إذا راجعنا مادة عَنسَ في لسان العرب فإننا سرعان ما نتبيّن أنّها تُطلق على الرجل والمرأة فـ"العانِس من الرجال والنساء الذي يَبقى زماناً بعد أَن يُدْرِك لا يتزوج"، "ورجل عانِس والجمع العانِسُون".
وهذا يدل على أنّ اللغة العربية لم تتحيز لجنس على حساب آخر، ولكنّ الاستعمال اللغوي رسّخ خلاف الأصل اللغوي فاستقرّ في الأذهان أنّ العنوسة تخصّ النساء فهي عيب طارئ عليهن، يُخرجهن من الحالة الطبيعية والسوية.
ولم يغفل اللغويون هذا الاستعمال فقالوا: العانس "أكثر ما يُستعمل في النساء"، فعبّروا بذلك عن قيم المجتمع الذكوري ومصالحه.
فلا غضاضة حينئذ أن وجدنا اللغويين يُسهبون في تعريف العانس من النساء وفي المقابل ألفيناهم يوجزون في تعريف العانس من الرجال. فـ "عانس من نِسوة عُنَّسٍ وعَوَانِسَ وعَنَّسَتْ وهي مُعَنَّس وعَنَّسَها أَهلُها حَبَسُوها عن الأَزواج حتى جازت فَتَاءَ السِّن ولمَّا تَعْجُزْ.. عَنَسَتِ المرأِة فهي عانِس وعُنِّسَت فهي مُعَنِّسَة إِذا كَبِرَت وعَجَزَتْ في بيت أَبويها قال الجوهري عَنَسَتِ الجارية تَعْنُس إِذا طال مكثها في منزل أَهلها بعد إِدْراكها حتى خرجتْ من عِداد الأَبكار هذا ما لم تتزوج فإِن تزوجت مرَّة فلا يقال عَنَسَت... وفي حديث الشعبي سئل عن الرجل يَدخل بالمرأَة على أَنها بكر فيقول لم أَجدها عَذْراء فقال إِن العُذْرة قد يُذهِبها التَعْنيسُ والحَيْضَة وقال الليث عَنَسَت إِذا صارت نَصَفاً وهي بكر ولم تتزوَّج وقال الفَرَّاء امرأَة عانس التي لم تتزوج وهي تترقب ذلك وهي المُعَنَّسة وقال الكسائي العَانِس فوق المُعْصِر".
والجدير بالذكر أنّ عددا من اللغويين أجازوا فعل "عَنست" المرأة، إذا كانت فاعلة متحكّمة بإرادتها بينما اعترض آخرون فرأوا "أنّه لا يقال عَنست بل عُنّست وعنًّسها أهلها، أي حبسوها عن الأزواج"، بمعنى أنهم حاولوا سلب إرادة العانس، وجعل قرارها بيد غيرها.
أما في اللغة الإنجليزية فنجد أن لفظ "Spinster" هو الذي يعبر عن العانس فهو يشير إلى المرأة غير المتزوجة، ويتسم تاريخ هذا المصطلح بالتقلب الشديد، فالكلمة أصلاً لا تشير إلا إلى الوضع العائلي، لكنها أصبحت محملة بدلالات سلبية كثيفة حتى ندر استعمالها حالياً وكادت تصبح كلمة مهجورة.
ويرجع أصل الكلمة إلى الاعتقاد الاقتصادي بأن أي امرأة غير متزوجة، وليس لها مورد مالي غير الزواج، ليس أمامها إلا أن تعول نفسها بالعمل في مصنع للغزل ومن هنا يتضح أن أصل المصطلح ينطوي على تمييز طبقي، وهو ما اشتدت دلالته مع مرور الوقت، حتى صار الاستهزاء من نصيب نساء الطبقة الوسطى أكثر من غيرهن.
وفي أوائل العصر الفيكتوري كانت الأيديولوجية الأبوية قد نجحت في قصر وجود نساء الطبقة الوسطى على الحياة المنزلية، ولذلك كانت المرأة التي لم تتزوج تظل في بيت أبيها.
ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت غير المتزوجات يُنظر إليهن على أنهن متطفلات وعبء مالي وأنهن فشلن في القيام بواجباتهن النسائية، حتى أصبحت المرأة غير المتزوجة في عام 1911 توصف بأنها "فضلة".
ثم جاءت الحركة المعروفة بحركة "المرأة الجديدة" لتوسع من الفرص التعليمية والوظيفية المتاحة أمام الطبقة الوسطى، ولكن في حقيقة الأمر فإن نتائج الحرب العالمية الأولى هي التي مكنت المرأة غير المتزوجة من استعادة مكانتها واحترامها.
فبدأت النسوية الداعية للمساواة تمحو تدريجياً الوصمة التي ألصقت بالعنوسة، إلى أن أصبح الزواج اختياراً لا فرضاً.
فإذا انتقلنا إلى تمثلات العنوسة في نماذج أدبية مختلفة من الأدبين العربي والأجنبي فإننا سنجد أن الغيمة السوداء التي أحاطت في هذا اللفظ ظهرت أكثر وضوحًا في نماذج الأدب العربي، وحتى لا يظل الحكم معلقًا دون دليل، سأبين عن بعض نماذج الشعر العربي، وأبدأ بالتساؤل كيف رأى الشاعر العربي المرأة العانس؟ وكيف تمثلها بصور مختلفة؟ وهل يمكن أن نخرج بنمط واحد درج عليه الشعراء في تصوير العانس؟
إذا نظرنا بنظرة المستكشف في رحاب شعرنا عن لفظ العانس ودلالاته، نجد أن العانس هي المرأة ذات الوجه الكريه، الذي لا يحبب للنظر، وذلك في قول ابن الآبار:
بِكْرُ الحَدائِقِ والأَحْداقُ شَاهِدَةٌ
لا عانِسٌ جَهْمَةُ المَرأَى وَلا نَصَفُ
وهي التي اتصلت في وعي ابن الرومي بتقدم سني العمر، مما دفعه للتعبير عن ذلك بقوله:
عانسٌ تقهَرُ الشبابَ عجوزٌ
بنت قَرنٍ من الزمانِ وقَرْن
إذ صارت العانس قرينًا للعجوز، وما يتصل بهذه الصيرورة من ضعف وعجز وتغير في الجسم والحال غالبًا.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل باتت هاجسًا مزعجًا، لبعضهم حتى جالت به الرؤية إلى أن يجتمع حال المريض مع حال العانس، وفي ذلك تأكيد على الضعف والعجز، من مثل قول عبيد بن الأبرص:
تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ
سَلَكنَ غُمَيراً دونَهُنَّ غُموضُ
وَبَيتِ عَذارى يَرتَمينَ بِخِدرِهِ
دَخَلتُ وَفيهِ عانِسٌ وَمَريضُ
ويلحظ أن عبيدًا حاول إقامة تمييز متعمد بين العذارى والعوانس، فكأنه يشير إلى حال الديار وقد أوحشت بعد أهلها بإقامة صورة موازية وهي خلو بيت العذارى من العذارى، وبقاء العوانس والمرضى، وفي ذلك تعطيل لأهمية المرأة العانس، ومحاولة لتشويه قيمتها الوجودية.
وقد استخدم لفظ العانس للدلالة على الخمر في أبيات عديدة من الشعر العربي، ولعل إطلاق لفظ العانس على الخمر جاء من قبيل فساد العقل، إذ رأوا فيها أنها امراة ناقصة عقل كذلك، ومن ذلك قول ابن طباطبا العلوي:
مخدّرة مَكنونة قَد تَكَشَفَت
كَراهِبَة بَينَ الحِسان الأَوانس
مُشَعشعة مرهاء ما خلت إِنَّني
أَرى مثلها عَذراء في زيِّ عانس
فالعانس في هذه الأبيات بمثابة جرار الخمر "هي زي" والخمر هي العذراء، وجرار الخمر لا قيمة لها فالمبتغى هو الخمر، واللذة في الخمر لا في الجرار، وكل هذه الصور تؤكد خواء داخل العانس فهي مجرد مظهر، ولكنها مفرغة من القيمة الحقيقية في نظر الآخرين ويمكن التخلي عنها.
وفي أبيات أخرى وظف لفظ العانس للدلالة على النخلة، وهذا التوظيف خارج عن الأصل اللغوي للفظ العانس، إذ إنه من ابتكار الشاعر، على عكس الدلالة على الخمر إذ انها من قبيل الأصل اللغوي، قال معن بن أوس المزني:
كأَنَّما هِي عَانِسٌ تَصَدَّى
تخشى الكَسَادَ وَتُحِبُّ النَّقدا
فهي تَرَدَّى بَعدَ بُردٍ بُردَا
ويلحظ أن هذا التوظيف جاء لبيان الضعف والهلاك "تردى" واصفرار اللون"الصدى"، والكساد الذي هو عدم نفاق الشيء لقلة الرغبة فيه، وكل هذه الدلالات سلبية، تحاول سلب الحياة التي يمكن أن ينبض بها لفظ العانس.
وفي بعض الأبيات قد تظهر الفروق اللغوية التي كان يعمد إليها اللغويون، لوصف حال الفتاة من مثل قول ابن رشيق القيرواني:
أَوحَشنِي الأَوَانِسْ
هُنَّ الظِّبَا الكَوانِسْ
وهْو فتاةٌ مُعْصِرٌ
فيكَ وفيهمُ عَانِس
فـ "العانس فوق المعصر" على حد تعبير الكسائي،وقد فصل أبو منصور الثعالبي القول " في تَرْتِيبِ سِنِّ المَرْأةِ": في الفصل السابع من كتاب فقه اللغة وسر العربية، فقال :"هِيَ طِفْلَة مَا دَامَتْ صَغِيرَةً، ثُمَّ وَليدَةٌ إِذَا تَحَرَّكَتْ، ثُمَّ كَاعِب إذا كَعَبَ ثَدْيُهَا، ثُمَّ نَاهد إذا زَادَ، ثُمَّ مُعْصِر إذا أَدْرَكَتْ، ثُمَّ عَانِس إذا ارْتَفَعَتْ عَنْ حَدِّ الإعْصَارِ، ثُمَّ خَوْد إذا تَوَسَّطَتِ الشَّبَابَ، ثُمَّ مُسْلِف إذا جَاوَزَت الأرْبَعِينَ، ثُمَّ نَصَف إذا كَانَتْ بَيْن الشَّبَاب والتَّعْجِيزِ، ثُمَّ شَهْلَة كَهْلَة إذا وَجَدَتْ مَسَّ الكِبَرِ وَفِيهَا بَقِيَّة وَجَلَدٌ، ثُمَّ شَهْبَرَة إِذَا عَجًّزَتْ وَفِيها تَمَاسُك، ثُمَّ حَيْزَبُون إذَا صَارَتْ عَالِيَةَ السِّنِّ نَاقِصَةَ القوَّةِ، ثُمَّ قَلْعَم وَلطْلِطٌ إذا انْحَنَى قَدُّهَا وَسَقَطَتْ أَسْنَانُهَا".
وفي المعاجم اللغوية أشار بعضهم خطأ إلى أن العانس لا تجتمع مع البكر، وقد تنبه ابن قلاقس إلى هذا حين قال:
لم يُطِقْ هواهُ فَباحا
عندما رام الخليطَ ورواحا
عانسٌ بكرٌ وقد قلَدوها
حين درَتْ من حَبابٍ وشاحا
ومثله الأعشى الذي ميز بين الطفلة، والعانس، والمهزاق:
يَومَ قَفَّت حُمولُهُم فَتَوَلَّوا
قَطَّعوا مَعهَدَ الخَليطِ فَشاقوا
حُرَّةٌ طَفلَةُ الأَنامِلِ كَالدُم
يَةِ لا عانِسٌ وَلا مِهزاقُ
واللافت حقًا في قوله سلبه للحرية لكل من العانس والمهزاق ، ومنحه إياها للطفلة، بل وجعله إياها كالدمية دلالة على الجمال والرقة وصغر سنها.
وفي مقام آخر، نجد بعضهم يجعل العانس أهلًا للسخرية والتهكم من مثل قول ابن معصوم:
قُم هاتِها في جُنح لَيلٍ دامسِ
راحاً حكت في الراح شُعلةَ قابسِ
زُفَّت إِلى ماءِ السَماءِ فأَصبحَت
تَهزو بكلِّ مَهاةِ خدرٍ عانسِ
وقد يتمثل كل القبح في شخص العانس، فما أن تتكلم عن قبح الكلام إلا وتستحضر العانس، وما أن تشير إلى الرائحة المنتنة إلا وتكون العانس هي الحامل لها، وما أن تصف قبح الجسد إلا وتجده في جسد العانس، ولعل ما قاله أبو الحسن بن خروف يدل على بعض هذا:
أَيا أَسَدَ الأَدابِ عَطفَةَ راحِمٍ
عَلى نَقَدٍ أَودى بِأَشعارِهِ النَقدُ
أَتَخُبُ مِنّي كُلَّ لَخناءَ عانِسٍ
وَكَيفَ وَخُطبانُ الخُطوبِ لَها نَقدُ
ويكفي أن تراجع لفظ "لخن" في المعاجم لتكشف الدلالات السلبية المشحون بها، ولعل ما حمله هذا اللفظ حملته العانس قهرًا لمجرد أنها عانس.
ويجزئ بك أن تمر مرورًا عابرًا بشعر أبي العلاء المعري، لتجد أن الفلسفة التي عرف بها لم تعفه من السير مع ركب الآخرين، ومن إصراره على النظرة السلبية للعانس، فهي عجوز اختلط سواد شعرها ببياض، ومع جمال الأبيات في سياقها، إلا أنها تشير إشارة واضحة إلى أن العانس أينما وجدت في الشعر تتخذ موقعًا سلبيًا، يقول المعري:
مَهَرْتُ الفَتَاةَ الأحْمَسِيّةَ نَثْرَةً
على أنّ أَقْراني غِضابٌ أحامِسُ
مُعَنِّسَةٌ إنْ جاءها الرّمْحُ خاطِباً
سقَتْهُ ذُعافَ الموتِ شَمطاءُ عانِس
ويؤكد هذه النظرة في أبيات أخرى، فالعانس هي نقيض الأوانس، وهي في مقام الوحوش، وهي عجوز ابيض شعرها، وليته اكتفى بهذا، بل أصر على الإقرار أنه لا خير فيها إذ قال:
أَيا ظَبَياتِ الإِنسِ لَستُ مُنادِياً
وُحوشاً وَلَكِن غانِياتٍ مَعَ الإِنسِ
وَلا خَيرَ في جَونِ الذَوائِبِ عانِسٍ
إِذا لَم يَبِت فَوقَ الرِحالَةِ وَالعَنسِ
ولفظ العانس وإن وظف في أكثر الشعر _كما ظهر لي_ للدلالة على الأنثى التي لم تتزوج، فإنه كذلك قد يطلق على الرجل الذي لم يتزوج، ومن ذلك قول الشاعرأبي ذؤيب الهذلي:
أَلا لَيتَ شِعري هَل تَنظَّرَ خالِدٌ
عيادي على الهِجرانِ أَم هُوَ يائِسُ
فَإِنّي عَلى ما كُنتَ تَعهَدُ بَينَنا
وَليدَينِ حَتّى أَنتَ أَشمَطُ عانِسُ
ولا يخفى على أحد عدّ العانس نذير شؤم، وأنها شوهاء، بمعنى أنها تصيب الناس بعينها وأنها امرأة عابسة، ومشؤومة، وقَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ والوجه، ومتكبرة ومختالة، وهذا ما رآه البحتري في قوله:
قَدْ قُلْتُ للمَسْدُودِ في عانِسٍ
شَوْهاءَ، يضحي وهو صَبًّ بها
إنّ التي سَمَيْتَهَا خِلّةً،
لَيْسَتْ بأسْمَاءَ، وَلا تِرْبِها
وَإنّما أُمُّ بَني وَاصِلٍ،
خِنزِيرَةٌ سَفَسَفَتْ في حُبّهَا
يَكدُرُ صَافي الرّاحِ في شَدْوِها،
وَتَنفُرُ الأوْتَارُ مِنْ ضَرْبِهَا
وقد يخالف الشاعر المألوف فيطلق لفظ العانس على المرأة المتزوجة من باب السخرية والاستهزاء، إذ نرى زوج محمد بن بشير الخارجي العدوانية قد أسنّت، فضربت دونه حجاباً، لما تعرف من رأيه فيها وتوارت عنه، ودعت نسوة من عشيرتها فجلسن عندها يلهون ويتغنين فسمعهن فقال ساخراً:
لَئِن عانِسٌ قَد شابَ بَينَ قَرنِها
إِلى كَعبِها وَاِمتُصَّ عَنها شَبابُها
صَبَت في طِلابِ اللَهوِ يَوماً وَعَلَّقَت
حِجاباً لَقَد كانَت سَتيراً حِجابُها
وهو بذلك يريد إثبات العجز والضعف فيها، وأن مظهرها غير محبب لنفسه، وأنها امرأة لاهية، بمعنى أنها سيئة المظهر والجوهر.
وفي مقابل هذه الصورة السلبية الظاهرة للعانس نجد أشعة باهتة للصورة المقابلة، إذ تظل العانس تحمل حسن الصبا، وكأنها عروس، ولا أدري هل جاءت هذه الصورة عفو الخاطر من الشاعر، أم أنها جاءت كذلك لتدلل على قيمة خمر بابل، فأطلق الحسن على الحامل والمقصود المحمول، أم أنها جاءت في سياق كان الناس فيه سكارى فرأوا خلاف الظاهر، أي اختلطت الصور فباتت العانس عروسًا ، وذلك في قول السري الرفاء:
ودارَتْ على النُّدمانِ من خَمْرِ بابلٍ
عَروسٌ حَوَتْ حُسنَ الصِّبا وهيَ عانِسُ
وفي صورة تمثيلية أخرى يحاول الشريف الرضي أن يبين فيها أن الإنسان قد يسعى لطلب الأشياء المتعبة مع علمه بصعوبتها، فهو قد يتحمل الأذى في مقابل الحصول على ما يريد، والطريف أن العانس تظهر بصورة الفتاة المملوءة بالعلات وهي محبوبة مع هذه العلات، وهذا وضع أقرب للخيال منه للواقع كحال من يتمنى المرأة وهو يعرف أنها معاندة وحادة الخلق وصعبة المراس، وحال من يريد لمس الأنجم مع بعدها، أو حال من يرضى بالعلياء مع الأذى:
تَمَنّى رِجالٌ نَيلَها وَهيَ شامِسُ
وَأَينَ مِنَ النَجمِ الأَكُفُّ اللَوامِسُ
وَلَم أَرَ كَالعَلياءِ تُرضى عَلى الأَذى
وَتُهوى عَلى عِلّاتِها وَهيَ عانِسَ
أما نماذج العنوسة فى النثر الانجليزي_ إذ تعذر رصدها في الشعر بالنسبة لي_ فهي تنحصر في أغلبها أن العانس تحمل في وعيها ما يمنعها من الارتباط بعيدًا عن الأسباب الاجتماعية أو الاقتصادية، فهي في الغالب إما أحبت وفقدت من تحب لأسباب مختلفة، وإما تعرضت لحادث ما أفقدها الثقة في الرجل بوجه عام فأصبحت تخشاه عموما، وإما انها مريضة كما في روايات الأخوات برونتي أو في روايات جين أوستن.
فمثلًا لو أخذنا شخصية أمارنتا "العانس" في رواية مائة عام من العزلة لجابرييل جارسيا ماركيز نجدها فتاة أحبت إلى درجة العشق شخصًا يدعى بيترو كرسبيانو وهو شاب رقيق وغني جاء من إيطاليا ليزرع في "ماكوندو" حب الرقص و الإحساس بموسيقى الآلات، وهو أيضا الشاب نفسه الذي تبادل الحب والعاطفة مع أختها بالتبني.
ففي بداية الرواية نرى أن أمارنتا كانت فتاة طبيعية جدا غمرها الحب من طرف واحد، وأصرت أن تظفر بهذا الحبيب حتى لو اضطرت لقتل أختها، وتستمر بعد ذلك أحداث الرواية .. فنرى التحول الشديد فى مشاعر الشاب بعد أن هربت حبيبته مع شقيق " أمارنتا" العائد بعد غياب .. فنراه أخيرا يشعر بمشاعرها ويبادلها الحب.. لكنها وياللعجب ترفضه وتنبذ حبه وكل ما يتعلق به، وهكذا ينتحر الشاب فى مشهد مأساوي معلنا عن عجزه التام في فهم المرأة.
ونرى كيف يقتل إحساس الندم "امارنتا" فتحرق يدها بنار المدفأة وتغطيها بضماد أسود حتى نهاية عمرها .. وربما كان الضماد الأسود هنا يرمز إلى غلاف الازدراء الذاتي الذي أحاطت به نفسها وقلبها لتتحول بالفعل إلى عانس بدأت تفقد الإحساس بأنوثتها ودفء جوانبها .. فتكتفي طوال الرواية بالتطريز و رعاية أبناء أخواتها ورفض كل من يفكر بالاقتراب منها ... وبعد هذا يسقط أخيرًا ذلك الغلاف السميك لكن اتجاه ابن اخيها المراهق!
وكأن جسدها ذكرها للحظة واحدة متجاهلا كل قوانين الطبيعة أنها بالفعل امرأة أولا وأخيرًا .. وهذا المشهد يذكر كثيرا بقصة "بيت من لحم" لـ "يوسف ادريس" والتي قبلت فيها الأم أن يقوم زوجها بالدور ذاته مع بناتها الثلاث لمجرد إراحة ضميرها المتأجج ولاعترافها الصادق أيضا أن المرأة هي أولا وأخيرا امرأة وتحمل جسد امرأة وليس لمجرد كونها عانس فهي فقدت جزء من تكوينها.
وكأن الجميع بمن فيهم الأدباء يؤمن بأن العنوسة تقتل الروح وتخنق العاطفة لكنها تنهزم فقط أمام رغبات الجسد، وأنا أختلف كثيرا معهم بنظرتهم تلك الأحادية للمرأة العانس.
فـ "أمارنتا" التي أحبت حتى العشق وكرهت حتى الحقد وغضبت حتى الجنون تبدو وكأنها هي النموذج الإنساني للمرأة في كل الثقافات.. المرأة التي تظلم نفسها أولًا.. وتظلمها الظروف ثانيا.. ويظلمها الرجل ثالثا.. وتظلمها المرأة داخلها رابعا وخامسا وسادسا.. ويمكنك أن تواصل العد بعد ذلك إلى الحد الذي تتصور معه أن أنفاسك وصبرك قد يبلغه.
وفي رواية "جوزيف أندروز" لـ "هنري فايلدينج" كانت شخصية العانس تفرغ كل طاقتها في تعلم اللغة لتحسن من طريقة حديثها لكنها كانت تخلط بين الكلمات بشكل مضحك فتقول مثلا insence بدلا من essence وكانت طوال ظهورها فى الرواية تفعل ذلك فتغير معنى الكلام تماما بشكل مضحك.
والرواية كانت محاكاة طريفه لرواية أخرى وإن كانت ذات مغزى هام في النهاية، يمكن تلخيصه ببساطة فى أن العلم والفضيلة وحدهما لا يكفيا ليعيش الإنسان.
وفي الأدب الروسي يمكن اعتبار بطلة رواية "حذار من الشفقة" لـ "زفايج " صورة أخرى للعنوسة لكن بأسباب مختلفة، إذ خرج بها عن نمط العانس المعروف وصارت أقرب لأي شخصية عادية.
أما في رواية الآمال الكبرى لتشارلز ديكنز تتجلى شخصية العانس بعجوز تركها زوجها يوم زفافها فأوقفت الزمن بالمائدة وبكعكة الزفاف وبالشمعدان وبفستان الزفاف.وتلك العجوز هي عمة الفتاة التى أحبها والتي تدعى ستيلا.
ومن نماذج العنوسة ما نجده في قصة العرافة للكاتب الأمريكي أو هنرى، ورواية أوقات عصيبة لتشارلز ديكينز، تحديدًا شخصية مسز سبارسيت.
أماجين ماربل، والتي تعرف أيضاً باسم مس ماربل أو الآنسة ماربل، هي شخصية خيالية ظهرت في 12 رواية من روايات أجاثا كريستي البوليسية.
وهي امرأة عانس عجوز تقوم بدور متحرية مبتدئة، وهي تعيش في قرية خيالية تسمي سانت ماري مييد، وتعتبر الآنسة ماربل من أشهر ابتكارات كريستي. وقد كان من أشهر أقوالها والتي قيلت في أكثر من رواية هي "الشباب يعتقدون أن العجائز حمقى، لكن العجائز يعرفون أن الشباب هم الحمقى".
أما رواية قطار 4.50 من بادنغتون فهي رواية أخرى لأغاثا كريستي، طبعت للمرة الأولى عام 1957 م باللغة الإنكليزية، وملخص الرواية هو كالتالي: تركب عانس عجوز في أحد القطارات فتنظر من النافذة لترى في القطار الذي يسير محاذيا لقطارها رجلا يقتل امرأة غير انه كان موليا ظهره لها فتذهب إلى الشرطة وتستعين بها لكن لم يصدقها أحد باعتبارها عانس وعجوز وقد تعودوا على أكاذيب العجائز...
والنماذج عدّة وأكتفي بهذا القدر الذي أبان بما فيه الكفاية، أن نظرة الأدباء التي يفترض أنها لا تنسخ الواقع، بدت محاكية للواقع الاجتماعي والثقافي والمعرفي الذي تعيشه العانس، فبات الأدب المكتوب عن تلك العانس سلاحًا آخر يشهر لقتلها، وإظهارها بصورة غير مقبولة بتاتا أينما توجهت وتحركت.
بل لقد سارع الأدباء في منحها بما خطوا شهادة الرسوب في القبول المجتمعي، فهي عنصر غير فاعل لا في العمل ولا في الفكر ولا في أي مجال أو نشاط إنساني.
من هنا فإن هذه المقالة سعت جاهدة لإبانة وحشية النظرات للعانس على الصعيد الأدبي الذي ينبغي أن يكون أكثر رفقًا بالعانس، بل رافضًا لهذا السوء والتحيز ضد تلك الفئة ومشاعرها.
* كاتبة وأكاديمية من الأردن
وهذا يدل على أنّ اللغة العربية لم تتحيز لجنس على حساب آخر، ولكنّ الاستعمال اللغوي رسّخ خلاف الأصل اللغوي فاستقرّ في الأذهان أنّ العنوسة تخصّ النساء فهي عيب طارئ عليهن، يُخرجهن من الحالة الطبيعية والسوية.
ولم يغفل اللغويون هذا الاستعمال فقالوا: العانس "أكثر ما يُستعمل في النساء"، فعبّروا بذلك عن قيم المجتمع الذكوري ومصالحه.
فلا غضاضة حينئذ أن وجدنا اللغويين يُسهبون في تعريف العانس من النساء وفي المقابل ألفيناهم يوجزون في تعريف العانس من الرجال. فـ "عانس من نِسوة عُنَّسٍ وعَوَانِسَ وعَنَّسَتْ وهي مُعَنَّس وعَنَّسَها أَهلُها حَبَسُوها عن الأَزواج حتى جازت فَتَاءَ السِّن ولمَّا تَعْجُزْ.. عَنَسَتِ المرأِة فهي عانِس وعُنِّسَت فهي مُعَنِّسَة إِذا كَبِرَت وعَجَزَتْ في بيت أَبويها قال الجوهري عَنَسَتِ الجارية تَعْنُس إِذا طال مكثها في منزل أَهلها بعد إِدْراكها حتى خرجتْ من عِداد الأَبكار هذا ما لم تتزوج فإِن تزوجت مرَّة فلا يقال عَنَسَت... وفي حديث الشعبي سئل عن الرجل يَدخل بالمرأَة على أَنها بكر فيقول لم أَجدها عَذْراء فقال إِن العُذْرة قد يُذهِبها التَعْنيسُ والحَيْضَة وقال الليث عَنَسَت إِذا صارت نَصَفاً وهي بكر ولم تتزوَّج وقال الفَرَّاء امرأَة عانس التي لم تتزوج وهي تترقب ذلك وهي المُعَنَّسة وقال الكسائي العَانِس فوق المُعْصِر".
والجدير بالذكر أنّ عددا من اللغويين أجازوا فعل "عَنست" المرأة، إذا كانت فاعلة متحكّمة بإرادتها بينما اعترض آخرون فرأوا "أنّه لا يقال عَنست بل عُنّست وعنًّسها أهلها، أي حبسوها عن الأزواج"، بمعنى أنهم حاولوا سلب إرادة العانس، وجعل قرارها بيد غيرها.
أما في اللغة الإنجليزية فنجد أن لفظ "Spinster" هو الذي يعبر عن العانس فهو يشير إلى المرأة غير المتزوجة، ويتسم تاريخ هذا المصطلح بالتقلب الشديد، فالكلمة أصلاً لا تشير إلا إلى الوضع العائلي، لكنها أصبحت محملة بدلالات سلبية كثيفة حتى ندر استعمالها حالياً وكادت تصبح كلمة مهجورة.
ويرجع أصل الكلمة إلى الاعتقاد الاقتصادي بأن أي امرأة غير متزوجة، وليس لها مورد مالي غير الزواج، ليس أمامها إلا أن تعول نفسها بالعمل في مصنع للغزل ومن هنا يتضح أن أصل المصطلح ينطوي على تمييز طبقي، وهو ما اشتدت دلالته مع مرور الوقت، حتى صار الاستهزاء من نصيب نساء الطبقة الوسطى أكثر من غيرهن.
وفي أوائل العصر الفيكتوري كانت الأيديولوجية الأبوية قد نجحت في قصر وجود نساء الطبقة الوسطى على الحياة المنزلية، ولذلك كانت المرأة التي لم تتزوج تظل في بيت أبيها.
ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت غير المتزوجات يُنظر إليهن على أنهن متطفلات وعبء مالي وأنهن فشلن في القيام بواجباتهن النسائية، حتى أصبحت المرأة غير المتزوجة في عام 1911 توصف بأنها "فضلة".
ثم جاءت الحركة المعروفة بحركة "المرأة الجديدة" لتوسع من الفرص التعليمية والوظيفية المتاحة أمام الطبقة الوسطى، ولكن في حقيقة الأمر فإن نتائج الحرب العالمية الأولى هي التي مكنت المرأة غير المتزوجة من استعادة مكانتها واحترامها.
فبدأت النسوية الداعية للمساواة تمحو تدريجياً الوصمة التي ألصقت بالعنوسة، إلى أن أصبح الزواج اختياراً لا فرضاً.
فإذا انتقلنا إلى تمثلات العنوسة في نماذج أدبية مختلفة من الأدبين العربي والأجنبي فإننا سنجد أن الغيمة السوداء التي أحاطت في هذا اللفظ ظهرت أكثر وضوحًا في نماذج الأدب العربي، وحتى لا يظل الحكم معلقًا دون دليل، سأبين عن بعض نماذج الشعر العربي، وأبدأ بالتساؤل كيف رأى الشاعر العربي المرأة العانس؟ وكيف تمثلها بصور مختلفة؟ وهل يمكن أن نخرج بنمط واحد درج عليه الشعراء في تصوير العانس؟
إذا نظرنا بنظرة المستكشف في رحاب شعرنا عن لفظ العانس ودلالاته، نجد أن العانس هي المرأة ذات الوجه الكريه، الذي لا يحبب للنظر، وذلك في قول ابن الآبار:
بِكْرُ الحَدائِقِ والأَحْداقُ شَاهِدَةٌ
لا عانِسٌ جَهْمَةُ المَرأَى وَلا نَصَفُ
وهي التي اتصلت في وعي ابن الرومي بتقدم سني العمر، مما دفعه للتعبير عن ذلك بقوله:
عانسٌ تقهَرُ الشبابَ عجوزٌ
بنت قَرنٍ من الزمانِ وقَرْن
إذ صارت العانس قرينًا للعجوز، وما يتصل بهذه الصيرورة من ضعف وعجز وتغير في الجسم والحال غالبًا.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل باتت هاجسًا مزعجًا، لبعضهم حتى جالت به الرؤية إلى أن يجتمع حال المريض مع حال العانس، وفي ذلك تأكيد على الضعف والعجز، من مثل قول عبيد بن الأبرص:
تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ
سَلَكنَ غُمَيراً دونَهُنَّ غُموضُ
وَبَيتِ عَذارى يَرتَمينَ بِخِدرِهِ
دَخَلتُ وَفيهِ عانِسٌ وَمَريضُ
ويلحظ أن عبيدًا حاول إقامة تمييز متعمد بين العذارى والعوانس، فكأنه يشير إلى حال الديار وقد أوحشت بعد أهلها بإقامة صورة موازية وهي خلو بيت العذارى من العذارى، وبقاء العوانس والمرضى، وفي ذلك تعطيل لأهمية المرأة العانس، ومحاولة لتشويه قيمتها الوجودية.
وقد استخدم لفظ العانس للدلالة على الخمر في أبيات عديدة من الشعر العربي، ولعل إطلاق لفظ العانس على الخمر جاء من قبيل فساد العقل، إذ رأوا فيها أنها امراة ناقصة عقل كذلك، ومن ذلك قول ابن طباطبا العلوي:
مخدّرة مَكنونة قَد تَكَشَفَت
كَراهِبَة بَينَ الحِسان الأَوانس
مُشَعشعة مرهاء ما خلت إِنَّني
أَرى مثلها عَذراء في زيِّ عانس
فالعانس في هذه الأبيات بمثابة جرار الخمر "هي زي" والخمر هي العذراء، وجرار الخمر لا قيمة لها فالمبتغى هو الخمر، واللذة في الخمر لا في الجرار، وكل هذه الصور تؤكد خواء داخل العانس فهي مجرد مظهر، ولكنها مفرغة من القيمة الحقيقية في نظر الآخرين ويمكن التخلي عنها.
وفي أبيات أخرى وظف لفظ العانس للدلالة على النخلة، وهذا التوظيف خارج عن الأصل اللغوي للفظ العانس، إذ إنه من ابتكار الشاعر، على عكس الدلالة على الخمر إذ انها من قبيل الأصل اللغوي، قال معن بن أوس المزني:
كأَنَّما هِي عَانِسٌ تَصَدَّى
تخشى الكَسَادَ وَتُحِبُّ النَّقدا
فهي تَرَدَّى بَعدَ بُردٍ بُردَا
ويلحظ أن هذا التوظيف جاء لبيان الضعف والهلاك "تردى" واصفرار اللون"الصدى"، والكساد الذي هو عدم نفاق الشيء لقلة الرغبة فيه، وكل هذه الدلالات سلبية، تحاول سلب الحياة التي يمكن أن ينبض بها لفظ العانس.
وفي بعض الأبيات قد تظهر الفروق اللغوية التي كان يعمد إليها اللغويون، لوصف حال الفتاة من مثل قول ابن رشيق القيرواني:
أَوحَشنِي الأَوَانِسْ
هُنَّ الظِّبَا الكَوانِسْ
وهْو فتاةٌ مُعْصِرٌ
فيكَ وفيهمُ عَانِس
فـ "العانس فوق المعصر" على حد تعبير الكسائي،وقد فصل أبو منصور الثعالبي القول " في تَرْتِيبِ سِنِّ المَرْأةِ": في الفصل السابع من كتاب فقه اللغة وسر العربية، فقال :"هِيَ طِفْلَة مَا دَامَتْ صَغِيرَةً، ثُمَّ وَليدَةٌ إِذَا تَحَرَّكَتْ، ثُمَّ كَاعِب إذا كَعَبَ ثَدْيُهَا، ثُمَّ نَاهد إذا زَادَ، ثُمَّ مُعْصِر إذا أَدْرَكَتْ، ثُمَّ عَانِس إذا ارْتَفَعَتْ عَنْ حَدِّ الإعْصَارِ، ثُمَّ خَوْد إذا تَوَسَّطَتِ الشَّبَابَ، ثُمَّ مُسْلِف إذا جَاوَزَت الأرْبَعِينَ، ثُمَّ نَصَف إذا كَانَتْ بَيْن الشَّبَاب والتَّعْجِيزِ، ثُمَّ شَهْلَة كَهْلَة إذا وَجَدَتْ مَسَّ الكِبَرِ وَفِيهَا بَقِيَّة وَجَلَدٌ، ثُمَّ شَهْبَرَة إِذَا عَجًّزَتْ وَفِيها تَمَاسُك، ثُمَّ حَيْزَبُون إذَا صَارَتْ عَالِيَةَ السِّنِّ نَاقِصَةَ القوَّةِ، ثُمَّ قَلْعَم وَلطْلِطٌ إذا انْحَنَى قَدُّهَا وَسَقَطَتْ أَسْنَانُهَا".
وفي المعاجم اللغوية أشار بعضهم خطأ إلى أن العانس لا تجتمع مع البكر، وقد تنبه ابن قلاقس إلى هذا حين قال:
لم يُطِقْ هواهُ فَباحا
عندما رام الخليطَ ورواحا
عانسٌ بكرٌ وقد قلَدوها
حين درَتْ من حَبابٍ وشاحا
ومثله الأعشى الذي ميز بين الطفلة، والعانس، والمهزاق:
يَومَ قَفَّت حُمولُهُم فَتَوَلَّوا
قَطَّعوا مَعهَدَ الخَليطِ فَشاقوا
حُرَّةٌ طَفلَةُ الأَنامِلِ كَالدُم
يَةِ لا عانِسٌ وَلا مِهزاقُ
واللافت حقًا في قوله سلبه للحرية لكل من العانس والمهزاق ، ومنحه إياها للطفلة، بل وجعله إياها كالدمية دلالة على الجمال والرقة وصغر سنها.
وفي مقام آخر، نجد بعضهم يجعل العانس أهلًا للسخرية والتهكم من مثل قول ابن معصوم:
قُم هاتِها في جُنح لَيلٍ دامسِ
راحاً حكت في الراح شُعلةَ قابسِ
زُفَّت إِلى ماءِ السَماءِ فأَصبحَت
تَهزو بكلِّ مَهاةِ خدرٍ عانسِ
وقد يتمثل كل القبح في شخص العانس، فما أن تتكلم عن قبح الكلام إلا وتستحضر العانس، وما أن تشير إلى الرائحة المنتنة إلا وتكون العانس هي الحامل لها، وما أن تصف قبح الجسد إلا وتجده في جسد العانس، ولعل ما قاله أبو الحسن بن خروف يدل على بعض هذا:
أَيا أَسَدَ الأَدابِ عَطفَةَ راحِمٍ
عَلى نَقَدٍ أَودى بِأَشعارِهِ النَقدُ
أَتَخُبُ مِنّي كُلَّ لَخناءَ عانِسٍ
وَكَيفَ وَخُطبانُ الخُطوبِ لَها نَقدُ
ويكفي أن تراجع لفظ "لخن" في المعاجم لتكشف الدلالات السلبية المشحون بها، ولعل ما حمله هذا اللفظ حملته العانس قهرًا لمجرد أنها عانس.
ويجزئ بك أن تمر مرورًا عابرًا بشعر أبي العلاء المعري، لتجد أن الفلسفة التي عرف بها لم تعفه من السير مع ركب الآخرين، ومن إصراره على النظرة السلبية للعانس، فهي عجوز اختلط سواد شعرها ببياض، ومع جمال الأبيات في سياقها، إلا أنها تشير إشارة واضحة إلى أن العانس أينما وجدت في الشعر تتخذ موقعًا سلبيًا، يقول المعري:
مَهَرْتُ الفَتَاةَ الأحْمَسِيّةَ نَثْرَةً
على أنّ أَقْراني غِضابٌ أحامِسُ
مُعَنِّسَةٌ إنْ جاءها الرّمْحُ خاطِباً
سقَتْهُ ذُعافَ الموتِ شَمطاءُ عانِس
ويؤكد هذه النظرة في أبيات أخرى، فالعانس هي نقيض الأوانس، وهي في مقام الوحوش، وهي عجوز ابيض شعرها، وليته اكتفى بهذا، بل أصر على الإقرار أنه لا خير فيها إذ قال:
أَيا ظَبَياتِ الإِنسِ لَستُ مُنادِياً
وُحوشاً وَلَكِن غانِياتٍ مَعَ الإِنسِ
وَلا خَيرَ في جَونِ الذَوائِبِ عانِسٍ
إِذا لَم يَبِت فَوقَ الرِحالَةِ وَالعَنسِ
ولفظ العانس وإن وظف في أكثر الشعر _كما ظهر لي_ للدلالة على الأنثى التي لم تتزوج، فإنه كذلك قد يطلق على الرجل الذي لم يتزوج، ومن ذلك قول الشاعرأبي ذؤيب الهذلي:
أَلا لَيتَ شِعري هَل تَنظَّرَ خالِدٌ
عيادي على الهِجرانِ أَم هُوَ يائِسُ
فَإِنّي عَلى ما كُنتَ تَعهَدُ بَينَنا
وَليدَينِ حَتّى أَنتَ أَشمَطُ عانِسُ
ولا يخفى على أحد عدّ العانس نذير شؤم، وأنها شوهاء، بمعنى أنها تصيب الناس بعينها وأنها امرأة عابسة، ومشؤومة، وقَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ والوجه، ومتكبرة ومختالة، وهذا ما رآه البحتري في قوله:
قَدْ قُلْتُ للمَسْدُودِ في عانِسٍ
شَوْهاءَ، يضحي وهو صَبًّ بها
إنّ التي سَمَيْتَهَا خِلّةً،
لَيْسَتْ بأسْمَاءَ، وَلا تِرْبِها
وَإنّما أُمُّ بَني وَاصِلٍ،
خِنزِيرَةٌ سَفَسَفَتْ في حُبّهَا
يَكدُرُ صَافي الرّاحِ في شَدْوِها،
وَتَنفُرُ الأوْتَارُ مِنْ ضَرْبِهَا
وقد يخالف الشاعر المألوف فيطلق لفظ العانس على المرأة المتزوجة من باب السخرية والاستهزاء، إذ نرى زوج محمد بن بشير الخارجي العدوانية قد أسنّت، فضربت دونه حجاباً، لما تعرف من رأيه فيها وتوارت عنه، ودعت نسوة من عشيرتها فجلسن عندها يلهون ويتغنين فسمعهن فقال ساخراً:
لَئِن عانِسٌ قَد شابَ بَينَ قَرنِها
إِلى كَعبِها وَاِمتُصَّ عَنها شَبابُها
صَبَت في طِلابِ اللَهوِ يَوماً وَعَلَّقَت
حِجاباً لَقَد كانَت سَتيراً حِجابُها
وهو بذلك يريد إثبات العجز والضعف فيها، وأن مظهرها غير محبب لنفسه، وأنها امرأة لاهية، بمعنى أنها سيئة المظهر والجوهر.
وفي مقابل هذه الصورة السلبية الظاهرة للعانس نجد أشعة باهتة للصورة المقابلة، إذ تظل العانس تحمل حسن الصبا، وكأنها عروس، ولا أدري هل جاءت هذه الصورة عفو الخاطر من الشاعر، أم أنها جاءت كذلك لتدلل على قيمة خمر بابل، فأطلق الحسن على الحامل والمقصود المحمول، أم أنها جاءت في سياق كان الناس فيه سكارى فرأوا خلاف الظاهر، أي اختلطت الصور فباتت العانس عروسًا ، وذلك في قول السري الرفاء:
ودارَتْ على النُّدمانِ من خَمْرِ بابلٍ
عَروسٌ حَوَتْ حُسنَ الصِّبا وهيَ عانِسُ
وفي صورة تمثيلية أخرى يحاول الشريف الرضي أن يبين فيها أن الإنسان قد يسعى لطلب الأشياء المتعبة مع علمه بصعوبتها، فهو قد يتحمل الأذى في مقابل الحصول على ما يريد، والطريف أن العانس تظهر بصورة الفتاة المملوءة بالعلات وهي محبوبة مع هذه العلات، وهذا وضع أقرب للخيال منه للواقع كحال من يتمنى المرأة وهو يعرف أنها معاندة وحادة الخلق وصعبة المراس، وحال من يريد لمس الأنجم مع بعدها، أو حال من يرضى بالعلياء مع الأذى:
تَمَنّى رِجالٌ نَيلَها وَهيَ شامِسُ
وَأَينَ مِنَ النَجمِ الأَكُفُّ اللَوامِسُ
وَلَم أَرَ كَالعَلياءِ تُرضى عَلى الأَذى
وَتُهوى عَلى عِلّاتِها وَهيَ عانِسَ
أما نماذج العنوسة فى النثر الانجليزي_ إذ تعذر رصدها في الشعر بالنسبة لي_ فهي تنحصر في أغلبها أن العانس تحمل في وعيها ما يمنعها من الارتباط بعيدًا عن الأسباب الاجتماعية أو الاقتصادية، فهي في الغالب إما أحبت وفقدت من تحب لأسباب مختلفة، وإما تعرضت لحادث ما أفقدها الثقة في الرجل بوجه عام فأصبحت تخشاه عموما، وإما انها مريضة كما في روايات الأخوات برونتي أو في روايات جين أوستن.
فمثلًا لو أخذنا شخصية أمارنتا "العانس" في رواية مائة عام من العزلة لجابرييل جارسيا ماركيز نجدها فتاة أحبت إلى درجة العشق شخصًا يدعى بيترو كرسبيانو وهو شاب رقيق وغني جاء من إيطاليا ليزرع في "ماكوندو" حب الرقص و الإحساس بموسيقى الآلات، وهو أيضا الشاب نفسه الذي تبادل الحب والعاطفة مع أختها بالتبني.
ففي بداية الرواية نرى أن أمارنتا كانت فتاة طبيعية جدا غمرها الحب من طرف واحد، وأصرت أن تظفر بهذا الحبيب حتى لو اضطرت لقتل أختها، وتستمر بعد ذلك أحداث الرواية .. فنرى التحول الشديد فى مشاعر الشاب بعد أن هربت حبيبته مع شقيق " أمارنتا" العائد بعد غياب .. فنراه أخيرا يشعر بمشاعرها ويبادلها الحب.. لكنها وياللعجب ترفضه وتنبذ حبه وكل ما يتعلق به، وهكذا ينتحر الشاب فى مشهد مأساوي معلنا عن عجزه التام في فهم المرأة.
ونرى كيف يقتل إحساس الندم "امارنتا" فتحرق يدها بنار المدفأة وتغطيها بضماد أسود حتى نهاية عمرها .. وربما كان الضماد الأسود هنا يرمز إلى غلاف الازدراء الذاتي الذي أحاطت به نفسها وقلبها لتتحول بالفعل إلى عانس بدأت تفقد الإحساس بأنوثتها ودفء جوانبها .. فتكتفي طوال الرواية بالتطريز و رعاية أبناء أخواتها ورفض كل من يفكر بالاقتراب منها ... وبعد هذا يسقط أخيرًا ذلك الغلاف السميك لكن اتجاه ابن اخيها المراهق!
وكأن جسدها ذكرها للحظة واحدة متجاهلا كل قوانين الطبيعة أنها بالفعل امرأة أولا وأخيرًا .. وهذا المشهد يذكر كثيرا بقصة "بيت من لحم" لـ "يوسف ادريس" والتي قبلت فيها الأم أن يقوم زوجها بالدور ذاته مع بناتها الثلاث لمجرد إراحة ضميرها المتأجج ولاعترافها الصادق أيضا أن المرأة هي أولا وأخيرا امرأة وتحمل جسد امرأة وليس لمجرد كونها عانس فهي فقدت جزء من تكوينها.
وكأن الجميع بمن فيهم الأدباء يؤمن بأن العنوسة تقتل الروح وتخنق العاطفة لكنها تنهزم فقط أمام رغبات الجسد، وأنا أختلف كثيرا معهم بنظرتهم تلك الأحادية للمرأة العانس.
فـ "أمارنتا" التي أحبت حتى العشق وكرهت حتى الحقد وغضبت حتى الجنون تبدو وكأنها هي النموذج الإنساني للمرأة في كل الثقافات.. المرأة التي تظلم نفسها أولًا.. وتظلمها الظروف ثانيا.. ويظلمها الرجل ثالثا.. وتظلمها المرأة داخلها رابعا وخامسا وسادسا.. ويمكنك أن تواصل العد بعد ذلك إلى الحد الذي تتصور معه أن أنفاسك وصبرك قد يبلغه.
وفي رواية "جوزيف أندروز" لـ "هنري فايلدينج" كانت شخصية العانس تفرغ كل طاقتها في تعلم اللغة لتحسن من طريقة حديثها لكنها كانت تخلط بين الكلمات بشكل مضحك فتقول مثلا insence بدلا من essence وكانت طوال ظهورها فى الرواية تفعل ذلك فتغير معنى الكلام تماما بشكل مضحك.
والرواية كانت محاكاة طريفه لرواية أخرى وإن كانت ذات مغزى هام في النهاية، يمكن تلخيصه ببساطة فى أن العلم والفضيلة وحدهما لا يكفيا ليعيش الإنسان.
وفي الأدب الروسي يمكن اعتبار بطلة رواية "حذار من الشفقة" لـ "زفايج " صورة أخرى للعنوسة لكن بأسباب مختلفة، إذ خرج بها عن نمط العانس المعروف وصارت أقرب لأي شخصية عادية.
أما في رواية الآمال الكبرى لتشارلز ديكنز تتجلى شخصية العانس بعجوز تركها زوجها يوم زفافها فأوقفت الزمن بالمائدة وبكعكة الزفاف وبالشمعدان وبفستان الزفاف.وتلك العجوز هي عمة الفتاة التى أحبها والتي تدعى ستيلا.
ومن نماذج العنوسة ما نجده في قصة العرافة للكاتب الأمريكي أو هنرى، ورواية أوقات عصيبة لتشارلز ديكينز، تحديدًا شخصية مسز سبارسيت.
أماجين ماربل، والتي تعرف أيضاً باسم مس ماربل أو الآنسة ماربل، هي شخصية خيالية ظهرت في 12 رواية من روايات أجاثا كريستي البوليسية.
وهي امرأة عانس عجوز تقوم بدور متحرية مبتدئة، وهي تعيش في قرية خيالية تسمي سانت ماري مييد، وتعتبر الآنسة ماربل من أشهر ابتكارات كريستي. وقد كان من أشهر أقوالها والتي قيلت في أكثر من رواية هي "الشباب يعتقدون أن العجائز حمقى، لكن العجائز يعرفون أن الشباب هم الحمقى".
أما رواية قطار 4.50 من بادنغتون فهي رواية أخرى لأغاثا كريستي، طبعت للمرة الأولى عام 1957 م باللغة الإنكليزية، وملخص الرواية هو كالتالي: تركب عانس عجوز في أحد القطارات فتنظر من النافذة لترى في القطار الذي يسير محاذيا لقطارها رجلا يقتل امرأة غير انه كان موليا ظهره لها فتذهب إلى الشرطة وتستعين بها لكن لم يصدقها أحد باعتبارها عانس وعجوز وقد تعودوا على أكاذيب العجائز...
والنماذج عدّة وأكتفي بهذا القدر الذي أبان بما فيه الكفاية، أن نظرة الأدباء التي يفترض أنها لا تنسخ الواقع، بدت محاكية للواقع الاجتماعي والثقافي والمعرفي الذي تعيشه العانس، فبات الأدب المكتوب عن تلك العانس سلاحًا آخر يشهر لقتلها، وإظهارها بصورة غير مقبولة بتاتا أينما توجهت وتحركت.
بل لقد سارع الأدباء في منحها بما خطوا شهادة الرسوب في القبول المجتمعي، فهي عنصر غير فاعل لا في العمل ولا في الفكر ولا في أي مجال أو نشاط إنساني.
من هنا فإن هذه المقالة سعت جاهدة لإبانة وحشية النظرات للعانس على الصعيد الأدبي الذي ينبغي أن يكون أكثر رفقًا بالعانس، بل رافضًا لهذا السوء والتحيز ضد تلك الفئة ومشاعرها.
* كاتبة وأكاديمية من الأردن