لو افترضنا النهاية الوشيكة للعالم، والاندثار الكارثي للحياة الأرضية – كما يحدث دوما في الأفلام-، ثم افترضنا أيضا أن رجلا واحدا فقط قد افلت من هذا الدمار لكل شيء (كما هي حال جماعة الغرباء المتوحشين الآسفين على مآل الحياة الدنيا الذي في رواية جول فيرن الأخيرة "آدم الأبدي")... في ماذا يمكن أن يفكر هؤلاء الرجال؟ وهل ستكون أفكارهم شبيهة بنفسها قبل إبادة العالم؟ على هذه المواضعة التخييلية يبني الفيلسوف هوبز مشروعه الفلسفي الكبير " في دي كوربوري أو رسالة في الجسد".
يبدو لنا هذا المثال نموذجيا لتجارب الفكر والتفلسف التي يستخدمها الفلاسفة أحيانًا والتي هي ذات جوهر تخييلي. والمسار ثري جدا من القصص الرمزية لدى القدامى ومعلمي الملوك إلى التآليف الأفلاطونية التي هي تجارب حدية هامة جدا إلى درجة أننا نضيع في كثير من الأحيان قبالة السؤال: هل نحن مع قصة ام مع عرض فلسفي؟
والسؤال الفلسفي/الأدبي الملح هنا هو التالي: ألم يقد تأمل النصوص الأدبية أفلاطون أولا ثم أرسطو من بعده إلى كتابة أجمل كتابيهما الفلسفيين؟
أما السؤال الأدبي/ الفلسفي المطروح فهو: ما الذي كان الشعراء يخطونه على أسوار الجمهورية التي تم إقصاؤهم منها؟... ماذا كانت تلك المعلقات ستقول لنا لو أنها بقيت ووصلتنا؟
هنالك طريقتان مألوفتان للتعامل مع الإشكالية العتيقة لعلاقة الفلسفة بالأدب: الأولى هي في محاولة إيجاد أبعاد "أخلاقية" أو "تأملية" يقدمها الأدب والشعر والرومانسية، أبعاد تكسر التهمة الأفلاطونية القديمة للشعراء بأنهم يتلاعبون بالعواطف بشكل حقير، دافعين الناس في اتجاه خطير على العالم "الجمهورية" هو الغرق في التفاعل العاطفي مع أشياء الحياة بدلا من إعمال معاول الحكمة .
الاتجاه الثاني يركز عموما على العلاقة بين الفلسفة والشعر والتجارب الداخلية للإنسان؛ بدءا من تجربة العلاقة "الصوفية" بين اللغة والتفكير، وانتهاء إلى آلاف الملاحظات التي أبداها المشتغلون على الخطاب حول طريقتنا الخاصة جدا في التفاعل مع الأشكال المعقدة لتراتب الكلمات في الجمل وفي الحياة من أجل تشكيل نص ما، نص يبلغ درجة من التركيب تجعلنا أحيانا نفكر بان الشعر أقرب إلى التجربة الصوفية منه إلى التداول الأدبي الجمالي.
إذا عكسنا اتجاه المرايا التأملية في هذه القضية سنجد أن الفلسفة غالبا ما تولع بالشعر كما رأينا عند مارتن هايديغير وغاسطون باشلار اللذين يبدو في مراحل متأخرة من عمرهما أن الشعر قد استحوذ لديهما على كل موضوع فلسفي آخر...ولنا أن نتصورهما حسب ترسيمة الشعراء الواقفين أمام اسوار جمهورية افلاطون بمثابة سكان الجمهورية القلقين الذي لا يفتأون يطلون من أعلى الاسوار ملوحين للشعراء في الأسفل تلويحة تشير بفصاحة فلسفية إلى أن خللا ما قد حدث بطردهم من الجمهورية.
في عودة سريعة سنجد بأن اثر افلاطون كان سلبيا على سمعة الشعراء في البيت الفلسفي، وما تخلف عن افلاطون يكون القران الكريم – في الدائرة العربية على الأقل- قد أكمله من خلال آيات مشهورة اكثر مما هي مفهومة. " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[" (سورة "الشعراء":224-226). كلمات قليلة بمفعول قوي جدا. الشعراء أعداء الحكمة.
الرأي الأفلاطوني جاء في الواقع مما لاحظه أفلاطون من الدور الضار الذي لعبه الشعراء – وخاصة هوميروس والمسرحيون الكبار في العصر الإغريقي- فيما يتعلق بالجمهور البسيط ؛ فقد ساعدوا في تحفيزه العاطفي – كما أسلفنا- بدلاً من جعله يفكر ، للتأثير على الرأي العام ، لجعل الناس غير المطلعين يعتقدون أنهم يعرفون شيئًا ما. الشعر بهذا الشكل يصبح عدوا للتفكير، أو يصبح على الأقل غير منتبه إلى جوهر الغياب التراجيدي للتفكير. وهذا الرأي هو نفسه الذي ستبني ضده الفيلسوفة مارتا نوسباوم عملها كله.
لا يمكن تحديد حجم الشقاق الذي تركته آراء أفلاطون في الأجيال المتتالية من فتنة وتأزم في العلاقة بين الشعراء والفلاسفة. الصدمة الناجمة عن هذه الإدانة للشعراء من خلال حقيقة أن الأدب قد تخلى عن الأمل في امتلاك أي بعد فلسفي قد أدت إلى فقدان الأمل في أن يجتمع هذان الكائنان اللذان هما من شجرة واحدة؛ وذلك رغم كثرة الأمثلة التي تقول عكس هذا، ففي روح كل فيلسوف كبير شاعر يخفي كراساته، وداخل كل شاعر عظيم فيلسوف يخشى قول ما لدية بالشكل المعهود في الفلسفة. ويأتي بعد ذلك تاريخ طويل من الأدباء الفلاسفة أو من الفلاسفة الأدباء لكي يبرهن على جريمة أفلاطون في حق الفريقين... بارمنيدس ، المعري، السهروردي، مونتين، مالهيرب، فولتير، ديدرو، نيتشه، سارتر، راسكن، ... بل إننا لن نمر بلا مبالاة باصحاب الشعر الذي هو في مجمله شعر فلسفي كدانتي اليغييري ، أو درايدن، جون ميلتون ، ألفريد دي فينيي ، فيكتور هيغو، مالارمي، بول فاليري، بيار إيمانويل، إيف بونفوا، هولدرلين ، جوته ، ريلك، وغيرهم كثيرون....
من أعلى نقطة في قرننا الصاخب هذا، يمكننا أن نستقصي مسيرة كل النصوص المذكورة والتي ستقودنا بالضرورة إلى تجارب الفكر التي طورها الفلاسفة المعاصرون ، وفي كل هذا تظل الحقيقة ثابتة مفادها أن الخطاب الفلسفي يعبره الخيال ويتقاطع معه بأريحية كبيرة. ولكن ما هو وضع هذه الروايات أو هذه الأشعار والنصوص باطيافها العديدة؟ ما نظام عملها فينا؟ كيف ينبغي للمرء قراءتها؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة أكثر جدارة من البلاغة بالنظر في المحمول الحقيقي لهذه النصوص الأدبية (ومن خلفها أختها الصغرى الشبيهة بها: الأفلام السنمائية)؟
ماذا تفعل تلك الأرواح الخفية التي تساءلت دائمًا عن الروايات والأفلام الجيدة وجدواها وعملها؟
إجابة فلسفية بطابع شعري ستكون:
إنها طريقتنا في تذوق العالم، ومنظومتنا الدقيقة في رسم حدود أذواقنا و معالم أحكامنا على العالم.
ماذا نفعل حينما نتفرج على فلم يصور معاناة عائلة صينية؟ لماذا ترانا نسافر إلى الصين لمدة ساعتين، ونفرح بحصولنا على الجنسية الصينية التي لم نفكر فيها يوما؟..وذلك أمر إشكالي في الواقع: ألا تعرف شيئا عن وجدان خمُس سكان الأرض؟ ثم ألا تعرف بأن ذلك يطرح مشكلة حقيقية؟
تتواصل الأسئلة: لماذا نولع برواية لياسوناري كاواباطا؟ ماذا أستفيد شخصيا من رواية "زمبازورو"؟ عشرات الصفحات تصف طريقة تحضير الشاي (أو الساكي) ...هل هي ضرورية لكي أعيش عيشا سويا؟
الإجابة الفلسفية الخالية من الطابع الشعري ستكون:
ليست ضرورية للعيش، ولكنها ضرورية للحياة. ضرورية إذا كان ما تريده هو أن تحيا حياة سوية. (ملاحظة هامة: وحدها الحيوانات يمكنها تحديد ضروراتها بشكل مسبق ونهائي؛ أما الضرورات الإنسانية فتتغير وتتبدل وتنمو بمرور الأيام والسنين).
وهو يتحدث عن فلمه عن "الأبارتيد" قال الممثل الأميركي مورغان فريمان: الأميركي ليس مستعدا لدفع ثمانية دولارات لكي يدخل ويتفرج لمدة ساعتين على ما فعله البيض بالسود في جنوب إفريقيا...الأمر لا يهمه. وهو إذا دخل السنما يريد أن يسافر ويتمتع ويقضي وقتا مريحا، ولا يريد أبدا أن يشعر بالذنب بسبب العنت الموجود في العالم.
هنالك أسئلة كثيرة نطرحها على أنفسنا، اليوم، ونحن نعاني فرادى من شرور لا تسلط على الأفراد أبدا، وإنما تسلط علينا جماعيا...وهذا ما يحتاج الإنسان إلى فهمه جيدا.
والغالب هو أننا مولعون بأن نتحدث دائما عن الإنسانية، ولكننا لا نريد إن ننظر في عيني أي إنسان على الإطلاق. الإنسانية مفهوم مريح وبلا تبعات.
تميل الفيلسوفة الأميريكية مارتا نوسباوم Martha Nussbaum إلى اعتبار التربية الخيالية ( من خلال تعليم الإنسان التفكير من خلال القصص والروايات والأفلام والأمثولات) تنمي مقدرة الإنسان على تفهم الغير، على التعاطف، على الاستعداد للتواصل الذي هو مرحلة عقلية تتجاوز تماما التقبل، ذلك الفعل التنويري "الغربمركزي" الذي لا يضحي ابدا بوضعية التعالي على الغير التي تعود عليها.
يبدو - حسب الفيلسوفة التي اهتمت كثيرا بالتطورات الأخيرة في ميدان علم الأعصاب، وصلاته بالتمثل وعمليات الوعي، بتحديد فعل العاطفة، وبالجوانب الشعورية التي كانت دراستها سلوكية بعدية فيما مضى- ان التدريب على الخيال من خلال إلباس المعرفة رداء الخيال، وربط المعارف الذهنية بالحالات والأشخاص، وبالصور الحياتية المباشرة، أي ربط "المفهومي" بالـ"عاطفي"، والفكري بالفعلي، والتدليلي بالتمثيلي، يغير طريقتنا في الوعي بالأشياء، ويطور مقدرتنا على الخروج من ذواتنا والدخول في ذوات اخرى... مسار قد يجعلنا نتفلسف بشكل مختلف فنروي حكايات مختلفة بالضرورة...أو ربما يحدث العكس أو الشيء نفسه حسب مسار مختلف فنروي حكايات أخرى تجعلنا نتفلسف بشكل مختلف جذريا).
يصبح استخدام التعاطف الخيالي بهذا الشكل واحدا من الأدوات اللازمة للعيش في الحياة العالمية، والحياة الإنسانية. و تدافع مارتا نوسباوم في كتابيها "La connaissance de l'amour : Essais sur la philosophie et la littérature"، وخاصة كتابها "Les émotions démocratiques : Comment former le citoyen du XXIe siècle ?"، بأناقة ودقة وعمق عن كون الرواية (والأدب عموما)، ومن خلال إشراكنا في التعاطف مع حياة مختلفة عن حياتنا ، توسع من قدراتنا الخلاقة، لذا يمكننا أن نجعل تلك المواقف والأحكام التي تستدعيها الحياة العامة أيسر وأفضل حالا، وأكثر فعالية، فضلا عن جعلنا لها في خدمة نفسية "عالمية" منفتحة، طاردة للحدة وللانكماش على الذات والتقوقع على الجماعة الإثنية.
العجيب في امرها أنها لا تتكئ على علم الأعصاب وفينومينولوجيا الإدراك فحسب، بل تتكئ على ميراث فلسفي نعرفه، ولكننا- حسبما تقوله هي- نعرفه بشكل خاطئ؛ فهي تستدعي أرسطو ، والرواقيين، وهوبز أيضا، و كذا آدم سميث ، وغيرهم. ثم هي تحاور المدونة الأدبية ببراعة كبيرة، وبفعالية في التحليل لا يشق لها غبار، بل وتتعداها إلى دراسة القيم والمواقف المنبعثة من تعابير مألوفة في العالم الأدبي، وكل ذلك بأسلوب متراوح بين الحساسية الأكاديمية والعبارة الساحرة (فلسفة حينا وأدب حينا آخر) كاشفة عما أسميناه في العنوان بسياسات الخطاب الادبي.
يمكننا في ظل مشروع أخلاقي مثل هذا أن نتوقع إنسانا مستقبليا أقل حدة، ونتوقع ذوبان العناوين الإقصائية التي تملأ الصحف بمشاريع "الحقد" السائر في طريق النمو. فاللغة التي نستعملها هي التي تستعملنا كما علمنا الفلاسفة التحليليون، ونحن نقول الكلمة لا نلقي لها بالا فإذا بنا قد شرعنا في التبني الخطير لمشروع سياسي قد ندفع ثمنه غاليا بعد مدة... وفي كثير من محطات كلامنا هذا نستطيع طرح السؤال السقراطي على أنفسنا: "والآن ما ذا أفعل؟ أواصل التحليل والعرض الفلسفي أم أروي حكاية؟".
على الضفة التخييلية دائما، يمكننا توسيع دائرة التأمل الفلسفي في الأجناس الأدبية؛ لأن قصتها هي قصتنا ومساراتها هي مساراتنا...والملاحظ هو أنه كثيرا ما تناولنا في دراسات سابقة وحتى في بعض المقاطع من هذا الكتاب مسألة الخيال العلمي الذي نعمل دوما عليه، وخلاصتنا الدائمة هي انه أدب نظري أو ادب فلسفي يعمل بالطريقة الدائمة التي تعمل بها الفلسفة والتي هي طرح نظرية ما ثم تطويرها عبر دروب الكتابة... أدب يعمل بالطريقة نفسها التي تعمل بها الفلسفة والتي يختزلها أهل الخيال العلمي بالدوران التخييلي حول محور السؤال: "ماذا لو أن...؟"
التخييل كله مادة فلسفية لأنه ينطلق من اخذ حالة (أو افتراضها) ثم تطوير حكاية للتدليل عليها أو على ممكناتها ولعرض مخرجاتها المتنوعة. لهذا نرى القرب الكبير لكتاب من أمثال بلزاك أو هنري جيمس أو مارسيل بروست أو ألدوس هكسلي، وجيمس جويس، أو توماس مان من الفلاسفة، لقرب طبيعة عملهم من عمل الفلاسفة. إنهم روائيون وفلاسفة من زاوبة كون اعمالهم السردية لا تخلو إلا نادرا من النفس الفلسفي الذي يدعو إلى تأمل وضع بشري ما على هامش سرد اية حكاية.
من المثير ان نتأمل حالة هؤلاء الكتاب اين نجد أنفسنا امام نمط من الكتابة الأدبية لا يشبه باقي الأدب بل يستدعي بالضرورة – وحالا، وبلا إمكانية مناقشة- تسمية جديدة كالتي استعملها جول ميشليه أو غوستاف لانسون : "الأدب الفكري"...هذا النوع من الأدب الذي يعلن مباشرة وبجلاء طبيعته الحدية التي نصفها لذة تخييلية والنصف الآخر لذة للتفكير أو انهماك في تركيب اجزاء أطروحة ما.
الم يقترح النقاد مصطلح " رواية الأطروحة" le roman a thèse بهدف تصنيف الروايات التي يكون فيها التفكير الفلسفي أو السياسي أو العلمي أو الديني واضحا جليا وربما مهيمنا على تفاصيل الحكاية؟ إنها روايات تضم شخصيات تهدف إلى توضيح أو تمثيل المفاهيم أو التيارات الفلسفية، في نوع تعليمي وُلد بصدفة ليست غريبة مع مؤلفين مثل دينيس ديدرو أو فولتير؛ نجمي عصر التنوير، في القرن الثامن عشر الذي يبدو انه قرن احس بعمق بحاجته إلى الجوار الحسن بين الأدب والفلسفة، بين الإحالة التلميحية والشرح المستفيض، بين متعة الترفيه وواجب التفكير.
بالعودة إلى علاقة الفلاسفة بالشعر ، من الضروري التمييز بين جاذبية الفلسفة في الشعر والأدب بشكل عام ، وتقارب بعض الفلاسفة بالشعر وبأنماط التعبير. بغض النظر عن الحساسية المتبادلة ، إذ يبقى الشيء الأساسي والجدير بالتامل هو التواطؤ والتقارب القديم بين الاثنين وهو موضوع هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
لا أحد يمنع الوضع الاعتيادي للكتابة الأدبية الذي هو أن نكتب وكأننا غير واعين بما نفعله، ولكنه لا احد سيمنع الكتاب الذين سيطبقون القاعدة الكانطية "ان نفكر ونتأمل في كيفية تفكيرنا"...والتي ستتحول بسحب صغير إلى "ان نكتب ونتأمل فيما يحدث على هامش كتابتنا". وليس الأمر نقدا ادبيا، لأن الناقد الأدبي يهتم عموما بشرح النصوص وطرق تلقيها، والفيلسوف يتحرك داخل الطريق الآتي من النص أو الطريق المؤدي إليه. فالحاصل هو أن كثيرا من الفلاسفة يجدون معنى عميقا يشدهم في الأدب.
في كتابه "دي كوربوري" يقول هوبز إن موضوع الفلسفة مكرس لـ "الأجسام" (أي للهيئات القابلة للمشاهدة والتي هي موضوعات الخيال أيضا)... والمواضعة غريبة لأن الفلسفة قبله كانت موضوع الأبيرون والايدوس والثيزيس ...وكلها مفاهيم إغريقية مدرسية تحيل على عالم الفكر والتمثل لا على عالم المحسوس المجسم.
قد يكون ذلك هو سبب مقولة جيل دولوز في أخريات أيامه: "المفهوم حادثة داخل الحدث"...هو الذي قرر بغرابة فلسفية ان يكتب كتابه "ما الفلسفة؟" في غسق حياته الفلسفية. فلا بد – بتعبير آخر- من دخول الشعراء إلى الجمهورية قبل إخراجهم منها. ولا بد من سماع كثير من الحكايا التي يكون الشعراء قد دونوها ووضعوها في معلقات على أسوار الجمهورية قبل أن نصير مؤهلين للتفلسف - كما قالت مارثا نوسباوم-... وهو كلام سوف يروق لهايديغير وباشلار وجماعة المولعين من داخل أسوار الجمهورية بأخبار الشعراء خارج الأسوار.
إحدى الجمل الأخيرة التي تختتم رواية جول فيرن بها هي: "كل هذه المعارف لم تستطع منع الوحشية عنا"...والخلاصة انه ربما تنقصنا حكايات أكثر لا معارف إضافية.
يبدو لنا هذا المثال نموذجيا لتجارب الفكر والتفلسف التي يستخدمها الفلاسفة أحيانًا والتي هي ذات جوهر تخييلي. والمسار ثري جدا من القصص الرمزية لدى القدامى ومعلمي الملوك إلى التآليف الأفلاطونية التي هي تجارب حدية هامة جدا إلى درجة أننا نضيع في كثير من الأحيان قبالة السؤال: هل نحن مع قصة ام مع عرض فلسفي؟
والسؤال الفلسفي/الأدبي الملح هنا هو التالي: ألم يقد تأمل النصوص الأدبية أفلاطون أولا ثم أرسطو من بعده إلى كتابة أجمل كتابيهما الفلسفيين؟
أما السؤال الأدبي/ الفلسفي المطروح فهو: ما الذي كان الشعراء يخطونه على أسوار الجمهورية التي تم إقصاؤهم منها؟... ماذا كانت تلك المعلقات ستقول لنا لو أنها بقيت ووصلتنا؟
هنالك طريقتان مألوفتان للتعامل مع الإشكالية العتيقة لعلاقة الفلسفة بالأدب: الأولى هي في محاولة إيجاد أبعاد "أخلاقية" أو "تأملية" يقدمها الأدب والشعر والرومانسية، أبعاد تكسر التهمة الأفلاطونية القديمة للشعراء بأنهم يتلاعبون بالعواطف بشكل حقير، دافعين الناس في اتجاه خطير على العالم "الجمهورية" هو الغرق في التفاعل العاطفي مع أشياء الحياة بدلا من إعمال معاول الحكمة .
الاتجاه الثاني يركز عموما على العلاقة بين الفلسفة والشعر والتجارب الداخلية للإنسان؛ بدءا من تجربة العلاقة "الصوفية" بين اللغة والتفكير، وانتهاء إلى آلاف الملاحظات التي أبداها المشتغلون على الخطاب حول طريقتنا الخاصة جدا في التفاعل مع الأشكال المعقدة لتراتب الكلمات في الجمل وفي الحياة من أجل تشكيل نص ما، نص يبلغ درجة من التركيب تجعلنا أحيانا نفكر بان الشعر أقرب إلى التجربة الصوفية منه إلى التداول الأدبي الجمالي.
إذا عكسنا اتجاه المرايا التأملية في هذه القضية سنجد أن الفلسفة غالبا ما تولع بالشعر كما رأينا عند مارتن هايديغير وغاسطون باشلار اللذين يبدو في مراحل متأخرة من عمرهما أن الشعر قد استحوذ لديهما على كل موضوع فلسفي آخر...ولنا أن نتصورهما حسب ترسيمة الشعراء الواقفين أمام اسوار جمهورية افلاطون بمثابة سكان الجمهورية القلقين الذي لا يفتأون يطلون من أعلى الاسوار ملوحين للشعراء في الأسفل تلويحة تشير بفصاحة فلسفية إلى أن خللا ما قد حدث بطردهم من الجمهورية.
في عودة سريعة سنجد بأن اثر افلاطون كان سلبيا على سمعة الشعراء في البيت الفلسفي، وما تخلف عن افلاطون يكون القران الكريم – في الدائرة العربية على الأقل- قد أكمله من خلال آيات مشهورة اكثر مما هي مفهومة. " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[" (سورة "الشعراء":224-226). كلمات قليلة بمفعول قوي جدا. الشعراء أعداء الحكمة.
الرأي الأفلاطوني جاء في الواقع مما لاحظه أفلاطون من الدور الضار الذي لعبه الشعراء – وخاصة هوميروس والمسرحيون الكبار في العصر الإغريقي- فيما يتعلق بالجمهور البسيط ؛ فقد ساعدوا في تحفيزه العاطفي – كما أسلفنا- بدلاً من جعله يفكر ، للتأثير على الرأي العام ، لجعل الناس غير المطلعين يعتقدون أنهم يعرفون شيئًا ما. الشعر بهذا الشكل يصبح عدوا للتفكير، أو يصبح على الأقل غير منتبه إلى جوهر الغياب التراجيدي للتفكير. وهذا الرأي هو نفسه الذي ستبني ضده الفيلسوفة مارتا نوسباوم عملها كله.
لا يمكن تحديد حجم الشقاق الذي تركته آراء أفلاطون في الأجيال المتتالية من فتنة وتأزم في العلاقة بين الشعراء والفلاسفة. الصدمة الناجمة عن هذه الإدانة للشعراء من خلال حقيقة أن الأدب قد تخلى عن الأمل في امتلاك أي بعد فلسفي قد أدت إلى فقدان الأمل في أن يجتمع هذان الكائنان اللذان هما من شجرة واحدة؛ وذلك رغم كثرة الأمثلة التي تقول عكس هذا، ففي روح كل فيلسوف كبير شاعر يخفي كراساته، وداخل كل شاعر عظيم فيلسوف يخشى قول ما لدية بالشكل المعهود في الفلسفة. ويأتي بعد ذلك تاريخ طويل من الأدباء الفلاسفة أو من الفلاسفة الأدباء لكي يبرهن على جريمة أفلاطون في حق الفريقين... بارمنيدس ، المعري، السهروردي، مونتين، مالهيرب، فولتير، ديدرو، نيتشه، سارتر، راسكن، ... بل إننا لن نمر بلا مبالاة باصحاب الشعر الذي هو في مجمله شعر فلسفي كدانتي اليغييري ، أو درايدن، جون ميلتون ، ألفريد دي فينيي ، فيكتور هيغو، مالارمي، بول فاليري، بيار إيمانويل، إيف بونفوا، هولدرلين ، جوته ، ريلك، وغيرهم كثيرون....
من أعلى نقطة في قرننا الصاخب هذا، يمكننا أن نستقصي مسيرة كل النصوص المذكورة والتي ستقودنا بالضرورة إلى تجارب الفكر التي طورها الفلاسفة المعاصرون ، وفي كل هذا تظل الحقيقة ثابتة مفادها أن الخطاب الفلسفي يعبره الخيال ويتقاطع معه بأريحية كبيرة. ولكن ما هو وضع هذه الروايات أو هذه الأشعار والنصوص باطيافها العديدة؟ ما نظام عملها فينا؟ كيف ينبغي للمرء قراءتها؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة أكثر جدارة من البلاغة بالنظر في المحمول الحقيقي لهذه النصوص الأدبية (ومن خلفها أختها الصغرى الشبيهة بها: الأفلام السنمائية)؟
ماذا تفعل تلك الأرواح الخفية التي تساءلت دائمًا عن الروايات والأفلام الجيدة وجدواها وعملها؟
إجابة فلسفية بطابع شعري ستكون:
إنها طريقتنا في تذوق العالم، ومنظومتنا الدقيقة في رسم حدود أذواقنا و معالم أحكامنا على العالم.
ماذا نفعل حينما نتفرج على فلم يصور معاناة عائلة صينية؟ لماذا ترانا نسافر إلى الصين لمدة ساعتين، ونفرح بحصولنا على الجنسية الصينية التي لم نفكر فيها يوما؟..وذلك أمر إشكالي في الواقع: ألا تعرف شيئا عن وجدان خمُس سكان الأرض؟ ثم ألا تعرف بأن ذلك يطرح مشكلة حقيقية؟
تتواصل الأسئلة: لماذا نولع برواية لياسوناري كاواباطا؟ ماذا أستفيد شخصيا من رواية "زمبازورو"؟ عشرات الصفحات تصف طريقة تحضير الشاي (أو الساكي) ...هل هي ضرورية لكي أعيش عيشا سويا؟
الإجابة الفلسفية الخالية من الطابع الشعري ستكون:
ليست ضرورية للعيش، ولكنها ضرورية للحياة. ضرورية إذا كان ما تريده هو أن تحيا حياة سوية. (ملاحظة هامة: وحدها الحيوانات يمكنها تحديد ضروراتها بشكل مسبق ونهائي؛ أما الضرورات الإنسانية فتتغير وتتبدل وتنمو بمرور الأيام والسنين).
وهو يتحدث عن فلمه عن "الأبارتيد" قال الممثل الأميركي مورغان فريمان: الأميركي ليس مستعدا لدفع ثمانية دولارات لكي يدخل ويتفرج لمدة ساعتين على ما فعله البيض بالسود في جنوب إفريقيا...الأمر لا يهمه. وهو إذا دخل السنما يريد أن يسافر ويتمتع ويقضي وقتا مريحا، ولا يريد أبدا أن يشعر بالذنب بسبب العنت الموجود في العالم.
هنالك أسئلة كثيرة نطرحها على أنفسنا، اليوم، ونحن نعاني فرادى من شرور لا تسلط على الأفراد أبدا، وإنما تسلط علينا جماعيا...وهذا ما يحتاج الإنسان إلى فهمه جيدا.
والغالب هو أننا مولعون بأن نتحدث دائما عن الإنسانية، ولكننا لا نريد إن ننظر في عيني أي إنسان على الإطلاق. الإنسانية مفهوم مريح وبلا تبعات.
تميل الفيلسوفة الأميريكية مارتا نوسباوم Martha Nussbaum إلى اعتبار التربية الخيالية ( من خلال تعليم الإنسان التفكير من خلال القصص والروايات والأفلام والأمثولات) تنمي مقدرة الإنسان على تفهم الغير، على التعاطف، على الاستعداد للتواصل الذي هو مرحلة عقلية تتجاوز تماما التقبل، ذلك الفعل التنويري "الغربمركزي" الذي لا يضحي ابدا بوضعية التعالي على الغير التي تعود عليها.
يبدو - حسب الفيلسوفة التي اهتمت كثيرا بالتطورات الأخيرة في ميدان علم الأعصاب، وصلاته بالتمثل وعمليات الوعي، بتحديد فعل العاطفة، وبالجوانب الشعورية التي كانت دراستها سلوكية بعدية فيما مضى- ان التدريب على الخيال من خلال إلباس المعرفة رداء الخيال، وربط المعارف الذهنية بالحالات والأشخاص، وبالصور الحياتية المباشرة، أي ربط "المفهومي" بالـ"عاطفي"، والفكري بالفعلي، والتدليلي بالتمثيلي، يغير طريقتنا في الوعي بالأشياء، ويطور مقدرتنا على الخروج من ذواتنا والدخول في ذوات اخرى... مسار قد يجعلنا نتفلسف بشكل مختلف فنروي حكايات مختلفة بالضرورة...أو ربما يحدث العكس أو الشيء نفسه حسب مسار مختلف فنروي حكايات أخرى تجعلنا نتفلسف بشكل مختلف جذريا).
يصبح استخدام التعاطف الخيالي بهذا الشكل واحدا من الأدوات اللازمة للعيش في الحياة العالمية، والحياة الإنسانية. و تدافع مارتا نوسباوم في كتابيها "La connaissance de l'amour : Essais sur la philosophie et la littérature"، وخاصة كتابها "Les émotions démocratiques : Comment former le citoyen du XXIe siècle ?"، بأناقة ودقة وعمق عن كون الرواية (والأدب عموما)، ومن خلال إشراكنا في التعاطف مع حياة مختلفة عن حياتنا ، توسع من قدراتنا الخلاقة، لذا يمكننا أن نجعل تلك المواقف والأحكام التي تستدعيها الحياة العامة أيسر وأفضل حالا، وأكثر فعالية، فضلا عن جعلنا لها في خدمة نفسية "عالمية" منفتحة، طاردة للحدة وللانكماش على الذات والتقوقع على الجماعة الإثنية.
العجيب في امرها أنها لا تتكئ على علم الأعصاب وفينومينولوجيا الإدراك فحسب، بل تتكئ على ميراث فلسفي نعرفه، ولكننا- حسبما تقوله هي- نعرفه بشكل خاطئ؛ فهي تستدعي أرسطو ، والرواقيين، وهوبز أيضا، و كذا آدم سميث ، وغيرهم. ثم هي تحاور المدونة الأدبية ببراعة كبيرة، وبفعالية في التحليل لا يشق لها غبار، بل وتتعداها إلى دراسة القيم والمواقف المنبعثة من تعابير مألوفة في العالم الأدبي، وكل ذلك بأسلوب متراوح بين الحساسية الأكاديمية والعبارة الساحرة (فلسفة حينا وأدب حينا آخر) كاشفة عما أسميناه في العنوان بسياسات الخطاب الادبي.
يمكننا في ظل مشروع أخلاقي مثل هذا أن نتوقع إنسانا مستقبليا أقل حدة، ونتوقع ذوبان العناوين الإقصائية التي تملأ الصحف بمشاريع "الحقد" السائر في طريق النمو. فاللغة التي نستعملها هي التي تستعملنا كما علمنا الفلاسفة التحليليون، ونحن نقول الكلمة لا نلقي لها بالا فإذا بنا قد شرعنا في التبني الخطير لمشروع سياسي قد ندفع ثمنه غاليا بعد مدة... وفي كثير من محطات كلامنا هذا نستطيع طرح السؤال السقراطي على أنفسنا: "والآن ما ذا أفعل؟ أواصل التحليل والعرض الفلسفي أم أروي حكاية؟".
على الضفة التخييلية دائما، يمكننا توسيع دائرة التأمل الفلسفي في الأجناس الأدبية؛ لأن قصتها هي قصتنا ومساراتها هي مساراتنا...والملاحظ هو أنه كثيرا ما تناولنا في دراسات سابقة وحتى في بعض المقاطع من هذا الكتاب مسألة الخيال العلمي الذي نعمل دوما عليه، وخلاصتنا الدائمة هي انه أدب نظري أو ادب فلسفي يعمل بالطريقة الدائمة التي تعمل بها الفلسفة والتي هي طرح نظرية ما ثم تطويرها عبر دروب الكتابة... أدب يعمل بالطريقة نفسها التي تعمل بها الفلسفة والتي يختزلها أهل الخيال العلمي بالدوران التخييلي حول محور السؤال: "ماذا لو أن...؟"
التخييل كله مادة فلسفية لأنه ينطلق من اخذ حالة (أو افتراضها) ثم تطوير حكاية للتدليل عليها أو على ممكناتها ولعرض مخرجاتها المتنوعة. لهذا نرى القرب الكبير لكتاب من أمثال بلزاك أو هنري جيمس أو مارسيل بروست أو ألدوس هكسلي، وجيمس جويس، أو توماس مان من الفلاسفة، لقرب طبيعة عملهم من عمل الفلاسفة. إنهم روائيون وفلاسفة من زاوبة كون اعمالهم السردية لا تخلو إلا نادرا من النفس الفلسفي الذي يدعو إلى تأمل وضع بشري ما على هامش سرد اية حكاية.
من المثير ان نتأمل حالة هؤلاء الكتاب اين نجد أنفسنا امام نمط من الكتابة الأدبية لا يشبه باقي الأدب بل يستدعي بالضرورة – وحالا، وبلا إمكانية مناقشة- تسمية جديدة كالتي استعملها جول ميشليه أو غوستاف لانسون : "الأدب الفكري"...هذا النوع من الأدب الذي يعلن مباشرة وبجلاء طبيعته الحدية التي نصفها لذة تخييلية والنصف الآخر لذة للتفكير أو انهماك في تركيب اجزاء أطروحة ما.
الم يقترح النقاد مصطلح " رواية الأطروحة" le roman a thèse بهدف تصنيف الروايات التي يكون فيها التفكير الفلسفي أو السياسي أو العلمي أو الديني واضحا جليا وربما مهيمنا على تفاصيل الحكاية؟ إنها روايات تضم شخصيات تهدف إلى توضيح أو تمثيل المفاهيم أو التيارات الفلسفية، في نوع تعليمي وُلد بصدفة ليست غريبة مع مؤلفين مثل دينيس ديدرو أو فولتير؛ نجمي عصر التنوير، في القرن الثامن عشر الذي يبدو انه قرن احس بعمق بحاجته إلى الجوار الحسن بين الأدب والفلسفة، بين الإحالة التلميحية والشرح المستفيض، بين متعة الترفيه وواجب التفكير.
بالعودة إلى علاقة الفلاسفة بالشعر ، من الضروري التمييز بين جاذبية الفلسفة في الشعر والأدب بشكل عام ، وتقارب بعض الفلاسفة بالشعر وبأنماط التعبير. بغض النظر عن الحساسية المتبادلة ، إذ يبقى الشيء الأساسي والجدير بالتامل هو التواطؤ والتقارب القديم بين الاثنين وهو موضوع هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
لا أحد يمنع الوضع الاعتيادي للكتابة الأدبية الذي هو أن نكتب وكأننا غير واعين بما نفعله، ولكنه لا احد سيمنع الكتاب الذين سيطبقون القاعدة الكانطية "ان نفكر ونتأمل في كيفية تفكيرنا"...والتي ستتحول بسحب صغير إلى "ان نكتب ونتأمل فيما يحدث على هامش كتابتنا". وليس الأمر نقدا ادبيا، لأن الناقد الأدبي يهتم عموما بشرح النصوص وطرق تلقيها، والفيلسوف يتحرك داخل الطريق الآتي من النص أو الطريق المؤدي إليه. فالحاصل هو أن كثيرا من الفلاسفة يجدون معنى عميقا يشدهم في الأدب.
في كتابه "دي كوربوري" يقول هوبز إن موضوع الفلسفة مكرس لـ "الأجسام" (أي للهيئات القابلة للمشاهدة والتي هي موضوعات الخيال أيضا)... والمواضعة غريبة لأن الفلسفة قبله كانت موضوع الأبيرون والايدوس والثيزيس ...وكلها مفاهيم إغريقية مدرسية تحيل على عالم الفكر والتمثل لا على عالم المحسوس المجسم.
قد يكون ذلك هو سبب مقولة جيل دولوز في أخريات أيامه: "المفهوم حادثة داخل الحدث"...هو الذي قرر بغرابة فلسفية ان يكتب كتابه "ما الفلسفة؟" في غسق حياته الفلسفية. فلا بد – بتعبير آخر- من دخول الشعراء إلى الجمهورية قبل إخراجهم منها. ولا بد من سماع كثير من الحكايا التي يكون الشعراء قد دونوها ووضعوها في معلقات على أسوار الجمهورية قبل أن نصير مؤهلين للتفلسف - كما قالت مارثا نوسباوم-... وهو كلام سوف يروق لهايديغير وباشلار وجماعة المولعين من داخل أسوار الجمهورية بأخبار الشعراء خارج الأسوار.
إحدى الجمل الأخيرة التي تختتم رواية جول فيرن بها هي: "كل هذه المعارف لم تستطع منع الوحشية عنا"...والخلاصة انه ربما تنقصنا حكايات أكثر لا معارف إضافية.