حسن البطل - رصيف "أم علي"

الرصيفة «الرصيف» أطلّت علينا من رام الله إلى «شرفة القدس» كما تقول. وهذه استعادة إلى «الرصيف» البيروتية.

***

كان الرصيف في بيروت حقيقياً. الرصيفيون فيها إمّا كانوا ثرثارين متحذلقين، وإمّا صعاليك عن حق، يذكّرونك بـ «السّليك» وأضرابه، ولو تأبّطوا كتب رولان بارت، في البنيوية، وما بعدها.. و»السوريالية» وما فوقها، و»الدادائية» وما على هامشها الصاخب.
«صعاليك» الفصائل جعلوا من مقهى أم علي الأربعينية البدينة، قارعة طريق. خليط ثوّار عرب نجوا بأجسادهم لا بأرواحهم من انهيار العمارة الناصرية، وماركسيون زاروا «الساحة الحمراء» في موسكو، فازدادوا حنيناً إلى كومونة باريس. ليبراليون تقيّؤوا الرياء الليبرالي. فدائيّون ضجّوا من قلّة العمليات الانتحارية.
خليط من ثوار بالمناسبة؛ وشعراء في كل مناسبة. روائيّون وجدوا أن نصوص ألن - روب غريبة وناتاتي ساروت تحتاج تجديداً وتنقيحاً.
هكذا، من على القارعة الغربية لمستديرة جامعة بيروت العربية (أخطر موقع أمني حسّاس في لبنان كلّه) تكوّموا حول أقداح القهوة والشاي.. وقرّروا أن يسقوا «ثوّار المكاتب» شَربة خروع، أو شَربة ملحٍ إنكليزي. قرّروا: سنغسل الأفق من شعارات تقديس الثورة، والرأس اليساري من شعارات تمجيد الاتحاد السوفياتي.
العجينة كانت عراقية. الخميرة فلسطينية. الملح أردني - فلسطيني.. والرصيف لبناني. تلك كانت معادلة انفجار. الصرخة الرصيفية: نزقة، حارّة .. وجارحة.
الجميع كان يُثرثر عن اعوجاجات الفصيل، وترهُّل الثورة. هم قرّروا كتابة النص المضاد. هكذا، ولدت «كومونة» الرصيف في بيروت الغربية، تحت ظلال مكاتب «الأمن المُوحَّد»، ومؤسسة «صامد» الاقتصادية.. و»جامعة الفدائيّين» التي هي جامعة بيروت العربية.
شارع الحمراء يعجّ بمقاهي الرصيف الباريسية التقاليد (الرصيف = تْرِتوار). وكذلك على شاطئ «الروشة». ماذا يفعل الثوار - الصعاليك في «الدولتشي فيتّا» و»أنكل سام» و»هورس شو»؟ ماذا يفعلون في المقاهي الشعبية في «وطى المصيطبة»؟ ينقص الرصيف البيروتي، الأنيق والشعبي، رصيف لمثقفي الفصائل الهاربين من المكاتب (لا من كشوفات مالية حركة «فتح»).. رصيف للفدائيين بين عملية وأخرى. رصيف ضد المؤسسة الفلسطينية التي تجمع في تناقضاتها الخندق والفندق، المكتب والقاعدة الفدائية.
***
من الفصائل جاؤوا ليشكلوا «فصيل الصعلكة» ومن مجلات الفصائل، المُتْخَمَة بالبيان الثوري، ذهبوا إلى النص - المضادّ في الشعر، الرواية. هؤلاء بدؤوا تمرداً ضد الشعار الثوري المقرون بالممارسة اللّاثورية.
الانشقاق على المؤسّسة، كتقاليد عمل، كان بداية انشقاقات جماعة الرصيف على نفسها. ربيع من البيانات المضادّة، والانقلابات الرصيفية الداخلية، جعلت من علي فودة قطباً موجباً، ومن رسمي أبو علي قطباً سالباً.. ومن العراقي غيلان خط استواء متعرجاً!.. و»مطبعة الكرمل» (مطبعة «أبو شامخ»، عمر الخطيب) تطبع للجميع. جميع الفصائل.. ولفصيل صعاليك «الرصيف»، أيضاً.
انضمّ علي فودة إلى «فلسطين الثورة» مُحرّراً ثقافياً.. لينشقّ عنها جملةً وتفصيلاً، لأن له طريقه الأقصر إلى «ثورة ثقافية» تستعيد، بيروتياً وفلسطينياً، شيئاً من ألقِ أيار طلّاب باريس أواخر الستينيّات.
معارضة في النظام وضد النظام ومع النظام، ما دام المتمرّدون على كشوفات «التفرغ» في مالية حركة «فتح».. التي لا تسألك كيف تفكّر، لكن تعلّمك أن تفكّر كيف تفكّر.
للحقيقة، كانت للجماعة نصوص أدبية حاولت مزج «الحداثي» بـ «العامّي»، وقامت صحف بيروت الغربية بالثناء عليها، تظاهرة ثقافية عربية مضادّة، وخصوصاً جريدة «النهار» اللّامعة.
***
حرب الغزو 82 أغلقت مقاهي الرصيف، وجعلت رصيف جامعة بيروت العربية خنادق، والرصيفيون عادوا إلى خندق القتال.
عندما أصيب علي فودة بشظيّة، وفي صحوةٍ بين موتٍ معلنٍ وموتٍ مُحقّق، قيل له: «نعاك رسمي أبو علي». قال: «عُدت من الموت لأنني أنا الذي سأنعاه». كتب رسالة قصيرة وشهيرة لياسر عرفات.. ثم مات.
قبل ذلك بثلاثة أيّامٍ كافأني علي فودة بعلبة كوكا كولا، فقد غطّيت له 10سم ناقصة من جريدته. لحقني وقال: «أنت فلسطيني كحدّ السّيف.. مثلي». أذكره تماماً، ولا أتذكّر من شعره سوى عنوان مجموعته «فلسطيني كحدّ السّيف».

حسن البطل
16-7-1998



أعلى