أولا، أريد أن أوضِّحَ أني لستُ فقيها و لا عالِما متبحِّرا في علوم الدين. لكن كلما قرأتُ أو سمعتُ خبرا أو نصا أو تصفَّحتُ كتابا، أحاول أن أمرِّرَ مضمونَ هذه الوسائل المقروءة و المسموعة من مصفاة العقل و المنطق.
و هنا، لا بدَّ أن أذكِّرَ أن كل ما يُنتَجُه البشرُ من معارف قابل للنقاش. لأن المُنتِجَ بشرٌ و البشر ابن بيئته و البيئة تتغيَّر زمانا و مكانا. و ذلك لأن الخلفيات الفكرية و المعرفية تختلف من شخص إلى آخر و من جماعة إلى أخرى. و هذا النقاش ينطبق على جميع مجالات المعرفة بما فيها ما أنتجه البشر في المجال الديني. أُلحُّ و أقول : ما أنتجه البشر في المجال الديني. لماذا هذا الإلحاح؟ لأن الدينَ له توابثه و هي غير قابلة للنقاش لمن هو مؤمن إيمانا راسخا.
بعد هذا التوضيح، أدخلُ في صُلب الموضوع و أقول : كثيرا ما نسمع عبارَتَي "أجْمعَت الأمة على..." أو "أجمعَ العلماء على...".
و حتى يسهلَ إدراكُ ما تحتوي عليه هاتان العبارتان من معنى، فيما يلي تفسير لفعل "أجمَعَ" ولمُفردة "أمة". فعل "أَجْمعَ" يعني الاتفاق على أمر من الأمور بالإجماع. و هذا الفعل متداول في السياسة إذ غالبا ما نسمع أن البرلمان صوَّت بالإجماع على قانون ما. كما نسمع كذلك أن فلانا تمَّ انتخابُه بالإجماع. وهذا يعني أن جميع أعضاء البرلمان أعطوا موافَقَتهم على هذا القانون. كما يعني أن كل الناخبين أعطوا أصواتَهم لفلان.
أما أمَّةٌ، فتعني : "جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ (البشر) تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا هُوَ لُغَوِيٌّ أوْ دِينِيٌّ أوِ اقْتِصَادِيٌّ وَلَهُمْ أهْدَافٌ مُشْتَرَكَةٌ فِي العَقِيدَةِ أَوِ السِّيَاسَةِ أَوِ الاقْتِصاد... (منقول عن معجم المعاني).
فعندما نقول : "أجمعت الأمَّة على أمر له علاقة بالدِّين" و هنا يتعلَّق الأمر بالأمة الإسلامية، فهذا يعني أن جميعَ الناس المسلمين و افقوا و اتفقوا على هذا الأمر!
فأي عاقل سيقبل هذا الادِّعاء و هذا الاستهزاء بعقول الناس؟ فكيف لأمَّةٍ أكثر من نصف أعضائها أمِّيون و لا يُدركُون أمورَ الدين إلا عبر القيل و القال و التقليد الأعمى، أن تتَّفق بالإجماع على أمر ما؟
ما يمكن استنتاجُه من هذا الوضع، هو أن مَن يقول : "أجمعت الأمَّة على..."، نصَّبَ نفسَه للتَّحَدُّث باسم الآخرين و دون استشارتهم. و هذا فيه شيء من الاستصغار للآخرين سواءً كانوا أميين أو على دراية بالأمور. ثمَّ هل فكَّرَ المنادي ب"إجماع الأمَّة" أن النصفَ الآخر، غير الأمِّي، أو بعضَه، يمكن أن يكونَ له رأي آخر أو مُخالف لما جاء به الإجماع. فهل للدِّين دكتاتوريوه؟ و هل كانت هناك استشارة لأفراد الأمة واحدا واحدا للتعرُّف على موقفهم من هذا الإجماع؟ و هل نسي مَن ينادي ب"إجماع الأمَّة" أن اللهَ سبحانه و تعالى قال:
"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..." (البقرة، 256).
ما دام الله سبحانه و تعالى ترك الاختيارَ لعباده في أن يتديَّنَوا أو أن لا يتديَّنَوا، فكيف لمَن ينادي بالإجماع أن يُخالفوا أمرَ الله؟ و ما دام سبحانه و تعالى لا يفرض التَّديُّنَ على عباده، فهذا معناه أنه من بين هؤلاء العباد مَن هم مقتنعون بما تم عليه الإجماعُ كما أن هناك من بين هؤلاء العباد مَن هم غير مقتنعين بما تم عليه الإجماع. و هذا يعني أن المقتنعين و غير المقتنعين ليس لهم نفس الرؤية إزاء الأمور التي يُزْعَمُ أنها حظِيت بالإجماع. فأين نحن من مقولة "أجمعت الأمة"؟
و من جهة أخرى، لماذا حبا الله بني آدم العقلَ؟ بالطبع، فَلِيُفكِّروا به. و في نفس الوقت، إنه جلَّ جلالُه رسم لهم الطريقَ الذي، إذآ اتبعوه، يجدون فيه خلاصَهم. غير أن اللهَ سبحانه و تعالى، إذآ حبا البشرَ العقلَ، فليس لمَنعهم من استعماله. فمنهم مَن يستعملُه تماشياً مع ما رسمه الله من طريق و هناك، في نفس الوقت، مَن له رأي مخالف. و لهذا، فإن الله سبحانه و تعالى رسم لعباده الطريقَ الصحيحَ و حباهم العقلَ ليُرشدَهم إلى اتِّباع هذا الطريقَ أو ليسيروا في طريق آخر اختاروه بمحضر إرادتهم و بعقلهم. و هذا هو ما بيَّنه و يُبيِّنه التاريخُ عبر العصور بل و منذ ظهور بنو آدم على وجه الأرض. فالله سبحانه و تعالى أعطى العقلَ للبشر و رسم لهم الطريقَ المستقيم و ترك لهم الاختيار. و الاختيار يُسفِر دائما عن تفضيل طريق عن غيره لأن الآراءَ والرُّؤى تختلف اختلافا يتماشى مع اختلاف الزمان و المكان. فأين نحن من "أجمعت الأمة…"؟
أما عبارة "أجمعَ العُلماء على..."، فتبقى غامضةً ما دُمنا لا نعرف هل هذا الإجماعَ نادى به علماءُ بلد واحدٍ أم عدَّة بلدان أم علماء العالم الإسلامي برُمَّتِه.
و كيفما كان الحال و في نظري، الإجماع لا يمكن أن يكونَ قائما إلا بين جماعة محدودة من العلماء الذين يقتسمون نفسَ الخلفيات الفكرية و نفسَ التَّوَجُّهات الدينية سواءً كانوا منتمين لبلد واحد أو لعِدَّة بلدان. و حتى في هذه الحالة، يبدو لي أنه من المنطقي أن لا يكون ما تمَّ الإجماعُ عليه مخالفا لما قاله سبحانه و تعالى في سورة البقرة، الآية 256 : "لا إكراهَ في الدين...". والمنطق والعقل يقولان بأنه من المستحيل أن يتمَّ الاجماعُ بين علماء بلد واحد، فما بالك بعلماء الأمة الإسلامية التي تبنَّت و تتبنى على الأقل أربعةَ مذاهب.
أما إجماع علماء العالم الإسلامي برُمَّته، فيبدو لي غير منطقي ما دامت هناك عدَّة مذاهب و عدَّة مدارس لتفسير القرآن الكريم و عدَّة مدارس لتفسير السنة النبوية. و ما تعدُّد هذه المذاهب و المدارس إلا تعبير عن الاختلاف في الرأي و في الرؤى. فكيف يحدثُ الإجماعُ بين فئات من العلماء ليس لهم نفس الآراء ونفس الرُّؤى؟
و هل يُعقل أن نتحدثَ عن الإجماع و كل مذهب يحاول أن يفرضَ نفسَه على الآخرين. بل إن كل مذهب يعتبر نفسَه أحسن من المذاهب الأخرى. ناهيك عن أن لكل مذهب عدَّة طوائف. و وجود طوائف داخلَ المذهب الواحد هو تعبير عن اختلافات داخل نفس المذهب. فأين هو الآجماعُ؟
ثم إن هناك سؤالا لا بدَّ من طرحَه : "فهل علماء المسلمين معصومون من الخطأ"؟ بالطبع لا و لسبب بسيط هو أنهم بشرٌ. و لهذا، فكل ما يصدر عنهم، كبَشَر، من فتاوي و آراء و توجهات… يحتمل الصوابَ و في نفس الوقت، يحتمل الخطأ تمشيا مع ما جاء في الحديث النبوي الشريف : "كل بني آدم خطاء و خير الخطائين التَّوابون". و لاحِظوا معي أن الرسولَ (ص) قال "بني آدم"، أي الناس جميعا بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية، الفكرية، العقائدية، العِرقية… و هذا يعني أن الرسولَ (ص) لم يستثنِ أحدا من الخطأ. بل إن الخطأ كان ملازما لأول بشرٍ خلقه الله ألا وهو سيدنا آدم عليه السلام.
فإذا كان علماء المسلمين غير معصومين من الخطأ، فكل ما يتفوَّهون به نسبي. و ما هو نسبي قابل للتغيير بفعل الزمان و المكان إن عاجلا أو آجلا. فأين هو الإجماع في هذه الحالة؟
أما ما أومِن به أنا شخصيا كإجماع، هو الإجماعُ حول القرآن الكريم و العبادات و السنة النبوية كما نطق بها الرسول (ص)، أي السنة التي لم تتعرَّض للتَّحريف.
ثم هل تمَّ التفكيرُ بإمعانٍ و تبصُّرٍ فيما قاله الله سبحانه و تعالى في سورة المائدة، الآية 48 : "...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…" أليس هذا دليل على أن الله جعل الناسَ أمَماً، أي جعل الناسَ يشكِّلون عدَّة أمم تختلف فكريا و اجتماعيا و ثقافيا. ثم قال سبحانه و تعالى : "ليبلوكم في ما آتاكم". أي ليرى كيف تتعاملون مع "ما أتاكم"، أي مع ما أنزل من شرائع و كتاب. و حين قال سبحانه و تعالى : "ليبلوكم"، فهذا معناه أنه، جل جلالُه، ترك الاختيارَ لعباده ليؤمنوا أو لا يؤمنوا. و حينما نتحدَّث عن الاختبار، فهناك حتما اختلاف. و الاختلاف ازداد مع الإنسان و سيبقى ملازما له إلى أن يرثَ الله الأرضَ و مَن عليها.
و إذا كان الاختلافُ بين الأمم واضحا و يثقب العينين، فهو كذلك واضح و يثقب العينين داخل أمة واحدة و داخل دين واحد و داخل جماعة واحدة و حتى بالنسبة للفرد الواحد. لأن هذا الأخير ابن بيئته. و بحُكم انتمائه لهذه البيئة، فإنها تؤثِّر فيه و يؤثِّر فيها. اللهم إذا وضع هذا الفردُ قُفلاً مُحكمَ الإغلاق حول عقله كي لا ينفذ إليه التَّغيير! فأين نحن من "أجمعت الأمة" و من "أجمع العلماء"؟
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿19، الشورى﴾
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿65، الحج﴾
و هنا، لا بدَّ أن أذكِّرَ أن كل ما يُنتَجُه البشرُ من معارف قابل للنقاش. لأن المُنتِجَ بشرٌ و البشر ابن بيئته و البيئة تتغيَّر زمانا و مكانا. و ذلك لأن الخلفيات الفكرية و المعرفية تختلف من شخص إلى آخر و من جماعة إلى أخرى. و هذا النقاش ينطبق على جميع مجالات المعرفة بما فيها ما أنتجه البشر في المجال الديني. أُلحُّ و أقول : ما أنتجه البشر في المجال الديني. لماذا هذا الإلحاح؟ لأن الدينَ له توابثه و هي غير قابلة للنقاش لمن هو مؤمن إيمانا راسخا.
بعد هذا التوضيح، أدخلُ في صُلب الموضوع و أقول : كثيرا ما نسمع عبارَتَي "أجْمعَت الأمة على..." أو "أجمعَ العلماء على...".
و حتى يسهلَ إدراكُ ما تحتوي عليه هاتان العبارتان من معنى، فيما يلي تفسير لفعل "أجمَعَ" ولمُفردة "أمة". فعل "أَجْمعَ" يعني الاتفاق على أمر من الأمور بالإجماع. و هذا الفعل متداول في السياسة إذ غالبا ما نسمع أن البرلمان صوَّت بالإجماع على قانون ما. كما نسمع كذلك أن فلانا تمَّ انتخابُه بالإجماع. وهذا يعني أن جميع أعضاء البرلمان أعطوا موافَقَتهم على هذا القانون. كما يعني أن كل الناخبين أعطوا أصواتَهم لفلان.
أما أمَّةٌ، فتعني : "جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ (البشر) تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا هُوَ لُغَوِيٌّ أوْ دِينِيٌّ أوِ اقْتِصَادِيٌّ وَلَهُمْ أهْدَافٌ مُشْتَرَكَةٌ فِي العَقِيدَةِ أَوِ السِّيَاسَةِ أَوِ الاقْتِصاد... (منقول عن معجم المعاني).
فعندما نقول : "أجمعت الأمَّة على أمر له علاقة بالدِّين" و هنا يتعلَّق الأمر بالأمة الإسلامية، فهذا يعني أن جميعَ الناس المسلمين و افقوا و اتفقوا على هذا الأمر!
فأي عاقل سيقبل هذا الادِّعاء و هذا الاستهزاء بعقول الناس؟ فكيف لأمَّةٍ أكثر من نصف أعضائها أمِّيون و لا يُدركُون أمورَ الدين إلا عبر القيل و القال و التقليد الأعمى، أن تتَّفق بالإجماع على أمر ما؟
ما يمكن استنتاجُه من هذا الوضع، هو أن مَن يقول : "أجمعت الأمَّة على..."، نصَّبَ نفسَه للتَّحَدُّث باسم الآخرين و دون استشارتهم. و هذا فيه شيء من الاستصغار للآخرين سواءً كانوا أميين أو على دراية بالأمور. ثمَّ هل فكَّرَ المنادي ب"إجماع الأمَّة" أن النصفَ الآخر، غير الأمِّي، أو بعضَه، يمكن أن يكونَ له رأي آخر أو مُخالف لما جاء به الإجماع. فهل للدِّين دكتاتوريوه؟ و هل كانت هناك استشارة لأفراد الأمة واحدا واحدا للتعرُّف على موقفهم من هذا الإجماع؟ و هل نسي مَن ينادي ب"إجماع الأمَّة" أن اللهَ سبحانه و تعالى قال:
"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..." (البقرة، 256).
ما دام الله سبحانه و تعالى ترك الاختيارَ لعباده في أن يتديَّنَوا أو أن لا يتديَّنَوا، فكيف لمَن ينادي بالإجماع أن يُخالفوا أمرَ الله؟ و ما دام سبحانه و تعالى لا يفرض التَّديُّنَ على عباده، فهذا معناه أنه من بين هؤلاء العباد مَن هم مقتنعون بما تم عليه الإجماعُ كما أن هناك من بين هؤلاء العباد مَن هم غير مقتنعين بما تم عليه الإجماع. و هذا يعني أن المقتنعين و غير المقتنعين ليس لهم نفس الرؤية إزاء الأمور التي يُزْعَمُ أنها حظِيت بالإجماع. فأين نحن من مقولة "أجمعت الأمة"؟
و من جهة أخرى، لماذا حبا الله بني آدم العقلَ؟ بالطبع، فَلِيُفكِّروا به. و في نفس الوقت، إنه جلَّ جلالُه رسم لهم الطريقَ الذي، إذآ اتبعوه، يجدون فيه خلاصَهم. غير أن اللهَ سبحانه و تعالى، إذآ حبا البشرَ العقلَ، فليس لمَنعهم من استعماله. فمنهم مَن يستعملُه تماشياً مع ما رسمه الله من طريق و هناك، في نفس الوقت، مَن له رأي مخالف. و لهذا، فإن الله سبحانه و تعالى رسم لعباده الطريقَ الصحيحَ و حباهم العقلَ ليُرشدَهم إلى اتِّباع هذا الطريقَ أو ليسيروا في طريق آخر اختاروه بمحضر إرادتهم و بعقلهم. و هذا هو ما بيَّنه و يُبيِّنه التاريخُ عبر العصور بل و منذ ظهور بنو آدم على وجه الأرض. فالله سبحانه و تعالى أعطى العقلَ للبشر و رسم لهم الطريقَ المستقيم و ترك لهم الاختيار. و الاختيار يُسفِر دائما عن تفضيل طريق عن غيره لأن الآراءَ والرُّؤى تختلف اختلافا يتماشى مع اختلاف الزمان و المكان. فأين نحن من "أجمعت الأمة…"؟
أما عبارة "أجمعَ العُلماء على..."، فتبقى غامضةً ما دُمنا لا نعرف هل هذا الإجماعَ نادى به علماءُ بلد واحدٍ أم عدَّة بلدان أم علماء العالم الإسلامي برُمَّتِه.
و كيفما كان الحال و في نظري، الإجماع لا يمكن أن يكونَ قائما إلا بين جماعة محدودة من العلماء الذين يقتسمون نفسَ الخلفيات الفكرية و نفسَ التَّوَجُّهات الدينية سواءً كانوا منتمين لبلد واحد أو لعِدَّة بلدان. و حتى في هذه الحالة، يبدو لي أنه من المنطقي أن لا يكون ما تمَّ الإجماعُ عليه مخالفا لما قاله سبحانه و تعالى في سورة البقرة، الآية 256 : "لا إكراهَ في الدين...". والمنطق والعقل يقولان بأنه من المستحيل أن يتمَّ الاجماعُ بين علماء بلد واحد، فما بالك بعلماء الأمة الإسلامية التي تبنَّت و تتبنى على الأقل أربعةَ مذاهب.
أما إجماع علماء العالم الإسلامي برُمَّته، فيبدو لي غير منطقي ما دامت هناك عدَّة مذاهب و عدَّة مدارس لتفسير القرآن الكريم و عدَّة مدارس لتفسير السنة النبوية. و ما تعدُّد هذه المذاهب و المدارس إلا تعبير عن الاختلاف في الرأي و في الرؤى. فكيف يحدثُ الإجماعُ بين فئات من العلماء ليس لهم نفس الآراء ونفس الرُّؤى؟
و هل يُعقل أن نتحدثَ عن الإجماع و كل مذهب يحاول أن يفرضَ نفسَه على الآخرين. بل إن كل مذهب يعتبر نفسَه أحسن من المذاهب الأخرى. ناهيك عن أن لكل مذهب عدَّة طوائف. و وجود طوائف داخلَ المذهب الواحد هو تعبير عن اختلافات داخل نفس المذهب. فأين هو الآجماعُ؟
ثم إن هناك سؤالا لا بدَّ من طرحَه : "فهل علماء المسلمين معصومون من الخطأ"؟ بالطبع لا و لسبب بسيط هو أنهم بشرٌ. و لهذا، فكل ما يصدر عنهم، كبَشَر، من فتاوي و آراء و توجهات… يحتمل الصوابَ و في نفس الوقت، يحتمل الخطأ تمشيا مع ما جاء في الحديث النبوي الشريف : "كل بني آدم خطاء و خير الخطائين التَّوابون". و لاحِظوا معي أن الرسولَ (ص) قال "بني آدم"، أي الناس جميعا بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية، الفكرية، العقائدية، العِرقية… و هذا يعني أن الرسولَ (ص) لم يستثنِ أحدا من الخطأ. بل إن الخطأ كان ملازما لأول بشرٍ خلقه الله ألا وهو سيدنا آدم عليه السلام.
فإذا كان علماء المسلمين غير معصومين من الخطأ، فكل ما يتفوَّهون به نسبي. و ما هو نسبي قابل للتغيير بفعل الزمان و المكان إن عاجلا أو آجلا. فأين هو الإجماع في هذه الحالة؟
أما ما أومِن به أنا شخصيا كإجماع، هو الإجماعُ حول القرآن الكريم و العبادات و السنة النبوية كما نطق بها الرسول (ص)، أي السنة التي لم تتعرَّض للتَّحريف.
ثم هل تمَّ التفكيرُ بإمعانٍ و تبصُّرٍ فيما قاله الله سبحانه و تعالى في سورة المائدة، الآية 48 : "...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…" أليس هذا دليل على أن الله جعل الناسَ أمَماً، أي جعل الناسَ يشكِّلون عدَّة أمم تختلف فكريا و اجتماعيا و ثقافيا. ثم قال سبحانه و تعالى : "ليبلوكم في ما آتاكم". أي ليرى كيف تتعاملون مع "ما أتاكم"، أي مع ما أنزل من شرائع و كتاب. و حين قال سبحانه و تعالى : "ليبلوكم"، فهذا معناه أنه، جل جلالُه، ترك الاختيارَ لعباده ليؤمنوا أو لا يؤمنوا. و حينما نتحدَّث عن الاختبار، فهناك حتما اختلاف. و الاختلاف ازداد مع الإنسان و سيبقى ملازما له إلى أن يرثَ الله الأرضَ و مَن عليها.
و إذا كان الاختلافُ بين الأمم واضحا و يثقب العينين، فهو كذلك واضح و يثقب العينين داخل أمة واحدة و داخل دين واحد و داخل جماعة واحدة و حتى بالنسبة للفرد الواحد. لأن هذا الأخير ابن بيئته. و بحُكم انتمائه لهذه البيئة، فإنها تؤثِّر فيه و يؤثِّر فيها. اللهم إذا وضع هذا الفردُ قُفلاً مُحكمَ الإغلاق حول عقله كي لا ينفذ إليه التَّغيير! فأين نحن من "أجمعت الأمة" و من "أجمع العلماء"؟
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿19، الشورى﴾
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿65، الحج﴾