صور ثرية الدلالات تجترح مجموعة شعرية شفيفة للشاعرة ابتسام ابراهيم
بلغة هادئة تمارس غوايتها في الحضور والغياب ، وإيقاع رومانسي يتوغل خلسة في منطقة الشعور، قدمتْ الشاعرة ابتسام إبراهيم مجموعتها الشعرية الأولى ( بعض نبضي) . المجموعة من إصدار الشاعرة الخاص ،حسب رقم الإيداع في دار الوثائق ببغداد (1322) لسنة 2010 . وقد شكلت العتبات النصية أو ما يطلق عليها بالموازيات النصية إحدى المهيمنات الأسلوبية التي لفتت انتباه القارئ إليها ، ففضلا عن صورة الغلاف هناك العنوان الرئيس ، والإهداء ، والمدخل ، والعناوين الفرعية ، واللوحات المصاحبة للقصائد. وسنتناول بعض هذه العتبات والمتن النصي للمجموعة بعيدا عن التنظير الذي أخذ يثقل كاهل الكثير من المقاربات الإجرائية.
العنوان :
تنهض الحمولة السيميائية لعنوان المجموعة (بعض نبضي) على بنيتين متضادتين : الأولى حاضرة (جزء) ، والثانية غائبة (كل) ، إذ يتعالق الحضور الجزئي مع الغياب الكلي ، ليتيح فرصة عميقة لتواجد الـ(أنا) والـ(آخر) في اشتغال يكشف ما كان بوسع الشاعرة أن تنجزه في الراهن ، وتبقي ما لم تنجزه للمستقبل ، وهو يخضع بالتأكيد للتعليق والإرجاء المستمرين . لقد جاءت تركيبة العنوان اللغوية بواقع تعريفي لا تنكيري ( بعض نبضي) خبرا لمبتدأ محذوف يأخذ احتمالات متعددة ، فيأتي على سبيل المثال لا الحصر ( هذا بعض نبضي) أو ( هو بعض نبضي) . كما يمكن أن يأتي خبر (إن) نحو: ( إنك بعض نبضي) أو ( إنه بعض نبضي) أو خبر (كان) نحو: (كان بعض نبضي) ، كما يمكن أن يكون مبتدأ لخير مقدم نحو: ( إليك بعض نبضي) أو ( إليه بعض نبضي) وغيرها من التركيبات المتقاربة ، التي تؤدي فاعلية متشاكلة أيضا . وفي جميع هذه التركيبات يشكل الخبر أو المبتدأ حاضنة لـ(أنوية) الشاعرة بوصفها بؤرة مركزية تفعل حيويتها الشعرية وتفضي دلاليا إلى الإقصاء أو التأجيل لكل ما هو مغيب ، فحضور مفردة ( بعض) لا تسمح برسم صورة لفضاء مفتوح ومطلق ، وهذا ما يقربنا أكثر من تلك الـ(أنوية) ويوطننا فيها . وقد جاءت عنونة المجموعة من عنوان فرعي فرض هيمنته على إحدى القصائد ( بعض نبضي ......ص19 ) الذي أتى بدوره من نسيج شعري في القصيدة ذاتها ، وقد جسد بشكل فعلي التقاط صورة الغياب في كاميرا الحضور ( ما يهمني/ لو تناثر الرماد... من حولي/ وتطايرت أشلاء صبري / وتمزق .../ من تحت ردائي/ بعض نبضي/ لو كانت لحظة أحزاني/ بقربي ....المجموعة ص20))
الإهداء :
إن توصيف هذا الـ(بعض) في العنوان له صلة بنائية وثيقة بـ(الإهداء) الذي عقب العنوان مباشرة : (( إلى من إعطاني الأمل / وعلمني كيف ارسم الكلمات / وفي عتمة أيامي / أضاء شمعة / ... إلى نصفي الآخر (احمد) ....ص 3 ) . فـ(ياء المتكلم) في المفردات التالية ( إعطاني ، علمني، أيامي ، نصفي) قد مثلت الـ(أنا) التي لم تبخل على القارئ وتحرمه من تحديد الـ(أنا) قبل تحديد الأخر (احمد) بشكل صريح ، إذ إنها غامرت في وضع هذه الثنائية في انفتاح مباشر وفوري لخضوع الإهداء إلى منظومة (فعلية) تجانست بحركة أفعالها الماضية ( أعطى ، علم ، أضاء) مما يدل على الأداء الفعلي وتوحده وتكثيفه في بؤرة توازي بؤرة العنوان . فضلا عن مؤازرته (أي الإهداء) لحساسية التلقي وإستراتيجيته من خلال انفتاحه على المتن النصي وتفعيل هذا الدور الذي يتعاضد مع عتبة نصية أخرى لا تقل تشكلا دلاليا من حيث ارتباطها بالعنوان والإهداء والمتن لمنح المتلقي الاطمئنان : بان دخول القارئ بواسطة العتبة النصبة يشكل مرتكزا مهما من مرتكزات كشف الدلالات التي تستجيب لخصوبة الغواية وهي تسعى إلى ممارسة حضورها في حاضنة الغياب . وما هذه العتبة إلا (المدخل) الذي سجلته الشاعرة لصالح القارئ وهي تتبنى مقولة للمفكر الفرنسي ( جان جاك روسو) ، وسنأتي لتحليلها
المدخل:
يبدو إن انفعال الشاعرة كثيرا بهذا الفعل الكتابي قد اضعف شكوك القارئ ، وتخلص من سلطة المراوغة التي تحيل العملية إلى علاقة سرية تهيئ المتخيل الجمالي لاشتغال في منطقة الغموض واللعب بكل ما يضاعف شعرية النص ، وسواء أحسب هذا للشاعرة أم ضدها فإن المعادل الدلالي لنصف المقولة ( المرأة تحيا لتسعد بالحب ) هو المرأة بكل توصيفاتها المطلقة ، والمعادل الدلالي للنصف الثاني من الجملة (الرجل يحب ليسعد بالحياة) هو الرجل بكل توصيفاته المطلقة أيضا . وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي : هل أرادت الشاعرة من هذا المدخل تعميما لا تخصيصا ، أم ماذا ؟ الجواب سيكون بالتأكيد : النفي . إذ إن ارتباط (المدخل) بـ(الإهداء) يكشف لنا بشكل جلي، إن هذه المرأة ما هي إلا (الشاعرة) ، وإن هذا الرجل ما هو إلا (احمد) . وبهذا أزاحت قوة التخصيص بوصفها التجلي (الذاتي) ، ضعف التعميم بوصفه التجلي (الموضوعي) ، وهذا بدوره يعد مفارقة تنهض على التضاد اللغوي والثيمي .
تحليل النصوص :
ضمت المجموعة ثلاثة عشر نصا ، اقترب كل نص في مستواه التعبيري والبنائي من أساس جوهري هيمن عليه وشكل مناطقه الشعرية في تماسه الدائم مع بنية الحضور والغياب . وتطالعنا هذه البنية في أول نص من المجموعة (ألف شيء) . إذ إن يتشكل الحضور من خلال إنوجاد أل(أنا) الشاعرة / الراوي الذي فرض هذا الانوجاد من خلال لازمة قبلية جاءت في صيغة الماضي ( كتبت عنك) ، وقد تكررت هذه اللازمة أربع مرات لتأكيد عملية الكتابة . أما تشكل الغياب فقد تجسد في أل(الآخر) المروي عنه الذي تخفيه ــ في حكايات الحب ، السهر، صخب الحياة، إسرار الطفولة ، ابتهالات الصلاة ، وغيرها ــ هاجسا نصيا يسعى إلى الانوجاد المؤجل. وربما يؤخذ على هذا النص حرص الشاعرة على توظيف ضمير المتكلم المذكر بدلا من ضمير المتكلم المؤنث . ويبدو أن هذا التوظيف قد أربك القصيدة . فلو قالت الشاعرة ( وتحولت أسيرة / على راحتيك/ أسيرة لا تبغي الحياة) لكان التعبير أكثر فاعلية في شحن النص بطاقة ايجابية تؤثث شعريتها بهيمنة البساطة وأناقة المفردة. وتتكرر بنية الحضور والغياب في قصيدة ( الوطن الآمن) وتقع الشاعرة دائرة التخوف التعبيري ثانية فلو قالت( أنثى أنا .. ولست تمثالا) بدلا من (بشر أنا ولست تمثالا ...ص16) أو قالت ( أنثى أنا أكد وأشقى ) بدلا من ( بشر أنا أكد وأشقى....ص17) لكان التخصيص أكثر جدوى في تقديم هذه الثنائية ، وفي تواصل احتمالاتها مع الحضور/ الغياب ، الواقع/ الحلم . كما أنها لو أنثت ضمير المتكلم وقالت غريقة ، ضائعة بدلا من غريق ، ضائع كما في هذا المقطع ( أسعفني / فأنا غريق / في بحور صمتي ر/ ضائع بين أبناء جنسي....ص17) .ويعد نص ( قصيده الخوف) التجلي الفاضح للخوف من ذلك الغياب الذي يقوض بنية الاطمئنان والانتماء إلى مكان أل(آخر) وزمانه للوصول إلى حال التوحد ، وتؤدي اللازمة القبلية ( أخاف ) مستوى عال من التصوير بوصفها إشارة مستمرة للدخول إلى منطقة الكشف ، فخوف الشاعرة في هذا النص لا يتشكل من الغياب المطلق ، وإنما من الغياب النسبي الذي يكون اشد قسوة من الغياب المطلق ، وذلك بفرض الغياب الذي يقوض العلاقة بين الأنوثة والذكورة :(( أخاف على نفسي منك / من شتائك القادم نحوي/ من زمهرير عينيك/ وما خلفهما من إسرار ...ص23)) وهنا يتحايث الأنثوي بالشعري فتعمد الشاعرة إلى فتنة التعبير اللغوي لتشير إلى ضالة ايريوتيكية بوصفها إشباعا روحيا / جسديا . فالحب بالنسبة للمرأة / الشاعرة ليس فكرة افتراضية أو مجرد خلفية يمكن أن تسير الحياة على احتمال احتوائها ، إنما هو الفاصل الطوباوي الأجمل من حياة واقعية مديدة وشرط وجود ، أو هو كل حياة المرأة حسب إحدى مقولات مدام دي ستايل . وهذا ما دعا الشاعرة ابتسام إلى وضع مقولة جان جاك روسو ( المرأة تحيا لتسعد بالحب/ والرجل يحب ليسعد بالحياة) مدخلا للمجموعة . ويستمر خوف الشاعرة على إضلاعها من وطأة الأصابع الحجرية حين تترك ثغورا في جسدها ، وتخاف من الصمت حين يطرق أبوابها ، وتخاف من (الآخر) لأنه من زمن آخر ، وقدر آخر ، وتخاف وتخاف وتخاف...... إلا إن كل تخوفاتها لا تثنيها عن اختبار مساحة الاشتغال خارج مركز أل(أنا) لهذه المرأة ، محصورة بين ( منك) و (إليك) في هروب استثنائي تفرضه اشتراطات الحب التي تموت دونها كما اشرنا إليها قبل قليل ( أخاف دوما منك / لذا أنا اهرب منك إليك ....ص26 ) . ومما يزيد في لوعة الأنثوي / الشعري هو الارتضاء بأقل ما يمكن تحقيقه من الأنوثة في التعبير الشعري ، وهذا يتأتى في شكل أل(حضور) لما نتوقعه من الشاعرة في نص( ابتسم لي ) ، ليس بسبب اجترارها وتكرارها لصور الحضور / الغياب وإنما للتواصل مع الحلم الأنثوي والانتماء الجسدي الذي شكل تمركزا (أنويا) على مستوى الاشتغال الشعري في المجموعة بأسرها . ومن هنا تفرض الشاعرة ذاتها لتتجه إلى (الآخر) الذي ظل يمارس سطوة الغياب بأفعال (أمر) تخرج في مدلولاتها البلاغية إلى فضاء الالتماس ( ابتسم ، اخترق ، ترنم) . وتتأكد هذه الأفعال الشعرية في نص ( ساعة صفا) فبعد أن فقدت رجاءها في الوصول إلى الأمل (الآخر) تركت القصائد تستريح ووفرت على نفسها شقاء الانتظار . ومع اشتداد اليأس أعتقت الأقلام وفكت أغلال الورق لتعلن واقعيتها بعيدا عن المتخيل الشعري ، إذ إنها أيقنت أن كل وحي من الشعر هو مجرد ظنون وشكوك وانتحار . لهذا فهي تصف نفسها بأنها ( ما كان ينبغي لي / الوقوف/ على حافة البقاء / ما كان يجدر بي / البقاء .../ بعد أن غادرتني القصائد...ص39)) إلا إن القلق ظل يراود أل(أنا) المركونة في الأوراق ويمارس فعله في استفزازات تنهض على الافتراض والوهم فترسم الشاعرة نفسها في تلك الأوراق في نص ( وجهك الآخر) وتنشطر قصائدها وتضيء الأنوار لوجه يشاطرها الانوجاد في الأوراق والانوجاد في الأعماق . ويبدو ولع الشاعرة باللازمة القبلية قد دعاها إلى تكرار اللازمة القبلية ( لوجهك) . وتظل الشاعرة ابتسام تعيش التركيز ثم الوحدة وهي تقبض على جمرة الصورة البصرية في محاكاة الغياب بحثا عن الآخر عند المساء ، وهذا (المساء) إشارة سيميائية طاغية ومهيمنة ، تتوجه إلى واقع مأزوم يمظهر جموحها الشخصاني ، ويدفعه إلى إتاحة فرصة يتبادل فيها احتمال الحضور مع احتمال الغياب في سرد توجته أل(أنا) الساردة في تشعيرها ، والاستجابة لذلك المؤشر الشعري الذي ارتبط ابتكارا وليس اجترارا بلازمة قبلية جديدة حددت حافة الزمن وانطلقت منها متوخية إيصال المناورات الجسدية فيها بانكسار ظل مرتسما في المتن النصي ( الحلم) : (( عند المساء/ وقبل أن يشاركني القلق .. فراشي/ افتح حقيبتي / أقلبها أبحث فيها .. عن حلم / لا يغادر إطلاله الصباح ....ص46)).
إذ إن رغبة الانفلات من الواقع إلى الحلم تنهض على اجتياح الجسد ووجع الروح ، وإذا كانت في قصيدة ( حقيبة المساء ) تبحث عن الحلم المفقود ، فإنها في قصيدة ( شيء من أحلام اليقظة) تعمل على دفن الأحلام وفي توقيت زمني ثابت ( المساء) : (( ذات مساء / دفنت أحلامي / في مقبرة الضياع/ سقيتها .. من دموع القصائد/ فأورقت أشجارا / وإزهارا نرجسية / تحت فيئها / تبدد الانصياع ...ص 50) .والشاعرة / الأنثى بعد أن يتبدد انصياعها لنداءات أحلامها تعلن عن كبريائها الذي ظل محصورا تحت رماد الكلمات ، ففي أول نفخة في ذلك الرماد سيتقد الجمر. وكررت الشاعرة في نص ( طلب مقبول ) حضور ضمير المتكلم الذكري ، وغياب ضمير المتكلم الأنثوي ، مما أدى إلى إرباك التراكيب بتشكيلاتها الصحيحة : ( طلب مني أن أحبه / دون أن يدري بأني / في بحر هواه غريق / واني... ما عدت / ذاك الطير الطليق / وأني .. في وجوه الرجال / متحف مغلق / وعلى بوابتي يتسجى طيفه / كالحارس....ص55)) . وتتوحد النصوص الثلاثة الأخيرة ( ليس مهما ، قاتل بلا اجر ، لا تغادر) في ثنائية الوصل / الفصل التي جعلت التماهي بكل تفاصيله مهددا بالانفصال ، إذ ينفضح ما هو مرتب بالاستتار ، ويتعرض إلى تهديد (الوداع) ، ومثل هذا الغياب لا يتأتى إلا بعد الفقد الطاغي للـ(آخر) مقابل الضخ الوجودي لكل ما يسهم في تشكيل أل(أنا) الشاعرة ، فتقول الشاعرة مع التزامها بلازمة قبلية لها فاعلية التأكيد ذاتها ، وذات صلة عميقة بهذا الانفصال (( ليس مهما / بعدما تودعني / ماذا تترك لي ؟...57)) و (( ليس مهما .. بعدما تغادر / لو طاردني الخوف مرة / والجوع مرة/ بعد غيابك / ماذا افعل باشيائي...ص58)) و((ليس مهما / بعد رحيلك البكاء...ص59 )) وهكذا بقية المقاطع.
إن الـ(أنا) الشعرية التي تجسدت في ضخ وتداخل التجربة الخاصة بالتجربة العامة قد تعالت على خصوصيتها من خلال الارتقاء بها إلى مستوى الانفصال (التخصيص) ، لا الاتصال (التعميم) . فالنصوص جاءت بضمير المتكلم / الشاعرة على المستويين اللغوي والتصويري . وهذا التحول من الداخل إلى الخارج منح القصائد طاقة الفعل الشعري والانجاز الأكثر قابلية وقدرة على التفاعل.
بلغة هادئة تمارس غوايتها في الحضور والغياب ، وإيقاع رومانسي يتوغل خلسة في منطقة الشعور، قدمتْ الشاعرة ابتسام إبراهيم مجموعتها الشعرية الأولى ( بعض نبضي) . المجموعة من إصدار الشاعرة الخاص ،حسب رقم الإيداع في دار الوثائق ببغداد (1322) لسنة 2010 . وقد شكلت العتبات النصية أو ما يطلق عليها بالموازيات النصية إحدى المهيمنات الأسلوبية التي لفتت انتباه القارئ إليها ، ففضلا عن صورة الغلاف هناك العنوان الرئيس ، والإهداء ، والمدخل ، والعناوين الفرعية ، واللوحات المصاحبة للقصائد. وسنتناول بعض هذه العتبات والمتن النصي للمجموعة بعيدا عن التنظير الذي أخذ يثقل كاهل الكثير من المقاربات الإجرائية.
العنوان :
تنهض الحمولة السيميائية لعنوان المجموعة (بعض نبضي) على بنيتين متضادتين : الأولى حاضرة (جزء) ، والثانية غائبة (كل) ، إذ يتعالق الحضور الجزئي مع الغياب الكلي ، ليتيح فرصة عميقة لتواجد الـ(أنا) والـ(آخر) في اشتغال يكشف ما كان بوسع الشاعرة أن تنجزه في الراهن ، وتبقي ما لم تنجزه للمستقبل ، وهو يخضع بالتأكيد للتعليق والإرجاء المستمرين . لقد جاءت تركيبة العنوان اللغوية بواقع تعريفي لا تنكيري ( بعض نبضي) خبرا لمبتدأ محذوف يأخذ احتمالات متعددة ، فيأتي على سبيل المثال لا الحصر ( هذا بعض نبضي) أو ( هو بعض نبضي) . كما يمكن أن يأتي خبر (إن) نحو: ( إنك بعض نبضي) أو ( إنه بعض نبضي) أو خبر (كان) نحو: (كان بعض نبضي) ، كما يمكن أن يكون مبتدأ لخير مقدم نحو: ( إليك بعض نبضي) أو ( إليه بعض نبضي) وغيرها من التركيبات المتقاربة ، التي تؤدي فاعلية متشاكلة أيضا . وفي جميع هذه التركيبات يشكل الخبر أو المبتدأ حاضنة لـ(أنوية) الشاعرة بوصفها بؤرة مركزية تفعل حيويتها الشعرية وتفضي دلاليا إلى الإقصاء أو التأجيل لكل ما هو مغيب ، فحضور مفردة ( بعض) لا تسمح برسم صورة لفضاء مفتوح ومطلق ، وهذا ما يقربنا أكثر من تلك الـ(أنوية) ويوطننا فيها . وقد جاءت عنونة المجموعة من عنوان فرعي فرض هيمنته على إحدى القصائد ( بعض نبضي ......ص19 ) الذي أتى بدوره من نسيج شعري في القصيدة ذاتها ، وقد جسد بشكل فعلي التقاط صورة الغياب في كاميرا الحضور ( ما يهمني/ لو تناثر الرماد... من حولي/ وتطايرت أشلاء صبري / وتمزق .../ من تحت ردائي/ بعض نبضي/ لو كانت لحظة أحزاني/ بقربي ....المجموعة ص20))
الإهداء :
إن توصيف هذا الـ(بعض) في العنوان له صلة بنائية وثيقة بـ(الإهداء) الذي عقب العنوان مباشرة : (( إلى من إعطاني الأمل / وعلمني كيف ارسم الكلمات / وفي عتمة أيامي / أضاء شمعة / ... إلى نصفي الآخر (احمد) ....ص 3 ) . فـ(ياء المتكلم) في المفردات التالية ( إعطاني ، علمني، أيامي ، نصفي) قد مثلت الـ(أنا) التي لم تبخل على القارئ وتحرمه من تحديد الـ(أنا) قبل تحديد الأخر (احمد) بشكل صريح ، إذ إنها غامرت في وضع هذه الثنائية في انفتاح مباشر وفوري لخضوع الإهداء إلى منظومة (فعلية) تجانست بحركة أفعالها الماضية ( أعطى ، علم ، أضاء) مما يدل على الأداء الفعلي وتوحده وتكثيفه في بؤرة توازي بؤرة العنوان . فضلا عن مؤازرته (أي الإهداء) لحساسية التلقي وإستراتيجيته من خلال انفتاحه على المتن النصي وتفعيل هذا الدور الذي يتعاضد مع عتبة نصية أخرى لا تقل تشكلا دلاليا من حيث ارتباطها بالعنوان والإهداء والمتن لمنح المتلقي الاطمئنان : بان دخول القارئ بواسطة العتبة النصبة يشكل مرتكزا مهما من مرتكزات كشف الدلالات التي تستجيب لخصوبة الغواية وهي تسعى إلى ممارسة حضورها في حاضنة الغياب . وما هذه العتبة إلا (المدخل) الذي سجلته الشاعرة لصالح القارئ وهي تتبنى مقولة للمفكر الفرنسي ( جان جاك روسو) ، وسنأتي لتحليلها
المدخل:
يبدو إن انفعال الشاعرة كثيرا بهذا الفعل الكتابي قد اضعف شكوك القارئ ، وتخلص من سلطة المراوغة التي تحيل العملية إلى علاقة سرية تهيئ المتخيل الجمالي لاشتغال في منطقة الغموض واللعب بكل ما يضاعف شعرية النص ، وسواء أحسب هذا للشاعرة أم ضدها فإن المعادل الدلالي لنصف المقولة ( المرأة تحيا لتسعد بالحب ) هو المرأة بكل توصيفاتها المطلقة ، والمعادل الدلالي للنصف الثاني من الجملة (الرجل يحب ليسعد بالحياة) هو الرجل بكل توصيفاته المطلقة أيضا . وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي : هل أرادت الشاعرة من هذا المدخل تعميما لا تخصيصا ، أم ماذا ؟ الجواب سيكون بالتأكيد : النفي . إذ إن ارتباط (المدخل) بـ(الإهداء) يكشف لنا بشكل جلي، إن هذه المرأة ما هي إلا (الشاعرة) ، وإن هذا الرجل ما هو إلا (احمد) . وبهذا أزاحت قوة التخصيص بوصفها التجلي (الذاتي) ، ضعف التعميم بوصفه التجلي (الموضوعي) ، وهذا بدوره يعد مفارقة تنهض على التضاد اللغوي والثيمي .
تحليل النصوص :
ضمت المجموعة ثلاثة عشر نصا ، اقترب كل نص في مستواه التعبيري والبنائي من أساس جوهري هيمن عليه وشكل مناطقه الشعرية في تماسه الدائم مع بنية الحضور والغياب . وتطالعنا هذه البنية في أول نص من المجموعة (ألف شيء) . إذ إن يتشكل الحضور من خلال إنوجاد أل(أنا) الشاعرة / الراوي الذي فرض هذا الانوجاد من خلال لازمة قبلية جاءت في صيغة الماضي ( كتبت عنك) ، وقد تكررت هذه اللازمة أربع مرات لتأكيد عملية الكتابة . أما تشكل الغياب فقد تجسد في أل(الآخر) المروي عنه الذي تخفيه ــ في حكايات الحب ، السهر، صخب الحياة، إسرار الطفولة ، ابتهالات الصلاة ، وغيرها ــ هاجسا نصيا يسعى إلى الانوجاد المؤجل. وربما يؤخذ على هذا النص حرص الشاعرة على توظيف ضمير المتكلم المذكر بدلا من ضمير المتكلم المؤنث . ويبدو أن هذا التوظيف قد أربك القصيدة . فلو قالت الشاعرة ( وتحولت أسيرة / على راحتيك/ أسيرة لا تبغي الحياة) لكان التعبير أكثر فاعلية في شحن النص بطاقة ايجابية تؤثث شعريتها بهيمنة البساطة وأناقة المفردة. وتتكرر بنية الحضور والغياب في قصيدة ( الوطن الآمن) وتقع الشاعرة دائرة التخوف التعبيري ثانية فلو قالت( أنثى أنا .. ولست تمثالا) بدلا من (بشر أنا ولست تمثالا ...ص16) أو قالت ( أنثى أنا أكد وأشقى ) بدلا من ( بشر أنا أكد وأشقى....ص17) لكان التخصيص أكثر جدوى في تقديم هذه الثنائية ، وفي تواصل احتمالاتها مع الحضور/ الغياب ، الواقع/ الحلم . كما أنها لو أنثت ضمير المتكلم وقالت غريقة ، ضائعة بدلا من غريق ، ضائع كما في هذا المقطع ( أسعفني / فأنا غريق / في بحور صمتي ر/ ضائع بين أبناء جنسي....ص17) .ويعد نص ( قصيده الخوف) التجلي الفاضح للخوف من ذلك الغياب الذي يقوض بنية الاطمئنان والانتماء إلى مكان أل(آخر) وزمانه للوصول إلى حال التوحد ، وتؤدي اللازمة القبلية ( أخاف ) مستوى عال من التصوير بوصفها إشارة مستمرة للدخول إلى منطقة الكشف ، فخوف الشاعرة في هذا النص لا يتشكل من الغياب المطلق ، وإنما من الغياب النسبي الذي يكون اشد قسوة من الغياب المطلق ، وذلك بفرض الغياب الذي يقوض العلاقة بين الأنوثة والذكورة :(( أخاف على نفسي منك / من شتائك القادم نحوي/ من زمهرير عينيك/ وما خلفهما من إسرار ...ص23)) وهنا يتحايث الأنثوي بالشعري فتعمد الشاعرة إلى فتنة التعبير اللغوي لتشير إلى ضالة ايريوتيكية بوصفها إشباعا روحيا / جسديا . فالحب بالنسبة للمرأة / الشاعرة ليس فكرة افتراضية أو مجرد خلفية يمكن أن تسير الحياة على احتمال احتوائها ، إنما هو الفاصل الطوباوي الأجمل من حياة واقعية مديدة وشرط وجود ، أو هو كل حياة المرأة حسب إحدى مقولات مدام دي ستايل . وهذا ما دعا الشاعرة ابتسام إلى وضع مقولة جان جاك روسو ( المرأة تحيا لتسعد بالحب/ والرجل يحب ليسعد بالحياة) مدخلا للمجموعة . ويستمر خوف الشاعرة على إضلاعها من وطأة الأصابع الحجرية حين تترك ثغورا في جسدها ، وتخاف من الصمت حين يطرق أبوابها ، وتخاف من (الآخر) لأنه من زمن آخر ، وقدر آخر ، وتخاف وتخاف وتخاف...... إلا إن كل تخوفاتها لا تثنيها عن اختبار مساحة الاشتغال خارج مركز أل(أنا) لهذه المرأة ، محصورة بين ( منك) و (إليك) في هروب استثنائي تفرضه اشتراطات الحب التي تموت دونها كما اشرنا إليها قبل قليل ( أخاف دوما منك / لذا أنا اهرب منك إليك ....ص26 ) . ومما يزيد في لوعة الأنثوي / الشعري هو الارتضاء بأقل ما يمكن تحقيقه من الأنوثة في التعبير الشعري ، وهذا يتأتى في شكل أل(حضور) لما نتوقعه من الشاعرة في نص( ابتسم لي ) ، ليس بسبب اجترارها وتكرارها لصور الحضور / الغياب وإنما للتواصل مع الحلم الأنثوي والانتماء الجسدي الذي شكل تمركزا (أنويا) على مستوى الاشتغال الشعري في المجموعة بأسرها . ومن هنا تفرض الشاعرة ذاتها لتتجه إلى (الآخر) الذي ظل يمارس سطوة الغياب بأفعال (أمر) تخرج في مدلولاتها البلاغية إلى فضاء الالتماس ( ابتسم ، اخترق ، ترنم) . وتتأكد هذه الأفعال الشعرية في نص ( ساعة صفا) فبعد أن فقدت رجاءها في الوصول إلى الأمل (الآخر) تركت القصائد تستريح ووفرت على نفسها شقاء الانتظار . ومع اشتداد اليأس أعتقت الأقلام وفكت أغلال الورق لتعلن واقعيتها بعيدا عن المتخيل الشعري ، إذ إنها أيقنت أن كل وحي من الشعر هو مجرد ظنون وشكوك وانتحار . لهذا فهي تصف نفسها بأنها ( ما كان ينبغي لي / الوقوف/ على حافة البقاء / ما كان يجدر بي / البقاء .../ بعد أن غادرتني القصائد...ص39)) إلا إن القلق ظل يراود أل(أنا) المركونة في الأوراق ويمارس فعله في استفزازات تنهض على الافتراض والوهم فترسم الشاعرة نفسها في تلك الأوراق في نص ( وجهك الآخر) وتنشطر قصائدها وتضيء الأنوار لوجه يشاطرها الانوجاد في الأوراق والانوجاد في الأعماق . ويبدو ولع الشاعرة باللازمة القبلية قد دعاها إلى تكرار اللازمة القبلية ( لوجهك) . وتظل الشاعرة ابتسام تعيش التركيز ثم الوحدة وهي تقبض على جمرة الصورة البصرية في محاكاة الغياب بحثا عن الآخر عند المساء ، وهذا (المساء) إشارة سيميائية طاغية ومهيمنة ، تتوجه إلى واقع مأزوم يمظهر جموحها الشخصاني ، ويدفعه إلى إتاحة فرصة يتبادل فيها احتمال الحضور مع احتمال الغياب في سرد توجته أل(أنا) الساردة في تشعيرها ، والاستجابة لذلك المؤشر الشعري الذي ارتبط ابتكارا وليس اجترارا بلازمة قبلية جديدة حددت حافة الزمن وانطلقت منها متوخية إيصال المناورات الجسدية فيها بانكسار ظل مرتسما في المتن النصي ( الحلم) : (( عند المساء/ وقبل أن يشاركني القلق .. فراشي/ افتح حقيبتي / أقلبها أبحث فيها .. عن حلم / لا يغادر إطلاله الصباح ....ص46)).
إذ إن رغبة الانفلات من الواقع إلى الحلم تنهض على اجتياح الجسد ووجع الروح ، وإذا كانت في قصيدة ( حقيبة المساء ) تبحث عن الحلم المفقود ، فإنها في قصيدة ( شيء من أحلام اليقظة) تعمل على دفن الأحلام وفي توقيت زمني ثابت ( المساء) : (( ذات مساء / دفنت أحلامي / في مقبرة الضياع/ سقيتها .. من دموع القصائد/ فأورقت أشجارا / وإزهارا نرجسية / تحت فيئها / تبدد الانصياع ...ص 50) .والشاعرة / الأنثى بعد أن يتبدد انصياعها لنداءات أحلامها تعلن عن كبريائها الذي ظل محصورا تحت رماد الكلمات ، ففي أول نفخة في ذلك الرماد سيتقد الجمر. وكررت الشاعرة في نص ( طلب مقبول ) حضور ضمير المتكلم الذكري ، وغياب ضمير المتكلم الأنثوي ، مما أدى إلى إرباك التراكيب بتشكيلاتها الصحيحة : ( طلب مني أن أحبه / دون أن يدري بأني / في بحر هواه غريق / واني... ما عدت / ذاك الطير الطليق / وأني .. في وجوه الرجال / متحف مغلق / وعلى بوابتي يتسجى طيفه / كالحارس....ص55)) . وتتوحد النصوص الثلاثة الأخيرة ( ليس مهما ، قاتل بلا اجر ، لا تغادر) في ثنائية الوصل / الفصل التي جعلت التماهي بكل تفاصيله مهددا بالانفصال ، إذ ينفضح ما هو مرتب بالاستتار ، ويتعرض إلى تهديد (الوداع) ، ومثل هذا الغياب لا يتأتى إلا بعد الفقد الطاغي للـ(آخر) مقابل الضخ الوجودي لكل ما يسهم في تشكيل أل(أنا) الشاعرة ، فتقول الشاعرة مع التزامها بلازمة قبلية لها فاعلية التأكيد ذاتها ، وذات صلة عميقة بهذا الانفصال (( ليس مهما / بعدما تودعني / ماذا تترك لي ؟...57)) و (( ليس مهما .. بعدما تغادر / لو طاردني الخوف مرة / والجوع مرة/ بعد غيابك / ماذا افعل باشيائي...ص58)) و((ليس مهما / بعد رحيلك البكاء...ص59 )) وهكذا بقية المقاطع.
إن الـ(أنا) الشعرية التي تجسدت في ضخ وتداخل التجربة الخاصة بالتجربة العامة قد تعالت على خصوصيتها من خلال الارتقاء بها إلى مستوى الانفصال (التخصيص) ، لا الاتصال (التعميم) . فالنصوص جاءت بضمير المتكلم / الشاعرة على المستويين اللغوي والتصويري . وهذا التحول من الداخل إلى الخارج منح القصائد طاقة الفعل الشعري والانجاز الأكثر قابلية وقدرة على التفاعل.