أمبرتو إيكو - دائماً كنتُ أروي.. ترجمة محمد العيساوي

"تَتحول حياة الإنسان إلى مُعاناةٍ واقعية، بَل إلى جحيم، عندما يَتداخل عصران، وثقافتان، و ديانتان"،
- Hermann Hesse


- حُرية روائية لكن بسُلطة -
إنَ الناس حسَب ماركس و فرويد هُم أنصافُ أصحاء، و نصفهم الآخر مغموس في الحُلم، في الجُزء الأكثر عبثية، و المعرفة كذلك تبدأ عندهم أن الوعي أساس الشقاء الذي يخدعُ كُل ما نسميه "إدراك"، وبهذا الشقاء يتبددُ الوهم من تعاليه،
نحنُ اليوم نقرأ ما يسعنا تحصيلهُ من الكُتّاب و المؤلفين، لكن ماهي الرواية الرخيصة اليوم؟، ماهي مواصفاتها المُنقادة طواعيةً أن تكونَ برُخص أدبي إن صَح التعبير، إنَ الرواية التي تَخلو من الفَن و الحبكة ولا تفتأ أن تكونَ تفوقاً لغوياً لا أكثر، هذهِ الجينات السردية لا تُتيح أيَّ إثمارٍ عقلي، أما القارئ الذي ينهالُ بقراءة هذهِ السرديات المُحترفة بالتخبُط و الرموزية، قارئ مُعجب بالنمط المُستهلَك، سيبقى مُعتَقل تحتَ سُلطة الكاتب، التي هيَّ بالأصل النفسي عُقدة معكوسة على النص،
سرديات مُملة، بطلٌ يموت في نهاية القصة، بطلة تنتحر لأنَ خليلها ولِّعَ بغيرها، سعادة أبدية، سعادة و ذروتها، هكذا يستعير الكاتب عبارات أثقلُ من الفلسفة ذاتها، فهو يستخفُ دونَ درايةٍ مدروسة بـ اللُغة و تأريخ الأدب، بل تأريخ الكتابة نفسهُ، إنَ الكُتّاب ذوي السُلطة الكتابية يُحررون و يجعلونَ جمهورهم مُثار بأسئلةٍ لا إجابة عليها من ناحية الغموض الذي يخاف الكاتبَ أن يُنهيه، فتنتهي معهُ حرفيتهُ المتواضعة إذما كانَت الضئيلة،
إنَ التنقيب في ذاكرة العالَم يُتيح فائدةً أكثرَ متعة، فهيجاءُ الكتابة لوحدها "ناقصة" تضعنا خارجَ التأريخ، بتشييدٍ مُمِل لا يُضيف لمعرفتنا شيئاً، و الشخصية الخالية من النفسانية المُعرَضة لكُل ما نتعرض لهُ يومياً لا فائدة فيها، نُصادف نفس نوع القُراء عادةً في الكُتب الفلسفية و العلمية و اللغوية، قارئ يستأجرُ نصاً ما، حفظَ سُلطة المؤلف و بدأ يُردد ما يستهويه مما إنصاعَ لهُ، هذا يعكس حجم المِلكية الكتابية لدى أيّ قارئٍ أو مؤلف،
مُمارسة الكتابة تُقسِمُ نفسها بينَ "الكينونة" و بينَ "التملُك"، و مسافة الفارق الموجود يعكسُ سلطة الكاتب، إنَ كُتاباً كُثُر في هذهِ الأزمنة يفرضُ نفسه ليصبح هو سُلطة، حتى بتصميم الأغلفة و النصيحة، كم مستفزٌ هذا الشائع المريض،
كُلنا نُمارس موضوع حساس، غريزي، "السُلطة"، ذلكَ الإحساس بنشوة التملُك الفردانية، الآباء و الأُمهات كذلك يعتقدونَ أنَ بعد الإنجاب يستحقُ الطفل هذهِ المُمارسة حتى يتربى في عاداتهم، و يتثقفُ ثقافتهم، لكنَ الأسلوب في السُلطة مُختلف الموقِف، عقلاني و غير عقلاني،
إنَ السُلطة هي مشروع يهرُب بهِ الكائن من حُرية التصرف، الحُرية ذاتها، لو غمسنا أنفسُنا في قراءة سريعة لتأريخ العالم القديم، المُجتمع البدائي مثلاً، سنجدُ صائدي الغنائم، و مُروضي الحيوانات، الذين يمدونَ شعورهم بعدم الكفاءة من مُمارسة السُلطة، حتى في المُلابسات الخاصة،
هل الكاتب صائد فرائس؟، هو بالقدر نفسهُ يحاول استثارة الناضج منهُ "باعتقاده" في اللانُضج الموجه لهُ، أي القارئ اللاناضج، فهو يُهدد، و يتباعد، و يحتجمُ كينونة ما يتحدث على لسانه، الشخصيات، و يترُكك مندهشاً مخدوعاً في سُلطته!، لأنهُ غير مؤهَل او ذو كفاءة حتى يسحبك لعالَم الفائدة، كون القَفز المُتَعمد، عادةً ما مررتُ بكُتاب، يروجون سلطتهم عبر أخدوعة ظروف السلام كما يُروَّج لحملات انتخابية تقتصرُ على جودة التسليع!،
من هو الكاتب اللاسلطوي؟، أعتقد إنَ الفارق بينَ الكينونة و أسلوب السُلطة العنيف، هو فارق "أنا أعرف"، أنا أمتلكُ كمية من "المعرفة"، الأُولى إذا انعكست على الكتابة تُصبح مبتذلة للغاية، كتابة فارغة تدورُ حياتها حولَ الأشرار و الأحباب و الإبتهاج التلفزيوني، لكنَ الأُخرى، الثانية، تعني التأمُل في التفكير و التمعُن في الإرهاصات.
مُشكلة الثقافات المُندمجة، أو المُتداخلة عندَ إيكو،
من ضمن المُحاضرات التي ألقاها "إمبرتو إيكو"، باللُغة الإنجليزية على طَلبة الدراسة العُليا في الأكاديمية الإيطالية، تناولَ فيها ثلاثة جوانب مهمة "اللُغة، العلاقة بينَ الثقافات، العلاقة بين القارئ و المؤلف و النَص"، و لإيصال صورة مُقربة عما يقصُد إستَعان بالمُستكشف الإيطالي الشهير "ماركو بولو" الذي كانَت تربطهُ علاقات بـ "قوبلاي" حفيد جنكيز خان، "بعد قراءة ما طُرِح في هذه المحاضرة"، أنصح أن تُراجع/ي كتاب رحلات ماركو بولو و روستيشيلو، وهي أعمال خاصة ترجمها إلى اللُغة الإنجليزية "ويليام مارسدن و جون فرامبتون" ثُمَ عربها"عبد العزيز جاويد"، هذا الكتاب عبارة عن قصص رحلات خاضها بولو عندما طافَ عبر آسيا وبلاد فارس والصين وإندونيسيا بين 1271 - 1291، إن أيكو يستعير من هذه الرحلة حادثة لـ بولو أنهُ رأى "وحيد القرن" لكن خلفيتهُ المعرفية لا تعطيه اسما لهذا الحيوان، ولم يُعلن عن ذلك،
يتشابه هذا الموقف الذي مَر بهِ المُستكشف بولو إبانَ رحلته في الصين، معَ علماء اللُغة الذين يحاولون ربطَ كل شيءٍ بلغة مثالية تُحقق التصورات المجردة، لكن النُقطة الرئيسية المطروحة هنا، هو ماذا لو كانَت هذهِ الثقافات، الرؤى الروحانية، اللُغات أيضاً، يتحكمُ بها هؤلاء "المثاليين"، كيفَ تؤدي إلى الاستعمار اللغوي و المعرفي؟،
واحدة من الردود المحفورة في ذاكرة إيكو، هي ذاتَ مرة قابَل شاب أمريكي اللُغوي و عالم اللسانيات "رومان ياكوبسن"، قالَ له، "أُستاذي، لقد اندفعت للتعلُم منكَ، لكنَ التدريس في فصولكَ هو باللغة الروسية، و أنا لا أُجيدها"،
أجاب ياكوبسن الذي لديهِ محصلة من التعلُم، بأنهُ يتحدث بأربعين أسلوب لغوي: "حاول، و أشكركم على تحمُل رطانتي باللغة الإنجليزية، المُشكلة في لُغتكم، فهي مثالية"،
- المُشكلة الأولى: الإخضاع، في هذهِ الحالة لا يستطيع أفراد الثقافة ( A ) التعرُف على أفراد الثقافة ( B ) بوصفهم بشراً طبيعيين "والعكس صحيح"، ويطلقون عليهم "البرابرة"، ويعني هذا من الناحية الإيتمولوجية "علم أصول الكلمات"، أنهُم كائنات غير قادرة على الكلام، وبذلكَ فهُم كائنات غير إنسانية أو دون إنسانية وبالإضافة إلى هذا، هناك احتمالان آخران : إما أن يعمَلوا على تحضُرهم "أي يحولونهم إلى نسخٍ مقبولة منهم"، أو يُدمروهم، أو كلاهما،
- المُشكلة الثانية: السطو الثقافي، وفي هذهِ الحالة يتعرفُ أفراد الثقافة ( A ) على أفراد الثقافة ( B ) بوصفهم حَملة حكمة مبهمة، وقد يحدث أن تحاول الثقافة ( A ) أن تحلَ سياسياً وعسكرياً محل الثقافة ( B )، وفي الوقت نفسه تحترمُ ثقافتهم الغريبة وتحاول فهمها وفك شفراتها، فالحضارة اليونانية حوَلت مصر إلى مملكة "هيلينستية"، لكن الحضارة اليونانية فُتنت بالحكمة المصرية منذ "فيثاغورس" وحاولت، كما يُشاع، سرقة سر الرياضيات، الكيمياء، السحر، والديانة المصرية، ومثل هذا الفضول والإعجاب والاحترام للحكمة المصرية، عاوَد الظهور في الثقافة الأوروبية الحديثة من "عصر النهضة" حتى أيامنا هذهِ،
- المُشكلة الثالثة: التبادل، وهي إحدى طريقتين للتأثير والاحترام المُتبادل، وبالتأكيد هذا ما حدثَ حال الاتصال المُبكر بين أوروبا والصين، منذ زمن "ماركو بولو" وبالطبع أيام "الأب متى ريسي Matteo Ricci"، وتبادَلت هاتان الثقافتان أسرارهُما، وتلقى الصينيون، عن طريق جماعات التبشير اليسوعي، كثيراً من أوجه العِلم الأوروبي، بينما حمل اليسوعيون إلى أوروبا أوجهاً كثيرة من الحضارة الصينية، لدرجة أنهُ حتى الآن مازال الإيطاليون والصينيون يتجادلون حول من ابتكر "الإسباجتى" وذلك قبل أن يُدمر "أهل نيويورك"، كل شيء بابتكارهم "الإسباجتي بكرات اللحم".
كتبتُ يوماً : الكتابةُ نِذرٌ سيُنسى، بكُل بساطةٍ متراخية، عندما نستجم على فراشٍ ريِّح، إسفنجي، نرمي بفكرنا في بداية تكون العالَم، أن نقوم بأشرَطة الأحداث داخل غُرفتنا المُغلقة، نقف برهةً أمام أقوى الأدبيات و أعقد الأفكار النظرية و السياسية، سنجدُ أن كُل يومٍ ينالهُ التأريخ تظهرُ فيهِ آلام جديدة، و اللُغة مهما استحدث نفسها لا تجدُ وصفاً دقيقاً، إنَ الكتابة مُبَرر "لذاتها"، لأنها تُعتبَر أقوى مُبعثر ذهني على الإطلاق، ومن يقع ضحيتها فهو يكتُب حتى يتخلص من عبء عدم إكتمالها،
عندما تُوفيّ إيكو في ميلانو ترك خلفه أكثر من 35000 كتاب في شقته، مترجمة لأكثَر من 30 لغة، الكثير من الفلاسفة يقرون أنهُ سيل من الكلمات، أو كما يسميه "تالوتا" بأنهُ ملياردير الثقافة الذي تنخرط بالحديث معهُ ولا تستطيع الخروج، بسبب تلك القُدرة الهائلة في التنقُل بين الأدب و العلم،
إنَ السارد الذي يحملُ وقعاً سردياً بصوته داخلَ النص يجعلُ القارئَ يتدفقُ في غابته المَسرودة، إنَ النص كما يراه إيكو، هي تلكَ الآلة الكسولة التي تتطلبُ من القارئ تعاوناً معَ الكاتب،
‏توصلتُ، بعد كتابتي لاسم الوردة، بعددٍ هائل من الرسائل كانت في مُجملها تحمل تساؤلات حولَ دلالة البيت الشعري المكتوب باللُغة اللاتينية الذي تختتمُ به الرواية وعن كيفية انبثاق العنوان عنهُ؟،
‏ودو موراليكس هذا راهبٌ من القرن الثاني عشر الميلادي قام بنسج أبيات انطلاقاً من موضوع "التحسُر على الذين غابوا" ومنها اشتقت فيما بعد : "ولكن أين ذهَبت ثلوج الزمن الماضي" لـ فيلان،
‏أضافَ بهذا العمل إلى الموضوعات المعروفة "مثل عظُماء من السَلَف" ، "المُدن العتيقة" ، "الأميرات الجميلات"، "العدم حيث يندثرُ كُل شيء"،
‏الفكرة القائلة بأنهُ إذا كانَت كُل الأشياء آيلة إلى الزوال، فإننا نحتفظُ منها بأسماءٍ خالصة، وأذكر أيضاً أن أبيلار استعمل المثل الوارد في الملفوظ "لا وجود لأيّ وردة" لكي يُبين إلى أي حدٍ يمكن للُغة أن تتحدث بنفس القوة عن الأشياء المُندثرة وعن الأشياء الموجودة،
لهذا فإنني أترك القارئ حُراً، فالسارد، في رأيي، ليسَ ملزماً بتقديم تأويلاتٍ لعمله، وإلا لما كانت هناكَ حاجة إلى كتابة رواية، فالروايات هي بالأساس آلات مُوَلِدة للتأويلات، ومعَ ذلك، فإن كُل هذهِ الكلمات المعسولة تنتهي بنا إلى حاجزٍ لا يُمكن تخطيه : يجب أن يكون للرواية عنوان ما.
‏وردةُ إيكو تختلفُ عن الوردات الريليكيه، و كذلكَ تختلفُ عن أمومة الجِذع عندَ أدونيس، هيّ لُغز دير إيطالي حصلَ فيه جريمة قَتل، العادة أن يتُم التحقيق بحثاً عن الحقيقة من خلال الشرطة، لكن إيكو هنا يحاول إيجادها عن طريق "الفلسفة"، "اللاهوت"، "العلم"، كإشارة لتفرُع وجهات النَظر.

- راجع / "حكايات عن إساءة الفهم" لـ إيكو.
- اسم الوردة لـ إيكو.
أعلى