د. محمد الهادي الطاهري - أوقات في شقبنارية (2)

(2)

كانت في البدء أرضا تنسب إلى اللذة والعنف أو الحب والحرب. هكذا قالوا. وقال آخرون بل هي أرض الحب المقدّس أو أرض لعبادة الشيطان. وجاء العرب فنحتوا لها اسما يطابق ألفاظهم في الشكل ولا معنى له من معاني العربية واجتهد مجتهدون فقالوا منقول من لفظ روماني مركب فالشق العربي أصله سيكا وهو المدينة وبنارية تعريب فينيريا ويعني اللذة أو الحب أو الجمال. هكذا قيل. ومنهم من أضاف تأويلا غريبا فقال الشق فتحة أو شطر أو ممر ضيق والدليل عنده أن الشق لا يكون إلا بين طرفين متصلين وكذلك هي مدينة تربض على هضبة عليا بين جبلين. وسُئل صاحب هذا التأويل الغريب عن بنارية فقال معناها في ظاهر لفظها النار نار والباء الملصقة بها حرف إلصاق أرادوا به التعبير عن مدينة نشأت لتكون شقا أي فتحة أو سبيلا وأن هذا السبيل سبيل إلى النار أو هو سبيل من نار. فكأن المدينة كلها بركان يثور وهي إلى هذا المعنى أقرب إذ لم يبق فيها من معاني الحب واللذة والجمال شيء إلا إذا صار الحب نارا وصار الجمال نارا وكذلك اللذة. وليس هذا بغريب فقلوب الناس في هذه الأرض مكوية أو مشوية وفي صدر كل واحد منهم حريق أو لهيب. تلك هي صورة المدينة المخبوءة في أسمائها القديمة يُخرجها الناس من بين الحروف ويرسمونها في أخيلتهم ويبعثونها إلى الحياة فتراها في وجوه أهلها وفي عيونهم خاصة وتسمعها في نبرات أصواتهم وتشمها في روائح طعامهم وشرابهم. فالوجوه أخذت من النار توهجها والأصوات زفيرها والعيون زرقتها أو حمرة ألسنتها أو سواد دخانها أو اتقادها. ولكن المدينة خسرت هذا الاسم وصارت حرفا بعد أن كانت تركيبا مركبا. والحرف كاف قيل للتشبيه وما هو كذلك فالكاف مختصر الكهف إن شئنا الفصاحة ولهذا المعنى حضور في المدينة حيثما وليت وجهك وجدته. وإن شئنا غير الفصيح فالكاف في لغة العوام هو الجرف وهو شق الأرض المحفور فيكون على شفا الوادي أو قطعة من جبل ينهار. وهذا يطابق شقا من اسمها العربي ويطابق صورا كثيرة من حياة أهلها منذ عرفتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى