المحبوب عبد السلام - أيام الطيب صالح: (كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا)..

كُنّت قبل أعوام قد كتبت تحت سماء الخرطوم المُرّصع بالنجوم: (الطيب صالح كما هو شفقياً وشفيفاً كغمامة) أستعير العبارة من الفيتوري، وأستعيد ساعات قضيتها في حضرة الأديب بلندن.. والآن في هذه اللحظة أرى بعينين تبصران الماوراء .. وأستدعي الفيتوري ثانية (لن تُبصرنا بمآٌقٍ غير مآقينا .. لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا و تكاشفنا)، الفكرة تتجّلى في إنسان ما يزال وهو في بشريته يَشُع بإيحاءات الغمام .. السّاعة نحو التاسعة مساء ًوليل لندن يشرع في بسط ظلاله الموحشة، والطيب صالح بلحمه ودمه على أريكة مظلة صغيرة هيئت للناظرين الحافلات و في مدى النظر على بعد لا يتجاوز بضع أمتار أبصر أعمدة الحكمة السودانية الثلاث في هذه الغربة تجسدوا أيضاً بشراً من لحم ودم، أعرف هذه الاضواء و أراها تحثّ الخطى داخل (البالطو) الشتوي السابغ.. لاريب أنهم هم الأستاذ محمد الحسن أحمد والأستاذ محمود صالح عثمان و الأستاذ حسن تاج السر، ولا ريب أنهم ودعوا الغمامة قبل قليل، ولا ريب أنه ألحّ عليهم أن يواصلوا سيرهم و يتركوه وحده ينظر في أرقام الحافلات ينتظر خاصته. انتصبت أمامي فرحة المفاجئة ولاح أمامي همّ.. قطعاً سيفيض علىّ إلهام الدقائق المقبلة و لكن كيف يوآنس الغمام ريثما يصعد إلى الحافلة؟!

كنت حريصاً أن أُدرك إفتاح المعرض ولكن حبسني حابس الأرزاق. الفنانة صاحبة المعرض هي من بنات الأخت لشيخنا محمود صالح عثمان صالح، ثم هي كريمة صديقنا القديم عثمان بابكر.. وددت لو أنّي شاركت في المناسبة تحيّة لتلك الذكرى الجميلة.. صديقنا عثمان من عائلة عثمان صالح الأعرق في أمدرمان وله بالطبع نسبٌ مؤكد لكيان الانصار وحزب الامة.. كان أول من يشهد مناشطنا الأشق في برنامج الاخوان.. يأتي أول ليلة الجمعة قبل صلاة العشاء حيث تبدأ فور انصراف المصلين ما كنا نسميه في ذلك الزمان(بالكتيبة)، وهي لم تكن تعني إلا إقامة الليل في تلاوة القرآن والصلاة.. كنا قلة مستضعفة ومُضَيّقٌ عليها لأقصى حد بعد فشل انقلاب المقدم حسن حسين في سبتمبر 1975م، كُنّا تلامذة في أول المرحلة الثانوية وكان هو في شرخ الشباب ثري و وسيم وأنيق.. كُنّا نعلم أن خاله الشيخ توفيق صالح عثمان صالح معتقل في ذات السجن مع الشيخ حسن الترابي والشيخ ياسين عمر الامام والشيخ توفيق طه، لكن ذلك وحده لم يكن سبباً كافياً أن يبدي لنا كل ذلك التضامن.. كان لا يقنع بتشجيعنا ولكنه يعزم علينا حتى نكمل خمسة أجزاء من الكتاب الكريم قبل آذان الفجر.. ابتسم الأستاذ الطيب صالح وقال:أنا كتبت عن هذه الروح المتسامحة المميزة لأهل أمدرمان والتي كأنما استجمعتها من كل أنحاء السودان ثم فاضت بها عليهم.. لكن جماعتكم هؤلاء جماعة الخير طفقوا في حماس وهمّة يبددون كل ذلك).. نجحت إذا و لو قليلا في تسلية الغمام وقد وصلت الحافلة.
أفقت من الحضرة والحضور وعادت شوارع لندن من جديد تعلن عن أمسياتها الموحشة.. هذا شارع ويست بون قروف وعلى بعد خطوات تقاطع (كوينز وي) الذي ينتهي وشيكاً عند شارع (بيز وتر) قبالة (هايد بارك) حيث جلست للغمامة اخر مرة.. طالعت من جديد الملصق الذي يعلن عن معرض الفنانة التشكيلية السودانية الشابة على مدخل القاعة التي تحمل اسم (الكوفة)، والتي هي بعض امتداد لمكتبة (الساقي). أضحت الساقي معلما يرمز للثقافة العربية في لندن، وهي أيضاً دار نشر للكتاب قد تكون الاشهر في العالم العربي، اللبنانيون لا يقنعون بالواحد ولا يرضون إلا بالكبير، أو كما غنت (فيروز): بيقولوا صغير بلدي.. يا صغير وكبير.. يا زغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي. هكذا كلما جئنا على ذكر اللبنانيين والساقي وكثيراً ما نفعل كان الطيب صالح يذكرني بما كتب عن شعب لبنان وعن شعب السودان، إنه يرى روابط بين هذين الشعبين ويأسّى لهما على نحوٍ خاص. فالسودان هو بلده الذي عَبّر أكثر من مرة أنه لا يمتن عليه بشيء لأنه ذرة من ترابه، رغم أنه لم ينل منه ما ناله أغلب مجايليه من السودانيين.. لم يذهب ممنوحاً في بعثة دراسية و لم يعمل طويلاً لدى حكومة السودان ولم يتزوج من سودانية ومع ذلك لا سبيل للمَنِّ على الوطن. أما لبنان حيث نشرت أعماله الادبية أول مرة وحيث ذاع صيته وأنتشر اسمه مثل ضوء النهار في عالم العرب من عمان إلى القيروان وفق تعبيره. يقول الطيب صالح: مبعث أساي على شعب لبنان وشعب السودان هو الناس الطيبين البسطاء في كلا البلدين الذين لا يريدون علوّاً في الارض ولا فساداً.. يكدون ليل نهار من أجل اللقمة الحلال وهم يقدمونها للأبناء والأهل عن طيب نفس، هؤلاء الطيبون يدفعون ثمن حماقات الساسة وطموحات الكبار وصراعاتهم جميعاً في سبيل القوة والمجد.. تطحنهم الحرب الاهلية كل يوم بالجوع و النزوح والأمراض والأوبئة، قليلون في هذه النخبة مثل حمد ود حليمة في(مريود) عندما دعته نفسه للمجد زجرها.
***
لسبب ما لا أعرفه اعترت صديقنا الدكتور مجاهد الحسن سكينة و هدوء رغم طبع له مشهور بالحماسة المفرطة والانفعال في أيّما نقاش خاصة اذا كان موصولا بشؤون السياسة أو شؤون الفكر. الجلوس أمام الطيب صالح يُنزل على الناس(ذوي الحسّ) كما يقول جمال محمد احمد، أمنّاً وطمأنينة، فرغم أن صديقنا الطبيب بعيد عن مجالات فنّ الرواية ونقدها فانه محب للموسيقى و موصولاً بالسياسة والفكر.. لم أفق من عمق ذلك السكون إلا بصوت الطيب صالح يفجر عمقا آخر بكلماته التي تمشي الهوينا:
- بعد مائة عام من الآن إذا تأملنا تجربتكم في حكم السودان.. ما هو المجيد و البطولي فيها؟
إخطار الاديب الكبير أشد الأوصاف الانجليزية قوة ومباشرة: ما هو الــ Heroic.. ولأسباب أخرى أعمق من يُدرك كنهها، كان الطيب صالح –كذلك- في مزاج رائق و نفس متصالحة وهو يتأمل خلف نظارته السميكة المشهد الهاديء، و كذلك لأسباب لا أعيها واتتني اللحظة وجاءني الرد هادئاً:
- لو طرحت علي السؤال قبل سبعة أعوام من يومنا هذا كنت سأستفيض في الرد، كنت سأقول لك أنهم كانوا بضع أفراد لأول تاريخ هذه الحركة، وكانوا في أضعف حلقات النخبة، بمعنى أنهم كانوا طلاباً في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، وعندما دخلوا السجن مع انقلاب النميري في 1969م تركوا خلفهم تاريخ من نائبين أو ثلاثة نواب في البرلمان، وعندما عادوا في 1986م إلى ذات القبة كان حصادهم نحو 53 نائباً، أي أن الحزب الأكبر في تاريخ السودان زاد عليهم ببضع نواب، فالاتحادي كان له واحد و ستين نائباً. حدث هذا في أقل من عشرين عاماً، كانت رؤيتي قبل أعوام أن البطولي أن تشق جماعة على هامش الحياة طريقاً جديداً في تربة تقليدية صلدة و تعيد تركيب معادلات السياسة. كان السودان كأنه موزع بالقسط بين طائفة الختمية وطائفة الأنصار وخرج من بيوتهم جيل جديد شق طريقاً جديداً.
أغراني الصمت الكبير والتأمل المهيب ورأيت طيف السكينة ثانيةً خلال الدخان المتصاعد، فاستأنفت حديثي:
- أعلم أنك تقصد (البطولي) في تجربة الدولة، وكذلك اذا سألتني السؤال قبل بضع أعوام، كنت سأقول لك أننا أخذنا الحكم انقلابا واستلابا بالقوة، لكننا أنقذنا بلداً من التمزق، ثم في بضع أعوام أوقفنا زحف تمرد شرس كان يريد أن يقسم البلاد، و أننا طبقنا نظاماً اتحادي في بلد مترامي الأطراف كانت كلمة الفيدرالية بمثابة (تابو) لدى آبائه الوطنيين المؤسسين، و يمكن أن أذكر إنجازات أخرى غير ذلك قد تلحقنا (بالمجد) أو(البطولات) كما سميتها، لكنني اليوم وبعد مكابدة عشر سنين مع الحكم أجد في نفسي التزام تام تجاه قضية الحرية، وهو في جوهره التزام فكري موصول بالضمير(INTELECTUAL)، أقايس به حتى سابقات التاريخ الاسلامي وانظر به لمنجزات ما عرف بالحضارة الاسلامية، ورغم استصحابي للسياقات التاريخية والنفسية لتلك المرحلة من تطور الانسانية، فإني أعجب من السنوات القليلة التي كان الحكم فيها يسمى راشدا.. عندما عدت إلى السودان من فرنسا كنت على إطلاع وافٍ على (ميشيل فوكو) وكنت على قناعة لا بأس بها من نجاعة منهجه الذي يفكك الخطابات ليرى ما هو (أيدلوجي) أو ما هو (سياسي) موصول بالانحيازات والإكراهات والطموحات الشخصية، لكني لم أطبق المنظومة المنهجية التفكيكية على الخطابات التي كنت أنتمي إليها، ولذلك كتبت في مقال لي نشر في جريدة الحياة قبل أسابيع أنني ألوم نفسي بسخاء في ذلك كما يقول إدورد سعيد، وأنني أشعر بالخجل من نفسي ومن الآخرين أنني أوليت أولئك النفر كل تلك الثقة لكل تلك الفترة الطويلة.. أكملت مرافعتي والأديب الكبير ما يزال غارقاً في صمته، ثم لعلني أفلحت في توجيه نظره ناحية أخرى، أو لعل روح الفنان قد غلبت على رؤى المفكر، أي غلبت الفكاهة على الصرامة كما يفعل الفن دائماً وفقاً لميلان كونديرا، وسمعت الصوت العميق يأتي من مكان آخر غلبت فيه المودة على أسئلة البطولة و المجد:
- في طريقي اليكم قابلت واحداً يبدو أنه من جماعتكم استوقفني بصحبة زوجته أمام (الوايت ليز) و حيّوني بمودّة بالغة وعبروا عن سعادتهم برؤيتي.
قلت: نعم هو طبيب من جماعتنا.
عندها تنهد الأديب الكبير وأرسل تعليقه الذي سمعت الكثيرين يَقصُّونه بعد ذلك وكان قد سارت به الركبان:
- يا أخي جماعتكم ديل يحيروا، مثلاً أنت وعبد الوهاب الافندي أعرفكم من مدة طويلة وأرى أنكم ناس جيدين جداً، ثم عرفت مهدي ابراهيم وغازي صلاح الدين وقبلكم كنت صديق لمحمد يوسف محمد وأحمد عبد الرحمن، أنتم واحداً واحداً ناس كويسين، ما الذي يحدث إذن عندما تجتمعون..
قال الاديب كل ذلك بروح الفن وأدخلني في حالة المرح الذي تُحييه فكاهة المفارقة وطفقت في الضحك الداخلي بلا صوت قبل أن يوالي الأستاذ خطوات العودة إلى الفكر والجدية:
- أنت قوّمت المجد والبطولة بالموقف من الحُريّة و أنا أوافقك على ذلك، لكن تذكر أننا تناقشنا من قبل حول كتاب(الهوية الفرنسية) لـــ فرناند برودل وأني أوصيتك بأن تبعث بنسخة إلى شيخ حسن.
- نعم فعلت
- إنني حتى قبل أن أقرأ هذا الكتاب أعتبر أن المكان شيء أساسي، فرنان برودل قرأ هوية فرنسا في ضوء المكان والجغرافيا، نحن في السودان قدَّر الله لنا أن نكون في طرف العالم الاسلامي، أنا قلت أكثر من مرة أننا لسنا مثل العراق أو سوريا أو الجزيرة العربية أو حتى مصر، لو أراد الله لنا أن نؤدي دور القيادة لكُنّا هنالك. أشار برودل –كذلك- إلى دور الاطراف في صنع الهوية الفرنسية( The peripheriqu)، كلها كانت ترفد القلب فيزداد ثراءً، و عبر تاريخ طويل من هذه العملية الهادئة تكونت هويّة فرنسية.. يا أخي أنا والله أستغرب جداً في شخص يستيقظ مبكراً و يعتلي دبابة و يقول أنه يريد أن يحكم و أن يُغيّر البلد، حتى الذي يقول أنه يريد أن يحكم الناس بالشريعة أقول له أن الله – سبحانه- هو الذي يقدر ذلك لو أراد للناس أن يتحاكموا بالشريعة. فالمكان له منطق قوّي تَكوَّن عبر القرون ولا يمكن لشخص أن يأتي و يقول أنه يريد بقرار سياسي أن يُعيد صياغة هذه المسألة. نحن في أطراف العالم العربي ودورنا هو أن ندخل بينهم بالحسنى و أن نتوسط كما فعل محمد أحمد المحجوب بعد نكبة 1967م، كان كل الزعماء العرب في بيته و هو رجل عظيم فتوسط بين أكبر زعيمين –يومئذٍ- في العالم العربي وأنهى قطيعة طويلة بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر رحمهم الله جميعاً. السياسة أخذت عباقرة السودان فلم ينتفع السودان منهم كما ينبغي. الترابي من عباقرة السودانيين و كذلك محمود محمد طه والصادق المهدي ومنصور خالد، وحده المحجوب كان يعتبر نفسه شاعراً أولاً حتى وهو منخرط إلى أعماقه في السياسة حتى و هو منشغل بها عن كل ما عداها.
***
أعاد إلي ذلك اللقاء الهاديء المحفوف بالسكينة ذكرى لقاء آخر مع الأديب الكبير. كانت حالة نادرة خرج فيها الأستاذ عن صمته وكأنه يستدعي كل ما في نفسه من شراسة، أولعله أراد أن يصفي حساب له قديم مع الشيخ حسن الترابي. اختار الأستاذ مناسبة غداء دعانا إليه الأستاذ حسن تاج السر في فندف (كمبرلاند) ناحية (ماربيل آرش)، على شرف قدوم الأستاذ غازي سليمان إلى لندن بعد فترة اعتقال قاسٍ تعرض له، فكانت السياسة بالطبع أول طبق نضعه على نحو تلقائي قبل أن تتوافد على المائدة صنوف الطعام. همز هامزٌ في نفس الطيب صالح فتدفق موجات من الهجوم، و نحن في العام الثاني أوالثالث من الألفية الجديدة و قد غادر الشيخ الترابي السلطة إلى محابسه يلبث في السجن منذ بضع سنين:
- أعرف الترابي من قديم، أذكر أنه جاء إلى هنا وقد تزوج حديثاً إلى السيدة وصال المهدي و علمت من شقيقها عصام –رحمه الله- بذلك و قد كان مقيما بسويسرا. أذكر أن دعوتهما إلى غداء أو عشاء وكان الرجل يبشر بأملٍ ما، لكني قابلته بعد ذلك ولم أر فيه حتى تواضع المسلم. قابلته في عمان بالأردن بين مجموعة من الإسلاميين من الاردن وفلسطين وغيرهما. كانوا يسألونه عن السودان والإسلام وكان يجيب، كانوا جميعاً ذوي أجسام ممتلئة و كان الترابي وسطهم نحيلاً لا يكاد يبين، وكنت أقول في نفسي كيف لهذا النحيل أن يأتي بالإسلام والخلافة لهؤلاء السِمّان، لعلهم كانوا يسخرون من ذلك و كان هو مصدق..
يضحك الاديب الكبير ضحكة خبيئة ممزوجة بسخرية لا تخفى ويواصل هجومه الضاري:
أنا كتبت لإخواننا هؤلاء أنهم لو سألوا راعياً للإبل في سهول البطانة أو راعياً للضأن في سهول الكبابيش لقال لهم إن الامر أسهل مما تظنون و أصعب بكثير مما تظنون..
التزمت الصمت التام يومي، ولم أشأ أن أرد هجوم الكاتب الكبير أو أجيب عليه بأي صورة من الصور، فظل المسرح خالياً من مبارز آخر يقارع ضربات الأستاذ القوية أو خبطاته الناعمة.. إلا من تعليقات أستاذنا الكبير محمد الحسن أحمد عليه رحمة الله و هو دائماً لا يخشى في الحق لومة لائم:
- و الله يا الطيب إلى أن خرجنا من السودان كان الترابي أشد السياسيين تواضعاً، نزوره في بيته أو نذهب إلى مكتبه في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار فلا يصدنا صاد أو يمنعنا مانع.. ندخل عليه ونجادله في كل الامور ولا نستشعر حرجاً.
لم يتدخل متدخل من الحاضرين سوى ذلك، وسوى نظرات متصلة من الاستاذ غازي سليمان ضيف الشرف توميء عن حرجه من الموقف وعدم رضاه، و كان ذلك كافياً لي في تلك اللحظة من ذلك اليوم. و بعد أكثر من عامين و في منزل الأستاذ حسن تاج السر بعد إفطار رمضاني إبتدرني الاديب الكبير و كأنه يعتذر عن ذلك اليوم:
- يا محبوب في تفسير الترابي للقرآن هل مررتم على سورة يوسف؟
- نعم.
- كيف فسرتم طلب يوسف من إخوته: (أئتوني باخٍ لكم من أبيكم).. ألم يستغرب إخوة يوسف أنفسهم من الطلب ويسألوا كيف عرف يوسف وقد أصبح (العزيز) كيف عرف أن لهم أخاً من أبيهم لم يأتِ معهم؟
- نستصحب دائماً في تفسيرنا لقصص القرآن، أن القرآن ينشد العبرة والموعظة والاسوة والقدوة و ليس الحكاية وعندما تثور مثل هذه الاسئلة نعمُد إلى تصور ربّما يساعد على ملأ الفراغ في أذهاننا، مثلاً نتوقع أنهم قدّروا أن العزيز ربما عرف من حديث له مع أهل القافلة القادمة معهم من ديار يعقوب، وأن يوسف بما رأوا من حسن أخلاقه رُبّما يسأل لأنه ظن أنهم منعوا أخيهم من صحبتهم لأنه من أبيهم.
- ثم القرآن لا يأتي على كثير من التفاصيل.. أعتقد أن الترابي و قد بلغ مرحلة تفسير القرآن سيعيد النظر في كثير من المواقف والأفكار.. أنا قابلته في عمان بعد انقلاب الانقاذ وتحدثنا قلت له السودان لا يمكن أن يقود فنحن لسنا مكة ولا دمشق ولا القاهرة ولا بغداد نحن أطراف العرب.
- نعم ذكر لي الشيخ ذلك.
- بالله ماذا قال؟
- قال أن الطيب صالح قال له السودان في هامش الدول العربية ولا يمكن أن يقود وأنا قلت له أن مكة كانت مستضعفة و العرب كانو على هامش الحضارة وتغيروا بعد القرآن، وأن الطيب صالح قال لي بأي حق أنتم اليوم تحكمون الشعب السوداني، وأنا قلت له بأي حق جاء الانجليز الآف الأميال و حكموا السودان؟
ابتسم الأستاذ الطيب صالح ابتسامة كبيرة و قال بمرح:
- بالله الشيخ ما يزال يذكر ذلك اللقاء.
أيام الطيب صالح (2): (كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا) ..
يختار الطيب صالح مباغتة يستهل بها الحديث كُلما لقيته، أذكر تلك المرة في ذات منزل الاستاذ حسن تاج السر وقد كان الحضور أكثر من المعتاد قليلاً. على مدى عامين كان ذلك المجلس يضم الأساتذة الاجلاء محمد الحسن أحمد و بونا ملوال و عبد الوهاب الافندي و الصحفي الراحل حسن ساتي رحمة الله، ثم أيَّما زائر يجود به صيف لندن وقد كان ذلك الصيف مِجوّاداً بوجوه كريمة، أذكر منهم الاستاذ الشاعر الدكتور علي شبيكة والاستاذ السر قدور والدكتور جعفر كرار. لا أدري لماذا اختار أستاذنا الطيب صالح ذلك الاستهلال:
- يا محبوب هل سمعت قول الحجاج بن يوسف (اللهم أغفر لي وقد زعم أُناس أنك لن تفعل).
غلبت ضحكتي المباغتة الأستاذ وأنا اتأمل عناصر المفارقة المجتمعة في مقولة الحجاج ومقدار السخرية حين أناسبها إلى حالتي من سُلالة الحجاج المعاصرين، ثم خطر لي أن أصرفه إلى موضوع آخر:
- كيف هي الصحة؟ لعلها بخير.
- الحمد لله، بعد السبعين الناس دائما تسأل عن الصحة.
- أقصد العصاة.
- نعم هذه تتوكأ عليها الرِكبَة تحتاج لسند.
كانت تلك أول مرة أسمع كلمة الرِكبَة بكسر الراء وسكون الكاف والباء المفتوحة، و قبل أن استرسل في خاطرة اللغة، واصل الأستاذ وهو يحكم القبضة على العصاة ويهزها هزاً خفيفاً:
- العصاة أحياناً يقولون الصولجان.. تصلح للحكم أليس كذلك؟
لفظ عبارته الاخيرة و قد بدت منه ابتسامة ظاهرة تعلن بوضوح عن النية المضمرة من السخرية .. ثم رأيت أن أرد مخاطباً تلك البواعث الظاهرة والخفية:
- أرى يا أستاذنا أن الحجاج ربما أصاب في دعائه، فالرحمة والمغفرة مثل أمور الملك والحكم موكلةٌ أقدارها إلى رب العالمين ليس لأحدٍ من العالمين. عادت الجدية إلى ملامح الاديب الكبير و دخل من فوره إلى جوهر الموضوع:
- نعم والله يا أخي.. تذكر أني حدثتك من عجبي لإنسان أو جماعة تستيقظ في الليل وتمسك بمقاليد الامور عنوة وتعلن أنها تريد أن تحكم و أن تصلح.
أردت أن أحفزه أكثر للحديث في ذات السياق:
- أعتقد أن أغلب هؤلاء الذين يستيقظون من منامهم ليحكموا الناس، إنما يوقظهم هاتف من غيرهم، ربما حزب أو ربما أيدلوجيا، زعيم طموح، يهمس لهم بوعود المستقبل وأحلام جنّة الأيدلوجيا أو رجاءات المشروع الحضاري، و هم في الآخر لن يعدموا خطاباً ولن تعوزهم حجة.
أجاب الاديب الكبير على الفور:
- نعم أنا كتبت ذلك عن النميري، قلت ربما لو لم يستجب لذلك النداء، كانت الامور ستمضي به رخاءً، كان سيصبح قائداً للجيش وعندما يبلغ السن القانونية يذهب إلى المعاش معززاً مكرماً، لكنه ظن أنه مبعوث العناية الإلهية للشعب السوداني وأن أقدار الله بيده، فراح يخبط خبط عشواء مثل ثور داخل مستودع للخزف مليء بالقطع النادرة الجميلة، كنت أقول حتى الذين يقولون أنهم يريدون تطبيق شرع الله كيف عرفوا أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطبق شرعه في هذا الوقت بالذات و بهذه الطريقة.
في ذلك اليوم أيضاً أخذنا الحديث لزعيم آخر، السيد الصادق المهدي:
- السيد الصادق المهدي في روايته لسيرة حياته في حلقات مطولة مع الصحفي اللبناني غسان شربل الذي نشر مقابلات حول حياة الزعماء الذين جمعوا بين الساسة والدين، وقد اختار شخصية السيد الصادق المهدي بعد النجاح الذي قوبلت به حلقاته مع الشيخ محمد حسين فضل الله بمجلة الوسط. قال السيد الصادق أن حياته بلاء، وأنه ولد في الخامس والعشرين من ديسمبر وأن عمه يحيى الذي كان في الثامنة من عمره كان يشير إلى بطن أمه و يقول أن مهاجر سيصل يوم الاربعاء و عندما كان يسأل من أين يصل كان يقول مهاجر سيصل من كبكابيه، و أنه فعلاً ولد يوم الأربعاء، وعندما حمل نبأ الميلاد إلى جده السيد عبد الرحمن وقد كان يقرأ في سورة ابراهيم من المصحف، فجاء طائر القمرية و حطّ على رأسه، وقد نوى الامام عبد الرحمن أن يسميه إبراهيم تيمناً بالسورة، لكن أحد الزوار أشار إليه أن يسميه بأحد أسمائه وقد كان.
رأيت رواية الامام و قد أخذت الاديب الكبير إلى تأمل عميق لم يلبث أن شق صمته الصوت العميق مثل أمواج البحر:
- هؤلاء الناس ولدوا في بيئة مليئة بالمثيولوجيا.
حاولت المحافظة على وتيرة العمق الذي خرج به تعليق الاستاذ:
- كلنا ولدنا في بيئة مليئة بالمثيلوجيا، والدليل روايات الطيب صالح، أنت قلت أنك في عرس الزين ثم في بندر شاه و مريود سبقت جماعة الروائيين من أمريكا اللاتينية أمثال جبريال ماركيز الذين تنسب إليه ابتدار وإضافة الواقعية السحرية لعالم الرواية، فالواقعية السحرية جذورها في البيئة التي تزخر بالمثيلوجيا.
- نعم أنا ربما سبقت في ذلك بعقود، وأيضا قلت أن الاغريقي وربما الاوربي المعاصر يجد ملاحمه في الإلياذة والأُوديسا، لكني وجدت ملاحمي الاولى في جماعات المادحين لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، نحن أطفال كانوا يطوفون القرى في الشمالية بملابس زاهية و لكن بإيقاعات تنفذ إلى القلب، عندما يضرب المادح الطار تستشعره في قلبك، ثم القصيدة المادحة التي تحكي لك المغازي والسير في ذلك المناخ المهيب.
- و قلت أيضاً في زيارتك للحرم المكي والحرم المدني: رحم الله حاج الماحي أراه و اسمع صوته كلما زرت هذه البقاع المباركة..
- نعم نعم، حاج الماحي القائل يصف بلح المدينة (أدوني تفاحتين بلح).
- نعم أنت كتبت ذلك و ذَكَّرتني بأبيات أحبها لنزار قباني حيث يقول: و أن يكون قلب الشاعر تفاحة يقضمها الاطفال في الأزقة الشعبية.
- نزار هذا شاعر، كلما لقيني يطلب مني أن أقرأ له من شعره، يحب أن يسمع شعره بصوتي و أنا أحب أن أقرأ شعره.
***
لم ألبث حتى جاءني الصوت هذه المرة عبر هاتف:
- السلام عليكم، معاك عمك الطيب صالح.
- مرحباً يا أستاذنا.
- مازلت تسكن ناحية نوتنغ هل قيت.
- نعم حيث كنت.
- غداً سأنزل إلى لندن، سأذهب لجريدة الحياة، أريد أن أسجل اشتراك معهم حتى تصلني للبيت، لا أجد وقت كثير لقرآءة الصحف لكني مهتم بقرآءة مقال أدونيس فهو ينشر عندهم كل اثنين. ما رأيك أن نلتقي في (بيز وتر) نفس الفندق غداً في العصر.
- بكل سروري أستاذي انتظارك في الثالثة هنالك.
لعل الاستاذ قد سبقني بدقائق إلى الفندق كانت كافية ليعدّ لي مباغتةً جديدة:
- هل سمعت يا المحبوب قول ابن سينا:
- حرمت الخمر على الدهماء وحللت لأبي الحسن – يعني نفسه، لو عملت لنا فقه كهذا نعينك على الفور إماماً.
أخذتني المباغتة إلى الضحك قبل أن أعرف الموضوع:
- كيف سارت الامور في جريدة الحياة؟
- لا.. جيدة، الجماعة استقبلوني بحفاوة وأخذوني إلى مكتب رئيس التحرير جورج سمعان وقابلت صديقكم نزار ضو النعيم، ورفضوا حتى أن أدفع قيمة الاشتراك.
- نعم نزار صديق قريب من قديم وله قصة مع اسمه في جريدة الحياة، أول ما عمل في هذه الصحيفة قبل سنوات اقترح عليه الاخوة اللبنانيين يختصر اسمه بدل نزار ضو النعيم إلى نزار نعيم، و لكنه استعصم باسم أبيه كاملاً ورفض التغيير البتّة.
- ليه يا أخي ضو النعيم اسم جميل..
ثم استغرق الاستاذ في ثوانٍ من الصمت قبل أن يأخذني إلى الضحك مرة ثانية:
- أنا طبعاً عندي ضو البيت.
- هل قرأت الخبر الذي نشرته الاهرام القاهرية قبل أيام أنك في رحلتك الاخيرة إلى القاهرة شرعت في كتابة رواية جديدة بعنوان (جبر الدار).
- بالله ياريت يا أخي الكلام ده كان يكون حقيقة، وقد جئنا قبل قليل على ذكر ضو البيت، وهي الجزء الاول من بندر شاه و مريود هي الجزء الثاني، وهي في تخطيطي لها مشروع ربما يأخذ اربعة أو خمسة أجزاء.
نجحت إذاً في أخذ الاستاذ إلى عمق الموضوع وأردت أن يمضي إلى الاعمق:
- أنت يا استاذ في حديثك عن اسم بندر شاه قلت أن بندر ترمز إلى البندر التي تعني (المدينة) و كلمة شاه ترمز إلى (الحكم) أو (السلطة)، لان قضية السودان في تقديرك هي السعي للمدنية ثم البحث عن صيغة لحكم أنفسنا.
- نعم قلت ذلك، بل منذ دومة ود حامد و هي قصة أشار كثيراً من النقاد إلى أنها قصة سياسية، قلت أن المكان يسع الدومة و الباخرة وطرمبة المياه. هناك مساحة للجميع، لكن حتى الذين يأخذون السلطة باسم العدالة وباسم العمال والفلاحيين لم يفوضوهم لذلك ولم يطلبوا منهم أن يتولوه إنابة عنهم.
أعادتني كلمات الأديب الكبير إلى مشهد في مريود من أشد صور الأدب التي تفيض بالسخرية و المفارقة و تدعوا إلى الضحك، لأني أؤمن مع ميلان كونديرا أن الفكاهة هي العمق الأعمق للرواية، وآثرت أن أستثير الاديب بكلماته:
- أنت قلت في مريود في سؤال على لسان أحد الفلاحين: إنت العمال والفلاحيين ديل بلدهم – وين؟! و زيادة الانتاج دي شنو؟ و رد عليه الاخر: الانتاج ياهو السجم البنعمل فيهو ده وزيادة الانتاج يعني تخت السجم فوق الرماد. ثم جاء التعليق من أحد الفلاحين: ما دام ونستنا دي بقوا يجيبوها في الجرايد والاذاعات، يمكن الحاصل ده خير.
- نعم هذا الذي أدعو له، رغم أن ذلك في مجمله كان تعليق على مناخات كانت تسود أيام النميري و ثورة مايو، لكني لا أرى أن من حق إنسان أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملة، أنا أدعوا للاعتدال والتسامح مع الاخر وعلى المستوى الشخصي أقبل الناس على علّاتهم.
شجعني الاستغراق النادر من الأديب الكبير في الحديث عن أدبه أن أُبحر معه إلى عمق جديد:
- أنت منذ عرس الزين كنت تدعوا إلى شيء من ذلك، حتى أن أحد النقاد وصفها بأنها (زغرودة طويلة للحياة) ولكني أرى فيها دعوة للتسامح.
- نعم هي دعوة للتسامح فالذي يصلي والذي يغني والذي يسكر كلهم يسعهم المكان إذا أتسع الوعي بأتساع القلوب.
لم أبرح حتى بثثت الاديب الكبير همي الاكبر.
- متى تعود لكتابة الرواية.
- عندي الرغبة للعودة للرواية ولكني كمن فقد الشهية.
- عندي رأي، إنك لن تعود إلى الكتابة إلا إذا عدت إلى كرمكول وعشت بين الفلاحين وتحدثت إلى بسطاء الناس ذوي الحس كما يقول صديقك جمال محمد أحمد.
صمت الاديب مليّاً، قبل أن يفاجئني بالرد.
- نعم ربما هذا أصوب رأي حتى أعود إلى الكتابة، كتابة الرواية
أعلى