الجزء الأول
مرضت . طال الوقت دون أن أسترجع عافيتي . زاد من هلعي أن الطبيب أفضى لي بهواجسه من امكانية اصابتي بالبلهارسيا. ولأن معدات المستوصف كانت متواضعة فقد نصحني بالتنقل الى مدينة بعيدة لاتمام الفحوص.الطبيب البولوني أمرني بالبقاء في المستشفى بعد قراءته للتقرير إلى حين التعرف على نوع مرضي.لم أعتبر الأمر خطيرا. ولم أخبر أحدا بوضعيتي اعتقادا مني من أن الوضع لن يطول.المستشفى كان من الطراز الحديث. و أنا وحدي من كنت أبدو غير عاد. باستثناء الأطباء و الممرضين كان جل من يرتادون المستشفى يلبسون أقمصة طويلة زرقاء . و يلفون رؤوسهم ووجوههم بكوفيات سوداء. و ربما لهذا كانت بشرتي البيضاء و شعري الأشقر تجعلني غريبا أكثر بينهم. إلا أن الأكثر أهمية من هذا أن كل الناس كانوا يتحدثون "التشلحيت" وهي لغة أمازيغية تخص سكان جنوب المغرب.و اغلبهم يجهلون لغة أخرى. و لهذا السبب تعمق تجاهل للناس.لم أعر في البداية أهمية لهذه المسألة. كنت حريصا على شئ واحد. كان علي أن أحافظ على معنويات عالية . انه الشئ الأهم الذي يجب أن يحرص عليه مريض ربما بشكل يفوق الالتزام بأوامر الطبيب و الوصفات.كنت أعرف أن لا أحد سيزورني أو يسال عني . و أن لا أتأثر بالزيارات. و أن لا أعبأ بالصمت الطويل الذي سألازمه بسبب عدم وجود من أتحدث إليه. لكن الذي كان يضايقني حقا هو قوانين المستشفى و خاصة النوم في الساعة السابعة و هو ما كان يصعب على كائن ليلي مثلي. الصباح في المستشفى هو لحظة السكون الشامل . فيه يكون المريض في حالة هدوء كلي و كأنه يسترد أنفاسه التي استنزفها الصراع المرير مع الألم الذي عاشه أثناء الليل. الممرضون و الأطباء يلقون في الصباح لدى دخولهم القاعات نظرة شاملة عامة سريعة على كل المرضى للتأكد ما ان كان أحدهم قد مل من متابعة الرحلة. بعد ذلك يتحدثون إلى كل مريض على حدة بطريقة يحددها قيمة المريض و مكانته الاجتماعية. في أول صباح لي هناك زارني ممرض يبدو أنه كان في بداية حياته العملية. سألني وهو يقيس حرارتي : اسنت التشلحيت ؟ " هل تتكلم التشلحيت ؟"بقيت صامتا مدة طويلة قبل أن أن أعي أني كنت المقصود بالسؤال. أجبت و أنا أنظر إليه وقلت : لا . رد الممرض فراشي قاذفا به اتجاه وجهي وقال " ما اتفهمناش " " أي لم و لن يحصل بيننا تفاهم" ، بقيت أنظر للممرض غير مصدق . لكن حرصي على معنوياتي جعلني أتجاهل تلك التي بدت لي وقاحة.غيرأن تصرفات الرجل تحولت إلى سلوك يومي . كنت أبقى حائرا أفكر في الأمر و أتساءل : ما الخلل الذي يشكو منه هذا الرجل ؟ أكيد أنه يتحمل النصيب الأكبر فيما يقوم به ، لكن نصيبا مماثلا يتحمله من دربوه لأنهم علموه كيف يقيس الحرارة وكيف يلف الضماد و كيف يحقن ابرة . كيف استطاع الرجل أن ينسى أن أمامه انسانا غريبا محطما منخورا معنوياته في الحضيض وفوق كل هذا لا يسأل عنه أحد وكل ما ارتآه أن الكائن الذي أمامه يجب أن يتحدث التشلحيت ؟ كنت منهكا ذلك الأصيل . القاعة كانت غاصة بالزوار.فتحت كتابا و دفنت وجهي فيه . لا أذكر بالتحديد في أي شئ كنت أفكر حين أحسست بشئ يقف أمامي . رفعت رأسي، كانت إمرأة. نعم امرأة في سن والدتي .روعتني نظرتها . نظرت إليها و حين تأكدت من أنها كانت تخاطبني قلت مذهولا: أتتحدثين إلي ؟ تجاهلت المرأة سؤالي و استرسلت في خطابها . لم تكن تعرف كلمة واحدة من العربية. لكنها لم تعتبر ذلك عائقا . لا أعرف التشلحيت لكني تلك اللحظة كنت أجيدها . نظرة المرأة , تعاطفها اللانهائي مع حالتي التي أدركتها بنظرة واحدة طريقتها في الكلام , حركاتها ..كل شئ كان يصلني في منتهى اليسر. حاولت أن أقول لها شيئا . أن أشكرها .. هممت بالكلام . كنت بالغ التأثر. رفعت عيني . رأيت مؤشر معنوياتي ينحدر في شبه انهيار ..وفي لحظة كنت قد انفجرت باكيا بشكل أثرت انتباه كل من في القاعة. لم أتمالك نفسي . انطلقت خارج القاعة .وحين وصلت الحديقة الفارغة لم أحاول أن ألجم نفسي ..تركت لها أن تفعل ما يريحها ...رغبت في أن أبك إلى ما لانهاية...سألت نفسي و أنا في اوج احباطي .ماذا كنت تعرف عن الأمومة ؟ كنت أعرف الثدي الذي يلقم فم صبي.. الحضن الذي يتلقفه..التمريرة الساحرة.. القبلة التي تصنع الصمود.....لكن هل كنت تدرك أنها أيضا اللوحة التي كنت داخلها قبل حين .؟ شئ واحد كان ينقص تلك المرأة كي تصل مرحلة الكمال الكلي ... كان يجب أن تفهم ذلك الممرض أن هناك لغة أرقى من تلك اللغة التي يشترط على الناس التخاطب بها كي يحدث تواصله معهم . لغة لا تحتاج الى كتابة أو أبجدية . لغة لا تحتاج الى نطق أو اشارة أو لسان ...انها اللغة الأشمل ..لغة الاحساس الانساني النبيل..لم أستطع أن أقضي يوما آخر في المستشفى .. كل المرضى في القاعة تجمعوا حولي حين عدت اليها صرت مكشوفا أمامهم . كنت لا أقرأ و لا أسمع الا المواسات .. صرت ضعيفا . لممت أشيائي وذهبت للطبيب الذي خيرته بين أن أمضي في حالي بشكل لائق و بين أن أغادرها بطريقة أخرى . لم أعد اطيق المكوث . كل حواسي وعاطفتي كانت منجذبة إلى الوجوه و العالم الذي طالما حسبته قديما متهالكا.
مرضت . طال الوقت دون أن أسترجع عافيتي . زاد من هلعي أن الطبيب أفضى لي بهواجسه من امكانية اصابتي بالبلهارسيا. ولأن معدات المستوصف كانت متواضعة فقد نصحني بالتنقل الى مدينة بعيدة لاتمام الفحوص.الطبيب البولوني أمرني بالبقاء في المستشفى بعد قراءته للتقرير إلى حين التعرف على نوع مرضي.لم أعتبر الأمر خطيرا. ولم أخبر أحدا بوضعيتي اعتقادا مني من أن الوضع لن يطول.المستشفى كان من الطراز الحديث. و أنا وحدي من كنت أبدو غير عاد. باستثناء الأطباء و الممرضين كان جل من يرتادون المستشفى يلبسون أقمصة طويلة زرقاء . و يلفون رؤوسهم ووجوههم بكوفيات سوداء. و ربما لهذا كانت بشرتي البيضاء و شعري الأشقر تجعلني غريبا أكثر بينهم. إلا أن الأكثر أهمية من هذا أن كل الناس كانوا يتحدثون "التشلحيت" وهي لغة أمازيغية تخص سكان جنوب المغرب.و اغلبهم يجهلون لغة أخرى. و لهذا السبب تعمق تجاهل للناس.لم أعر في البداية أهمية لهذه المسألة. كنت حريصا على شئ واحد. كان علي أن أحافظ على معنويات عالية . انه الشئ الأهم الذي يجب أن يحرص عليه مريض ربما بشكل يفوق الالتزام بأوامر الطبيب و الوصفات.كنت أعرف أن لا أحد سيزورني أو يسال عني . و أن لا أتأثر بالزيارات. و أن لا أعبأ بالصمت الطويل الذي سألازمه بسبب عدم وجود من أتحدث إليه. لكن الذي كان يضايقني حقا هو قوانين المستشفى و خاصة النوم في الساعة السابعة و هو ما كان يصعب على كائن ليلي مثلي. الصباح في المستشفى هو لحظة السكون الشامل . فيه يكون المريض في حالة هدوء كلي و كأنه يسترد أنفاسه التي استنزفها الصراع المرير مع الألم الذي عاشه أثناء الليل. الممرضون و الأطباء يلقون في الصباح لدى دخولهم القاعات نظرة شاملة عامة سريعة على كل المرضى للتأكد ما ان كان أحدهم قد مل من متابعة الرحلة. بعد ذلك يتحدثون إلى كل مريض على حدة بطريقة يحددها قيمة المريض و مكانته الاجتماعية. في أول صباح لي هناك زارني ممرض يبدو أنه كان في بداية حياته العملية. سألني وهو يقيس حرارتي : اسنت التشلحيت ؟ " هل تتكلم التشلحيت ؟"بقيت صامتا مدة طويلة قبل أن أن أعي أني كنت المقصود بالسؤال. أجبت و أنا أنظر إليه وقلت : لا . رد الممرض فراشي قاذفا به اتجاه وجهي وقال " ما اتفهمناش " " أي لم و لن يحصل بيننا تفاهم" ، بقيت أنظر للممرض غير مصدق . لكن حرصي على معنوياتي جعلني أتجاهل تلك التي بدت لي وقاحة.غيرأن تصرفات الرجل تحولت إلى سلوك يومي . كنت أبقى حائرا أفكر في الأمر و أتساءل : ما الخلل الذي يشكو منه هذا الرجل ؟ أكيد أنه يتحمل النصيب الأكبر فيما يقوم به ، لكن نصيبا مماثلا يتحمله من دربوه لأنهم علموه كيف يقيس الحرارة وكيف يلف الضماد و كيف يحقن ابرة . كيف استطاع الرجل أن ينسى أن أمامه انسانا غريبا محطما منخورا معنوياته في الحضيض وفوق كل هذا لا يسأل عنه أحد وكل ما ارتآه أن الكائن الذي أمامه يجب أن يتحدث التشلحيت ؟ كنت منهكا ذلك الأصيل . القاعة كانت غاصة بالزوار.فتحت كتابا و دفنت وجهي فيه . لا أذكر بالتحديد في أي شئ كنت أفكر حين أحسست بشئ يقف أمامي . رفعت رأسي، كانت إمرأة. نعم امرأة في سن والدتي .روعتني نظرتها . نظرت إليها و حين تأكدت من أنها كانت تخاطبني قلت مذهولا: أتتحدثين إلي ؟ تجاهلت المرأة سؤالي و استرسلت في خطابها . لم تكن تعرف كلمة واحدة من العربية. لكنها لم تعتبر ذلك عائقا . لا أعرف التشلحيت لكني تلك اللحظة كنت أجيدها . نظرة المرأة , تعاطفها اللانهائي مع حالتي التي أدركتها بنظرة واحدة طريقتها في الكلام , حركاتها ..كل شئ كان يصلني في منتهى اليسر. حاولت أن أقول لها شيئا . أن أشكرها .. هممت بالكلام . كنت بالغ التأثر. رفعت عيني . رأيت مؤشر معنوياتي ينحدر في شبه انهيار ..وفي لحظة كنت قد انفجرت باكيا بشكل أثرت انتباه كل من في القاعة. لم أتمالك نفسي . انطلقت خارج القاعة .وحين وصلت الحديقة الفارغة لم أحاول أن ألجم نفسي ..تركت لها أن تفعل ما يريحها ...رغبت في أن أبك إلى ما لانهاية...سألت نفسي و أنا في اوج احباطي .ماذا كنت تعرف عن الأمومة ؟ كنت أعرف الثدي الذي يلقم فم صبي.. الحضن الذي يتلقفه..التمريرة الساحرة.. القبلة التي تصنع الصمود.....لكن هل كنت تدرك أنها أيضا اللوحة التي كنت داخلها قبل حين .؟ شئ واحد كان ينقص تلك المرأة كي تصل مرحلة الكمال الكلي ... كان يجب أن تفهم ذلك الممرض أن هناك لغة أرقى من تلك اللغة التي يشترط على الناس التخاطب بها كي يحدث تواصله معهم . لغة لا تحتاج الى كتابة أو أبجدية . لغة لا تحتاج الى نطق أو اشارة أو لسان ...انها اللغة الأشمل ..لغة الاحساس الانساني النبيل..لم أستطع أن أقضي يوما آخر في المستشفى .. كل المرضى في القاعة تجمعوا حولي حين عدت اليها صرت مكشوفا أمامهم . كنت لا أقرأ و لا أسمع الا المواسات .. صرت ضعيفا . لممت أشيائي وذهبت للطبيب الذي خيرته بين أن أمضي في حالي بشكل لائق و بين أن أغادرها بطريقة أخرى . لم أعد اطيق المكوث . كل حواسي وعاطفتي كانت منجذبة إلى الوجوه و العالم الذي طالما حسبته قديما متهالكا.