د. رسول محمد رسول - كيف عاش “سقراط بغداد” فيلسوفاً حراً؟

احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .

المقالة :
ولد صالح بمدينة (هيت’) في محافظة الأنبار عام 1932، تعلم طفلاً يانعاً هناك ابتداءً، وانتقل إلى دراسة الفلسفة بالعاصمة (بغداد) عندما كان (قسم الفلسفة) في (جامعة بغداد) قد أسس، فكان من طلاب (الدورة الأولى) التي تخرجت من ذلك القسم، لكنه استأنف دراسته لاحقاً في (جامعة كامبريدج) بالمملكة المتحدة من دون أن يحصل على (شهادة الدكتوراه) بسبب تمرُّده على النُّظم الأكاديمية حينها تمرداً مفكَّرا فيه؛ فعاد إلى بغداد ليعمل مدرِّساً في قسم الفلسفة بجامعة بغداد،

وليبدأ رحلة طويلة امتدت لأربعة عقود تقريباً أنتج خلالها مجموعة من المؤلَّفات الفلسفية، وكتب المئات من المقالات الفلسفية والنقدية والأدبية في الصحافة العراقية، وتخرَّج على يديه عدد كبير من المتخصِّصين في الفلسفة، ومنهم كاتب المقال.
***
قبل أن أدخل طالباً في قسم الفلسفة بكلية الآداب ـ جامعة بغداد مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كنتُ أقرأ لمدني صالح ما يكتبه في الصحافة العراقية، كان له عمود أسبوعي، فضلاً عن دراسات نقدية مثيرة لشغفي المعرفي نشرها في مجلات عراقية مثل مجلتي (الأقلام) و(آفاق عربية)، وغيرها. كان المأمول عندي، وعندما بدأت الدراسة في قسم الفلسفة، أن أرى مدني الإنسان وجهاً لوجه في كلية الآداب، أن أتحدَّث معه، أن أتعلَّم منه. كان مدني بالنسبة لي فيلسوفاً بامتياز، بل الفيلسوف الذي أطمح أن أصير مثله، وأمتلك قلمه المعطاء.
كان قلمه الفلسفي الذي يكتب به في الصحافة العراقية مثيراً لإعجابي، في وقت كان عدد فلاسفة العراق قليلاً، وكتّاب الفلسفة في الصحافة أقل بقليل؛ فليس من اليسير تطويع الموضوعات الفلسفية في مقالات صحافية يتلقاها قارئ غير متخصِّص في الفلسفة، عاشق لها، ومُحب للحكمة فيها.
madani saleh 3تبدَّدت أحلامي عندما علمتُ أن مدني صالح انتقل من قسم الفلسفة للتدريس في قسم اللغة العربية ولكن في الكلية ذاتها -كلية الآداب – ومع ذلك، كنتُ حريصاً على لقاء مدني الإنسان، فأخذتُ أبحثُ عنه في قسم اللغة العربية، فوجدته مرَّة عن بُعد؛ بدا إنساناً بسيطاً في هندامه، متواضعاً في مشيته، ثاقباً في نظراته، لطيف التعامل مع من يمرّ من عنده أو يتكلَّم معه من الطلاب والأساتذة والصحافيين.
بدا لي موجوداً آسراً، كائناً جذاباً، فقلتُ مع نفسي: “هذا هو مدني صالح إذن!!”. ففكَّرت أن أشارك في محاضراته الفلسفية التي يلقيها في قسم اللغة العربية بالكلية، لكني استثنيت عن قراري، لأنني وجدتُ أن أبقى لشهور أخرى أتأمَّل كائنية هذا المدني صالح، أُراقبُ مشيته، أتأمَّل هندامه وأوراقه وأقلامه وطريقته في الحديث مع الناس. فمضيتُ في برنامجي لشهور عدة من دون أن ألتقيه، لكني، وفي الوقت نفسه، كنتُ أقرأ مقالاته الفلسفية الأسبوعية في الصحافة العراقية، وأقرأ كتبه: (هذا هو السياب)، و(هذا هو الفارابي). ومن ثم (مقامات مدني صالح، (1989). وفي الوقت نفسه كنت أبحث عن مؤلفاته المبكِّرة مثل: (الوجود، 1955)، و(أشكال وألوان، 1956).
تمر سنوات دراستي في قسم الفلسفة فيرحل عن عالمنا المفكِّر والفيلسوف العراقي الدكتور ياسين خليل (ت 1968) إثر مرض عضال رافقه سنوات لتفقد الأوساط الفلسفية العراقية والعربية واحداً من أعلام الفكر المنطقي الوضعي، ويبقى كل من الدكتور حسام الألوسي والدكتور ناجي التكريتي، إلى جانب مدني صالح، والدكتور عبد ألأمير الأعسم، والدكتور علي الجابري، وهم من ألمع فلاسفة العراق الذين درست عليهم.
بعد عام 1985 بدأت رحلتي في عالم النشر بالصحافة العراقية، نشرتُ أولى مقالاتي في (جريدة العراق)، وكانت واحدة من أهم مقالاتي قد نشرتها في عام 1986 عن رحيل أستاذي الدكتور ياسين خليل، ومن ثم توالى نشر المقالات الأخرى، وكان بعضها مدار اهتمام أستاذي مدني صالح، فصرتُ، في نظره، كاتباً وليداً يستحق الرعاية، لذاك كان اهتمامه بي رائعاً، واستمرت محبته لي وفيرة حتى دخولي مرحلة الماجستير عام ،1992 وكنتُ قد نشرت الكثير من المقالات في الصحف العراقية المحلية، وفي بعض الدوريات العراقية والعربية، ويومها كانت حصة مقالات مدني صالح في الصحافة العراقية كثيرة وواسعة الانتشار ومدار نقاش وجدل فلسفي وثقافي لافت، وعندها توطَّدت علاقتي بمدني.
في مرحلة القلق التي كانت تجتاحني في أيام اختياري لموضوع الماجستير، نصحني مدني صالح بأن اختار عموداً من أعمدة الفلسفة الحديثة لأتخصص به، فكان اقتراحه لي هو (إيمانويل كانط)، الفيلسوف الألماني الكبير، وبالفعل شرعت في تسجيل الموضوع مع أستاذي الدكتور (قيس هادي أحمد)، المتخصِّص في الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز، لتبدأ رحلة الدراسات العليا وصولاً إلى تحصلي شهادة الدكتوراه في الفلسفة الألمانية أيضاً، وفي كل تلك السنوات ما كان مدني صالح بعيداً عني.
كان التمرُّد سمة غالبة على حياة مدني صالح الفلسفية بل الوجودية، كان الرجل متمرداً على أساليب الكتابة التقليدية، سواء في مؤلفاته المبكِّرة أم المتأخرة. ولذلك اصطفى الأسلوب الحواري لكتابة مقالاته الفلسفية في الصحافة، كانت كل مقالة مما كتب عبارة عن محاورة على غرار ما كتبه أفلاطون في محاوراته الشهيرة ليغلب عليها السؤال والجواب، ولكن بروح إبداعية خلاقة بدت منسجمة مع مضامينها وهي تخاطب الإنسان في المجتمع، الإنسان في العالم، الإنسان كما يعيش حياته اليومية.
في محاضراته داخل الدرس الجامعي لم يكن الأمر يختلف؛ فقد كان (الحوار) سيد الأساليب ذاك الذي كان يلجأ إليه مدني صالح معنا نحن طلاب الحكمة الفلسفية، كان أسلوبه مثمراً ومعطاءً ناهيك عن لذَّته المعرفية والأسلوبية والجمالية التي تتناهى إلى عقولنا وأذهاننا وذواتنا ونفوسنا.
ليس التمرُّد الأسلوبي هو الوحيد في خطاب مدني صالح الفلسفي؛ فقد كان التمرُّد سمة وجودية في فكره، كان ضد الظلم المجتمعي المتفشي بين الناس، وضد غش السياسيين والمصلحين الاجتماعيين، ناهيك عن موقفه النقدي الجذري من الدعاة. بدا موقفه النقدي من النُّخب المثقَّفة في المجتمع واضحاً؛ فهذه النُّخب هي المسؤولة عن فساد الواقع بسبب فساد سرائرها.
kh madani 3لذلك، كانت حياة مدني صالح نضالاً في وجه الظلم والتعالي والإفساد، في وجه الظالمين والمتعالين على المجتمع والمفسدين فيه، ظهر كأنه (سقراط بغداد) المكافح من أجل حرية الحياة وحرية التفكير بل وحرية العيش الآمن والمسالم، والأهم من ذلك دفاعه الأصيل عن الحقيقة ضد مزيفيها ومنتحليها والمتاجرين بها.
كان أسلوبه السقراطي الحر لا يروق لأدعياء المعرفة في الأوساط الأكاديمية ببغداد الذين كانوا يحصرون المعرفة في زجاجات ويريدون من طلابهم النَّظر إليها من الخارج ليبقوا بعيدين عن التفاعل الحي والخلاق مع الأفكار الفلسفية، ومع معطيات الواقع بكل ما فيه من فساد وظلم واحتقار للمعرفة الحقَّة.
كان مدني قريباً من الوجود، قريباً من صوت الوجود، وفي الوقت نفسه قريباً من الموجود. كان يكافح كل الحُجب التي تمنع الإنسان من إيصال صوته إلى الآخرين. وإذا كان سقراط اليوناني شرب السم ليموت من أجل الحقيقة، فإن مدني صالح ظل يتجرَّع سموم الظلم والفساد واللامعقول لا ليموت إنما ليبقى صوتاً حقيقياً يناكد كل هذه القيم الظلامية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة متألماً على حال وطنه العراق، سعيداً أنه أفنى حياته سقراطياً مدافعاً عن الحقيقة الحقَّة وعن القيم السامية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى