١
في كتابه عن نيتشه واللاأخلاقية يحاول أحد المفكرين الفرنسيين للقرن المنصرم تفسير ظاهرة استفزت العديد من محترفي الفلسفة، ألا وهي الشهرة التي حازها نيتشه في الأوساط الثقافية الأوروبية. يقول بأن هذه الشهرة التي بدت للعديد من الفلاسفة بأنها فضيحة، لها أسباب ظاهرية وأخرى باطنية وعميقة. فأسلوب الاستعارة يصلح لجمهور ليس لديه لا الوقت ولا الوسائل للتعمّق في أي شيء، بل إنه يُصغي بانتباه شديد للألغاز الحِكمَويّة، خصوصا إذا كانت شعرية، إلى حدّ تبدو له وكأنها وحي منزّل.
ثم إن غياب البراهين العقلية والحجج المنطقية تُضفي على الدوغمائية المعارِضة مسحة من السلطة الروحية في أعين ذاك الخليط من أنصاف المتعلّمين، من أدباء وشعراء وموسيقيين وهاوين من جميع الأصناف. مفارقات تبدو في ظاهرها أصيلة تُعطي لمن يقبلها الغرور الوهمي بأنه مُبدع. إلاّ أن هذه الشهرة، يواصل الكاتب، لها أسباب أعمق وذلك أنها قدّمت تعاليم موغلة في الشخصانية والأرستقراطية على أنها قلبٌ نهائي لكل دين وأخلاق. كتاب زرادشت هو قصيدة شعرية تولّد نشوة في أذن السامع بغضّ النظر عن محتواها، وهو أيضا ردّة فعل، صائبة بمعنى ما، ضدّ الأخلاق الوجدانية التي كرّسها أولئك الذين يدعون إلى "ديانة العذاب الإنساني". بعد نقد هذه الوجدانية المُشطّة، نيتشه يُحارب العقلانية. والمفكرون العقلانيون الذين تتجه لهم سهام نقده على صنفين: هناك العلماء الوضعيون الذين يعتقدون بأن العلوم الصحيحة تكفي للتفكير الإنساني، وهناك الفلاسفة العقلانيون الذين يرون أن الواقع عقلاني وأن العالم في ذاته هو كائن مُنظّم تسري فيه العقلانية من جميع جهاته. لكن نيتشه يعارض هذين التوجهين، كما فعل شوبنهاور، بفلسفة الإرادة. إن أولوية الإرادة والقدرة على الوجدان والفكر هي جوهر تعاليمه وأسّها.
لكن على الطرف النقيض من هذا الحكم، يتموقع أحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين، هوبير سوفرين في كتابه "زرادشت نيتشه" حيث يرى أن نيتشه سواء من حيث الأسلوب أو الأفكار هو فيلسوف مجدّد، لاراهني، وطريقته في التفلسف لا تتسع إلى البراهين وسلسلة الحجج التي كان يستخدمها الفلاسفة الكلاسيكيون: الثقافة الديونيزية كفت عن الانحصار في قوالب العقلانية وفضلت الشعر والحكمة والاستعارة: « إذا كان هذا الأسلوب، النبوي الشعري في آن، أسلوبا غير معتاد، فذلك لأن نيتشه غير معتاد سوف نرى في الواقع أن عبر تحويل القيم يشرع نيتشه في اعتراض جذري على كلّ ثقافتنا بواسطة المشروع الطموح المتمثّل في استبدالها بثقافة أخرى مختلفة وأرقى يمكن القول إنها فوبشرية سنرى أن الملمح الجوهري للثافة الجديدة التي يتطلّع إليها نيتشه، إنما هي الإبداع، والعفوية، والفنّ، التي يشكّل اللعب أو النشاط الطفولي، أو الرّقص أفضل صورها، والتي يمكن أن يكون رمزها ديونيزوس، إله السكر والرقص، لا سقراط. إن ما يطالب به نيتشه إنما هو ثقافة يستعيد الديونيزوسي، المخنوق منذ اليونان الكلاسيكية بيد الأبولوني والسقراطية، يستعيد فيها مكانه بالضبط. لهذا السبب سوف يفضّل نيتشه على "سلاسل الأسباب الطويلة" التي كانت تفتن ديكارت كثيرا، الشعر والمثل السائر، والكلمة الجامعة، والمجاز والنشيد التقريظي، والإستعارة والمحاكاة الساخرة ثمّة هنا فكر وتعبير ينبثقان من تلك الثقافة الأخرى المبشر بها ولا تجري قولبتها في قوالب ثقافتنا العقلانوية».
لكن كيف كانت صورة نيتشه بالنسبة لمعاصريه؟ وما هي المحطات المهمة التي مرت بها انتاجاته الفكرية؟
نبدأ من اختصاصه الأول وهو الفيلولوجيا: حينما اطّلع الفيلولوجي الكبير فون فيلاموفيتس، على عمل نيتشه "مولد التراجيديا من روح الموسيقى"، أصابه الذهول من كيفية تلاعب الأستاذ الشاب الذي يدرّس تلك المادة في جامعة بازل، بعِلمه لأجل ارضاء استيهامات فاغنر حول الموسيقى. وقال بلهجة تأنيب قاسية، ليس من الصعب، نقض جميع هذه التوهمات والبرهنة، على أن استاذ الفيلولوجيا هذا قد شيّد أحكامه « على عبقرية مُموَّّهة وتحكّمات في علاقة مع الجهل وقلّة حبّ الحقيقة ».
أحد زملاء نيتشه، الفيلولوجي هرمان أوسنر، بعد تصفّحه "مولد التراجيديا"، أصيب هو أيضا بخيبة أمل وعبّر عن استيائه قائلا: « إنه عبث لا أكثر ولا أقلّّ. هذا الكتاب لا يصلح لشيء: مَن كتبَ شيئا من هذا القبيل فقد أعلن موته بالنسبة للعلم».
"مولد التراجيديا" كعملٍ فيلولوجي، بدا للمختصّين أنه يمثل ضربا في العمق لعلم الفيلولوجيا، واستهتارا بمادئ البحث التاريخي، لا يمكن السكوت عنهما. وفعلا بعد أن عدّد الأخطاء الفادحة التي سقط فيها نيتشه، الفيلولوجي فيلاموفيتس اختتم نقده بهذه الكلمات: « أعتقد أنني قدّمتُ البراهين على مُعاتبتِي إيّاه بالجهل ونقصان حبّ الحقيقة. ولكن أخشى أني أخطأت في حق السيد نيتشه. فإنْ اعتَرضَ علي بأنه لا يعبؤ بـ"التاريخ والنقد" ولا بذاك "التاريخ الكوني المزعوم"، وبأنه يريد "خلق عمل فنّي ديونيزي"، "وسيلةَ تَعزيَة ميتافيزيقية"، وبأن أقواله ليست لها الوجود العيني الفظّ للواقع النّهاري، بل هي "الواقع الجليل لِعَالَم الأحلام" ـ إن كان الأمر على هذه الشاكلة فإنني أسحب كلّ أقوالي، وأقدّم صاغرا اعتذاراتي. أترك له عن طواعية إنجيله لأن سلاحي لا يَفلّ فيه».
فيلاموفيتس يؤكد بأنه سيسحب أقواله على هذه الشروط فقط، ولكن إن تمادى نيتشه في استهتاره بمبادئ المنهج النقدي التاريخي، وواصل في نفس الوقت تدريس الفيلولوجيا، فإنه لن يسحب كلامه، بل في هذه الحال ينصحه بشيء واحد « وهو أنّ على السيّد نيتشه أن يَفيَ بوَعده. فليُشهِر ترسه وليَتَنقّل من الهند إلى اليونان، لكن عليه أن يَنزل من علياء كرسيّه الذي كان من واجبه أن يُلقّن منه العلم؛ فليجمع أمام رُكبَتَيه نمورا وفهودا، لكن ليس الشباب الفيلولوجي الألماني الذي، في العمل المتزهّد الناكر لذاته، يجب أن يَتعلّم فقط البحث عن الحقيقة فوق كلّ شيء، أن يتعلّم تحرير حكمه بالتزام، لكي يمنح التراث الكلاسيكي إلى الشباب الشيء الوحيد الدائم، الذي تَعِد به ربّات الشعر والذي في ذلك الاكتمال والصفاء لا يمكن أن تهِبَه إلاّ الدراسات الكلاسيكية: "المحتوى في قلبه والشكل في روحه".
بعد مرور سنين عديدة وحينما أعاد استذكار حادثة صراعه مع نيتشه حول جوهر التراجيديا، قال فيلاموفيتس: « لقد عمل بنصيحتي: تَرَك كرسيّه الجامعي والعِلم وأصبح نَبيّا لدين ما هو بدين، ولفلسفة ما هي بفلسفة».
لا يمكنني أن أضيف شيئا على حكم مَن عرفه مِن معاصريه كـفيلاموفيتس، ولكن شيئا لا بدّ من قوله وهو أن نيتشه قبل التوجّه نهائيّا نحو الفلسفة حاول في ميدان الموسيقى وأراد مزاحمة فاغنر في عقر داره. وهذا التصرّف هو برهان على سوء نوايا الرجل وعدم صدقه والكيد الذي يكنّه، في قرارة نفسه، ويواريه عن أصدقائه.
وقد أنشأ مقطوعة موسيقية على البيانو، بعنوان "صدى ليلة من ليالي سيلفستر" أهداها كوزيما زوجة ريشارد فاغنر بمناسبة عيد ميلادها، كما كان قد فعل زوجها في السنة السابقة. وليس من باب الصدفة أن تَعمّد نيتشه اهداءها إياها في نفس تلك المناسبة، ومن السّهل حدس نواياه المبيّتة والتي لم تتفجّر بكل مأساويتها إلاّ بعد موت فاغنر.
وقد اعترفت كوزيما، عندما باشرت تأدية تلك المعزوفة النيتشوية، بأنها من شدّة الضحك ـ على الرغم من مشاعر الصداقة التي تكنها لنيتشه ـ لم تستطع المواصلة في تأديتها على آلة البيانو.
وكأني بنيتشه قد فقد الرّصانة والإحساس بالواقع، وغابت عنه الحيطة والتبصّر، والدّليل على ذلك أن الرّجل لم يكتف بتلك السخرية التي قوبلت بها مقطوعته الموسيقيّة وبذاك التحذير اللطيف الذي وجّهه إليه فاغنر، قائلا: « لو أنّك أصبحت موسيقيّا لكُنتَ، تقريبا، ما سأكونه أنا لو دخلتُ ميدان الفيلولوجيا». وقد نصحه بجدّ أن يبقى فيلولوجيا ويستمدّ إيحاءاته من الموسيقى. لكنه أبى إلاّ أن يُعيد الكرّة، وتلك كانت الطامة الكبرى. كان على نيتشه ـ كما يلاحظ آلتهاوز « أن يتوقف عند حدّ مقطوعته المؤلمة "صدى سان سلفاستر". لكنه اعتقدَ بلزوم المُضيّ قدُما، والصمود في الطريق الذي اختاره... ولكي يَستَكمِل تعاسته، بدأ في إعادة تطوير مقطوعته الموسيقية "سيلفاستر" للبيانو بأربع أيدٍ، وحوّلها إلى ما يُسمى بـ"تأملات في المانفريدي». وقد اختار للحكم على مقطوعته الموسيقية هانس فون بولوف (مدير أوركسترا فاغنر، دون علم هذا الأخير بذلك.
نيتشه، على كل حال، يعرف جيّدا أن هذا الموسيقار في صراع دائم مع فاغنر وبينهما ضغينة وكره شديد. ويبدو أنه، بفعلته هذه، قد ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ فالضربة التي سددها له فون بولوف، تجاوزت في خطورتها وحدّتها الضربة التي تلقّاها من فيلاموفيتس. فعلا، لمّا اطّلع فون بولوف على مقطوعة نيتشه تَملّكه العجب وقال له بلهجة تأنيب مُرّة، بأن تأمّلاته حول المانفريدي هي « أقصى عجرفة خياليّة، إنّها الشيء الأكثر كرها ومناقضة للموسيقى الذي لم أره في حياتي، منذ زمان، مكتوبا على أوراق موسيقية. لقد تساءلتُ عديد المرّات: ألا يكون كل هذا ليس إلاّ نوعا من الفذلكة؟ ربّما كنتَ تَنوي تأليف مَسْخٍ من موسيقى المستقبل المزعومة؟ أكان عن قصد منك هذا الاستهتار المستمرّ بكلّ قواعد التأليف الموسيقي من السّينتاكس (تركيب الكلمات) الأكثر تعقيدا إلى الأرطوغرافيا (ضبط الخطّ) ؟ تأملاتك حول المانفرادي، من وجهة نظر موسيقيّة، لها فقط نفس قيمة الجريمة في دنيا الأخلاق... وبَعدُ، لقد اعترفتَ أنت نفسك بأن موسيقاك "قبيحة" ـ وهي فعلا كذلك ـ مُضِرّة بك أنت شخصيّا الذي لم تقدر على قتل كثرة أوقات فَراغِك إلاّ باغتصاب أوثرب (ربّة الموسيقى) بتلك الطريقة».
إنّه حكم في غاية الصرامة والقسوة، وقد أتاه من رجل لا يمكن اتهامه مسبقا بالكراهية والعداء الشخصي. فقد كان بولوف من المُعجبين بكتاب نيتشه "مَولد التراجيديا" وقد ذهب خصّيصا، إلى مدينة بازل، لمقابلته والتحدّث معه. لكن اعجابه بكتابه لم يمنعه، كموسيقي متخصص، أن يُدلي برأيه ويُقيّم عمل من تجرّأ على غزو أرض ليست بأرضه، ومزاحمة الموسيقيين المحترفين في عُقر دارهم.
هكذا تلقّى نيتشه الضربات الواحدة تلو الأخرى، ضربات من اليمين والشمال دون أن يستفيق من سباته أو يتدارك الموقف، وكأنه يتلذذ بالاهانات أو يَطلبها عمدا. والغريب في الأمر أن الاهانة الأخيرة جاءته إثر أسابيع قليلة من تلك التي وجّهها إليه فيلاموفيتس، حيث اتهمه بالافلاس الفيلولوجي ونصَحَه بالتخلّي عن التدريس: نيتشه نقيض الفيلولوجي أصبح الآن أيضا نقيض الموسيقي، وهذين الحكمين يمتلكان سندهما من خلال تصريحات نيشته ذاته، حيث وصف نفسه عديد المرات بأنه ضد فيلولوجي، أما موسيقاه التي بعثها إلى فون بولوف، فقد أرفقها برسالة وصف فيها مقطوعته بأنها "مُقزّزة "؛ هي مجرّد أنِينُ موسيقي مثل أنين "القطط على السّطوح ".
ولنا أن نحدس، كيف أنّ اعتزاز نيتشه المفرط بنفسه تَكسّر حين اطّلاعه على الردّ الساحق الذي وافاه به فون بولوف. ماذا فعل نيتشه؟ تصاغر أمام الموسيقار وذرّ على رأسه الغبار. ثم أجاب، مذعنا، بنبرة لا تخلو من الماسوخية: « فلتكونوا مُتيقنين من أنني ما كنتُ لأجرأ، حتى على سبيل الفذلكة، على مُناشدَتكم الفحص في موسيقاي إن كان لديّ بَصيص اعتقاد من أنها عديمة القيمة اطلاقا! لكن مع الأسف، لحدّ الآن لا أحد أيقظني من وهمي البريئ... بأنني قادر على انشاء موسيقى، حتى وإن كانت مضحكة ومن أيدي هاوٍ... ومع ذلك أواصل الاعتقاد بأنه كان بإمكانكم اصدار حكم بدرجة أكثر حظوة ـ طبعا درجة قليلة ـ إن عَزفتُ تلك اللاّموسيقى بطريقتي الشخصية، سيّئة ولكن مُعبّرة... تَصوّروا أنه إلى حدّ الآن، منذ فترة شبابي الأولى، عشتُ على أكثر الأوهام جنونا وتذوّقتُ كثيرا من الغبطة من موسيقاي... صَدّقوني إن موسيقاي الأخرى، هي أكثر إنسانية، أعذب وأنقى... أنتم قد أعنتموني كثيرا ـ هذا اعتراف أقوله بتألم كبير ـ مثل الأطفال الصغار الذين اقترفوا بعض الحماقة أقول لكم: "لن أفعلها أبدا"».
لم أورد هذه النبذة من حياة نيتشه لغاية استعراض كبواته أو التندّر بمصائبه؛ الفلسفة هي أعظم من أن تُعنى بمثل هذه النمائم. ولكن الفلسفة تُعلّمنا أيضا كشف الزيف ورفع الحجاب عن الأخطاء المتعمّدة والتنبيه عليها، والتحذير من الوقوع فيها. يكفي القارئ مقارنة رأي معاصريه في موسيقاه الذي ذكرته أعلاه، ورأي أحد الفلاسفة المحدثين، حتى يحدس بمفرده مدى البلبلة والزيف والالتباس التي تخضع لها الدراسات النيتشوية الآن، والتي تمتدّ لتطال حتى دقائق سيرة حياته.
يقول ألكسيس فيلونينكو متحدّثا عن علاقة نيتشه بالموسيقى: « كان نيتشه في الواقع موسيقيّا ممتازا. فقد كان من جهة ماهرا في العزف على البيانو، وكان من جهة أخرى مرتجلا في العزف موهوبا ـ والشهادات في هذا المجال قاطعة؛ وأخيرا فإن القطع القليلة التي خلّفها لنا تعبّر عن شخصيّة شديدة العذوبة، بعيدة عن صوتيّات الموسيقى الفاغنريّة إن فاغنر يُحمّسنا، أمّا نيتشه فهو يُهَدهدنا ـ وذلك هو ما استخلصتُه من فاغنر ومن مقطوعات نيتشه الحافلة على نحو مأساوي بالفجوات ». ثمّ يضيف متسائلا: « لماذا لم يحاول نيتشه فعلا أن يَمتهن مهنة الموسيقى؟».
لم تكن لديه الكفاءة اللازمة وموسيقاه رديئة جدّا وفي أدنى المستويات. هذه هي الإجابة الصحيحة، حسب ما يمكن استخلاصه من شهادات معاصريه، لكن فيلوننكو يتركنا في حيرة ويُشكِل علينا الأمر حينما يقول: « الحقّ لا أعرف شيئا عن ذلك. أو بالأحرى لديّ شعور ما: أظنّ أن نيتشه كان خجولا بصورة لا تُصدّق. والفنان الحقيقي هو إنسان استعراضي لا يعرف الحياء بصورة مذهلة». نيتشه خجول! أمر لا يُصدّق حقا. لا أريد التعمّق في هذه النقطة، يكفي الاطلاع على سيرة حياته، حتى تُدحض هذه الفكرة بدون رجعة.
وقد تخلّى نيتشه عن الموسيقى، بعد التقييم السلبي المدمّر الذي وافاه إياه الموسيقار بولوف، ولكن الرجل هو أبعد من أن ينسحب من الساحة الثقافية، بل إنه دخل في ميدان الفلسفة وفيها وجد، أخيرا، مستقرّه النهائي ومَجده الخالد.
أقول: ليته ما فعل ذلك! ليته بقي في مجاله واكتفى ببحوثه الفيلولوجية! لأني أعتقد أن الرّجل حقّا قد أضرّ بالفلسفة ضررا كبيرا، وجرّ وراءه خلقا كثيرا كرّسوا أفكاره متسامحين مع ما تحمله من نتائج خطيرة ومُدمّرة على الفكر النظري والعملي على حدّ سواء.
لكن المعضلة الكبرى هي أن جوهر تعاليم نيتشه ونتائجها الخطيرة، على المستوى الفكري واستتباعاتها السياسيّة والإجتماعيّة، لم يقع الكشف عنها من طرف أتباعه من الفلاسفة، الذين في غالب الأحيان أظهروا معه تسامحا مفرطا وتساهلا في الحكم مع تغطية لا تليق بهم، بل من طرف المؤرخين المعاصرين. وهذه أحدى المفارقات الثقافية الكبرى في عصرنا الحاضر.
في كتابه " تواصل النظام القديم" يخطّ المؤرخ أرنو ماير، نتائج فلسفة نيتشه وتأثيرها السلبي على مسار التاريخ الثقافي الأوروبي وعلى أفكار أجيال لاحقة. حيث يقول ما معناه، بأنه على الرغم من التناقضات المقصودة التي حمّلها أفكاره والاستفزازت المتعمّدة في كتاباته، والصفة الملتوية لتخميناته فإن تفكير نيتشه كان في انسجام مع توجهه السياسي المعادي للديموقراطية والذي يكنّ حقدا شديدا للإشتراكية زاد من حدّته مع مرور الزمن ومع سقوط معالمه التي تشبث بها الواحدة تلو الأخرى. في المجال الإجتماعي كان الرجل من المتحمّسين للداروينية، لا كنظرية علمية تقدّمية، كما رآها معاصراه ماركس وإنجلس، مَثلت كسبا عظيما في المجال العلمي، خلّص الإنسان ونظرته للطبيعة من اللاهوت والأسطورة. بل إنه قد تحمّس لجانبها الإيديولوجي الرجعي والأكثر عداء للإنسانية. العالم بالنسبة إليه هو حلبة صراع بين فصيلتين من الناس: الأسياد والعبيد المستغلين والمقهورين. والقهر والتسلط ومحق الضعفاء هو جوهر إرادة القوّة لصالح الثقافة العليا؛ ولأجل تثبيت الفن واستمرارية الثقافة يمكن التضحية بقسط كبير من البشرية.
لذلك فإن المثل الأعلى لما يجب أن يكون عليه المجتمع هو العالم اليوناني القديم وعصر النهضة لأنهما أنتجا طبقة الصّفوة والنخبة الأرستقراطية من حيث الأخلاق والذوق. الأرستقراطية منتجة التعابير الثقافية والفنية العالية من حقها احتقار العامة التي لا تشاركها حتى في الإنسانية.
ويبدو أن نقده للحداثة، كما يقول المؤرّخ، نابع أصلا من نظرته النخبوية الإقصائية، ومن اعلائه من مفهوم إرادة القوّة ومن تشبثه بالتمييز بين الناجحين وهم الأقلّية وبين الفاشلين في الحياة وهم السواد الأعظم من الناس الذين عليهم أن ينصاعوا صاغرين لحتميّات القوّة.
أودّ أن أضيف بأنني لم أتجنّ على نيتشه حينما قلتُ بأنه مُنظّر رجعي، فجميع التيارات اليمينية في الغرب، الآن وسابقا، تتبنّى أفكاره وشعاراته، وما فَتَنهم فيها هو لاعقلانيتها العضوية، وشحنتها الحربية ثمّ تركيزها على التضاد بين أقطاب لا يمكن أبدا الجمع أو المصالحة بينها. وهذا الأمر راهنيّ جدّا، ويَمسّنا نحن العرب أكثر من أي أحد آخر: يكفي مثلا سرد كيفية تصوّره للتاريخ القديم، وعرضه لسيرورة الحضارة المتوسّطيّة حتى نَعِي بخطورة الرسالة التي يودّ إيصالها للجميع. وكأني بتلك الصفحات من كُتبه التي دوّن فيها تصوّراته هي نسخة مطابقة لكل المنظرين اليمينيين في أيامنا هذه، أعني أولئك الذين يركّزون على الاختلاف الجذري بين الثقافات، شرق / غرب، ويَبُثون إيديولوجيا صراع الحضارات إلى أن غدت قناعة حتى عند بعض المفكرين العرب المحدثين، وخصوصا الإسلاميين منهم.
نيتشه سبقهم إلى هذه الأفكار، وقد فعل ذلك بكل حزم واقتناع، ومع كل الرهانات المستقبلية التي تحملها. تصوّروا ما نوع الأفكار والقناعات المُلَغمة التي تُعشّش في ذهن شاب يُدرِّس الفيلولوجيا في جامعة بازل بسويسرا. يقول في محاولته "فاغنر في بايروث" بأن سيرورة الحضارة الكلاسيكية منذ العهد اليوناني عوضا أن تسلك طريقها في اتجاه خطّي مستقيم، سلكَت مَسارا مُعاكسا بحيث أن تطوّرها الناشز حدد مجرى التاريخ. فالمسيحية تبدو كقطعة مُجتثة ومنقولة من عالم الشرق القديم؛ إنها غزو الروح السامي للروح الآري الأصيل. لكن قوة الحضارة الهلنية بدأت الآن تسترجع طاقتها وتستردّ مكانتها: نحن بِحَضرة ظواهر عجيبة، تَحوم في السماء، لكننا لا نستطيع تفسيرها إن لم نَربطها بمثيلاتها اليونانية، متجاوزين بذلك حواجز الزمان والمكان. هذا الرّبط مع العالم اليوناني والعزم على بعثه وإعادة إحياء معالمه من جديد، اضطلع به العالم الألماني: هكذا مثلا بين كانط والإيليين، بين شوبنهاور وإمبدوقلس، بين إسخيلوس وفاغنر، هناك تقارب وتماثل إلى درجة أننا مُلزَمون بالاعتقاد بنسبية كل مفاهيم الزمن. إنّ صورة العالم الحديثة، ليست صورة جديدة فهي ـ لكلّ من لديه إلمام بعلم التاريخ ـ مِثل تقاسيم وجه معروف. روح الحضارة الاغريقية يََسبََح، بتمدّد لانهائي، فوق حاضرنا: في الوقت الذي تَحتشد فيه القوى المضادة لمقايضتنا إياه بثمرات العلوم الصحيحة، والانجازات العلمية الحديثة. إن الأرض التي هي إلى حدّ الآن قد تَشَرْقَنَت بما فيه الكفاية لها حنين للعودة إلى اليونان. وبالتالي فإننا الآن نشعر بضرورة وجود رجال من صنف الإسكندر ـ النقيض، لديهم القوّة والإرادة لِلَمّ الشمل ووصل الخيوط، والحفاظ على النسيج من التمزق والإتلاف. لا يجب حلّ عقدة الحضارة اليونانية، كما فعل الإسكندر، مُشتّتا طرفيها في كل جهات العالم، بل يجب إعادة ربطها ـ هذه هي المهمّة العاجلة اليوم: « أنا أرى في فاغنر ذاك الإسكندر النقيض».
إذا تركنا جانبا أسطورة فاغنر، ومَحّصنا لبّ خطابه فإن نيتشه هنا يقدّم المادة الخام لكل المفكرين العنصريين. فعلا، مَن مِن القوميّين اليمينيين اليوم لا يصادق على أقوال نيتشه هذه؟ مَن منهم لا يطمح في بعث الروح اليوناني الأصيل، والتمسّك بالإرث الغربي؟ لقد أضافوا اليوم إلى التراث اليوناني الكلاسيكي، وبعد عقدة الذنب التي أصابتهم، الإرث اليهودي ـ المسيحي، في الوقت الذي يكفي فيه مراجعة كتابات المنظرين والفلاسفة الغربيين حتى نرى أنهم أنكروا بشدّة أي صلة بين الشرق والغرب، وأية علاقة تربطهم باليهودية. هذا التملّق لليهود بعد إهانتهم، لا يُضعف من مخاطر الانغلاق والاقصاء، بل إنه يضاعفه ويزيده حدّة: فالعالَم المُقصى الآن أصبح العالم الإسلامي الذي يُمثل الشرق، وبالتالي فكل من لا ينتمي إلى حضارة اليونان، ولا يتبنّى الديانة اليهودية المسيحية فهو النقيض الطبيعي للغرب، وبالتالي ناقص عقل ودين، ومن ثمّ وجب إرجاعه للجادّة عن طريق القوّة.
لكن قد يعترض أحدهم بأن نيتشه بينما يَلعَن باستمرار العالم المسيحي الغربي ويزدريه، فهو يُحابي العالم الإسلامي ويكنّ له مشاعر الإعجاب؛ ثم ألم يُعلِن في فترة ما عن الشعار التالي: "حربا دون هوادة على روما! سلاما وصداقة مع الإسلام"؟ فعلا هذه الكلمات وردت في "عدوّ المسيح" (60)، ولكنها مُخاتلة؛ في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، وعلى كل حال فهي دليل على تناقضات هذا الرجل وتذبذبه الدائم. فهو في مرحلة ما، جمع الإسلام واليهودية والمسيحية في بوتقة واحدة، وحكم عليها بأنها نتاج الشرق، أي النقيض الطبيعي للعالم الغربي الجرماني. ثم في " العلم المرح (144)" أثنى على أخطر تهديد يمس الحضارة الإنسانية، أعني حروب الأديان. فهي، بالنسبة إلى نظرته الحربية للتاريخ، شكّلت أكبر تقدمّ للإنسانية، لا بل للجماهير عامة. وذلك لأنها تبرهن على أن الجمهور، بفضل حرب الأديان، أخذ يتأمل المفاهيم بشيء من الإحترام. نيتشه، قانونه هذا: لا يُثني على ملة أو حضارة أو دين إلاّ بقدر ما يعثر فيها، أو يضع هو نفسه فيها، من أسباب القوة والصلافة والعذاب. انظر مثلا إلى مواقفه من اليهودية: بعد أن بدّع على تعاليمها، منساقا وراء الكليشيهات السارية في العالم المسيحي، وحينما اطلع بجدّ على أدبياتها الدينية وتاريخها، تراجع، بدّل موقفه وقال بأن « اليهود هم في الطرف النقيض لكل المنحطّين»؛ ثم إن اليهود الأوائل الذين قتلوا واضطهدوا وأبادوا الكنعانيين (كما يفعلون اليوم مع الفلسطينيّين) هم في نظره أعظم وأجمل من اليهود المتأخرين الذين أصيبوا بالخصاء، وأصبحوا نعاجا تفترسهم الذئاب: « تاريخ إسرائيل يملك قيمة لا تُقدّر كتاريخ نمطي لتغيير طبيعة القيم الطبيعية... بدئيا، وقبل أي شيء في أزمان الملوك، إسرائيل اتبعت علاقة صحيحة مع كل الأشياء، هذا يعني علاقة طبيعية، يهوه كان تعبيرا عن ضمير القوة...منه يُنتظر النصر والخلاص...هذا هو المنطق لكل شعب في حالة قوة ويمتلك ادراكا جيدا بهذه القوّة"
أما شعاره المنادي بالصداقة مع الإسلام، إذا وضعناه في سياقه التاريخي، فإنه سيفقد من مغزاه الثوري، لأنه جاء كردّة فعل ضد مناشدة الكنيسة الكاثوليكية، آنذاك للقوى الغربية التدخل ومنع المتاجرة بالعبيد التي مازالت تقوم بها بعض البلدان الإسلامية. ولذلك فإن قولته تلك داخلة في عموم تصوّره للحضارة التي لا ينبغي أن تقوم إلاّ على جماجم العبيد: لقد تحوّل عدوّه من الشرق إلى الغرب، وهذه الزحزحة الجغرافية قام بها فقط لأنه استشف بدء استفاقة الضمير الغربي، وخطر انهيار عالمه الأرستقراطي الفجّ.
نيتشه يُثني على إسلام وهمي، ابتدعه من محض خياله وصبّ عليه أمانيه، كما يَفعل الآن المثقفون الغربيون أو أنصافهم. الإسلام بالنسبة إليه هو الأرستقراطية الحربيّة في مقابل دهماء المسيحية وضعفها، التي تحتقر الجسد، والجنس، والحرب. هكذا تمّ، بمجرّد مجموعة من الأماني والأوهام اللاتاريخية، اختزال الإسلام في قوالب موحّدة وصلبة، كما لو أن فضائله تقتصر على الجنس والحرب والعبودية، ولكأن المسيحية لم تُحارب أبدا ولم تعرف أرسطقراطية أو تفاضلا.
ما عدا بعض الومضات الخاطفة، والتي من المحتمل جدّا أنه استمدها من كتّاب فرنسيين معاصرين دون ذكر أسمائهم، كتابات نيتشه هي خزّان لمثل هذه الأفكار، وهي مَعين للعنصريّين، لكارهي البشر، لمحترفي العنف، للإبادات الجماعية، للتطهير العرقي وبالجملة لكل ما هو لاإنساني مفرط في لاإنسانيته. فعلا، نيتشه يحتقر الإنسان العادي الشغيل الذي يسعى لتحصيل رزقه بعرق جبينه، ويطالب بتحسين حالته المادية؛ يزدري رجل العلم المُنكبّ على دراسة الطبيعة لغرض اكتشاف قوانينها، ولرفع حالة الجهل المُهِينة عن عقول الناس. على أنقاض هذه الإنسانية الوديعة، فهو يُبشّر بإنسانية كاذبة، براغماتية، متعجرفة لا تملك من قيمة إلاّ القوّة، ولا غاية لها إلاّ فرض ذاتها وإبادة من هو أضعف منها، أي تقريبا ما تفعله إلى الآن، ومنذ قرن من الزمن، أمريكا بالعالم أجمع. انظر بماذا ينصح الناس في زرادشت وعلى أي أسس بنى نصائحه تلك: « الإنسان هو شيء يجب تجاوزه»، مثل القرد الذي هو بالنسبة للإنسان أضحوكة أو موضِع خَجل، كذلك الإنسان السويّ في مقابل ما يسمّى بالإنسان الأعلى. كل شيء هالك في سبيل هذا النمط الجديد من الإنسانية: الفضيلة، العقل، العطف والرحمة، الكل يجب أن يسعوا إلى تدمير أنفسهم كي يُهيّؤوا الأرض إلى تلك النخبة المصغّرة من الأرستقراطية النيتشوية. هذه العنصرية التدميرية التي لا تصلح إلاّ كزاد للمنظرين اليمينيين في العالم الغربي، يعرضها علينا نيتشه في زرادشت، بلغته الشعرية المنمّقة، ويريد منّا أن نُصغي إليه ونَتّبع حكمته، وكأنها وحي منزّل. بل إن أتباعه أيضا يَطلبون من الناس تقبّل وحيه هذا، استلهامه وتمعّنه ليلا نهارا كما لو أنه مُنتهى ما وصل إليه العقل البشري.
نحن نردّ عليهم بضاعتهم، ونطلب منهم أن يرجعوا البصر ويتمعّنوا النصوص جيّدا، وإن كانوا فعلا جدّيّين أن يُقدِموا على تحقيق نصائحه في واقع حياتهم، أو يجرّبوها لِبُرهة من الزمن. أنا أطرح عليهم تحدّ: أن يُنجِزوا ولو قسطا صغيرا من نصائح نيتشه، ويحققوا نموذج الإنسان الجديد الذي يتمناه زرادشت: « الحق أقول لكم إن الإنسان نهر قذر. ولا بدّ أن يكون المرء بحرا لكي يتقبّل نهرا قذرا دون أن يغدو متّسخا... ما هي أكثر الساعات سموّا مما يمكنكم أن تعيشوا؟ إنها ساعة الإحتقار الأعظم، الساعة التي تغدو فيها سعادتكم ذاتها قرفا في أعينكم وكذلك عقلكم وفضيلتكم. الساعة التي تقولون فيها: "ما أهمية سعادتي! إنها فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة"...ساعة تقولون: "ما أهمية عقلي! هل يتلهّف للمعرفة كما الأسد يتلهف لغذائه؟ إنه فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة!...ساعة تقولون: "ما أهمية فضيلتي!.."».
ثم « ما هو عظيم في الإنسان إنما كونه جسرا لا هدفا؛ ما يمكن أن يكون جديرا بالحب في الإنسان هو كونه معبرا وصيرورة اندثار. أحبّ أولئك الذين لا يعرفون كيف يعيشون دون أن يكونوا في ذلك منحدرين إلى الهلاك، إذ هم الذين يعبرون إلى الضفة الأخرى... أحبّ أولئك الذين لا يتطلعون إلى النجوم بحثا عن مبرر للهلاك وللتضحية بأنفسهم؛ بل ينفقون أنفسهم لصالح الأرض كي تصير الأرض ملكا للإنسان الأعلى في يوم ما. أحبّ ذلك الذي يحيا من أجل أن يعرف، والذي يعرف من أجل أن يحيا الإنسان الأعلى في يوم ما، وهكذا هو يريد هلاكه».
النيتشويون عليهم أن يختاروا موقعم في صلب الفئات الثلاث من المجتمع المُعَافَى الذي ينشده، حيث يُفرِّق بين أفرادها بحواجز لا يُمكن تخطّيها أبدا: حواجز النظافة، مجال الشغل، مثال الكمال والنجابة. لقد جذب لصفّه الطبيعة، وبنى داروينيته الإجتماعية هذه على أساس الاعتقاد بأن الطبيعة نفسها هي التي ميزت بين تلك الفئات: النابغون روحانيا؛ النابغون عَضَليّا؛ ومَن ليس لهم من النباغة شيء، وهم الأغلبية. الأولون هم المُختارون، الفئة العليا ـ « أنا أسمّيها: الأقلّية»، ونظرا إلى أنها وصلت قمة الكمال، فهي تُجسد على وجه الأرض السعادة، الجمال، الخير. فقط للأناس الأكثر روحانية مسموح لهم بأن يكونوا جَمِيلِين "الجمال للقليل من الناس"، وبرافهية السعادة، والطيبة. هؤلاء الناس بما أنهم الأقوياء يجدون سعادتهم فيما يجد فيه الآخرون دمارهم: في الدهاليز، في القسوة تجاه الذات وتجاه الآخرين؛ مهمّتهم هي التسلية بالأغلال التي تسحق الآخرين. إنهم أعزّ نوع من الإنسانية: فهُم يسيطرون لا لأنهم يريدون، بل فقط لأنهم موجودون.
الفئة الثانية، هم الحافظون للقانون، الساهرون على النظام والأمن، إنهم المحاربون النبلاء، الذين يحققون إرادة الروحانيين، ويُريحونهم من أثقال الحكم المباشر.
الفئة الثالثة هي في الدرك الأسفل، لقد حكمت عليها الطبيعة بأن تكون كذلك. هذه ـ يُحذر صاحب المجتمع الجديد ـ ليست أمورا اعتباطية مصطنعة، بل إن خلافها هو المصطنع، وبالتالي فهو ضد الطبيعة. نظام التمييز بين الفئات، والتراتب الهرمي، هما أعلى تمظهر لقانون الحياة، للمحفاظة على المجتمعات، وجعل الأصناف السامية والعالية ممكنة. إن لاتساوي القوانين هو الشرط الأساسي الذي يجعل من القوانين موجودة. الثقافة العالية هي ثقافة هرمية: لا يمكن أن تنشأ إلاّ على قاعدة عريضة من الضعفاء والمسحوقين.
يكفي، شبعتُ من هذه الترهات.
عالم مقلوب:
أخشى أن أكرّر نفسي إن عُدتُ وتطرّقتُ إلى نفس الأفكار من فلسفة نيتشه، ولكني أشهد أمام القارئ، أنّ العيب ليس في بل في نصوص نيتشه ذاتها. أينما ولّينا وجوهنا، وحيثما تصفحنا كتابا من كتبه، سواء السابقة أو اللاحقة في كرونولوجيا أعماله، إلاّ وارتطمنا بنفس الأطروحات، ووجدنا نفس التعاليم التي يَكررها مرّات عديدة، ويُلوّنها بشتى أصناف الخطابة، ثم يقذف بها للقارئ كما لو أنها أفكار فذة وفريدة من نوعها.
عالم نيتشه هو عالم الصادية، والتعذيب الجسدي؛ عالم يجب أن يخجل فيه الأقوياء من احترام القوانين والمواثيق، لأنهم فوق القانون؛ وأقصى درجات لذتهم هي الوحشية، وممارسة القسوة على الضعفاء: وكأن نيتشه هنا يُكّلم جلادي أبو غريب، أو مُحتَرِفي التعذيب في دهاليز سجون الديكتاتوريين العرب. فعلا، التلذذ بتعذيب الخلق هو أقصى حالة من حالات التسلية والمُتعة لأناس ينعمون بالعيش في حرب دائمة، لأنفس تزخر قوّة واندفاعا؛ أنفس انتقامية، قاسية، ماكرة شكّاكة، مستعدّة للقيام بأبشع الأفعال فقط لأنها قوية. هذه الأنفس لا تشبع من ارتكاب الجرائم البشعة: « الوحشية تنتمي إلى أقدم حفلات البهجة الإنسانية»، والآلهة نفسها تفرح بمشاهدة القسوة التي يقترفها الإنسان. أما الشفقة فهي بحدّ ذاتها مذلة وغير لائقة بالأنفس القوية المهيبة. نيتشه، يتحسّر على الزمن الذي كان فيه التعذيب فضيلة، نكران العقل فضيلة، الانتقام فضيلة، وعلى العكس من ذلك الرخاء رذيلة، حبّ المعرفة تَفَاهة، السلم خطر، الشغل سُبّة، الجنون إله، التغير نقصان أخلاقي وواقع مُنذر بالتفسخ.
إنه عالم مقلوب، كما قلتُ، لا يمكن أن يقبع في ذهن إنسان سليم، لكن العالم المقلوب بالنسبة إلى دجّال الفلسفة هذا، هو العالم المستقيم الذي يَنبغي أن يَتحقق على أرض الواقع. أخلاق الأرستقراطية المُهيمِنة، هي أخلاق الوحوش الضارية التي لها في ميزانيتها « سلسلة بَشعة من جرائم القتل والحرائق والاغتصابات والإعدامات التي يقومون بها بكبرياء وهدوء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون سوى عمل طائش من أعمال الطلبة». إنه الحيوان الأشقر الرائع الذي يتجوّل بحثا عن الفريسة وعن النصر، يحتاج إليهما كمتنفس لحيوانيته، هذا الحيوان الأرستقراطي هو واحد في كل الثقافات « لا فرق في ذلك بين الأرستقراطية الرومانية والعربية والجرمانية أو اليابانية، ولا بين أبطال هوميروس والقراصنة الاسكندنافيين. فالأعراق النبيلة هي التي تَركت فكرة كونها "همجية" مرسومة على الطرق التي سلكتها، وأعلى درجات ثقافتها تشي بوعيها بذلك، بل بافتخارها به...جرأة الأعراق النبيلة هذه، وهي جرأة حمقاء وعبثية وتلقائية، كما أنها طبيعة أعمالهم التي هي أعمال لا يمكن توقعها أو تصديقها ـ يُشيد بيركليس خاصة بلا مبالاة الأثينيّين بأمان الجسم وبالحياة والرفاهية واحتقارهم لهذا كله، يشيد بالمرح الكبير والفرحة العارمة اللذَين يشعرون بهما عند كل تدمير وعند التلذذ بالنصر وممارسة القسوة ـ كل هذا يتلخص لدى من كانوا ضحاياه في صورة "الهمجي" أو "العدوّ الشرير"».
أليس هذا بالعالم المقلوب حقا؟ أليس هذا بعالم جلادي البشرية المحدثين، الذين يُسرّحون الآن أبشع غرائزهم الحيوانية ضد شعبَين عربيّين أعزلين؟ عالم مقلوب لأنه عالم الأمريكان الذين إذا دخلوا قرية فتكوا بأهلها وأهلكوا الحرث والنسل، والأدهى أنهم لا يودّون أن نسمّيهم بالهمجيين أو الأشرار. نيتشه يَمنعنا حتى من تسمية الأشياء بأسمائها، لقد حطّم معاني الكلمات وقلبها إلى أضدادها: عالم هوميروس في رأيه هو عالم رائع على الرغم من أنه عالم فظ وعنيف.
في "ماوراء الخير والشرّ" صبّ جام غضبه على المرضى، ووصفهم بأنهم حشرات طفيلية، وسبّهم وأهانهم جهارا. في "جينيالوجيا الأخلاق" ـ الكتاب الذي سمّاه بول ريكور « نصا عظيما» ـ صعّد من موقفه واصلا درجة من العجرفة والصلافة والحقد ليس لها نظير في أدبيات الفلسفة على مدى تاريخها. قال: يجب، بكل حزم، حماية الأقوياء الناجحين، ضد المحيط الطاعوني للمرضى. إن هؤلاء يُجسّدون في ذاتهم الخطر الأكبر الذي يُهدد الأصحاء، فتعاسة المعافين لا تأتي ممّن هم أقوى منهم بل ممن هم أضعف منهم.
شيء لا يُصدّق حقا: ما يهدد الإنسان ليست العداوات والحروب، والفقر والاستعمار والكوارث الطبيعية؛ لا، أبدا، التهديد يأتي من أضعف مخلوقات الله في العالم « المُعتَلّون هم أكبر خطر يهدد الإنسان، وليس الأشرار أو "الحيوانات المفترسة". الفاشلون والمهزومون وذوُو العاهات والضعفاء جدّا هم الذين يلغمون الحياة ويسمّمون ثقتنا فيها وفي الإنسان وفي أنفسنا ويَضعونها موضع سؤال كبير». ما الحلّ إذن؟ يجب قلب العالم، يجب منع هؤلاء حتى من التنهّد، أو تمنّى أن تُفرج عنهم كربتهم يوما ما، عليهم أن يبقوا كما هم أي أعشابا طفيلية، نباتات مسمومة، ماكرة ومتظاهرة باللطف.
هذه إدانة لأرقى المشاعر الإنسانية، إدانة للأخوة والتضامن والرفق، نيتشه، عوضا أن يُوجّه إدانته إلى تجاوزات المجتمع الأرستقراطي الاستغلالي، يوجهها إلى العدالة. الصراع، لا يتموقع في صلب تناقضات النظام الرأسمالي الشرس الذي يفرض الاستغلال في الداخل والاستعمار في الخارج، بل الصراع الحقيقي يدور « بين المرضى والأصحاء».
لا تأنيب ضمير ولا إصلاحات اجتماعية، ولا حتى بصيص أمل في التغيير، كلها محاولات يائسة يعمد إليها « هؤلاء المشوّهون فيزيولوجيا وذوو العاهات» لقلب عالمه: « وجهة النظر الراقية هي التي يجب أن تقول: إلى الوراء "أيّها العالم المقلوب».
نذير الشؤم والقسوة تكلّم، فانسكبت من فيه عبارات سوقية فظة؛ وحتى إن سرّح في بعض الأحيان خياله وامتطى حصانه المجنّح، فهو لم يقترف أبدا خطأ أن يكون روحا خالصة، لأنه يعود لينغرس في صلب واقعه الراهن ولكي يختار دائما موقعه الرّجعي. هذه المرة انصبّت قسوته على الحيوانات البريئة والسود الأفارقة العاملين في حقول القطن في أمريكا. لقد أذاقهم أسيادهم أبشع الإهانات وساموهم سوء العذاب، لكن بالنسبة للفيلسوف الذي يدعو نفسه لاراهنيا، الأسياد لا ذنب لهم وأفعالهم غير مدانة لأن طبيعة الأفارقة والحيوانات مغايرة لطبيعة الأسياد وتتحمّل النكال أكثر منهم: « هذا على الأقل هو ما استنتجه طبيب قام بعلاج بعض السود (السود الذين ننظر إليهم على أنهم يمثلون إنسان ما قبل التاريخ)، لأنه حين عالجهم من حالة التهاب داخلي شديد الخطورة، وهي خطورة قد تصيب الأوروبيين القويّي البنية باليأس، لاحظ أن هذه الالتهابات لا يكون لها نفس التأثير على السود...وأنا من جهتي لا أشك في أن آلام كل الحيوانات التي استُخدمت حتى الآن لأغراض علمية لا تشكل سوى شيء قليل مقارنة بلَيْلة واحدة من تألم رجل واحد من رجال عصرنا ضعيف الإرادة تتآكله الثقافة والهستيريا».
أنا أعجب لدرّيدا، كيف يََزَْوَرّ عن نصوص دامغة صريحة مثل التي عرضتُها أعلاه، ويَسيح في تحليل أدبي مُطوّل لجملة تافهة جدّا لنيتشه يقول فيها: "نسيتُ مظلتي". كان عليه أن يكتفي بتصفح مؤلفاته التي نشرها في حياته لكي يتفطّن إلى حقيقة أنه يجري وراء شبح إنسان يعيش في عالم مقلوب.
في كتابه عن نيتشه واللاأخلاقية يحاول أحد المفكرين الفرنسيين للقرن المنصرم تفسير ظاهرة استفزت العديد من محترفي الفلسفة، ألا وهي الشهرة التي حازها نيتشه في الأوساط الثقافية الأوروبية. يقول بأن هذه الشهرة التي بدت للعديد من الفلاسفة بأنها فضيحة، لها أسباب ظاهرية وأخرى باطنية وعميقة. فأسلوب الاستعارة يصلح لجمهور ليس لديه لا الوقت ولا الوسائل للتعمّق في أي شيء، بل إنه يُصغي بانتباه شديد للألغاز الحِكمَويّة، خصوصا إذا كانت شعرية، إلى حدّ تبدو له وكأنها وحي منزّل.
ثم إن غياب البراهين العقلية والحجج المنطقية تُضفي على الدوغمائية المعارِضة مسحة من السلطة الروحية في أعين ذاك الخليط من أنصاف المتعلّمين، من أدباء وشعراء وموسيقيين وهاوين من جميع الأصناف. مفارقات تبدو في ظاهرها أصيلة تُعطي لمن يقبلها الغرور الوهمي بأنه مُبدع. إلاّ أن هذه الشهرة، يواصل الكاتب، لها أسباب أعمق وذلك أنها قدّمت تعاليم موغلة في الشخصانية والأرستقراطية على أنها قلبٌ نهائي لكل دين وأخلاق. كتاب زرادشت هو قصيدة شعرية تولّد نشوة في أذن السامع بغضّ النظر عن محتواها، وهو أيضا ردّة فعل، صائبة بمعنى ما، ضدّ الأخلاق الوجدانية التي كرّسها أولئك الذين يدعون إلى "ديانة العذاب الإنساني". بعد نقد هذه الوجدانية المُشطّة، نيتشه يُحارب العقلانية. والمفكرون العقلانيون الذين تتجه لهم سهام نقده على صنفين: هناك العلماء الوضعيون الذين يعتقدون بأن العلوم الصحيحة تكفي للتفكير الإنساني، وهناك الفلاسفة العقلانيون الذين يرون أن الواقع عقلاني وأن العالم في ذاته هو كائن مُنظّم تسري فيه العقلانية من جميع جهاته. لكن نيتشه يعارض هذين التوجهين، كما فعل شوبنهاور، بفلسفة الإرادة. إن أولوية الإرادة والقدرة على الوجدان والفكر هي جوهر تعاليمه وأسّها.
لكن على الطرف النقيض من هذا الحكم، يتموقع أحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين، هوبير سوفرين في كتابه "زرادشت نيتشه" حيث يرى أن نيتشه سواء من حيث الأسلوب أو الأفكار هو فيلسوف مجدّد، لاراهني، وطريقته في التفلسف لا تتسع إلى البراهين وسلسلة الحجج التي كان يستخدمها الفلاسفة الكلاسيكيون: الثقافة الديونيزية كفت عن الانحصار في قوالب العقلانية وفضلت الشعر والحكمة والاستعارة: « إذا كان هذا الأسلوب، النبوي الشعري في آن، أسلوبا غير معتاد، فذلك لأن نيتشه غير معتاد سوف نرى في الواقع أن عبر تحويل القيم يشرع نيتشه في اعتراض جذري على كلّ ثقافتنا بواسطة المشروع الطموح المتمثّل في استبدالها بثقافة أخرى مختلفة وأرقى يمكن القول إنها فوبشرية سنرى أن الملمح الجوهري للثافة الجديدة التي يتطلّع إليها نيتشه، إنما هي الإبداع، والعفوية، والفنّ، التي يشكّل اللعب أو النشاط الطفولي، أو الرّقص أفضل صورها، والتي يمكن أن يكون رمزها ديونيزوس، إله السكر والرقص، لا سقراط. إن ما يطالب به نيتشه إنما هو ثقافة يستعيد الديونيزوسي، المخنوق منذ اليونان الكلاسيكية بيد الأبولوني والسقراطية، يستعيد فيها مكانه بالضبط. لهذا السبب سوف يفضّل نيتشه على "سلاسل الأسباب الطويلة" التي كانت تفتن ديكارت كثيرا، الشعر والمثل السائر، والكلمة الجامعة، والمجاز والنشيد التقريظي، والإستعارة والمحاكاة الساخرة ثمّة هنا فكر وتعبير ينبثقان من تلك الثقافة الأخرى المبشر بها ولا تجري قولبتها في قوالب ثقافتنا العقلانوية».
لكن كيف كانت صورة نيتشه بالنسبة لمعاصريه؟ وما هي المحطات المهمة التي مرت بها انتاجاته الفكرية؟
نبدأ من اختصاصه الأول وهو الفيلولوجيا: حينما اطّلع الفيلولوجي الكبير فون فيلاموفيتس، على عمل نيتشه "مولد التراجيديا من روح الموسيقى"، أصابه الذهول من كيفية تلاعب الأستاذ الشاب الذي يدرّس تلك المادة في جامعة بازل، بعِلمه لأجل ارضاء استيهامات فاغنر حول الموسيقى. وقال بلهجة تأنيب قاسية، ليس من الصعب، نقض جميع هذه التوهمات والبرهنة، على أن استاذ الفيلولوجيا هذا قد شيّد أحكامه « على عبقرية مُموَّّهة وتحكّمات في علاقة مع الجهل وقلّة حبّ الحقيقة ».
أحد زملاء نيتشه، الفيلولوجي هرمان أوسنر، بعد تصفّحه "مولد التراجيديا"، أصيب هو أيضا بخيبة أمل وعبّر عن استيائه قائلا: « إنه عبث لا أكثر ولا أقلّّ. هذا الكتاب لا يصلح لشيء: مَن كتبَ شيئا من هذا القبيل فقد أعلن موته بالنسبة للعلم».
"مولد التراجيديا" كعملٍ فيلولوجي، بدا للمختصّين أنه يمثل ضربا في العمق لعلم الفيلولوجيا، واستهتارا بمادئ البحث التاريخي، لا يمكن السكوت عنهما. وفعلا بعد أن عدّد الأخطاء الفادحة التي سقط فيها نيتشه، الفيلولوجي فيلاموفيتس اختتم نقده بهذه الكلمات: « أعتقد أنني قدّمتُ البراهين على مُعاتبتِي إيّاه بالجهل ونقصان حبّ الحقيقة. ولكن أخشى أني أخطأت في حق السيد نيتشه. فإنْ اعتَرضَ علي بأنه لا يعبؤ بـ"التاريخ والنقد" ولا بذاك "التاريخ الكوني المزعوم"، وبأنه يريد "خلق عمل فنّي ديونيزي"، "وسيلةَ تَعزيَة ميتافيزيقية"، وبأن أقواله ليست لها الوجود العيني الفظّ للواقع النّهاري، بل هي "الواقع الجليل لِعَالَم الأحلام" ـ إن كان الأمر على هذه الشاكلة فإنني أسحب كلّ أقوالي، وأقدّم صاغرا اعتذاراتي. أترك له عن طواعية إنجيله لأن سلاحي لا يَفلّ فيه».
فيلاموفيتس يؤكد بأنه سيسحب أقواله على هذه الشروط فقط، ولكن إن تمادى نيتشه في استهتاره بمبادئ المنهج النقدي التاريخي، وواصل في نفس الوقت تدريس الفيلولوجيا، فإنه لن يسحب كلامه، بل في هذه الحال ينصحه بشيء واحد « وهو أنّ على السيّد نيتشه أن يَفيَ بوَعده. فليُشهِر ترسه وليَتَنقّل من الهند إلى اليونان، لكن عليه أن يَنزل من علياء كرسيّه الذي كان من واجبه أن يُلقّن منه العلم؛ فليجمع أمام رُكبَتَيه نمورا وفهودا، لكن ليس الشباب الفيلولوجي الألماني الذي، في العمل المتزهّد الناكر لذاته، يجب أن يَتعلّم فقط البحث عن الحقيقة فوق كلّ شيء، أن يتعلّم تحرير حكمه بالتزام، لكي يمنح التراث الكلاسيكي إلى الشباب الشيء الوحيد الدائم، الذي تَعِد به ربّات الشعر والذي في ذلك الاكتمال والصفاء لا يمكن أن تهِبَه إلاّ الدراسات الكلاسيكية: "المحتوى في قلبه والشكل في روحه".
بعد مرور سنين عديدة وحينما أعاد استذكار حادثة صراعه مع نيتشه حول جوهر التراجيديا، قال فيلاموفيتس: « لقد عمل بنصيحتي: تَرَك كرسيّه الجامعي والعِلم وأصبح نَبيّا لدين ما هو بدين، ولفلسفة ما هي بفلسفة».
لا يمكنني أن أضيف شيئا على حكم مَن عرفه مِن معاصريه كـفيلاموفيتس، ولكن شيئا لا بدّ من قوله وهو أن نيتشه قبل التوجّه نهائيّا نحو الفلسفة حاول في ميدان الموسيقى وأراد مزاحمة فاغنر في عقر داره. وهذا التصرّف هو برهان على سوء نوايا الرجل وعدم صدقه والكيد الذي يكنّه، في قرارة نفسه، ويواريه عن أصدقائه.
وقد أنشأ مقطوعة موسيقية على البيانو، بعنوان "صدى ليلة من ليالي سيلفستر" أهداها كوزيما زوجة ريشارد فاغنر بمناسبة عيد ميلادها، كما كان قد فعل زوجها في السنة السابقة. وليس من باب الصدفة أن تَعمّد نيتشه اهداءها إياها في نفس تلك المناسبة، ومن السّهل حدس نواياه المبيّتة والتي لم تتفجّر بكل مأساويتها إلاّ بعد موت فاغنر.
وقد اعترفت كوزيما، عندما باشرت تأدية تلك المعزوفة النيتشوية، بأنها من شدّة الضحك ـ على الرغم من مشاعر الصداقة التي تكنها لنيتشه ـ لم تستطع المواصلة في تأديتها على آلة البيانو.
وكأني بنيتشه قد فقد الرّصانة والإحساس بالواقع، وغابت عنه الحيطة والتبصّر، والدّليل على ذلك أن الرّجل لم يكتف بتلك السخرية التي قوبلت بها مقطوعته الموسيقيّة وبذاك التحذير اللطيف الذي وجّهه إليه فاغنر، قائلا: « لو أنّك أصبحت موسيقيّا لكُنتَ، تقريبا، ما سأكونه أنا لو دخلتُ ميدان الفيلولوجيا». وقد نصحه بجدّ أن يبقى فيلولوجيا ويستمدّ إيحاءاته من الموسيقى. لكنه أبى إلاّ أن يُعيد الكرّة، وتلك كانت الطامة الكبرى. كان على نيتشه ـ كما يلاحظ آلتهاوز « أن يتوقف عند حدّ مقطوعته المؤلمة "صدى سان سلفاستر". لكنه اعتقدَ بلزوم المُضيّ قدُما، والصمود في الطريق الذي اختاره... ولكي يَستَكمِل تعاسته، بدأ في إعادة تطوير مقطوعته الموسيقية "سيلفاستر" للبيانو بأربع أيدٍ، وحوّلها إلى ما يُسمى بـ"تأملات في المانفريدي». وقد اختار للحكم على مقطوعته الموسيقية هانس فون بولوف (مدير أوركسترا فاغنر، دون علم هذا الأخير بذلك.
نيتشه، على كل حال، يعرف جيّدا أن هذا الموسيقار في صراع دائم مع فاغنر وبينهما ضغينة وكره شديد. ويبدو أنه، بفعلته هذه، قد ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ فالضربة التي سددها له فون بولوف، تجاوزت في خطورتها وحدّتها الضربة التي تلقّاها من فيلاموفيتس. فعلا، لمّا اطّلع فون بولوف على مقطوعة نيتشه تَملّكه العجب وقال له بلهجة تأنيب مُرّة، بأن تأمّلاته حول المانفريدي هي « أقصى عجرفة خياليّة، إنّها الشيء الأكثر كرها ومناقضة للموسيقى الذي لم أره في حياتي، منذ زمان، مكتوبا على أوراق موسيقية. لقد تساءلتُ عديد المرّات: ألا يكون كل هذا ليس إلاّ نوعا من الفذلكة؟ ربّما كنتَ تَنوي تأليف مَسْخٍ من موسيقى المستقبل المزعومة؟ أكان عن قصد منك هذا الاستهتار المستمرّ بكلّ قواعد التأليف الموسيقي من السّينتاكس (تركيب الكلمات) الأكثر تعقيدا إلى الأرطوغرافيا (ضبط الخطّ) ؟ تأملاتك حول المانفرادي، من وجهة نظر موسيقيّة، لها فقط نفس قيمة الجريمة في دنيا الأخلاق... وبَعدُ، لقد اعترفتَ أنت نفسك بأن موسيقاك "قبيحة" ـ وهي فعلا كذلك ـ مُضِرّة بك أنت شخصيّا الذي لم تقدر على قتل كثرة أوقات فَراغِك إلاّ باغتصاب أوثرب (ربّة الموسيقى) بتلك الطريقة».
إنّه حكم في غاية الصرامة والقسوة، وقد أتاه من رجل لا يمكن اتهامه مسبقا بالكراهية والعداء الشخصي. فقد كان بولوف من المُعجبين بكتاب نيتشه "مَولد التراجيديا" وقد ذهب خصّيصا، إلى مدينة بازل، لمقابلته والتحدّث معه. لكن اعجابه بكتابه لم يمنعه، كموسيقي متخصص، أن يُدلي برأيه ويُقيّم عمل من تجرّأ على غزو أرض ليست بأرضه، ومزاحمة الموسيقيين المحترفين في عُقر دارهم.
هكذا تلقّى نيتشه الضربات الواحدة تلو الأخرى، ضربات من اليمين والشمال دون أن يستفيق من سباته أو يتدارك الموقف، وكأنه يتلذذ بالاهانات أو يَطلبها عمدا. والغريب في الأمر أن الاهانة الأخيرة جاءته إثر أسابيع قليلة من تلك التي وجّهها إليه فيلاموفيتس، حيث اتهمه بالافلاس الفيلولوجي ونصَحَه بالتخلّي عن التدريس: نيتشه نقيض الفيلولوجي أصبح الآن أيضا نقيض الموسيقي، وهذين الحكمين يمتلكان سندهما من خلال تصريحات نيشته ذاته، حيث وصف نفسه عديد المرات بأنه ضد فيلولوجي، أما موسيقاه التي بعثها إلى فون بولوف، فقد أرفقها برسالة وصف فيها مقطوعته بأنها "مُقزّزة "؛ هي مجرّد أنِينُ موسيقي مثل أنين "القطط على السّطوح ".
ولنا أن نحدس، كيف أنّ اعتزاز نيتشه المفرط بنفسه تَكسّر حين اطّلاعه على الردّ الساحق الذي وافاه به فون بولوف. ماذا فعل نيتشه؟ تصاغر أمام الموسيقار وذرّ على رأسه الغبار. ثم أجاب، مذعنا، بنبرة لا تخلو من الماسوخية: « فلتكونوا مُتيقنين من أنني ما كنتُ لأجرأ، حتى على سبيل الفذلكة، على مُناشدَتكم الفحص في موسيقاي إن كان لديّ بَصيص اعتقاد من أنها عديمة القيمة اطلاقا! لكن مع الأسف، لحدّ الآن لا أحد أيقظني من وهمي البريئ... بأنني قادر على انشاء موسيقى، حتى وإن كانت مضحكة ومن أيدي هاوٍ... ومع ذلك أواصل الاعتقاد بأنه كان بإمكانكم اصدار حكم بدرجة أكثر حظوة ـ طبعا درجة قليلة ـ إن عَزفتُ تلك اللاّموسيقى بطريقتي الشخصية، سيّئة ولكن مُعبّرة... تَصوّروا أنه إلى حدّ الآن، منذ فترة شبابي الأولى، عشتُ على أكثر الأوهام جنونا وتذوّقتُ كثيرا من الغبطة من موسيقاي... صَدّقوني إن موسيقاي الأخرى، هي أكثر إنسانية، أعذب وأنقى... أنتم قد أعنتموني كثيرا ـ هذا اعتراف أقوله بتألم كبير ـ مثل الأطفال الصغار الذين اقترفوا بعض الحماقة أقول لكم: "لن أفعلها أبدا"».
لم أورد هذه النبذة من حياة نيتشه لغاية استعراض كبواته أو التندّر بمصائبه؛ الفلسفة هي أعظم من أن تُعنى بمثل هذه النمائم. ولكن الفلسفة تُعلّمنا أيضا كشف الزيف ورفع الحجاب عن الأخطاء المتعمّدة والتنبيه عليها، والتحذير من الوقوع فيها. يكفي القارئ مقارنة رأي معاصريه في موسيقاه الذي ذكرته أعلاه، ورأي أحد الفلاسفة المحدثين، حتى يحدس بمفرده مدى البلبلة والزيف والالتباس التي تخضع لها الدراسات النيتشوية الآن، والتي تمتدّ لتطال حتى دقائق سيرة حياته.
يقول ألكسيس فيلونينكو متحدّثا عن علاقة نيتشه بالموسيقى: « كان نيتشه في الواقع موسيقيّا ممتازا. فقد كان من جهة ماهرا في العزف على البيانو، وكان من جهة أخرى مرتجلا في العزف موهوبا ـ والشهادات في هذا المجال قاطعة؛ وأخيرا فإن القطع القليلة التي خلّفها لنا تعبّر عن شخصيّة شديدة العذوبة، بعيدة عن صوتيّات الموسيقى الفاغنريّة إن فاغنر يُحمّسنا، أمّا نيتشه فهو يُهَدهدنا ـ وذلك هو ما استخلصتُه من فاغنر ومن مقطوعات نيتشه الحافلة على نحو مأساوي بالفجوات ». ثمّ يضيف متسائلا: « لماذا لم يحاول نيتشه فعلا أن يَمتهن مهنة الموسيقى؟».
لم تكن لديه الكفاءة اللازمة وموسيقاه رديئة جدّا وفي أدنى المستويات. هذه هي الإجابة الصحيحة، حسب ما يمكن استخلاصه من شهادات معاصريه، لكن فيلوننكو يتركنا في حيرة ويُشكِل علينا الأمر حينما يقول: « الحقّ لا أعرف شيئا عن ذلك. أو بالأحرى لديّ شعور ما: أظنّ أن نيتشه كان خجولا بصورة لا تُصدّق. والفنان الحقيقي هو إنسان استعراضي لا يعرف الحياء بصورة مذهلة». نيتشه خجول! أمر لا يُصدّق حقا. لا أريد التعمّق في هذه النقطة، يكفي الاطلاع على سيرة حياته، حتى تُدحض هذه الفكرة بدون رجعة.
وقد تخلّى نيتشه عن الموسيقى، بعد التقييم السلبي المدمّر الذي وافاه إياه الموسيقار بولوف، ولكن الرجل هو أبعد من أن ينسحب من الساحة الثقافية، بل إنه دخل في ميدان الفلسفة وفيها وجد، أخيرا، مستقرّه النهائي ومَجده الخالد.
أقول: ليته ما فعل ذلك! ليته بقي في مجاله واكتفى ببحوثه الفيلولوجية! لأني أعتقد أن الرّجل حقّا قد أضرّ بالفلسفة ضررا كبيرا، وجرّ وراءه خلقا كثيرا كرّسوا أفكاره متسامحين مع ما تحمله من نتائج خطيرة ومُدمّرة على الفكر النظري والعملي على حدّ سواء.
لكن المعضلة الكبرى هي أن جوهر تعاليم نيتشه ونتائجها الخطيرة، على المستوى الفكري واستتباعاتها السياسيّة والإجتماعيّة، لم يقع الكشف عنها من طرف أتباعه من الفلاسفة، الذين في غالب الأحيان أظهروا معه تسامحا مفرطا وتساهلا في الحكم مع تغطية لا تليق بهم، بل من طرف المؤرخين المعاصرين. وهذه أحدى المفارقات الثقافية الكبرى في عصرنا الحاضر.
في كتابه " تواصل النظام القديم" يخطّ المؤرخ أرنو ماير، نتائج فلسفة نيتشه وتأثيرها السلبي على مسار التاريخ الثقافي الأوروبي وعلى أفكار أجيال لاحقة. حيث يقول ما معناه، بأنه على الرغم من التناقضات المقصودة التي حمّلها أفكاره والاستفزازت المتعمّدة في كتاباته، والصفة الملتوية لتخميناته فإن تفكير نيتشه كان في انسجام مع توجهه السياسي المعادي للديموقراطية والذي يكنّ حقدا شديدا للإشتراكية زاد من حدّته مع مرور الزمن ومع سقوط معالمه التي تشبث بها الواحدة تلو الأخرى. في المجال الإجتماعي كان الرجل من المتحمّسين للداروينية، لا كنظرية علمية تقدّمية، كما رآها معاصراه ماركس وإنجلس، مَثلت كسبا عظيما في المجال العلمي، خلّص الإنسان ونظرته للطبيعة من اللاهوت والأسطورة. بل إنه قد تحمّس لجانبها الإيديولوجي الرجعي والأكثر عداء للإنسانية. العالم بالنسبة إليه هو حلبة صراع بين فصيلتين من الناس: الأسياد والعبيد المستغلين والمقهورين. والقهر والتسلط ومحق الضعفاء هو جوهر إرادة القوّة لصالح الثقافة العليا؛ ولأجل تثبيت الفن واستمرارية الثقافة يمكن التضحية بقسط كبير من البشرية.
لذلك فإن المثل الأعلى لما يجب أن يكون عليه المجتمع هو العالم اليوناني القديم وعصر النهضة لأنهما أنتجا طبقة الصّفوة والنخبة الأرستقراطية من حيث الأخلاق والذوق. الأرستقراطية منتجة التعابير الثقافية والفنية العالية من حقها احتقار العامة التي لا تشاركها حتى في الإنسانية.
ويبدو أن نقده للحداثة، كما يقول المؤرّخ، نابع أصلا من نظرته النخبوية الإقصائية، ومن اعلائه من مفهوم إرادة القوّة ومن تشبثه بالتمييز بين الناجحين وهم الأقلّية وبين الفاشلين في الحياة وهم السواد الأعظم من الناس الذين عليهم أن ينصاعوا صاغرين لحتميّات القوّة.
أودّ أن أضيف بأنني لم أتجنّ على نيتشه حينما قلتُ بأنه مُنظّر رجعي، فجميع التيارات اليمينية في الغرب، الآن وسابقا، تتبنّى أفكاره وشعاراته، وما فَتَنهم فيها هو لاعقلانيتها العضوية، وشحنتها الحربية ثمّ تركيزها على التضاد بين أقطاب لا يمكن أبدا الجمع أو المصالحة بينها. وهذا الأمر راهنيّ جدّا، ويَمسّنا نحن العرب أكثر من أي أحد آخر: يكفي مثلا سرد كيفية تصوّره للتاريخ القديم، وعرضه لسيرورة الحضارة المتوسّطيّة حتى نَعِي بخطورة الرسالة التي يودّ إيصالها للجميع. وكأني بتلك الصفحات من كُتبه التي دوّن فيها تصوّراته هي نسخة مطابقة لكل المنظرين اليمينيين في أيامنا هذه، أعني أولئك الذين يركّزون على الاختلاف الجذري بين الثقافات، شرق / غرب، ويَبُثون إيديولوجيا صراع الحضارات إلى أن غدت قناعة حتى عند بعض المفكرين العرب المحدثين، وخصوصا الإسلاميين منهم.
نيتشه سبقهم إلى هذه الأفكار، وقد فعل ذلك بكل حزم واقتناع، ومع كل الرهانات المستقبلية التي تحملها. تصوّروا ما نوع الأفكار والقناعات المُلَغمة التي تُعشّش في ذهن شاب يُدرِّس الفيلولوجيا في جامعة بازل بسويسرا. يقول في محاولته "فاغنر في بايروث" بأن سيرورة الحضارة الكلاسيكية منذ العهد اليوناني عوضا أن تسلك طريقها في اتجاه خطّي مستقيم، سلكَت مَسارا مُعاكسا بحيث أن تطوّرها الناشز حدد مجرى التاريخ. فالمسيحية تبدو كقطعة مُجتثة ومنقولة من عالم الشرق القديم؛ إنها غزو الروح السامي للروح الآري الأصيل. لكن قوة الحضارة الهلنية بدأت الآن تسترجع طاقتها وتستردّ مكانتها: نحن بِحَضرة ظواهر عجيبة، تَحوم في السماء، لكننا لا نستطيع تفسيرها إن لم نَربطها بمثيلاتها اليونانية، متجاوزين بذلك حواجز الزمان والمكان. هذا الرّبط مع العالم اليوناني والعزم على بعثه وإعادة إحياء معالمه من جديد، اضطلع به العالم الألماني: هكذا مثلا بين كانط والإيليين، بين شوبنهاور وإمبدوقلس، بين إسخيلوس وفاغنر، هناك تقارب وتماثل إلى درجة أننا مُلزَمون بالاعتقاد بنسبية كل مفاهيم الزمن. إنّ صورة العالم الحديثة، ليست صورة جديدة فهي ـ لكلّ من لديه إلمام بعلم التاريخ ـ مِثل تقاسيم وجه معروف. روح الحضارة الاغريقية يََسبََح، بتمدّد لانهائي، فوق حاضرنا: في الوقت الذي تَحتشد فيه القوى المضادة لمقايضتنا إياه بثمرات العلوم الصحيحة، والانجازات العلمية الحديثة. إن الأرض التي هي إلى حدّ الآن قد تَشَرْقَنَت بما فيه الكفاية لها حنين للعودة إلى اليونان. وبالتالي فإننا الآن نشعر بضرورة وجود رجال من صنف الإسكندر ـ النقيض، لديهم القوّة والإرادة لِلَمّ الشمل ووصل الخيوط، والحفاظ على النسيج من التمزق والإتلاف. لا يجب حلّ عقدة الحضارة اليونانية، كما فعل الإسكندر، مُشتّتا طرفيها في كل جهات العالم، بل يجب إعادة ربطها ـ هذه هي المهمّة العاجلة اليوم: « أنا أرى في فاغنر ذاك الإسكندر النقيض».
إذا تركنا جانبا أسطورة فاغنر، ومَحّصنا لبّ خطابه فإن نيتشه هنا يقدّم المادة الخام لكل المفكرين العنصريين. فعلا، مَن مِن القوميّين اليمينيين اليوم لا يصادق على أقوال نيتشه هذه؟ مَن منهم لا يطمح في بعث الروح اليوناني الأصيل، والتمسّك بالإرث الغربي؟ لقد أضافوا اليوم إلى التراث اليوناني الكلاسيكي، وبعد عقدة الذنب التي أصابتهم، الإرث اليهودي ـ المسيحي، في الوقت الذي يكفي فيه مراجعة كتابات المنظرين والفلاسفة الغربيين حتى نرى أنهم أنكروا بشدّة أي صلة بين الشرق والغرب، وأية علاقة تربطهم باليهودية. هذا التملّق لليهود بعد إهانتهم، لا يُضعف من مخاطر الانغلاق والاقصاء، بل إنه يضاعفه ويزيده حدّة: فالعالَم المُقصى الآن أصبح العالم الإسلامي الذي يُمثل الشرق، وبالتالي فكل من لا ينتمي إلى حضارة اليونان، ولا يتبنّى الديانة اليهودية المسيحية فهو النقيض الطبيعي للغرب، وبالتالي ناقص عقل ودين، ومن ثمّ وجب إرجاعه للجادّة عن طريق القوّة.
لكن قد يعترض أحدهم بأن نيتشه بينما يَلعَن باستمرار العالم المسيحي الغربي ويزدريه، فهو يُحابي العالم الإسلامي ويكنّ له مشاعر الإعجاب؛ ثم ألم يُعلِن في فترة ما عن الشعار التالي: "حربا دون هوادة على روما! سلاما وصداقة مع الإسلام"؟ فعلا هذه الكلمات وردت في "عدوّ المسيح" (60)، ولكنها مُخاتلة؛ في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، وعلى كل حال فهي دليل على تناقضات هذا الرجل وتذبذبه الدائم. فهو في مرحلة ما، جمع الإسلام واليهودية والمسيحية في بوتقة واحدة، وحكم عليها بأنها نتاج الشرق، أي النقيض الطبيعي للعالم الغربي الجرماني. ثم في " العلم المرح (144)" أثنى على أخطر تهديد يمس الحضارة الإنسانية، أعني حروب الأديان. فهي، بالنسبة إلى نظرته الحربية للتاريخ، شكّلت أكبر تقدمّ للإنسانية، لا بل للجماهير عامة. وذلك لأنها تبرهن على أن الجمهور، بفضل حرب الأديان، أخذ يتأمل المفاهيم بشيء من الإحترام. نيتشه، قانونه هذا: لا يُثني على ملة أو حضارة أو دين إلاّ بقدر ما يعثر فيها، أو يضع هو نفسه فيها، من أسباب القوة والصلافة والعذاب. انظر مثلا إلى مواقفه من اليهودية: بعد أن بدّع على تعاليمها، منساقا وراء الكليشيهات السارية في العالم المسيحي، وحينما اطلع بجدّ على أدبياتها الدينية وتاريخها، تراجع، بدّل موقفه وقال بأن « اليهود هم في الطرف النقيض لكل المنحطّين»؛ ثم إن اليهود الأوائل الذين قتلوا واضطهدوا وأبادوا الكنعانيين (كما يفعلون اليوم مع الفلسطينيّين) هم في نظره أعظم وأجمل من اليهود المتأخرين الذين أصيبوا بالخصاء، وأصبحوا نعاجا تفترسهم الذئاب: « تاريخ إسرائيل يملك قيمة لا تُقدّر كتاريخ نمطي لتغيير طبيعة القيم الطبيعية... بدئيا، وقبل أي شيء في أزمان الملوك، إسرائيل اتبعت علاقة صحيحة مع كل الأشياء، هذا يعني علاقة طبيعية، يهوه كان تعبيرا عن ضمير القوة...منه يُنتظر النصر والخلاص...هذا هو المنطق لكل شعب في حالة قوة ويمتلك ادراكا جيدا بهذه القوّة"
أما شعاره المنادي بالصداقة مع الإسلام، إذا وضعناه في سياقه التاريخي، فإنه سيفقد من مغزاه الثوري، لأنه جاء كردّة فعل ضد مناشدة الكنيسة الكاثوليكية، آنذاك للقوى الغربية التدخل ومنع المتاجرة بالعبيد التي مازالت تقوم بها بعض البلدان الإسلامية. ولذلك فإن قولته تلك داخلة في عموم تصوّره للحضارة التي لا ينبغي أن تقوم إلاّ على جماجم العبيد: لقد تحوّل عدوّه من الشرق إلى الغرب، وهذه الزحزحة الجغرافية قام بها فقط لأنه استشف بدء استفاقة الضمير الغربي، وخطر انهيار عالمه الأرستقراطي الفجّ.
نيتشه يُثني على إسلام وهمي، ابتدعه من محض خياله وصبّ عليه أمانيه، كما يَفعل الآن المثقفون الغربيون أو أنصافهم. الإسلام بالنسبة إليه هو الأرستقراطية الحربيّة في مقابل دهماء المسيحية وضعفها، التي تحتقر الجسد، والجنس، والحرب. هكذا تمّ، بمجرّد مجموعة من الأماني والأوهام اللاتاريخية، اختزال الإسلام في قوالب موحّدة وصلبة، كما لو أن فضائله تقتصر على الجنس والحرب والعبودية، ولكأن المسيحية لم تُحارب أبدا ولم تعرف أرسطقراطية أو تفاضلا.
ما عدا بعض الومضات الخاطفة، والتي من المحتمل جدّا أنه استمدها من كتّاب فرنسيين معاصرين دون ذكر أسمائهم، كتابات نيتشه هي خزّان لمثل هذه الأفكار، وهي مَعين للعنصريّين، لكارهي البشر، لمحترفي العنف، للإبادات الجماعية، للتطهير العرقي وبالجملة لكل ما هو لاإنساني مفرط في لاإنسانيته. فعلا، نيتشه يحتقر الإنسان العادي الشغيل الذي يسعى لتحصيل رزقه بعرق جبينه، ويطالب بتحسين حالته المادية؛ يزدري رجل العلم المُنكبّ على دراسة الطبيعة لغرض اكتشاف قوانينها، ولرفع حالة الجهل المُهِينة عن عقول الناس. على أنقاض هذه الإنسانية الوديعة، فهو يُبشّر بإنسانية كاذبة، براغماتية، متعجرفة لا تملك من قيمة إلاّ القوّة، ولا غاية لها إلاّ فرض ذاتها وإبادة من هو أضعف منها، أي تقريبا ما تفعله إلى الآن، ومنذ قرن من الزمن، أمريكا بالعالم أجمع. انظر بماذا ينصح الناس في زرادشت وعلى أي أسس بنى نصائحه تلك: « الإنسان هو شيء يجب تجاوزه»، مثل القرد الذي هو بالنسبة للإنسان أضحوكة أو موضِع خَجل، كذلك الإنسان السويّ في مقابل ما يسمّى بالإنسان الأعلى. كل شيء هالك في سبيل هذا النمط الجديد من الإنسانية: الفضيلة، العقل، العطف والرحمة، الكل يجب أن يسعوا إلى تدمير أنفسهم كي يُهيّؤوا الأرض إلى تلك النخبة المصغّرة من الأرستقراطية النيتشوية. هذه العنصرية التدميرية التي لا تصلح إلاّ كزاد للمنظرين اليمينيين في العالم الغربي، يعرضها علينا نيتشه في زرادشت، بلغته الشعرية المنمّقة، ويريد منّا أن نُصغي إليه ونَتّبع حكمته، وكأنها وحي منزّل. بل إن أتباعه أيضا يَطلبون من الناس تقبّل وحيه هذا، استلهامه وتمعّنه ليلا نهارا كما لو أنه مُنتهى ما وصل إليه العقل البشري.
نحن نردّ عليهم بضاعتهم، ونطلب منهم أن يرجعوا البصر ويتمعّنوا النصوص جيّدا، وإن كانوا فعلا جدّيّين أن يُقدِموا على تحقيق نصائحه في واقع حياتهم، أو يجرّبوها لِبُرهة من الزمن. أنا أطرح عليهم تحدّ: أن يُنجِزوا ولو قسطا صغيرا من نصائح نيتشه، ويحققوا نموذج الإنسان الجديد الذي يتمناه زرادشت: « الحق أقول لكم إن الإنسان نهر قذر. ولا بدّ أن يكون المرء بحرا لكي يتقبّل نهرا قذرا دون أن يغدو متّسخا... ما هي أكثر الساعات سموّا مما يمكنكم أن تعيشوا؟ إنها ساعة الإحتقار الأعظم، الساعة التي تغدو فيها سعادتكم ذاتها قرفا في أعينكم وكذلك عقلكم وفضيلتكم. الساعة التي تقولون فيها: "ما أهمية سعادتي! إنها فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة"...ساعة تقولون: "ما أهمية عقلي! هل يتلهّف للمعرفة كما الأسد يتلهف لغذائه؟ إنه فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة!...ساعة تقولون: "ما أهمية فضيلتي!.."».
ثم « ما هو عظيم في الإنسان إنما كونه جسرا لا هدفا؛ ما يمكن أن يكون جديرا بالحب في الإنسان هو كونه معبرا وصيرورة اندثار. أحبّ أولئك الذين لا يعرفون كيف يعيشون دون أن يكونوا في ذلك منحدرين إلى الهلاك، إذ هم الذين يعبرون إلى الضفة الأخرى... أحبّ أولئك الذين لا يتطلعون إلى النجوم بحثا عن مبرر للهلاك وللتضحية بأنفسهم؛ بل ينفقون أنفسهم لصالح الأرض كي تصير الأرض ملكا للإنسان الأعلى في يوم ما. أحبّ ذلك الذي يحيا من أجل أن يعرف، والذي يعرف من أجل أن يحيا الإنسان الأعلى في يوم ما، وهكذا هو يريد هلاكه».
النيتشويون عليهم أن يختاروا موقعم في صلب الفئات الثلاث من المجتمع المُعَافَى الذي ينشده، حيث يُفرِّق بين أفرادها بحواجز لا يُمكن تخطّيها أبدا: حواجز النظافة، مجال الشغل، مثال الكمال والنجابة. لقد جذب لصفّه الطبيعة، وبنى داروينيته الإجتماعية هذه على أساس الاعتقاد بأن الطبيعة نفسها هي التي ميزت بين تلك الفئات: النابغون روحانيا؛ النابغون عَضَليّا؛ ومَن ليس لهم من النباغة شيء، وهم الأغلبية. الأولون هم المُختارون، الفئة العليا ـ « أنا أسمّيها: الأقلّية»، ونظرا إلى أنها وصلت قمة الكمال، فهي تُجسد على وجه الأرض السعادة، الجمال، الخير. فقط للأناس الأكثر روحانية مسموح لهم بأن يكونوا جَمِيلِين "الجمال للقليل من الناس"، وبرافهية السعادة، والطيبة. هؤلاء الناس بما أنهم الأقوياء يجدون سعادتهم فيما يجد فيه الآخرون دمارهم: في الدهاليز، في القسوة تجاه الذات وتجاه الآخرين؛ مهمّتهم هي التسلية بالأغلال التي تسحق الآخرين. إنهم أعزّ نوع من الإنسانية: فهُم يسيطرون لا لأنهم يريدون، بل فقط لأنهم موجودون.
الفئة الثانية، هم الحافظون للقانون، الساهرون على النظام والأمن، إنهم المحاربون النبلاء، الذين يحققون إرادة الروحانيين، ويُريحونهم من أثقال الحكم المباشر.
الفئة الثالثة هي في الدرك الأسفل، لقد حكمت عليها الطبيعة بأن تكون كذلك. هذه ـ يُحذر صاحب المجتمع الجديد ـ ليست أمورا اعتباطية مصطنعة، بل إن خلافها هو المصطنع، وبالتالي فهو ضد الطبيعة. نظام التمييز بين الفئات، والتراتب الهرمي، هما أعلى تمظهر لقانون الحياة، للمحفاظة على المجتمعات، وجعل الأصناف السامية والعالية ممكنة. إن لاتساوي القوانين هو الشرط الأساسي الذي يجعل من القوانين موجودة. الثقافة العالية هي ثقافة هرمية: لا يمكن أن تنشأ إلاّ على قاعدة عريضة من الضعفاء والمسحوقين.
يكفي، شبعتُ من هذه الترهات.
عالم مقلوب:
أخشى أن أكرّر نفسي إن عُدتُ وتطرّقتُ إلى نفس الأفكار من فلسفة نيتشه، ولكني أشهد أمام القارئ، أنّ العيب ليس في بل في نصوص نيتشه ذاتها. أينما ولّينا وجوهنا، وحيثما تصفحنا كتابا من كتبه، سواء السابقة أو اللاحقة في كرونولوجيا أعماله، إلاّ وارتطمنا بنفس الأطروحات، ووجدنا نفس التعاليم التي يَكررها مرّات عديدة، ويُلوّنها بشتى أصناف الخطابة، ثم يقذف بها للقارئ كما لو أنها أفكار فذة وفريدة من نوعها.
عالم نيتشه هو عالم الصادية، والتعذيب الجسدي؛ عالم يجب أن يخجل فيه الأقوياء من احترام القوانين والمواثيق، لأنهم فوق القانون؛ وأقصى درجات لذتهم هي الوحشية، وممارسة القسوة على الضعفاء: وكأن نيتشه هنا يُكّلم جلادي أبو غريب، أو مُحتَرِفي التعذيب في دهاليز سجون الديكتاتوريين العرب. فعلا، التلذذ بتعذيب الخلق هو أقصى حالة من حالات التسلية والمُتعة لأناس ينعمون بالعيش في حرب دائمة، لأنفس تزخر قوّة واندفاعا؛ أنفس انتقامية، قاسية، ماكرة شكّاكة، مستعدّة للقيام بأبشع الأفعال فقط لأنها قوية. هذه الأنفس لا تشبع من ارتكاب الجرائم البشعة: « الوحشية تنتمي إلى أقدم حفلات البهجة الإنسانية»، والآلهة نفسها تفرح بمشاهدة القسوة التي يقترفها الإنسان. أما الشفقة فهي بحدّ ذاتها مذلة وغير لائقة بالأنفس القوية المهيبة. نيتشه، يتحسّر على الزمن الذي كان فيه التعذيب فضيلة، نكران العقل فضيلة، الانتقام فضيلة، وعلى العكس من ذلك الرخاء رذيلة، حبّ المعرفة تَفَاهة، السلم خطر، الشغل سُبّة، الجنون إله، التغير نقصان أخلاقي وواقع مُنذر بالتفسخ.
إنه عالم مقلوب، كما قلتُ، لا يمكن أن يقبع في ذهن إنسان سليم، لكن العالم المقلوب بالنسبة إلى دجّال الفلسفة هذا، هو العالم المستقيم الذي يَنبغي أن يَتحقق على أرض الواقع. أخلاق الأرستقراطية المُهيمِنة، هي أخلاق الوحوش الضارية التي لها في ميزانيتها « سلسلة بَشعة من جرائم القتل والحرائق والاغتصابات والإعدامات التي يقومون بها بكبرياء وهدوء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون سوى عمل طائش من أعمال الطلبة». إنه الحيوان الأشقر الرائع الذي يتجوّل بحثا عن الفريسة وعن النصر، يحتاج إليهما كمتنفس لحيوانيته، هذا الحيوان الأرستقراطي هو واحد في كل الثقافات « لا فرق في ذلك بين الأرستقراطية الرومانية والعربية والجرمانية أو اليابانية، ولا بين أبطال هوميروس والقراصنة الاسكندنافيين. فالأعراق النبيلة هي التي تَركت فكرة كونها "همجية" مرسومة على الطرق التي سلكتها، وأعلى درجات ثقافتها تشي بوعيها بذلك، بل بافتخارها به...جرأة الأعراق النبيلة هذه، وهي جرأة حمقاء وعبثية وتلقائية، كما أنها طبيعة أعمالهم التي هي أعمال لا يمكن توقعها أو تصديقها ـ يُشيد بيركليس خاصة بلا مبالاة الأثينيّين بأمان الجسم وبالحياة والرفاهية واحتقارهم لهذا كله، يشيد بالمرح الكبير والفرحة العارمة اللذَين يشعرون بهما عند كل تدمير وعند التلذذ بالنصر وممارسة القسوة ـ كل هذا يتلخص لدى من كانوا ضحاياه في صورة "الهمجي" أو "العدوّ الشرير"».
أليس هذا بالعالم المقلوب حقا؟ أليس هذا بعالم جلادي البشرية المحدثين، الذين يُسرّحون الآن أبشع غرائزهم الحيوانية ضد شعبَين عربيّين أعزلين؟ عالم مقلوب لأنه عالم الأمريكان الذين إذا دخلوا قرية فتكوا بأهلها وأهلكوا الحرث والنسل، والأدهى أنهم لا يودّون أن نسمّيهم بالهمجيين أو الأشرار. نيتشه يَمنعنا حتى من تسمية الأشياء بأسمائها، لقد حطّم معاني الكلمات وقلبها إلى أضدادها: عالم هوميروس في رأيه هو عالم رائع على الرغم من أنه عالم فظ وعنيف.
في "ماوراء الخير والشرّ" صبّ جام غضبه على المرضى، ووصفهم بأنهم حشرات طفيلية، وسبّهم وأهانهم جهارا. في "جينيالوجيا الأخلاق" ـ الكتاب الذي سمّاه بول ريكور « نصا عظيما» ـ صعّد من موقفه واصلا درجة من العجرفة والصلافة والحقد ليس لها نظير في أدبيات الفلسفة على مدى تاريخها. قال: يجب، بكل حزم، حماية الأقوياء الناجحين، ضد المحيط الطاعوني للمرضى. إن هؤلاء يُجسّدون في ذاتهم الخطر الأكبر الذي يُهدد الأصحاء، فتعاسة المعافين لا تأتي ممّن هم أقوى منهم بل ممن هم أضعف منهم.
شيء لا يُصدّق حقا: ما يهدد الإنسان ليست العداوات والحروب، والفقر والاستعمار والكوارث الطبيعية؛ لا، أبدا، التهديد يأتي من أضعف مخلوقات الله في العالم « المُعتَلّون هم أكبر خطر يهدد الإنسان، وليس الأشرار أو "الحيوانات المفترسة". الفاشلون والمهزومون وذوُو العاهات والضعفاء جدّا هم الذين يلغمون الحياة ويسمّمون ثقتنا فيها وفي الإنسان وفي أنفسنا ويَضعونها موضع سؤال كبير». ما الحلّ إذن؟ يجب قلب العالم، يجب منع هؤلاء حتى من التنهّد، أو تمنّى أن تُفرج عنهم كربتهم يوما ما، عليهم أن يبقوا كما هم أي أعشابا طفيلية، نباتات مسمومة، ماكرة ومتظاهرة باللطف.
هذه إدانة لأرقى المشاعر الإنسانية، إدانة للأخوة والتضامن والرفق، نيتشه، عوضا أن يُوجّه إدانته إلى تجاوزات المجتمع الأرستقراطي الاستغلالي، يوجهها إلى العدالة. الصراع، لا يتموقع في صلب تناقضات النظام الرأسمالي الشرس الذي يفرض الاستغلال في الداخل والاستعمار في الخارج، بل الصراع الحقيقي يدور « بين المرضى والأصحاء».
لا تأنيب ضمير ولا إصلاحات اجتماعية، ولا حتى بصيص أمل في التغيير، كلها محاولات يائسة يعمد إليها « هؤلاء المشوّهون فيزيولوجيا وذوو العاهات» لقلب عالمه: « وجهة النظر الراقية هي التي يجب أن تقول: إلى الوراء "أيّها العالم المقلوب».
نذير الشؤم والقسوة تكلّم، فانسكبت من فيه عبارات سوقية فظة؛ وحتى إن سرّح في بعض الأحيان خياله وامتطى حصانه المجنّح، فهو لم يقترف أبدا خطأ أن يكون روحا خالصة، لأنه يعود لينغرس في صلب واقعه الراهن ولكي يختار دائما موقعه الرّجعي. هذه المرة انصبّت قسوته على الحيوانات البريئة والسود الأفارقة العاملين في حقول القطن في أمريكا. لقد أذاقهم أسيادهم أبشع الإهانات وساموهم سوء العذاب، لكن بالنسبة للفيلسوف الذي يدعو نفسه لاراهنيا، الأسياد لا ذنب لهم وأفعالهم غير مدانة لأن طبيعة الأفارقة والحيوانات مغايرة لطبيعة الأسياد وتتحمّل النكال أكثر منهم: « هذا على الأقل هو ما استنتجه طبيب قام بعلاج بعض السود (السود الذين ننظر إليهم على أنهم يمثلون إنسان ما قبل التاريخ)، لأنه حين عالجهم من حالة التهاب داخلي شديد الخطورة، وهي خطورة قد تصيب الأوروبيين القويّي البنية باليأس، لاحظ أن هذه الالتهابات لا يكون لها نفس التأثير على السود...وأنا من جهتي لا أشك في أن آلام كل الحيوانات التي استُخدمت حتى الآن لأغراض علمية لا تشكل سوى شيء قليل مقارنة بلَيْلة واحدة من تألم رجل واحد من رجال عصرنا ضعيف الإرادة تتآكله الثقافة والهستيريا».
أنا أعجب لدرّيدا، كيف يََزَْوَرّ عن نصوص دامغة صريحة مثل التي عرضتُها أعلاه، ويَسيح في تحليل أدبي مُطوّل لجملة تافهة جدّا لنيتشه يقول فيها: "نسيتُ مظلتي". كان عليه أن يكتفي بتصفح مؤلفاته التي نشرها في حياته لكي يتفطّن إلى حقيقة أنه يجري وراء شبح إنسان يعيش في عالم مقلوب.