حياة الإنسان العاقل، ببُعدِها الواسع، أصبحت لها مظاهر و أبعاد اجتماعية، اقتصادية، مالية، سياسية، ثقافية، تعليمية، أدبية، لغوية، أخلاقية، فلسفية، بيئية، صناعية، تنافسية، حِرفية، مِهنية، تجارية، تسويقية، فكرية، علمية، تقنية، تكنولوجية، عقائدية، دينية، روحية، حضارية، فلاحية، صِحية، تواصلية، إعلامية، تكاملية، إنتاجية، بُنْيانية، استهلاكية، عسكرية…
مما لا شك فيه أن الحياة المُعاصرة، بمعناها الواسع، تعدَّدت و تعقَّدت و تشابكت مظاهرُها مقارنةً مع ما كانت عليه في الماضي القريب و البعيد. لكن، ألا يجدر بنا أن نطرحَ السؤال التالي : "أليست هذه المظاهر المعقَّدة و المتشابكة هي التي قادت و تقود إلى إعمار الأرض؟
بكل تأكيد أن هذه المظاهر، التي هي من صُنع الإنسان العاقل، هي التي عمَّرت الأرضَ و لا تزال تُعمِّرها مصداقا لقوله سبحانه و تعالى في سورة هود، الآية 61 : "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...". "و استعمركم فيها" تعني و أمركم أن تُعمِّروا الأرضَ، أي أن تسكنوها مستغلين ما تُوفِّره لكم من خيرات، ظاهرُها و باطنُها. و كيف سيعمِّرُ الآنسان الأرضَ؟ سييعمِّرها باستعمال فكره و القيام بالأعمال من قِبَل البناء و الزرع و الصناعة و إقامة المنشآت بشتى أنواعها...
غير أن الله جل جلالُه، عندما أمر الإنسانَ أن يُعمِّرَ الأرضَ، المقصود هو الإعمارُ الذي فيه صلاحٌ و منافعٌ للناس. و المنافع هنا كثيرة، مُتنوِّعة بل لا تُحصى. فمنها ما هو مادي و منها ما هو معنوي. و كونُ المنافع "كثيرة و لا تُحصى" تعني أن هذه المنافع تتطوَّر مع تطوُّر فكر الإنسان. فيكفي أن نُلقيَ نظرةً على هذه المنافع منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض إلى يومنا هذا، فسنجد أن هذه المنافع تطوَّرت تطوُّرا مدهشاً بفضل ما أنتَجَه الفكر البشري من معارف و أدواتٍ علمية و تكنولوجية غيرت، بصفة عامة، تغييرا جذريا مجرى الحياة، بمعناها الواسع، و الحياة اليومية بصفة خاصة.
و هنا، على الإنسان أن يطرحَ هذا السؤال على نفسه : "هل فعلا كل مظاهر الحياة، بمعناها الواسع، عمَّرت الأرضَ بما فيه فقط صلاحٌ و منافع للناس؟
الجواب على هذا السؤال واضح وضوحَ الشمس : لا ثم لا! لماذا؟ لأن الإنسانَ، و خصوصا الإنسان المعاصرُ، عند قيامه بأعمال إعمارِ الأرض، لم يتخلَّص من أنانيتِه و من جَشَعِه و من ميولِِه إلى استغلالٍ مُفرطٍ لخيرات هذه الأرض و لاستعبادٍه لأندادِه استعبادا فاحشا و السيطرة عليهم. و عندما أتحدَّثُ عن الأنانية، فالأمرّ ينطبق على الأفراد و الجماعات و على الدُّول.
على مستوى الأفراد، تجذرُ الإشارةُ إلى أن الكثيرَ من بني البشر، و في جميع أنحاء المعمور، جعلوا من شِعار "و من بعديَ الطوفان" الخيطَ الناظمَ لحياتهم اليومية جاعلين من المصلحة الشخصية (و هذا شيءٌ مشروعٌ) همَّهم الواحد و الوحيد بل جاعلين من الفردانية و المادِّية وسيلةً لبلوغ أهدافهم على حساب مصلحة عموم الناس.
على مستوى الجماعات التي تتنوَّع شكلا و أهدافا، لا داعيَ للقول أن العديد منها انحرف عن أهدافِه و ركَّزَ الاهتمامَ على مصالح الجماعة/الفردية عِوض الصالح العام. و الأمثلة هنا كثيرةٌ و مُتنوِّعة أذكرُ منها على الخصوص الأحزاب السياسية التي باتت تضمُّ جماعات من البشر هدفُهم بدون منازعٍ هو الوصول إلى السلطة لبلوغ أهدافٍ لا علاقةَ لها بالصالح العام.
على مستوى الدُّول، الأمر واضح وضوح الشمس.كل الدُّول، بدون استثناء، تضع نصبَ أعينِها أولويَةَ خدمةِ مصالحِها. و هذا شيء مشروع ما دام تحقيق هذه المصالح لا يؤثِّر على مصالح الدول الأخرى، و على الخصوص، على عيش و حياة البشرية جمعاء و على الأوساط التي تعيش فيها. غير أن ما نلاحظه اليوم، و في وضوح النهار، هو أن الدُّولَ المتقدمة اقتصاديا و تكنولوجيا تقضي مصالحَها غير آبِهةٍ بالأضرار التي قد تلحق بالدول النامية، بصفة عامة، و بالإعمار المستنير الذي يعود نفعُه على كافة البشر. و ما يثيرُ الاستغرابَ، هو أن هذه الدُّول تتسبَّبُ في الأضرار في تناقض صارخ مع ميثاق منظمة الأمم المُتَّحدة و التصريح العالمي لحقوق الإنسان و كذلك مع المنظمات الأممية التي، أصلاً، أُنشِئَت لخدمة الصالح العام كمنظمة اليونسكو و منظمة الأمم المتحدة للتنمية و منظمة الأمم المتَّحدة للبيئة و منظمة العالمية للصحة…
و يكفي، في هذا الصَّدد، أن أُشِيرَ إلى نتائج المؤتمر 26 حول المناخ الذي انعقد مؤخَّرا بكلاسكو بالمملكة المتَّحدة. مؤتمر، كسائر المؤتمرات السابقة، تغلَّبت فيه مصلحة الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي على مصالح الدول النامية علما أن هذه الأخيرة ليست مسئولة إلا على نسبة ضئيلة من انبعاتات الغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري.
و لا داعيَ للقول أن أنانيةَ الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي هي التي أفرغت مواثيقَ الأمم المتحدة و المنظمات المنبثقة عنها من محتواها الآنساني، التضامني و التعاوني. فعِوض أن تتجاوزَ هذه الدول أنانيتَها لإعمار الأرض بما يتلاءم و المواثيق الدولية الإنسانية، فإنها عضَّت و تعضُّ بالنواجد على أنانيتِها ضاربةً عرض الحائط هذه المواثيق و ناسيةً أو متناسقة (في الحقيقة متناسية) أنه من واجبها إعمارُ الأرضِ دون إلحاق أضرار لا بالأفراد و لا بالجامعات و لا بالدُّول الأخرى و لا لأوساط عيش البشر و الكائنات الحية بجميع أشكالِها.
فكل ما يهمُّ الدولَ المتقدِّمةَ هو نمو اقتصادها و سيطرتُها على الأسواق العالمية و لو أدى ذلك إلى إلحاق أضرارٍ بالبشرية و بأوساط عيشها. و لو أدى ذلك إلى الخراب الواضحةُ معالِمُه إن على المستوى البشري أو على المستوى البيئي. و الأمثلة، في هذا الشأن، كثيرة و متنوعة. منها ما هو اجتماعي و منها ما هو اقتصادي و منها ما هو بيئي…
على المستوى الاجتماعي و الاقتصادي، تجدر الإشارة إلى أن احتكارَ الدول المتقدمةِّ للاقتصاد العالمي و عدم إتاحة الفرص للدول النامية لتَّطوُّرها العلمي و التكنولوجي، يجعل هذه الأخيرة رهينة ببيع ثرواتِها الطبيعة بأثمان لا تتحكَّم في تحديدِها، الشيء الذي يحرمها من خلقِ القيمات المضافة و من خلقِ الثروة. و بما أن تطوُّرَ البلدان النامية رهينٌ بنجاعة اقتصاداتها، فلا غرابةَ أن يستمرَّ بها الفقر و الفوارق الاجتماعية و الجهل و الحروب و غياب توزيع الثروة بإنصاف...
على المستوى البيئي، إن أنانيةَ الدول المتقدِّمة تسبَّبت و تتسبَّبُ في خَلْق مشكلات بيئية ضخمة بسبب الاستغلال المفرط و غير العقلاني للموارد الطبيعية و اللجوء إلى تكنولوجيات مخرِّبة للبيئة، فضلاً عن تراجعَ التنوع البيولوجي و استنزافَ التربة و الغابات و تلويثَ الماء و الجو و البحار…
و لعلَّ أخطرَ و أضخمَ هذه المشكلات البيئية، هو تغيُّرَ المناخ. تغيُّر المناخ الذي تسبَّبت و تتسبَّبُ في خلقِه الدول المتقدِّمة اقتصاديا و صناعيا و تكنولوجيا. تغيُّرُ المناخ الذي بدأت محاولات التَّصدِّي له في أول مؤتمر المناخ الذي انعقد بمدينة برلين سنة 1995. تغير المناخ الذي مرَّت على نقاشاتِه 26 سنة و لم يستطع المجتمعُ الدولي إلى حدِّ الآن إيجادَ حلول جذرية له علما أن خطورتَه تزداد سنةً بعد سنةٍ حسبَ ما تفيدُه التقارير العلمية الدورية. لماذا؟ بكل بساطةٍ و كما سبق الذِّكرُ، أنانيةُ الدول المتقدِّمة تجعلها متشبِّثةً بسيطرتِها على العالم اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، سياسيا، استراتيجياً…
فأين هو إعمارُ الأرض بما فيه منافع ٌ للبشرية جمعاء؟ ما يمكن تأكيدُه اليوم هو أن هذا الإعمارَ، رغم منافعه التي لا يمكن إنكارُها، يحمل معه جانبا مهمّاً من الخراب إنسانيا و بيئيا. و الغريب في الأمر، أن الدُّولَ المتقدِّمة، رغم إدراكِها لخطورة تصرُّفاتِها، فإن أنانيَتَها أعمت بصيرتَها إلى حدِّ التَّضحية بمستقبل البشرية بل بمستقبلِ الكرة الأرضية برُمَّتِها.
و بما أن لكل شيء وجهان، وجه إيجابي و وجه سلبي (هذه سنة الحياة)، فعلى الإنسان أن يُعزِّزَ الجانب الإيجابي و ذلك من خلال مراجعتِه لنفسَه و لنظرتَه إلى الأرض ليُعمِّرَها بما فيه صلاح و منافع له و لأنداده و بأقل الأضرار. و عليه كذلك، في هذا الصدد، أن يعيدَ النظرَ في مفهومي التنمية و الاقتصاد. فالإنسان الذي اخترق الأجواء و وصل إلى الكواكب و إلى أعماق البحار و قصَّر المسافاتِ و الوقتَ و لطَّف ما هو شاق...، قادر على إعمار الأرض بما يقتضيه العقل و صلاح البلاد و العباد.
فالفكرُ الذي أفرز نظراتٍ فيها جانبُ من الإساءة للبشر و للبيئة، قادِرٌ على إفرازِ نظرات أكثرَ تناغُماً و تناسُقاً مع استمرار الحياة و حماية الوسط الذي تترعرعُ فيه. إنها فقط مسألة إرادة! فعلى الإنسان أن لا ينسى أنه يوجدُ في الطبيعة و يعيش فيها ِ و عليه كذلك أن لا ينسى أن الطبيعة لها قوانينُها و لها توازناتُها و لها أساليب اشتغالها. فكلما ازداد ضغط الإنسان عليها، كلما فقدت بالتَّدريج هذه القوانين و التوازنات و الأساليب و بالتالي، تكون ردَّاتُ فعلها بما لا يُحمَدُ عُقباه.
و إذا كانت حاجيات الإنسان الأول homme primitif بسيطةً بحُكم اعتمادِه على الصيد و جني التِّمار و صُنع بعض الأدوات من الحجر و العظام و الخشب، فحاجيات الإنسان العاقل homo sapiens، منذ ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا، تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، أولا، بسبب تكاثر أعداده، ثانيا، بسبب عيشِه في مجتمعات منظمة، الكلُّ بسبب تطوُّر العقل و الفكر على مستوى الأفراد و الجماعات.
و هكذا، فإن حياة الإنسان العاقل، ببُعدِها الواسع، أصبحت لها مظاهر و أبعاد اجتماعية، اقتصادية، مالية، سياسية، ثقافية، تعليمية، أدبية، لغوية، أخلاقية، فلسفية، بيئية، صناعية، تنافسية، حِرفية، مِهنية، تجارية، تسويقية، فكرية، علمية، تقنية، تكنولوجية، عقائدية، دينية، روحية، حضارية، فلاحية، صِحية، تواصلية، إعلامية، تكاملية، إنتاجية، بُنْيانية، استهلاكية، عسكرية…
مما لا شك فيه أن الحياة المُعاصرة، بمعناها الواسع، تعدَّدت و تعقَّدت و تشابكت مظاهرُها مقارنةً مع ما كانت عليه في الماضي القريب و البعيد. لكن، ألا يجدر بنا أن نطرحَ السؤال التالي : "أليست هذه المظاهر المعقَّدة و المتشابكة هي التي قادت و تقود إلى إعمار الأرض؟
بكل تأكيد أن هذه المظاهر، التي هي من صُنع الإنسان العاقل، هي التي عمَّرت الأرضَ و لا تزال تُعمِّرها مصداقا لقوله سبحانه و تعالى في سورة هود، الآية 61 : "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...". "و استعمركم فيها" تعني و أمركم أن تُعمِّروا الأرضَ، أي أن تسكنوها مستغلين ما تُوفِّره لكم من خيرات، ظاهرُها و باطنُها. و كيف سيعمِّرُ الآنسان الأرضَ؟ سييعمِّرها باستعمال فكره و القيام بالأعمال من قِبَل البناء و الزرع و الصناعة و إقامة المنشآت بشتى أنواعها...
غير أن الله جل جلالُه، عندما أمر الإنسانَ أن يُعمِّرَ الأرضَ، المقصود هو الإعمارُ الذي فيه صلاحٌ و منافعٌ للناس. و المنافع هنا كثيرة، مُتنوِّعة بل لا تُحصى. فمنها ما هو مادي و منها ما هو معنوي. و كونُ المنافع "كثيرة و لا تُحصى" تعني أن هذه المنافع تتطوَّر مع تطوُّر فكر الإنسان. فيكفي أن نُلقيَ نظرةً على هذه المنافع منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض إلى يومنا هذا، فسنجد أن هذه المنافع تطوَّرت تطوُّرا مدهشاً بفضل ما أنتَجَه الفكر البشري من معارف و أدواتٍ علمية و تكنولوجية غيرت، بصفة عامة، تغييرا جذريا مجرى الحياة، بمعناها الواسع، و الحياة اليومية بصفة خاصة.
و هنا، على الإنسان أن يطرحَ هذا السؤال على نفسه : "هل فعلا كل مظاهر الحياة، بمعناها الواسع، عمَّرت الأرضَ بما فيه فقط صلاحٌ و منافع للناس؟
الجواب على هذا السؤال واضح وضوحَ الشمس : لا ثم لا! لماذا؟ لأن الإنسانَ، و خصوصا الإنسان المعاصرُ، عند قيامه بأعمال إعمارِ الأرض، لم يتخلَّص من أنانيتِه و من جَشَعِه و من ميولِِه إلى استغلالٍ مُفرطٍ لخيرات هذه الأرض و لاستعبادٍه لأندادِه استعبادا فاحشا و السيطرة عليهم. و عندما أتحدَّثُ عن الأنانية، فالأمرّ ينطبق على الأفراد و الجماعات و على الدُّول.
على مستوى الأفراد، تجذرُ الإشارةُ إلى أن الكثيرَ من بني البشر، و في جميع أنحاء المعمور، جعلوا من شِعار "و من بعديَ الطوفان" الخيطَ الناظمَ لحياتهم اليومية جاعلين من المصلحة الشخصية (و هذا شيءٌ مشروعٌ) همَّهم الواحد و الوحيد بل جاعلين من الفردانية و المادِّية وسيلةً لبلوغ أهدافهم على حساب مصلحة عموم الناس.
على مستوى الجماعات التي تتنوَّع شكلا و أهدافا، لا داعيَ للقول أن العديد منها انحرف عن أهدافِه و ركَّزَ الاهتمامَ على مصالح الجماعة/الفردية عِوض الصالح العام. و الأمثلة هنا كثيرةٌ و مُتنوِّعة أذكرُ منها على الخصوص الأحزاب السياسية التي باتت تضمُّ جماعات من البشر هدفُهم بدون منازعٍ هو الوصول إلى السلطة لبلوغ أهدافٍ لا علاقةَ لها بالصالح العام.
على مستوى الدُّول، الأمر واضح وضوح الشمس.كل الدُّول، بدون استثناء، تضع نصبَ أعينِها أولويَةَ خدمةِ مصالحِها. و هذا شيء مشروع ما دام تحقيق هذه المصالح لا يؤثِّر على مصالح الدول الأخرى، و على الخصوص، على عيش و حياة البشرية جمعاء و على الأوساط التي تعيش فيها. غير أن ما نلاحظه اليوم، و في وضوح النهار، هو أن الدُّولَ المتقدمة اقتصاديا و تكنولوجيا تقضي مصالحَها غير آبِهةٍ بالأضرار التي قد تلحق بالدول النامية، بصفة عامة، و بالإعمار المستنير الذي يعود نفعُه على كافة البشر. و ما يثيرُ الاستغرابَ، هو أن هذه الدُّول تتسبَّبُ في الأضرار في تناقض صارخ مع ميثاق منظمة الأمم المُتَّحدة و التصريح العالمي لحقوق الإنسان و كذلك مع المنظمات الأممية التي، أصلاً، أُنشِئَت لخدمة الصالح العام كمنظمة اليونسكو و منظمة الأمم المتحدة للتنمية و منظمة الأمم المتَّحدة للبيئة و منظمة العالمية للصحة…
و يكفي، في هذا الصَّدد، أن أُشِيرَ إلى نتائج المؤتمر 26 حول المناخ الذي انعقد مؤخَّرا بكلاسكو بالمملكة المتَّحدة. مؤتمر، كسائر المؤتمرات السابقة، تغلَّبت فيه مصلحة الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي على مصالح الدول النامية علما أن هذه الأخيرة ليست مسئولة إلا على نسبة ضئيلة من انبعاتات الغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري.
و لا داعيَ للقول أن أنانيةَ الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي هي التي أفرغت مواثيقَ الأمم المتحدة و المنظمات المنبثقة عنها من محتواها الآنساني، التضامني و التعاوني. فعِوض أن تتجاوزَ هذه الدول أنانيتَها لإعمار الأرض بما يتلاءم و المواثيق الدولية الإنسانية، فإنها عضَّت و تعضُّ بالنواجد على أنانيتِها ضاربةً عرض الحائط هذه المواثيق و ناسيةً أو متناسقة (في الحقيقة متناسية) أنه من واجبها إعمارُ الأرضِ دون إلحاق أضرار لا بالأفراد و لا بالجامعات و لا بالدُّول الأخرى و لا لأوساط عيش البشر و الكائنات الحية بجميع أشكالِها.
فكل ما يهمُّ الدولَ المتقدِّمةَ هو نمو اقتصادها و سيطرتُها على الأسواق العالمية و لو أدى ذلك إلى إلحاق أضرارٍ بالبشرية و بأوساط عيشها. و لو أدى ذلك إلى الخراب الواضحةُ معالِمُه إن على المستوى البشري أو على المستوى البيئي. و الأمثلة، في هذا الشأن، كثيرة و متنوعة. منها ما هو اجتماعي و منها ما هو اقتصادي و منها ما هو بيئي…
على المستوى الاجتماعي و الاقتصادي، تجدر الإشارة إلى أن احتكارَ الدول المتقدمةِّ للاقتصاد العالمي و عدم إتاحة الفرص للدول النامية لتَّطوُّرها العلمي و التكنولوجي، يجعل هذه الأخيرة رهينة ببيع ثرواتِها الطبيعة بأثمان لا تتحكَّم في تحديدِها، الشيء الذي يحرمها من خلقِ القيمات المضافة و من خلقِ الثروة. و بما أن تطوُّرَ البلدان النامية رهينٌ بنجاعة اقتصاداتها، فلا غرابةَ أن يستمرَّ بها الفقر و الفوارق الاجتماعية و الجهل و الحروب و غياب توزيع الثروة بإنصاف...
على المستوى البيئي، إن أنانيةَ الدول المتقدِّمة تسبَّبت و تتسبَّبُ في خَلْق مشكلات بيئية ضخمة بسبب الاستغلال المفرط و غير العقلاني للموارد الطبيعية و اللجوء إلى تكنولوجيات مخرِّبة للبيئة، فضلاً عن تراجعَ التنوع البيولوجي و استنزافَ التربة و الغابات و تلويثَ الماء و الجو و البحار…
و لعلَّ أخطرَ و أضخمَ هذه المشكلات البيئية، هو تغيُّرَ المناخ. تغيُّر المناخ الذي تسبَّبت و تتسبَّبُ في خلقِه الدول المتقدِّمة اقتصاديا و صناعيا و تكنولوجيا. تغيُّرُ المناخ الذي بدأت محاولات التَّصدِّي له في أول مؤتمر المناخ الذي انعقد بمدينة برلين سنة 1995. تغير المناخ الذي مرَّت على نقاشاتِه 26 سنة و لم يستطع المجتمعُ الدولي إلى حدِّ الآن إيجادَ حلول جذرية له علما أن خطورتَه تزداد سنةً بعد سنةٍ حسبَ ما تفيدُه التقارير العلمية الدورية. لماذا؟ بكل بساطةٍ و كما سبق الذِّكرُ، أنانيةُ الدول المتقدِّمة تجعلها متشبِّثةً بسيطرتِها على العالم اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، سياسيا، استراتيجياً…
فأين هو إعمارُ الأرض بما فيه منافع ٌ للبشرية جمعاء؟ ما يمكن تأكيدُه اليوم هو أن هذا الإعمارَ، رغم منافعه التي لا يمكن إنكارُها، يحمل معه جانبا مهمّاً من الخراب إنسانيا و بيئيا. و الغريب في الأمر، أن الدُّولَ المتقدِّمة، رغم إدراكِها لخطورة تصرُّفاتِها، فإن أنانيَتَها أعمت بصيرتَها إلى حدِّ التَّضحية بمستقبل البشرية بل بمستقبلِ الكرة الأرضية برُمَّتِها.
و بما أن لكل شيء وجهان، وجه إيجابي و وجه سلبي (هذه سنة الحياة)، فعلى الإنسان أن يُعزِّزَ الجانب الإيجابي و ذلك من خلال مراجعتِه لنفسَه و لنظرتَه إلى الأرض ليُعمِّرَها بما فيه صلاح و منافع له و لأنداده و بأقل الأضرار. و عليه كذلك، في هذا الصدد، أن يعيدَ النظرَ في مفهومي التنمية و الاقتصاد. فالإنسان الذي اخترق الأجواء و وصل إلى الكواكب و إلى أعماق البحار و قصَّر المسافاتِ و الوقتَ و لطَّف ما هو شاق...، قادر على إعمار الأرض بما يقتضيه العقل و صلاح البلاد و العباد.
فالفكرُ الذي أفرز نظراتٍ فيها جانبُ من الإساءة للبشر و للبيئة، قادِرٌ على إفرازِ نظرات أكثرَ تناغُماً و تناسُقاً مع استمرار الحياة و حماية الوسط الذي تترعرعُ فيه. إنها فقط مسألة إرادة! فعلى الإنسان أن لا ينسى أنه يوجدُ في الطبيعة و يعيش فيها ِ و عليه كذلك أن لا ينسى أن الطبيعة لها قوانينُها و لها توازناتُها و لها أساليب اشتغالها. فكلما ازداد ضغط الإنسان عليها، كلما فقدت بالتَّدريج هذه القوانين و التوازنات و الأساليب و بالتالي، تكون ردَّاتُ فعلها بما لا يُحمَدُ عُقباه.