يصف الإمام أبو حامد الغزالي المرأة بصفات الحيوان وينزلها منزلته، حين يعدد ما يشبه صفاتها التي يعتقد أنها متوفرة فيها فهي: الخنزيرة والحية والكلية ،والبقرة وغيرها ، جاء ذلك في احد كتبه كما يقول الباحث معجب الزهراني(1) إلى جانب تحذيرات وشكوك ونصائح ملزمة في معاملة المرأة تستند إلى روايات تدعي أن النبي (ص) قالها مضافا إليها أقوال الخلفاء والأئمة والصحابة يتصدرها الحديث النبوي الشريف (لا يفلح قوم تملكهم امرأة) الذي رواه أبو بكرة أثناء معركة الجمل كما ورد في كتاب للمفكرة التونسية فاطمة المرنيسي وقد ناقشته وفندت محتواه، ولكنه ما زال شاخصا في الكتب التراثية يضاف إليه آراء العديد من الفقهاء ورجال الدين والخلفاء، فقد نسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب انه قال (خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة)و (شاوروهن وخالفوهن. وينسب له أقوال مثل: "تعس عبد الزوجة" ) كما ينسب للإمام الحسن قوله: (والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار.)(2) ومعظم ما قيل عن النساء ، يلخص بعبارات قيلت منذ وقت طويل لكنها ما زالت تأخذ وقعها وتطبيقها في العديد من المجتمعات العربية، مثل (والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل، ولا يعتدل ذلك منهن إلا بنوع لطف ممزوج بسياسة.)(3) أو تكرار الحديث المنسوب إلى النبي ( ص) : "مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم بين مائة غراب"(4)،
وعلى الرغم مما يقال بان المرأة تحتل مكانة متميزة في المجتمعات الإسلامية، بتأكيد أن الإسلام قد أنصفها نسبة إلى المجتمعات غير الإسلامية، لكن الملاحظ أن الأفكار التي تخالف تكريم الأم والزوجة والمرأة في القران الكريم، قد جرى تأكيدها عبر شبكة من المغالطات والأفكار والاجتهادات، وأصبحت تقاليد وممارسات، وسلوكيات في المجتمعات العربية خصوصا الخليجية منها، تديمها الأفكار السلفية المتطرفة، التي تجعل من الإسلام، دينا معاد للنساء،يحذر الرجال منهن ويصف حياتهن بصفات غير لائقة .
وفي معظم الروايات النسوية الخليجية، نتعرف على نماذج من الناس، ( رجال و نساء)،يمتثلون إلى أفكار ومعتقدات عصور وأزمان سحيقة ، ويستمتعون بمنجزات العصر الحديث وأنظمته وتقنياته، الأمر الذي يمثل إشكالية عميقة الجذور في الوعي والممارسة.
تتصدر رواية (رشح الحواس ) (5) للكاتبة السعودية نورة المحيميد ، مقدمة قصيرة تمثل توجيها للقراءة ، والمقدمة تحمل وجهة نظر الروائية عن واقع المرأة المتدني، في مجتمع خليجي تحيطه مظاهر الغنى والتقدم الحضاري الحديث بكل تقنياتها، مع وفرة كبيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لكن كل ذلك لم يمنع الروائية أن تتساءل :(كيف يمكن أن نلمس جراحنا ونداويها دون أن نتألم ، كيف يمكن أن نعرف بان شيئا ما قد تحطم بين المرأة والرجل ص7) ثم تلخص هذه الإشكالية بالسلوك العدائي والعنف والتسلط على المرأة من قبل الرجل والمجتمع: ( هذا هو واقع المرأة المؤلم والمحزن دخل بعض الأسر في المجتمع السعودي ، وليس المقصود هنا التمرد على القوامة الشرعية (...) إنما المقصود تلك السلطة الجائرة التي تضيع حقوق المرأة وتسلبها حقها في الحياة والعيش الكريم ص7).
تمرد الحواس
وابتداء من العنوان ( رشح الحواس ) ، نتعرف على الصراع المرير الذي تخوضه الأنثى بحواسها ،( وهي اضعف الإيمان)، ضد قوى خارجية تتمثل بالعائلة ( الأب ، الأخ ، الأم ، العم والخال ) التي تعتنق التابوات الفاعلة في المجتمع وهي تشرع قوانين وقيود وموانع ضد الحياة الخاصة بالأنثى بشكل خاص .
إن استثمار الحواس في الرواية للتعبير عن الصراع الذي تخوضه الأنثى ضد تهميشها وإلغاء دورها، يمثل تقنية مبتكرة استثمرتها الروائية نورة المحميد، وسوف نعرض أمثلة من هذه الرواية على تمرد الحواس على سياقات المتن السردي واتخاذها منحى لغويا، هامسا معادلا للصخب المدوي ضد إرادة الأنثى في اختياراتها وتمردها على القيود الجاهزة التي وضعت خصيصا لها، وقد جسدتها اللغة الخبرية المحملة بالأوامر والصراخ والنواهي التي لاتحد ولا تحصى .
صورة المرأة من وجهة نظر الرجل
تعيدنا صورة المرأة المجسدة في معظم الروايات الخليجية، وفي هذه الرواية بالذات إلى تلك الأفكار السلفية التي قيلت قبل عدة قرون وأوردنا بعضها، وهي تتخطى الزمن، وتغيرات الأنظمة لتبقى معششة في سلوك وضمائر بعض الرجال الذين يمثلون سلطة استثنائية – على قلتهم- يستمدون قوة سلطتهم من ادعاءات غير صحيحة عن الإسلام، رجال يرتدون أزياء الورع والتقوى، لكنهم يحكمون بأمزجتهم وأمراضهم، وخوفهم على سلطتهم التي تنحدر نحو هاوية سحيقة.
يخاطب الأب ( في الرواية هذه)زوجته مفتتحا يومه الصباحي بعبارات تشي بالاحتقار والدونية، بعد أن أنهى صلاته (ألن تجهزي القهوة بعد يا غبية ص22 من الرواية ) كما يعامل الابن أمه بنفس الطريقة التي يعاملها الأب حين يتجاهل الإجابة على سؤالها وهو يرمقها ( بنظرة هامشية ) تستدعي تعليقا خارجيا من السارد يرى ان ( المقاييس لاحترام المرأة مفقودة حتى لو كانت أما ص24).(6
)
ويبدو الرجال في فضاء الرواية فحولا يحملون سياطا غير منظورة وأنياب تنهش لحم الأنثى وتلفظها، ويجري ذلك بوعي مقصود من قبل السارد/ المؤلفة. يظهر ذلك في المبالغة بإظهار عسف الرجال ، دون أن يكون بينهم من ينصفها سوى شخوص ثانويين يمثلون ( الحبيب) المنحى من السرد، والعم الذي يحاول أن يدفع الضرر، لكنه يقف بالضد من رغبة ابنة أخيه مضاوي في الاقتران بشخص غير مرغوب به اجتماعيا يصفه أخوها إبراهيم (أنت ستحرجينا أمام الناس وستجعلين منا أضحوكة ....تبين يقولون أخذت افلانه عبد!!! – الرواية ص 142) ويكرر عمها ذلك قائلا:(.... ترى اللي مخوفني أكثر إذا جالك عيال ولله ما ينادونهم أعيال أخوك وعيال أختك الا ياعيال العبد الرواية ص149).
صورة الرجل في الرواية
تتميز الروايات النسوية الخليجية، بالمغالاة في رسم صورة كاريكاتيرية جامدة للرجل في مجتمعات الرواية، وهو يفرض سطوته وحضوره بالأفعال القاسية والكلمات النابية، وفي هذه الرواية تظهر صورة الأب والأخ والخال والزوج ، في أشكال همجية تتحكم فيها رغباتهم الجسدية، ومصالحهم الأنانية، وتبدو الأنثى في هذا المجتمع مسلوبة الإرادة، تتحكم فيها أوامر الرجال.
تصف مضاوي مجتمع الرجال بأنه: (مجتمع الذكور هذا ألغى عندي جوهر الإنسانة وألغى تفكيري وهمشني ...أنهم لا يروننا سوى متعة جسد لا شريكة فكر ... وضجيعة سرير لا خشيرة روح ووجدان ص106)..
وتصف أباها بأوصاف، تثير الاشمئزاز والكراهية بعد أن تأكدت من اغتصابه خادمتهم ( رأت وجه شبح قبيحا، تأكدت انه وجه أبيها،هزت رأسها، أحست كأنما سيل عارم من التساؤل راح يتلاطم في رأسها(,,) لماذا يعتدي بعض الرجال على خادماتهم، أين قيمهم الإسلامية؟ ص66)
وهي تصف أحاديث خالها ( بالسخيفة) لأنه يتحدث عن النساء بصيغة الازدراء والاستهزاء (ص26- 27)
الرجل البديل
يبدو البديل الذي تطرحه الرواية الخليجية في صورة عشيق أو حبيب أو زوج قادم إشكاليا، بسبب أن اختياره يتم عبر رغباتها التي تتقاطع بشكل حاد مع رغبات المجتمع، وعدائه له، ويظهر ذلك جليا في شخوص الرجال المرغوبين من قبل المرأة، فهم إما جنوبيون يتحفظ المجتمع على وجودهم فيه، أو سود البشرة ( عبيد كما يطلقون عليهم ) يتصفون بصفات، يكرسها مجتمع الرواية أو المجتمع الواقعي المحايث لمجتمع الرواية، مثل ( (الكور/العبد/التكروني/الكويحة)، وفي هذه الرواية نموذجان للعشيق أو الحبيب أولهما الدكتور (علي) الطبيب ( الجنوبي) الذي يروم الزواج من الجوهرة – وهي طبيبة أيضا- وشقيقة مضاوي الشخصية الرئيسة في الرواية، فيقابل بالرفض من والدها ( أدرك انه مرفوض لشخصه ) أما مبررات الأب فيجملها بعباراته الغاضبة في وجه ابنته ( هل أنت بدون عقل؟؟كيف ترسلين قطعة هذا الجنوبي ليخطبك، كيف ترضين لنفسك بهذا الزوج هل انقرض الرجال عندنا ص37)) وتعلق أختها مضاوي على رفض الأب ساخرة من أقوال أبيها ( لأنه جنوبي صفر سبعة ص38) أما ردة فعل الجوهرة على قرار أبيها فيأتي عبر كلامها مع أختها وليس أمام أبيها، تؤكد فيه على حقها في اختيار مستقبلها لأنها ( تجاوزت عمر وصايا الوهم والقمع، ولن يثنيني احد عمن اخترته شريكا لحياتي.ص39).
أما الثاني فهو المقدم مشعل الذي حفظ حياة مضاوي، في الصحراء، وهو كما يصفه أخوها إبراهيم ( أنت ستحرجينا أمام الناس وستجعلين منا أضحوكة ...تبين يقولون اخذ ت فلانه عبد !!!ص142)
ونلاحظ أن اللون الأسود مرفوض ومعزول في مجتمع الرواية، من خلال سلوك وأوصاف متدنية ترد دائما في تفاصيل الروايات الخليجية النسوية بالذات، غير أن هذه الإشكالية، التي لم تجد حلا لها في العلاقات الاجتماعية الواقعية، بل أنها تمثل رفضا قاطعا له ضد تجاوزات اللون الأسود على الأنوثة في عالم البياض، لكن هذا اللون يمثل تمردا وانفلاتا في عالم الاناث ضد قيود المجتمع الذكوري تجاه عالم الرجال السود في الرواية النسوية الخليجية بشكل خاص،يدضن صوتا رافضا، يستمد قوته من الرغبات الدفينة في الذات الأنثوية تجاه الذكر الأسود، أما البرهان فتقدمه الروايات النسوية دون غيرها ولم نجد دفاعا عن اللون الأسود واضطهاده في عالم البيض فيما اطلعنا عليه من هذه الروايات سوى الرواية النسوية، التي كتبتها روائيات ينتمين إلى اللون الأبيض !!
وفي رواية رشح الحواس، جدل شائك بين الأنثى وهي تدافع عن حقها باختيار الشريك الذي ترغب فيه، وبين عائلتها، من الذكور بشكل خاص الذين يضعون وجهات نظر المجتمع ألذكوري، في حساباتهم الرافضة.
يقول العم المتسامح التي كانت مضاوي ( متأكدة أن عمها هو الذي سيفهمها لأنه الأقرب إلى نفسها من أي إنسان آخر ص147) (أنت لا تعرفين ما سيقوله الناس فاقل شيء سيقولونه انه ليس لديها رجال يقولون لها اللي يصير واللي ما يصير والله يقطعون جلودنا الناس ص149)، وعندما تحاول إقناعه بأنها لا تهتم لكلام الناس وأنها طبيبة ناضجة ( وخارجة من تجربتي زواج فاشلتين ليس لي فيهما رأي ص149) يرد عليها ( ترى اللي مخوفني أكثر إذا جالك أعيال ولله ما ينادوهم أعيال أخوك وعيال أختك إلا يا عيال العبد ص149)
إن المخيف في هذه الإشكالية، للمجتمع الرجولي، هو تسلط الجبلة السوداء على عالم البياض بالفطرة، وهي إشكالية تقع في صميم الاصطفاء الطبيعي التي تجعل من السواد، صفة متغلبة على باقي الصبغات!!، والأنثى في عالمها الخاص، لا تحتكم إلى اللون، بل إلى العلاقة والرغبة التي تؤججها عوامل ذاتية عميقة لا يدركها الرجال، وتظهر جلية في الأنساق المضمرة التي تكرسها المشاهد والحوارات الذاتية الكاشفة لأعماق الأنثى وهي تتداعى مع ذاتها، عبر لغة شعرية محملة بالاستعارات والمجازات المكثفة التي تمثل طغيان الرغبة على الجمل المشهدية التي تصف هذه الرغبات العميقة متجاوزة اللغة الخبرية والديالوك مع الآخرين، الذي يشكل الجزء الأكبر في السرد التوصيلي ،وقد أدرجنا العديد من عباراته سابقا، وسوف نلاحظ الأنساق المتوارية في السرد التي تعبر عن وجهة نظر الأنثى ( وليس المرأة، لان المرأة كائن اجتماعي،صنعه الرجل وهو مشبع بأفكار المجتمع الرجولي كما نجده في وجهات نظر الأمهات، في الروايات الخليجية ).
انساق مضمرة فيما تبثه الحواس
يتمحور النسق المضمر في هذه الرواية ضد مفهوم (القوامة الشرعية ) الذي تكرسه الثقافة الذكورية بوصفه نسقا قارا يستتبع الطاعة والانقياد له من قبل النساء، يبدو ذلك جليا في المقدمة القصيرة التي تنطق بشكل صريح بصوت المؤلف،بقولها (وليس المقصود هنا التمرد على القوامة الشرعية، التي شرعها الإسلام للرجل على المرأة بقوانين وحدود تضمن مصلحة الطرفين ..المقدمة ص7)، وهو استدراك يعني بشكل مبطن أن تمرد الشخوص الأنثوية الشابة في الرواية،على سلطة الرجل ( الأب، الأخ، العم، الزوج ) هي تمردات على ( السلطة الجائرة التي تضيع حقوق المرأة وتسلبها حقها في الحياة والعيش الكريم – المقدمة ص7)، وقد اتضح ذلك في الرواية ببراهين من حياة الأنثى في مجتمع ذكوري فظ وقاس، ومتجبر ضد أي تطلع أنساني للأخت أو الابنة أو الزوجة .
وتمثل شخصية مضاوي حالة متطرفة من هذه العلاقة غير المتكافئة، فقد فرض عليها الزواج من ابن عمها الذي لم يقترب منها جنسيا لأنه لا يحب النساء ثم ( وجدت الجرأة لتقول لوالدتها أن خالد يحب جنسه، رايته يضاجع شابا في مثل سنه ص19) وعندما تحصل على الطلاق منه، يجبرها أبوها على الزواج من مساعد (ستتزوجينه رغما عنك ص46)) ، لتجد مساعد حيوانا بصورة رجل (وفي لحظة خاطفة رفع الغطاء وجثا عليها كالثور الهائج،(....)وهو يجتاحها بقسوة وهمجية ممزقا كل ما يعترضه.أحست بان الجدران والسقف وكل محتويات الغرفة أطبقت عليها ص76)
يحيلنا هذا الوصف المبالغ فيه إلى وجهة نظر تكرس الرفض القاطع (للقوامة الشرعية) التي تبتغي ( الرفق ) بالمرأة، ، وينبغي ان تعطيها حق الانفصال عنه دون تحمل أعباء إضافية، كما يجري في الواقع المعيش حين تتحمل المرأة التي تروم الانفصال عن زوجها، إعادة كل ما دفعه لها من أموال وذهب حتى تعتق منه .( نعطيه مهره ويطلقني في المحكمة الرواية ص99)
يقول السارد المصاحب لشخصية مضاوي بلغة توصيلية تسبغ على الحدث الموصوف في الصفحات السابقة برهانا على قسوة القوامة(مرت الأيام ثقيلة وكريهة،فعليها أن تطيعه فيما يأمر،وعليها أن تتحمل رائحة عرقه وخواء صوته، والمؤثرات الصوتية التي يحدثها حينما يبصق،عليها أن تغمض عينيها حينما يمتلك جسدها ولتهمها رغما عنها، وعليها أن تضرب عرض الحائط بمشاعرها كإنسانة، وبكل رغباتها كأنثى ص77)
وفي تعليق آخر عن قسوة زوجها مساعد تقول (لقد تساوت عندها الأشياء،أنها تلمس الخواء والعماء المسيطرين عليه، الآن كيف يمكنها أن تتعايش معه، في جو من القسوة والعنادص79).
إن اختيار شخوص متطرفين من الرجال والنساء، في هذه الرواية وفي غيرها من الروايات الخليجية النسوية، محاولة ذكية لتمثيل عالم الرجال ومجتمعاتهم الراكدة التي تستقي أفكارها وتصوراتها من عالم الماضي البعيد، وأفكاره التي وضعت لمجتمعات ماضية، وهم يعيشون زمن التحولات الكبرى في كل شيء ، زمن الانفلات من الماضي تجاه مستقبل لا نعرف إلى أين يتجه في مساراته !! في حين تسجيب الأنثى إلى التحولات الجديدة وتنصت لها وتتأثر بها لأنها تفتح آفاقا لحياتها.
وتتضح المفارقة بين الحياة الفعلية وبين عالم الرواية، في تلك المشاهد التي تكرسها المسلسلات التلفزيونية التي تكون عادة اقرب إلى الحياة الواقعية من الرواية، وهي تصور حياة النساء في المجتمعات الخليجية وهن يمارسن حياة مفارقة تماما لعالم الرواية التي يظهر المرأة فيها مضطهدة ، تعيش تحت ثقل قيود الرجل وهيمنته المطلقة عليها، وهي علامة من علامات الاحتجاج على هذه القيود التي تكبل المرأة،وتجبرها على ارتداء ملابس محتشمة، وحجاب كثيف، وان تخرج بمعية فرد من أفراد العائلة، بينما تسمح لها بارتداء أزياء، وإكسسوارات تمثل رغبات الرجال،في الدراما التلفزيونية،وهي مفارقة ملفتة للنظر تصبح المرأة صنيعة الرجل يكيفها ويصنعها كيف يشاء في الدراما التلفزيونية ، وتتضح هذه المفارقة في الصناعة نفسها، فصناعة الفيلم أو المسلسل التلفزيوني يخضع إلى رقابة صارمة بوصفه نتاجا يدخل البيوت من أوسع أبوابها وينبغي له أن يمثل وجهة النظر الذكورية التي تعبر عن السائد والمألوف من الأعراف والنظم السلفية، لذا تبدو المرأة في الدراما التلفزيونية أنثى تتنفس هواء الحرية ولكن على وفق مزاج الرجل، ويبدو الرجل، منقادا لها، تحكمه نزواته ورغباته، في حين يبدو في عالم الرواية،فضا،قاسيا في أحكامه وتصرفاته،لتكرس المواصفات هذه، تعبيرا عن وجهة نظر الروائيات النسويات،التي ترمز إلى حياة الأنثى الفعلية دون تزويق أو إرضاء لعالم الرجال.
الحياة السرية بديلا منعشا للذات
نعتبر استنهاض الحواس بدءا من العنوان،والتغيير المصاحب للذات في لغة السرد تجاه عالم الذات، بما تحمله من انكسار لغة السرد التوصيلية نحو اللغة الشعرية المحملة برغبات الأنثى المحرمة وإرهاصات روحها التواقة إلى الانفلات من قيود تكبلها، نسقا مضمرا يواجه هجوم الخارج الضاج بالقسوة والعنف وتقييد الإرادة .
ويتضح ذلك في المقاطع الطويلة التي ترتديها الحمولات اللغوية الشاعرية المنبثقة من ذات مصاحبة بل ملتصقة بالذات الأنثوية التي تمثلها ( مضاوي) كشخصية رئيسة في الرواية.
يمر نسق استنهاض الحواس بديلا، من خلال تجربة زواج ( مضاوي ) الفاشلة مع ابن عمها، لتصل إلى قناعة (بان لا شيء يساوي هذه المصيبة العظيمة ص19)
لكن المصيبة العظيمة هذه، لا تعفي جسدها عن رغباته الدفينة، في عالم اللاشعور الذي يفجر إحساساتها، ويلغي ما يحيطها من المحرمات التي سورت ذاتها وعقلها، ويظهر الفصل الثامن من الرواية، صعود الرغبة الجنسية بالتزامن مع ( التحديق) بلوحة على الجدار تحمل ( أسماء الله الحسنى)، ولم يكن ذلك محض مصادفة، بل هو اختيار واع يكرس وجهة نظر أنثوية متمردة على وجودها العيني ,
تقول الساردة/ المؤلف وهي في خلوة مع ( مضاوي):(كان ضوء الشمس مدهشا عندما عكس وميضه على اللوحة المعلقة على الجدار،والتي كتبت عليها أسماء الله الحسنى، بخيوط مذهبة على قماش مخملي اسود وفي إطار خشبي كبير محفور ومذهب ...ص41)
ويكتمل المشهد حين تقترب مضاوي من النافذة وتلاحظ تساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، ثم تستلقي على الكنبة وهي تحدق ناحية اللوحة ( تقراها عدة مرات، تحاول أن تنسى تفاصل سوداء، وزواجا لم يرشح فيه جرح،(...) أغمضت عينيها،فاح من شقوق أنوثتها رحيق الشهوة،أخذت تتحسس نهديها،وبطنها الأملس،وكل خط في جسدها،(....)شعرت باحتدام في مركز جسدها كله،وبجفاف في حلقها، استرخت أكثر على الكنبة، إنها الأنوثة المطلقة تستيقظ وتتهاوى فوق خرائب الجسد .ص42)
ويستكمل الجسد لذائذه في الحمام، حين تختلي بنفسها في عزلة تامة ( وتغرق بهدوء،في رطوبة التلذذ الغامض، تغيب في جسدها، تنكفئ منتشية برعشة الشهوة الحارقة(...)تتأوه شفتاها، ترتجف،تغمض عينيها،نعاس خفيف يسترقها،تنهض متناثرة ...ص42)
كما أن نسق ( رشح الحواس) المتواري خلف اللغة الشعرية المحملة بالاستعارات والمجازات الكثيفة، يتجلى بصور أخرى بعد فشل زواجها الثاني من ( مساعد) بوصف زواجها(اغتصاب مبطن ومنكر مباح ص88).حين تلتقي بصديقتها ( لولوه) التي وقعت ضحية لزواج ( المسيار) الذي اجبرها أخوها عليه مع رجل يكبرها بالسن ومتزوج من أخرى ،وهي تصفه بأنه قبر وغطاء فساد ص102) كما ترى في صورة زوجها صورة ( وجه مترهل وفم رخو وعينان شبه ميتتين،ورائحة نتنة محمضة ص102)
في لقاء لولوه ومضاوي، يتضح النسق النسوي المتواري بشكل صريح، ضمن الحوار الذي دار بينهما، حين تصرح مضاوي ( لذا يجب أن ترتب حياتنا ونخرج عن طوق التبعية ونتسلح بالعلم (..)ونمارس مع أنفسنا الشيء الذي نشتهيه ما دام هذا المطلب غريزيا في أجسادنا، وأجسادنا تحتاجه ص106)، وعندما تسألها لولوه( تقصدين أننا ممكن أن نستغني عن الرجل ص107) تجيبها مضاوي :(نعم والبدائل كثيرة ما دام معظم الرجال متسلطين ومتغطرسين ...ص107)
وتتضح رغبات الجسد الدفينة، في تصريحات مضاوي الغامضة، لكن صديقتها لولوه، تفهم تلميحات صديقتها مضاوي حين تسألها، (أنا متأكدة بأنك تمارسين عادة ما مع نفسك ص112)،فتعترف لها ( لقد أصبحت يا لولوه أنا وجسدي وصمتي ذكرا وأنثى وموتا ..هكذا وجدت نفسي منذ ان شعرت بان الرجل لم يعد يشغلني ..وان بإمكاني أن افني شهوتي في جسدي دون أن يعاقبني احد عليها ص113).
إن ( إفناء الشهوة في الجسد) من وجهة نظر ( مضاوي) هو تمثيل للإمراض الجنسية التي عالجتها الرواية (العادة السرية والسحاق واللواط ) من خلال عالمها المكتظ بالصراعات، والرغبات الموؤدة، للأنثى ،ورغبات الرجل المتجبر ، وهي نتاج طبيعي لهذا العالم الساكن,
وإن تجسيد نداء الجسد ورشح الحواس، بتحد مبطن للوحة الأسماء الحسنى في مشاهد أنثوية محملة بالإيحاءات والدلالات الدفينة في أعماق أنثى، برهان على تمرد الأنثى على النواميس وخشونة الواقع التي حرمتها من تحقيق أنوثتها بشكل طبيعي، عبر مقولتها الراسخة ( لا تكتمل أنوثتي إلا حين امتلئ بالماء الذي اشتهيه ص42).كما ان الانتقال من ( المقدس)/ اللوحة، الى المدنس ( العادة السرية)هي محاولة لكسر جبروت الذكر المتمثل بالأب والأخ والخال والزوج الهمجي،وهيمنتهم على مجتمع الرواية،في محاولة منها ل( محو)هذا التسلط في حاضر السرد، وهي تختلي بنفسها او عندما تخاطب ذاتا شبيها ( لولوة)وتصرح لها بالبديل.
لقد عالجت الروائية نوره المحميد، بجرأة وصراحة عالم الأنثى وهي تعيش في مجتمع المحرمات التي تمنعها من تحقيق أنوثتها، إلا بالشكل الذي يراه الذكر، وقد استثمرت شخوصا متطرفين من الرجال والنساء،لهذا الهدف: رجال مسلوبي الإرادة يعيشون واقعا متقدما ويتمتعون بانجازاته، لكنهم يتصرفون بوحي من تعاليم وأفكار أزمان بعيدة عن زماننا، ونساء يتحكم بسلوكهن، رغبات الجسد الأنثوي الذي يفرض عليهن اختيار ، أزواج وعشاق، يرفضهم مجتمع الرواية ويعيشون في الهامش، بهدف إذكاء الصراع، وتأجيج ذروته، وقد نجحت في إثراء عالم الرواية بالحوار، وتداعيات النفس الثكلى بجراحاتها، وفي تصوير عالم الذكور على وفق وجهة نظر الأنثى، بشكل متطرف لإذكاء الصراع في ثنائية متضادة أساسها الذكر والأنثى .
---------------------
(1) (ما تشبيه الغزالي للمرأة بالخنزيرة والكلبة والعقربة والحية.. الخ فهو دليل احتقار لها وتحذير منها وتحريض على المزيد من العداء نحوها ومن هنا يختلف المنطقان ويتعارضان كلياً.) (د.معجب سعيد الزهراني- من أجل الثقافة والإنسان صورة المرأة في خطاب ابن رشد – موقع أنفاس ـ ww.anfasse.org › تاريخ وتراث › تراث ودراسات تراثية بتاريخ 19/11/2007
ولم يشر الدكتور معجب الزهراني للمرجع الذي استقى منه تفوهات الغزالي عن صفات المرأة، لكن الشاعر احمد الشهاوي أشار إلى كتاب الغزالي (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) باعتباره يتضمن وجهة نظر الغزالي عن المرأة بعنوان يوصفها بصفات الحيوانات في مقالته الموسومة ( كارهو النساء )المنشورة في الموقع الالكتروني- المصري اليومwww.almasryalyoum.com/، غير أني لم أجد في قراءتي لكتاب الغزالي ( التبر المسبوك في نصيحة الملوك) هذه الأوصاف التي أشار إليها الشهاوي في مقالته ، كما أن كتاب الغزالي المعروف( إحياء علوم الدين) لم يتضمن صفات ( حيوانية ) يطلقها على المرأة، بل انه نقل أحاديث الرسول(ص) والصحابة والتابعين دون أن يعلق عليها.
(2) أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين/الكتاب الثاني – كتاب النكاح- إعداد وتقديم إصلاح عبد السلام الرفاعي- مركز
الأهرام للترجمة والنشرط1 1988 ص182
(3) المصدر نفسه ص 183
(4) المصدر نفسه ص183
(5) نورة المحيميد – رشح الحواس – رواية –دار الانتشار العربي – بيروت ط1 2010
(6) في متن الرواية مواقف وتفوهات جارحة ضد المرأة تجري على السنة الشخوص الذكور في الرواية دون شعور بتأنيب ضمير أو اعتذار ، وكان ذلك حقا مقدسا للذكر على الأم والأخت والزوجة من أمثلة ذلك :
يصف خال مضاوي المرأة كما وصفها الغزالي قيل قرون قائلا ( أي أحاسيس تتكلمين عنها، المرأة لا تعرف أين الله يضعها مثل البقرة ...اعلفها فقط برسيم تدر لك الحليب ص27)
ويكرر الأخ جملة الغزالي التي قالها عن المرأة (والقول الشافي فيه أن النكاح نوع رق، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقاً في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه- ) حين يقول لأخته (أنا لا اعرف لماذا كل البنات مهتمات كل الاهتمام بدراستهن وهن في النهاية سيتزوجن ويصبحن خادمات عندنا ، لماذا يتعبن أنفسهن ونحن يالرجال سندوس رؤوسهن متعلمات أو غير متعلمات الرواية ص30)
وتقول امرأة عجوز تركها أولادها بعد أن تعبت في تربيتهم ( أبنائي يا هيلة لا يسالون عني ولا يزورونني وكأنني لم اتعب ولم اشرب من اجلهم المر والكدر أنهم يسقونني مغاث الدنيا الرواية ص52)
وتصف مضاوي الشخصية الرئيسة في الرواية زوجها الثاني الذي أجبرت على الزواج منه (عليها أن تطيعه في ما يأمر،وعليها آن تتحمل رائحة عرقه وخواء صوته،والمؤثرات الصوتية التي يحدثها حين يبصق ...الرواية ص 77)
تعليق على الزواج بالإكراه ص88
ولا يقتصر أمر الرجال وتسلطهم في بيت مضاوي،بل يشمل بيوتا أخرى ليصبح نموذجا وليس حالات خاصة
تقول لولوه صديقة مضاوي وهي تحت تجربة زواج المسيار ( اشعر بالقهر والضياع يا مضاوي كلما تذكرت أنني غطاء لفساد هذا الرجل الذي لا يبالي بمشاعري وبخداع زوجته، والكذب عليها في سبيل إشباع نزواته التي لا ترتوي – الرواية ص104)
وعلى الرغم مما يقال بان المرأة تحتل مكانة متميزة في المجتمعات الإسلامية، بتأكيد أن الإسلام قد أنصفها نسبة إلى المجتمعات غير الإسلامية، لكن الملاحظ أن الأفكار التي تخالف تكريم الأم والزوجة والمرأة في القران الكريم، قد جرى تأكيدها عبر شبكة من المغالطات والأفكار والاجتهادات، وأصبحت تقاليد وممارسات، وسلوكيات في المجتمعات العربية خصوصا الخليجية منها، تديمها الأفكار السلفية المتطرفة، التي تجعل من الإسلام، دينا معاد للنساء،يحذر الرجال منهن ويصف حياتهن بصفات غير لائقة .
وفي معظم الروايات النسوية الخليجية، نتعرف على نماذج من الناس، ( رجال و نساء)،يمتثلون إلى أفكار ومعتقدات عصور وأزمان سحيقة ، ويستمتعون بمنجزات العصر الحديث وأنظمته وتقنياته، الأمر الذي يمثل إشكالية عميقة الجذور في الوعي والممارسة.
تتصدر رواية (رشح الحواس ) (5) للكاتبة السعودية نورة المحيميد ، مقدمة قصيرة تمثل توجيها للقراءة ، والمقدمة تحمل وجهة نظر الروائية عن واقع المرأة المتدني، في مجتمع خليجي تحيطه مظاهر الغنى والتقدم الحضاري الحديث بكل تقنياتها، مع وفرة كبيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لكن كل ذلك لم يمنع الروائية أن تتساءل :(كيف يمكن أن نلمس جراحنا ونداويها دون أن نتألم ، كيف يمكن أن نعرف بان شيئا ما قد تحطم بين المرأة والرجل ص7) ثم تلخص هذه الإشكالية بالسلوك العدائي والعنف والتسلط على المرأة من قبل الرجل والمجتمع: ( هذا هو واقع المرأة المؤلم والمحزن دخل بعض الأسر في المجتمع السعودي ، وليس المقصود هنا التمرد على القوامة الشرعية (...) إنما المقصود تلك السلطة الجائرة التي تضيع حقوق المرأة وتسلبها حقها في الحياة والعيش الكريم ص7).
تمرد الحواس
وابتداء من العنوان ( رشح الحواس ) ، نتعرف على الصراع المرير الذي تخوضه الأنثى بحواسها ،( وهي اضعف الإيمان)، ضد قوى خارجية تتمثل بالعائلة ( الأب ، الأخ ، الأم ، العم والخال ) التي تعتنق التابوات الفاعلة في المجتمع وهي تشرع قوانين وقيود وموانع ضد الحياة الخاصة بالأنثى بشكل خاص .
إن استثمار الحواس في الرواية للتعبير عن الصراع الذي تخوضه الأنثى ضد تهميشها وإلغاء دورها، يمثل تقنية مبتكرة استثمرتها الروائية نورة المحميد، وسوف نعرض أمثلة من هذه الرواية على تمرد الحواس على سياقات المتن السردي واتخاذها منحى لغويا، هامسا معادلا للصخب المدوي ضد إرادة الأنثى في اختياراتها وتمردها على القيود الجاهزة التي وضعت خصيصا لها، وقد جسدتها اللغة الخبرية المحملة بالأوامر والصراخ والنواهي التي لاتحد ولا تحصى .
صورة المرأة من وجهة نظر الرجل
تعيدنا صورة المرأة المجسدة في معظم الروايات الخليجية، وفي هذه الرواية بالذات إلى تلك الأفكار السلفية التي قيلت قبل عدة قرون وأوردنا بعضها، وهي تتخطى الزمن، وتغيرات الأنظمة لتبقى معششة في سلوك وضمائر بعض الرجال الذين يمثلون سلطة استثنائية – على قلتهم- يستمدون قوة سلطتهم من ادعاءات غير صحيحة عن الإسلام، رجال يرتدون أزياء الورع والتقوى، لكنهم يحكمون بأمزجتهم وأمراضهم، وخوفهم على سلطتهم التي تنحدر نحو هاوية سحيقة.
يخاطب الأب ( في الرواية هذه)زوجته مفتتحا يومه الصباحي بعبارات تشي بالاحتقار والدونية، بعد أن أنهى صلاته (ألن تجهزي القهوة بعد يا غبية ص22 من الرواية ) كما يعامل الابن أمه بنفس الطريقة التي يعاملها الأب حين يتجاهل الإجابة على سؤالها وهو يرمقها ( بنظرة هامشية ) تستدعي تعليقا خارجيا من السارد يرى ان ( المقاييس لاحترام المرأة مفقودة حتى لو كانت أما ص24).(6
)
ويبدو الرجال في فضاء الرواية فحولا يحملون سياطا غير منظورة وأنياب تنهش لحم الأنثى وتلفظها، ويجري ذلك بوعي مقصود من قبل السارد/ المؤلفة. يظهر ذلك في المبالغة بإظهار عسف الرجال ، دون أن يكون بينهم من ينصفها سوى شخوص ثانويين يمثلون ( الحبيب) المنحى من السرد، والعم الذي يحاول أن يدفع الضرر، لكنه يقف بالضد من رغبة ابنة أخيه مضاوي في الاقتران بشخص غير مرغوب به اجتماعيا يصفه أخوها إبراهيم (أنت ستحرجينا أمام الناس وستجعلين منا أضحوكة ....تبين يقولون أخذت افلانه عبد!!! – الرواية ص 142) ويكرر عمها ذلك قائلا:(.... ترى اللي مخوفني أكثر إذا جالك عيال ولله ما ينادونهم أعيال أخوك وعيال أختك الا ياعيال العبد الرواية ص149).
صورة الرجل في الرواية
تتميز الروايات النسوية الخليجية، بالمغالاة في رسم صورة كاريكاتيرية جامدة للرجل في مجتمعات الرواية، وهو يفرض سطوته وحضوره بالأفعال القاسية والكلمات النابية، وفي هذه الرواية تظهر صورة الأب والأخ والخال والزوج ، في أشكال همجية تتحكم فيها رغباتهم الجسدية، ومصالحهم الأنانية، وتبدو الأنثى في هذا المجتمع مسلوبة الإرادة، تتحكم فيها أوامر الرجال.
تصف مضاوي مجتمع الرجال بأنه: (مجتمع الذكور هذا ألغى عندي جوهر الإنسانة وألغى تفكيري وهمشني ...أنهم لا يروننا سوى متعة جسد لا شريكة فكر ... وضجيعة سرير لا خشيرة روح ووجدان ص106)..
وتصف أباها بأوصاف، تثير الاشمئزاز والكراهية بعد أن تأكدت من اغتصابه خادمتهم ( رأت وجه شبح قبيحا، تأكدت انه وجه أبيها،هزت رأسها، أحست كأنما سيل عارم من التساؤل راح يتلاطم في رأسها(,,) لماذا يعتدي بعض الرجال على خادماتهم، أين قيمهم الإسلامية؟ ص66)
وهي تصف أحاديث خالها ( بالسخيفة) لأنه يتحدث عن النساء بصيغة الازدراء والاستهزاء (ص26- 27)
الرجل البديل
يبدو البديل الذي تطرحه الرواية الخليجية في صورة عشيق أو حبيب أو زوج قادم إشكاليا، بسبب أن اختياره يتم عبر رغباتها التي تتقاطع بشكل حاد مع رغبات المجتمع، وعدائه له، ويظهر ذلك جليا في شخوص الرجال المرغوبين من قبل المرأة، فهم إما جنوبيون يتحفظ المجتمع على وجودهم فيه، أو سود البشرة ( عبيد كما يطلقون عليهم ) يتصفون بصفات، يكرسها مجتمع الرواية أو المجتمع الواقعي المحايث لمجتمع الرواية، مثل ( (الكور/العبد/التكروني/الكويحة)، وفي هذه الرواية نموذجان للعشيق أو الحبيب أولهما الدكتور (علي) الطبيب ( الجنوبي) الذي يروم الزواج من الجوهرة – وهي طبيبة أيضا- وشقيقة مضاوي الشخصية الرئيسة في الرواية، فيقابل بالرفض من والدها ( أدرك انه مرفوض لشخصه ) أما مبررات الأب فيجملها بعباراته الغاضبة في وجه ابنته ( هل أنت بدون عقل؟؟كيف ترسلين قطعة هذا الجنوبي ليخطبك، كيف ترضين لنفسك بهذا الزوج هل انقرض الرجال عندنا ص37)) وتعلق أختها مضاوي على رفض الأب ساخرة من أقوال أبيها ( لأنه جنوبي صفر سبعة ص38) أما ردة فعل الجوهرة على قرار أبيها فيأتي عبر كلامها مع أختها وليس أمام أبيها، تؤكد فيه على حقها في اختيار مستقبلها لأنها ( تجاوزت عمر وصايا الوهم والقمع، ولن يثنيني احد عمن اخترته شريكا لحياتي.ص39).
أما الثاني فهو المقدم مشعل الذي حفظ حياة مضاوي، في الصحراء، وهو كما يصفه أخوها إبراهيم ( أنت ستحرجينا أمام الناس وستجعلين منا أضحوكة ...تبين يقولون اخذ ت فلانه عبد !!!ص142)
ونلاحظ أن اللون الأسود مرفوض ومعزول في مجتمع الرواية، من خلال سلوك وأوصاف متدنية ترد دائما في تفاصيل الروايات الخليجية النسوية بالذات، غير أن هذه الإشكالية، التي لم تجد حلا لها في العلاقات الاجتماعية الواقعية، بل أنها تمثل رفضا قاطعا له ضد تجاوزات اللون الأسود على الأنوثة في عالم البياض، لكن هذا اللون يمثل تمردا وانفلاتا في عالم الاناث ضد قيود المجتمع الذكوري تجاه عالم الرجال السود في الرواية النسوية الخليجية بشكل خاص،يدضن صوتا رافضا، يستمد قوته من الرغبات الدفينة في الذات الأنثوية تجاه الذكر الأسود، أما البرهان فتقدمه الروايات النسوية دون غيرها ولم نجد دفاعا عن اللون الأسود واضطهاده في عالم البيض فيما اطلعنا عليه من هذه الروايات سوى الرواية النسوية، التي كتبتها روائيات ينتمين إلى اللون الأبيض !!
وفي رواية رشح الحواس، جدل شائك بين الأنثى وهي تدافع عن حقها باختيار الشريك الذي ترغب فيه، وبين عائلتها، من الذكور بشكل خاص الذين يضعون وجهات نظر المجتمع ألذكوري، في حساباتهم الرافضة.
يقول العم المتسامح التي كانت مضاوي ( متأكدة أن عمها هو الذي سيفهمها لأنه الأقرب إلى نفسها من أي إنسان آخر ص147) (أنت لا تعرفين ما سيقوله الناس فاقل شيء سيقولونه انه ليس لديها رجال يقولون لها اللي يصير واللي ما يصير والله يقطعون جلودنا الناس ص149)، وعندما تحاول إقناعه بأنها لا تهتم لكلام الناس وأنها طبيبة ناضجة ( وخارجة من تجربتي زواج فاشلتين ليس لي فيهما رأي ص149) يرد عليها ( ترى اللي مخوفني أكثر إذا جالك أعيال ولله ما ينادوهم أعيال أخوك وعيال أختك إلا يا عيال العبد ص149)
إن المخيف في هذه الإشكالية، للمجتمع الرجولي، هو تسلط الجبلة السوداء على عالم البياض بالفطرة، وهي إشكالية تقع في صميم الاصطفاء الطبيعي التي تجعل من السواد، صفة متغلبة على باقي الصبغات!!، والأنثى في عالمها الخاص، لا تحتكم إلى اللون، بل إلى العلاقة والرغبة التي تؤججها عوامل ذاتية عميقة لا يدركها الرجال، وتظهر جلية في الأنساق المضمرة التي تكرسها المشاهد والحوارات الذاتية الكاشفة لأعماق الأنثى وهي تتداعى مع ذاتها، عبر لغة شعرية محملة بالاستعارات والمجازات المكثفة التي تمثل طغيان الرغبة على الجمل المشهدية التي تصف هذه الرغبات العميقة متجاوزة اللغة الخبرية والديالوك مع الآخرين، الذي يشكل الجزء الأكبر في السرد التوصيلي ،وقد أدرجنا العديد من عباراته سابقا، وسوف نلاحظ الأنساق المتوارية في السرد التي تعبر عن وجهة نظر الأنثى ( وليس المرأة، لان المرأة كائن اجتماعي،صنعه الرجل وهو مشبع بأفكار المجتمع الرجولي كما نجده في وجهات نظر الأمهات، في الروايات الخليجية ).
انساق مضمرة فيما تبثه الحواس
يتمحور النسق المضمر في هذه الرواية ضد مفهوم (القوامة الشرعية ) الذي تكرسه الثقافة الذكورية بوصفه نسقا قارا يستتبع الطاعة والانقياد له من قبل النساء، يبدو ذلك جليا في المقدمة القصيرة التي تنطق بشكل صريح بصوت المؤلف،بقولها (وليس المقصود هنا التمرد على القوامة الشرعية، التي شرعها الإسلام للرجل على المرأة بقوانين وحدود تضمن مصلحة الطرفين ..المقدمة ص7)، وهو استدراك يعني بشكل مبطن أن تمرد الشخوص الأنثوية الشابة في الرواية،على سلطة الرجل ( الأب، الأخ، العم، الزوج ) هي تمردات على ( السلطة الجائرة التي تضيع حقوق المرأة وتسلبها حقها في الحياة والعيش الكريم – المقدمة ص7)، وقد اتضح ذلك في الرواية ببراهين من حياة الأنثى في مجتمع ذكوري فظ وقاس، ومتجبر ضد أي تطلع أنساني للأخت أو الابنة أو الزوجة .
وتمثل شخصية مضاوي حالة متطرفة من هذه العلاقة غير المتكافئة، فقد فرض عليها الزواج من ابن عمها الذي لم يقترب منها جنسيا لأنه لا يحب النساء ثم ( وجدت الجرأة لتقول لوالدتها أن خالد يحب جنسه، رايته يضاجع شابا في مثل سنه ص19) وعندما تحصل على الطلاق منه، يجبرها أبوها على الزواج من مساعد (ستتزوجينه رغما عنك ص46)) ، لتجد مساعد حيوانا بصورة رجل (وفي لحظة خاطفة رفع الغطاء وجثا عليها كالثور الهائج،(....)وهو يجتاحها بقسوة وهمجية ممزقا كل ما يعترضه.أحست بان الجدران والسقف وكل محتويات الغرفة أطبقت عليها ص76)
يحيلنا هذا الوصف المبالغ فيه إلى وجهة نظر تكرس الرفض القاطع (للقوامة الشرعية) التي تبتغي ( الرفق ) بالمرأة، ، وينبغي ان تعطيها حق الانفصال عنه دون تحمل أعباء إضافية، كما يجري في الواقع المعيش حين تتحمل المرأة التي تروم الانفصال عن زوجها، إعادة كل ما دفعه لها من أموال وذهب حتى تعتق منه .( نعطيه مهره ويطلقني في المحكمة الرواية ص99)
يقول السارد المصاحب لشخصية مضاوي بلغة توصيلية تسبغ على الحدث الموصوف في الصفحات السابقة برهانا على قسوة القوامة(مرت الأيام ثقيلة وكريهة،فعليها أن تطيعه فيما يأمر،وعليها أن تتحمل رائحة عرقه وخواء صوته، والمؤثرات الصوتية التي يحدثها حينما يبصق،عليها أن تغمض عينيها حينما يمتلك جسدها ولتهمها رغما عنها، وعليها أن تضرب عرض الحائط بمشاعرها كإنسانة، وبكل رغباتها كأنثى ص77)
وفي تعليق آخر عن قسوة زوجها مساعد تقول (لقد تساوت عندها الأشياء،أنها تلمس الخواء والعماء المسيطرين عليه، الآن كيف يمكنها أن تتعايش معه، في جو من القسوة والعنادص79).
إن اختيار شخوص متطرفين من الرجال والنساء، في هذه الرواية وفي غيرها من الروايات الخليجية النسوية، محاولة ذكية لتمثيل عالم الرجال ومجتمعاتهم الراكدة التي تستقي أفكارها وتصوراتها من عالم الماضي البعيد، وأفكاره التي وضعت لمجتمعات ماضية، وهم يعيشون زمن التحولات الكبرى في كل شيء ، زمن الانفلات من الماضي تجاه مستقبل لا نعرف إلى أين يتجه في مساراته !! في حين تسجيب الأنثى إلى التحولات الجديدة وتنصت لها وتتأثر بها لأنها تفتح آفاقا لحياتها.
وتتضح المفارقة بين الحياة الفعلية وبين عالم الرواية، في تلك المشاهد التي تكرسها المسلسلات التلفزيونية التي تكون عادة اقرب إلى الحياة الواقعية من الرواية، وهي تصور حياة النساء في المجتمعات الخليجية وهن يمارسن حياة مفارقة تماما لعالم الرواية التي يظهر المرأة فيها مضطهدة ، تعيش تحت ثقل قيود الرجل وهيمنته المطلقة عليها، وهي علامة من علامات الاحتجاج على هذه القيود التي تكبل المرأة،وتجبرها على ارتداء ملابس محتشمة، وحجاب كثيف، وان تخرج بمعية فرد من أفراد العائلة، بينما تسمح لها بارتداء أزياء، وإكسسوارات تمثل رغبات الرجال،في الدراما التلفزيونية،وهي مفارقة ملفتة للنظر تصبح المرأة صنيعة الرجل يكيفها ويصنعها كيف يشاء في الدراما التلفزيونية ، وتتضح هذه المفارقة في الصناعة نفسها، فصناعة الفيلم أو المسلسل التلفزيوني يخضع إلى رقابة صارمة بوصفه نتاجا يدخل البيوت من أوسع أبوابها وينبغي له أن يمثل وجهة النظر الذكورية التي تعبر عن السائد والمألوف من الأعراف والنظم السلفية، لذا تبدو المرأة في الدراما التلفزيونية أنثى تتنفس هواء الحرية ولكن على وفق مزاج الرجل، ويبدو الرجل، منقادا لها، تحكمه نزواته ورغباته، في حين يبدو في عالم الرواية،فضا،قاسيا في أحكامه وتصرفاته،لتكرس المواصفات هذه، تعبيرا عن وجهة نظر الروائيات النسويات،التي ترمز إلى حياة الأنثى الفعلية دون تزويق أو إرضاء لعالم الرجال.
الحياة السرية بديلا منعشا للذات
نعتبر استنهاض الحواس بدءا من العنوان،والتغيير المصاحب للذات في لغة السرد تجاه عالم الذات، بما تحمله من انكسار لغة السرد التوصيلية نحو اللغة الشعرية المحملة برغبات الأنثى المحرمة وإرهاصات روحها التواقة إلى الانفلات من قيود تكبلها، نسقا مضمرا يواجه هجوم الخارج الضاج بالقسوة والعنف وتقييد الإرادة .
ويتضح ذلك في المقاطع الطويلة التي ترتديها الحمولات اللغوية الشاعرية المنبثقة من ذات مصاحبة بل ملتصقة بالذات الأنثوية التي تمثلها ( مضاوي) كشخصية رئيسة في الرواية.
يمر نسق استنهاض الحواس بديلا، من خلال تجربة زواج ( مضاوي ) الفاشلة مع ابن عمها، لتصل إلى قناعة (بان لا شيء يساوي هذه المصيبة العظيمة ص19)
لكن المصيبة العظيمة هذه، لا تعفي جسدها عن رغباته الدفينة، في عالم اللاشعور الذي يفجر إحساساتها، ويلغي ما يحيطها من المحرمات التي سورت ذاتها وعقلها، ويظهر الفصل الثامن من الرواية، صعود الرغبة الجنسية بالتزامن مع ( التحديق) بلوحة على الجدار تحمل ( أسماء الله الحسنى)، ولم يكن ذلك محض مصادفة، بل هو اختيار واع يكرس وجهة نظر أنثوية متمردة على وجودها العيني ,
تقول الساردة/ المؤلف وهي في خلوة مع ( مضاوي):(كان ضوء الشمس مدهشا عندما عكس وميضه على اللوحة المعلقة على الجدار،والتي كتبت عليها أسماء الله الحسنى، بخيوط مذهبة على قماش مخملي اسود وفي إطار خشبي كبير محفور ومذهب ...ص41)
ويكتمل المشهد حين تقترب مضاوي من النافذة وتلاحظ تساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، ثم تستلقي على الكنبة وهي تحدق ناحية اللوحة ( تقراها عدة مرات، تحاول أن تنسى تفاصل سوداء، وزواجا لم يرشح فيه جرح،(...) أغمضت عينيها،فاح من شقوق أنوثتها رحيق الشهوة،أخذت تتحسس نهديها،وبطنها الأملس،وكل خط في جسدها،(....)شعرت باحتدام في مركز جسدها كله،وبجفاف في حلقها، استرخت أكثر على الكنبة، إنها الأنوثة المطلقة تستيقظ وتتهاوى فوق خرائب الجسد .ص42)
ويستكمل الجسد لذائذه في الحمام، حين تختلي بنفسها في عزلة تامة ( وتغرق بهدوء،في رطوبة التلذذ الغامض، تغيب في جسدها، تنكفئ منتشية برعشة الشهوة الحارقة(...)تتأوه شفتاها، ترتجف،تغمض عينيها،نعاس خفيف يسترقها،تنهض متناثرة ...ص42)
كما أن نسق ( رشح الحواس) المتواري خلف اللغة الشعرية المحملة بالاستعارات والمجازات الكثيفة، يتجلى بصور أخرى بعد فشل زواجها الثاني من ( مساعد) بوصف زواجها(اغتصاب مبطن ومنكر مباح ص88).حين تلتقي بصديقتها ( لولوه) التي وقعت ضحية لزواج ( المسيار) الذي اجبرها أخوها عليه مع رجل يكبرها بالسن ومتزوج من أخرى ،وهي تصفه بأنه قبر وغطاء فساد ص102) كما ترى في صورة زوجها صورة ( وجه مترهل وفم رخو وعينان شبه ميتتين،ورائحة نتنة محمضة ص102)
في لقاء لولوه ومضاوي، يتضح النسق النسوي المتواري بشكل صريح، ضمن الحوار الذي دار بينهما، حين تصرح مضاوي ( لذا يجب أن ترتب حياتنا ونخرج عن طوق التبعية ونتسلح بالعلم (..)ونمارس مع أنفسنا الشيء الذي نشتهيه ما دام هذا المطلب غريزيا في أجسادنا، وأجسادنا تحتاجه ص106)، وعندما تسألها لولوه( تقصدين أننا ممكن أن نستغني عن الرجل ص107) تجيبها مضاوي :(نعم والبدائل كثيرة ما دام معظم الرجال متسلطين ومتغطرسين ...ص107)
وتتضح رغبات الجسد الدفينة، في تصريحات مضاوي الغامضة، لكن صديقتها لولوه، تفهم تلميحات صديقتها مضاوي حين تسألها، (أنا متأكدة بأنك تمارسين عادة ما مع نفسك ص112)،فتعترف لها ( لقد أصبحت يا لولوه أنا وجسدي وصمتي ذكرا وأنثى وموتا ..هكذا وجدت نفسي منذ ان شعرت بان الرجل لم يعد يشغلني ..وان بإمكاني أن افني شهوتي في جسدي دون أن يعاقبني احد عليها ص113).
إن ( إفناء الشهوة في الجسد) من وجهة نظر ( مضاوي) هو تمثيل للإمراض الجنسية التي عالجتها الرواية (العادة السرية والسحاق واللواط ) من خلال عالمها المكتظ بالصراعات، والرغبات الموؤدة، للأنثى ،ورغبات الرجل المتجبر ، وهي نتاج طبيعي لهذا العالم الساكن,
وإن تجسيد نداء الجسد ورشح الحواس، بتحد مبطن للوحة الأسماء الحسنى في مشاهد أنثوية محملة بالإيحاءات والدلالات الدفينة في أعماق أنثى، برهان على تمرد الأنثى على النواميس وخشونة الواقع التي حرمتها من تحقيق أنوثتها بشكل طبيعي، عبر مقولتها الراسخة ( لا تكتمل أنوثتي إلا حين امتلئ بالماء الذي اشتهيه ص42).كما ان الانتقال من ( المقدس)/ اللوحة، الى المدنس ( العادة السرية)هي محاولة لكسر جبروت الذكر المتمثل بالأب والأخ والخال والزوج الهمجي،وهيمنتهم على مجتمع الرواية،في محاولة منها ل( محو)هذا التسلط في حاضر السرد، وهي تختلي بنفسها او عندما تخاطب ذاتا شبيها ( لولوة)وتصرح لها بالبديل.
لقد عالجت الروائية نوره المحميد، بجرأة وصراحة عالم الأنثى وهي تعيش في مجتمع المحرمات التي تمنعها من تحقيق أنوثتها، إلا بالشكل الذي يراه الذكر، وقد استثمرت شخوصا متطرفين من الرجال والنساء،لهذا الهدف: رجال مسلوبي الإرادة يعيشون واقعا متقدما ويتمتعون بانجازاته، لكنهم يتصرفون بوحي من تعاليم وأفكار أزمان بعيدة عن زماننا، ونساء يتحكم بسلوكهن، رغبات الجسد الأنثوي الذي يفرض عليهن اختيار ، أزواج وعشاق، يرفضهم مجتمع الرواية ويعيشون في الهامش، بهدف إذكاء الصراع، وتأجيج ذروته، وقد نجحت في إثراء عالم الرواية بالحوار، وتداعيات النفس الثكلى بجراحاتها، وفي تصوير عالم الذكور على وفق وجهة نظر الأنثى، بشكل متطرف لإذكاء الصراع في ثنائية متضادة أساسها الذكر والأنثى .
---------------------
(1) (ما تشبيه الغزالي للمرأة بالخنزيرة والكلبة والعقربة والحية.. الخ فهو دليل احتقار لها وتحذير منها وتحريض على المزيد من العداء نحوها ومن هنا يختلف المنطقان ويتعارضان كلياً.) (د.معجب سعيد الزهراني- من أجل الثقافة والإنسان صورة المرأة في خطاب ابن رشد – موقع أنفاس ـ ww.anfasse.org › تاريخ وتراث › تراث ودراسات تراثية بتاريخ 19/11/2007
ولم يشر الدكتور معجب الزهراني للمرجع الذي استقى منه تفوهات الغزالي عن صفات المرأة، لكن الشاعر احمد الشهاوي أشار إلى كتاب الغزالي (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) باعتباره يتضمن وجهة نظر الغزالي عن المرأة بعنوان يوصفها بصفات الحيوانات في مقالته الموسومة ( كارهو النساء )المنشورة في الموقع الالكتروني- المصري اليومwww.almasryalyoum.com/، غير أني لم أجد في قراءتي لكتاب الغزالي ( التبر المسبوك في نصيحة الملوك) هذه الأوصاف التي أشار إليها الشهاوي في مقالته ، كما أن كتاب الغزالي المعروف( إحياء علوم الدين) لم يتضمن صفات ( حيوانية ) يطلقها على المرأة، بل انه نقل أحاديث الرسول(ص) والصحابة والتابعين دون أن يعلق عليها.
(2) أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين/الكتاب الثاني – كتاب النكاح- إعداد وتقديم إصلاح عبد السلام الرفاعي- مركز
الأهرام للترجمة والنشرط1 1988 ص182
(3) المصدر نفسه ص 183
(4) المصدر نفسه ص183
(5) نورة المحيميد – رشح الحواس – رواية –دار الانتشار العربي – بيروت ط1 2010
(6) في متن الرواية مواقف وتفوهات جارحة ضد المرأة تجري على السنة الشخوص الذكور في الرواية دون شعور بتأنيب ضمير أو اعتذار ، وكان ذلك حقا مقدسا للذكر على الأم والأخت والزوجة من أمثلة ذلك :
يصف خال مضاوي المرأة كما وصفها الغزالي قيل قرون قائلا ( أي أحاسيس تتكلمين عنها، المرأة لا تعرف أين الله يضعها مثل البقرة ...اعلفها فقط برسيم تدر لك الحليب ص27)
ويكرر الأخ جملة الغزالي التي قالها عن المرأة (والقول الشافي فيه أن النكاح نوع رق، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقاً في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه- ) حين يقول لأخته (أنا لا اعرف لماذا كل البنات مهتمات كل الاهتمام بدراستهن وهن في النهاية سيتزوجن ويصبحن خادمات عندنا ، لماذا يتعبن أنفسهن ونحن يالرجال سندوس رؤوسهن متعلمات أو غير متعلمات الرواية ص30)
وتقول امرأة عجوز تركها أولادها بعد أن تعبت في تربيتهم ( أبنائي يا هيلة لا يسالون عني ولا يزورونني وكأنني لم اتعب ولم اشرب من اجلهم المر والكدر أنهم يسقونني مغاث الدنيا الرواية ص52)
وتصف مضاوي الشخصية الرئيسة في الرواية زوجها الثاني الذي أجبرت على الزواج منه (عليها أن تطيعه في ما يأمر،وعليها آن تتحمل رائحة عرقه وخواء صوته،والمؤثرات الصوتية التي يحدثها حين يبصق ...الرواية ص 77)
تعليق على الزواج بالإكراه ص88
ولا يقتصر أمر الرجال وتسلطهم في بيت مضاوي،بل يشمل بيوتا أخرى ليصبح نموذجا وليس حالات خاصة
تقول لولوه صديقة مضاوي وهي تحت تجربة زواج المسيار ( اشعر بالقهر والضياع يا مضاوي كلما تذكرت أنني غطاء لفساد هذا الرجل الذي لا يبالي بمشاعري وبخداع زوجته، والكذب عليها في سبيل إشباع نزواته التي لا ترتوي – الرواية ص104)