الدكتور زهير سعّود - قراءة نقدية في قصة (صوت الذاكرة) للقاصّة صديقة علي

الجزء الأول:

(مقدمة الكتابة)
تستهوينا القصص القصيرة لأنها ميدان رحب لكتابة الناقد. فكل قراءة مجالها الإطراء، والتصنيف النحوي، وتأكيد انضباط النص بقواعد وأسس الكتابة القصصية، هي مجرد ثغاء وتكرار ممل لمعادلات قياسية موضوعة، لا تغني النص ولا ترفعه. فالحياة التي روحها الأدبية تكمن في فن القصة تنعشها الأفكار الغامضة، والإشارات البعيدة الصدى، والرموز الحاملة للدلالات، والمفارقات السردية، والنحو الطباقي (الكلام وعكسه)، وعمق ثقافة النصّ. وكل النصوص التي غايتها نقل رسالة مفضوحة من مرسل إلى مرسل إليه هي نصوص استهلاكية، تموت بمجرد انتهاء القراءة، لينتهي مصيرها في سلّة المهملات، في حين يكمن شغف القارئ المثقف بغموض النص، وما يفتحه من تناغم ثقافي تناصي مع المقروءات التاريخية، وكل نص لا يحرك فينا رغبة الكتابة إما أنه فاشل أو ضعيف. إن علم السرديات وانشغاله بالنصوص تبدل كثيراً منذ عهد الملاحم الآرسطوية (فن الشعر) وعلم تشكيل الحكاية (بروب) وتعديلات (شتراوس) و(تودوروف) على صفات الحكاية، فتحدث (جينيت) بالزمن السردي والزمن القصصي، وميّز بين القصة والحكاية، فالثانية هي طريقة الأداء وتناول أساليب الخطاب في نقل القصة. كذلك تقسيم النص إلى بنية سطحية وأخرى عميقة عند (غريماس)، والأهم من كل ذلك هو مباحث عميقة في علم الدلالات، عكستها المفاهيم اللغوية الحداثية (تشومسكي) وصاحب الغلوسيماتيك (لويس هيلمسليف)، فبدأ الحديث بتفجير النص وبعثرة النص ولذة النص (بارت) والمكان الجغرافي والكتابي (جينيت) والتناص والإديولوجيم (جوليا) والقراءة التفكيكية ومركزية الكتابة (جاك دريدا). فالزمن التاريخي مختلف ونحن في عصر (مابعد الحداثة) وعصر الوصول (فرانكلين) وعصر الشكّ (ساروت) والرواية الجديدة (بوتور وسيمون وسوليز) أو عكس الرواية (سارتر)، ففي كتابي (فن القصة) التاريخ قصة والقصة تاريخ، والفارق بينهما هو أن أحداث التاريخ كاذبة وأشخاصه حقيقيون، أما في القصة فالأحداث حقيقية والأشخاص كاذبون. كل ما سبق منحنا مبادئ وقيم وأساليب كتابية لكتابة القصة أو قراءتها، نرفض معها الاستلاب الثقافي، فنعاملها بمبدأ رفض الخاطئ وقبول المناسب وتعديل الضعيف.
سنعتمد مع قراءة نصّ (صوت الذاكرة) منهجية رولان بارت (س/ز) في نقد سرّازين بلزاك، وقد فعل ذلك الكثير من النقاد في نصوص مغايرة، والمنهج قام على معاملة عجامات النص (تقسيمه لقطع تتراوح بين الكلمة والعبارة.. عمادها الوحدة الدلالية) وذلك بشفرات نجمية: حدثية، ثقافية، رمزية، طباقية نحوية، إحالية تخييلية. وما نجريه لأجل القراءة هو البدء بقراءة النص كاملاً بسبب قصره، ثم تقسيمه لعجامات تأويلية تحقق الترابط النصي والصلات العميقة بين المبتدأ والخاتمة السرديتين، للمرور في فضاء السرد (بريمون) وهو التعبير البديل للمكان القصصي الذي انشطر إلى بيئة جغرافية (قاعة المحاضرة، بيت الطبق النحاسي، أسطحة الصحون اللاقطة...) وبيئة كتابية: (أفقية، عامودية، بياض، طباق، تكرار، علامات الترقيم، ركائز محفزة وغير محفزة، استقرار السرد...) ولنبدأ بعجامة العنوان: (صوت الذاكرة)...
(صوت الذاكرة):
نناقش العنوان من حيث وظيفته السردية وعلاقته بالنص، ثم منفصلاً باعتباره وحدة دلالية مستقلة. فالعناوين مطالبة بأن تكون وحدات دلالية تختصر النص، وهي تبدو ضعيفة عندما تنقل لنا الوقائع السردية باختزالها الإخباري، في حين تقوى بالغموض وعدم المباشرة، وتلك وجهة نظر الدلائلي امبرتو إيكو عندما بدّل عنوان روايته من (جريمة الدير) إلى (إسم الوردة). ونحن هنا نكتشف الصلة الخفية بين النص و(صوت الذاكرة)، لكن العنوان لم يكشف لنا عن الصوت ومصدره وطبيعته، كما أنه لم يكشف لنا عن نوع الذاكرة، فلذاكرتنا أصوات متنافرة، وهي لا تكف عن الصراخ في مختلف القضايا الإنسانية. وتبدو ذاكرة النص في انضباط الأحداث والأفعال المترددة التي صنعت الحبكة الأثرية، لتستلهم المقولة الفلسفية التي ابتدأ بها الراوي وجعلها عامل استقرار السرد. وما يهمنا هو الطابع التخييلي للعنوان في عجامته الخاصة، فهل للذاكرة صوت؟.. وأي نوع من الأصوات تلك التي لا نسمعها؟، بل نقرأها!.. في بنية السرد. هاهي الميزة التخييلية لفن الكتابة القصصية، ونحن نقف مع والاس في تصنيفه للتخييل، فنرفض مقولة أفلاطون في أن التخييل أبو الأكاذيب، ووالاس لقاه أكثر تعقيداً من الكذب بكثير، ليبدو في نظر من لم يفهم التقاليد المنفصلة للتخييل كذباً لا غير. فالتخييل هو (تظاهر) دون نيّة الخداع كما عبّر صاحبنا، والعضّة العاشقة لذيذة لكنها تنتمي لصنف العضّ الذي حمل دلالة إجرامية بائسة.
وبالعودة للعجامة فكيف تناثر صوت الذاكرة بالأفعال الحدثية للسرد؟.. إنه صوت الفوضى وعدم الاكتراث والخصام الذي جمع القديم بالحديث، والفقر بالغنى، وامتلاء الذاكرة بالوعي الفلسفي في مقابل فراغها، وأصوات ضجيج الصحون اللاقطة والصحون النحاسية في مخاصمة صحون القش المسكينة والتي عبرت عن افتقادها لميزةالصوت بصمت المدرس الذي لم يأبه له التلاميذ، بل حقق استفسارهم مفارقة السخرية النصيّة بالانتقال من بيئة العقل إلى اللامبالاة والاستهزاء والاعتداد بالجهل. وصوت الذاكرة صراع بين حفنة من المنتمين لعصر الصراع الطبقي الذي ارتكز على طبقي القش والنحاس المفضض في النص، حيث وقف في المواجهة زمن الوصول وتعميه التناقض في العدمية ولامبالاة أبطال سارتر وكامو في (الغثيان) و(الغريب).

الجزء الثاني

"إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي".
مقولة فلسفية ابتدأ بها السرد، أبرزها الراوي ليجعل "وجهة النظر" عامل استقرار النص، فالأحداث المنقولة عبر الانفعالات والأفعال تمحورت حول الفكرة، لتظهر لنا ثقافة الكاتب ووجهة نظر الراوي، والكاتب مثل القارئ تماماً، يضع الأسئلة ويجيب عليها، ليغدو معيداً لكتابة القصة، ودائما هناك في كل كاتب شخصان، كاتب وناقد، والثاني قارئ ممتاز للأول. إن الدخول في عمق المقولة وفلسفتها ومصدرها ومدى تجسيدها الواقعي سيحيلنا لبحث من الصعب ختمه، وما همّنا هو تناول المقولة من حيث جوازها "كمقدمة" للسرد القصصي، خاصّة وأن بعض (النقّاد) يخطر لهم إضعاف السرد لأنه لم ينطلق بالحيوية السردية القائمة على الأفعال الحدثية. لكن نجاح القصة في خلق التوائم بين منطقة الشعور الباردة التي تقوم على الإخبار العلمي، ومنطقة الشعور الحارّة التي تحيل بمحاكاتها الفنية للمعرفة، تلك المقولات الجافّة إلى عمل سردي.. أسلوب خطابي يقوّي السرد ولا يضعفه، فالقراءة كشفت لنا أننا لم ندخل قاعة الدرس لتلقي العلوم فحسب، بل هناك عملاً فنياً سبغ المقولة الفلسفية، وباشرت أحداثه بالانطلاق ما أن نطقت المقولة مع حوار صامت وعلني، بين أحد (المتندرين) وأستاذه، بين (الأستاذ) و(ذاته) عبر انفعالاته الداخلية والخارجية، ومع السلوك الغرائبي للتلاميذ. إن ذهاب النقد للتعامل مع الفكرة بحدّ ذاتها يبرز تعصّب الناقد وخروجه عن الحيادية تجاه السرد، فهو إما أنه مقبل بنهم على الفكرة (ماركسي تقليدي) أو كاره لها أخرجه الأمر عن محاكاته الفنية للسرد ليحاكم الكاتب وصاحب الفلسفة، أم لعله يدور في فلك الماركسيين المتضررين والذين استفادوا من قوانينها لإنتاج أعظم المدارس النقدية في التاريخ، منذ الشكلانية الروسية وحتى التفكيكية مروراً بالبنيوية والبنيوية المعدّلة والدلائلية...
(التفتّ إلى أعين لا أقرأ منها إلا الجمود وعدم الاهتمام... وكي أنتشلهم من سباتهم... سألت:...) تعبير نصّي سردي واصف لطبيعة الشخصية الثانوية في النصّ، وإظهار سمات وخصائص تلك الشخصية التي احتلت في فضاء السرد قاعة الصف التعليمي (بيئة جغرافية)، وهي رمز معرفة الجيل المعاصر، أو جزء كبير منه بأقل التقدير، فهو جيل كما عبر عنه الراوي يتسم باللامبالاة والأعين (الجامدة) التي لا تملك التعبير ولا تخدم الواقع. فيمهد الراوي عبر تكرار الصفة (جمود، عدم الاهتمام، السبات) لإبراز التناقض القائم بين جيلين أحدهما غابت عنه حقيقة الصراع، صنعته (اللاطبقية) الوهمية في عصر الوصول، والتنميط الذي كرسته الطبقة السائدة، لإخفاء الحقيقة عن المخدوعين (ظاهرة الصحون اللاقطة جعلت اهتمام الفئات الاجتماعية متشابهاً إلى حدّ ما، وساوت بين الفقر والغنى). الراوي متأكد من حالة السبات التي وصل لها الصوت الآخر، فيعمد لتأكيد الأمر لدى القارئ بطرح السؤال، وتلقّي الإجابة. وفي هذا المقطع يشطر الكاتب أشخاص القصة لفئتين مختلفين. الراوي الأستاذ، والطلبة. ويستخدم الكاتب التشبيه والمجاز في تحديد سمات الشخصية (الأعين الجامدة، السبات)، وهي من الخصائص البلاغية التي تقوّي تقنية السرد، وتحفّز المتلقي للإصغاء والمتابعة، فذلك من خصائص السرد أياً كان نوعه، وتلك قيمة مضافة لتقطيع الحدث وتشذيره فالقصة القصيرة "ضربات فأس هنا وهناك، يتقرر حظها في الحين مباشرة وبعد مرحلتين: كتابتها ثم قراءتها.. الناقد المكسيكي خوان رولفو".
(أتاني صوت أحد المتندرين: _أي طبق تقصد؟.. طبق القشّ أم الدشّ؟)..
متندّر: فاعل تندّر، وتندّر: تحدث بالنوادر، وتندّر على فلان: سخر منه. ومع هذا المصطلح يمهر الراوي طبيعة الصراع الخفي بين شخصيتي السرد بعلامته الخاصّة، فهو صراع يقوم على السخرية والسخرية ربما بنتها الحنكة بسبب معرفة الشخصية بالزمن السريالي ودرايته بالمسار التراجيدي لتوقّع ماركس: (وإما ألا تعي البروليتاريا ذاتها فتقود الرأسمالية مجتمعاتها إلى الهاوية.. البيان)، ولعل الطالب أجرى مقارنة خاطفة وتشويقية بين الشخصيتين، فالسائل منهمك بمعارفه القديمة وثقته بحتمية الصراع، في حين لم يعد للأمر معنى لدى الجيل الحاضر والناطق بلسان (المتندر) فأحدث شرخاً في ذهنية الأستاذ وقذفه لذكرياته الموجعة عن الأطباق وأمه وأبيه.
(طبق القشّ أم الدشّ) مفارقة سردية هي ركيزة النصّ الأساسية، ومعها انتقال بين المنطوق والمرئي، القديم والحديث، الجدّية والاستهزاء، الوعي وإشكالاته الواقعية. فالعجامة هنا حملت مع السرد إشارات ورموز متشعبة في وحدات السرد الدلالية، ومليئة بالإحالات الخارجية.
(ركزت نظري بعينيه مما أربكه.. حافز حرّ بمفاهيم شكلانية)..
انتقال بالطبيعة الساخرة للسرد، من المتندرين للشخصية الرئيسة، والتي لم يعد بمقدورها الرد وفق الضوابط القديمة، حيث كنا لا نجرؤ على فعلة كهذه والتربية كانت تقوم بأداة العصى والتعنيف، أما هذا الإرباك الساخر فلن يجدي نفعاً، والصيرورة التاريخية حسمت أمرها بالعدمية واللامبالاة، وقوّت حملها بسخريات تطلب البكاء بطريق الضحك، وأخرى بسيطة أنشأتها همسات الأطفال على طبق القش (سجال بين القديم والحديث)... يتبع
الجزء الثالث:
"قذف سؤاله بي إلى محيط طبق قشّ مصنوع من سيقان القمح...":
هنا أحدث الراوي انقطاعاً في التسلسل الزمني للسرد رغم بقاء الزمن القصصي على حاله، وبفعل آليات الحوار جمع السارد بين ثلاث فئات اجتماعية أمكننا نعتها بالقديمة (والدي الأستاذ) والمتوسطة (الأستاذ الشارد في فضائين صنعتهما الذاكرة) والجديدة (جيل الطلبة)، ومحور التعالقات الزمنية النصيّة قابع في انفعالات الراوي، واستخدام الكاتب لتقنية الحوار الداخلي، حيث مكننا السرد عبر كثافته اللفظية من تلمّس الفروقات النفسية للأجيال الثلاثة المتعاقبة والمتباينة:
_جيل أول: عكس الفروقات الاجتماعية بالدلائل والأثر.
_ جيل ثاني: أنتجه الأول وكان واسطة اتصال مع الأخير، يمتلك قيمة الأثر المعنوية.
_جيل ثالث: شارد عن الأثر، عدمي، ساخر.
وفي علاقة الفئات أوضح السرد الفوارق السلوكية وردات الفعل حيالها، ومن أجل قراءة الخصائص السلوكية نقيم علاقة الأطراف المتنافرة على نظام ثنائي: (قديم/ متوسط)، (متوسط/ حديث)، جمع الأجيال الثلاثة وهي وليدة ثلاثة مراحل في تطور الواقع الاقتصادي الاجتماعي، الذي تديره الطبقة المسيطرة بحكم السيادة. إن الدخول في قراءة تحليلية للمراحل سوف يحيلنا لقراءة شفرات علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس والإديولوجيا والثقافة، وهذا مبحث طويل سنتركه لكتاب (تناصي) خاص مع أسلوب بارت في القراءة. وما نود التعليق عليه في إشارات النصّ لسيرورة التاريخ _من خلال الخطاب الخاص بالسرد القصصي_ هو التمييز بين مراحل اجتماعية سياسية للطبقة المسيطرة: (ثورية، كولونيالية، هجينية معولمة)، لازم تلك المراحل نعوت خاصة بالأدب والثقافة: (رومنتيكي، حداثي، مابعد حداثي). وفي التجليات التربوية لشبكة العلاقات الاجتماعية وأثرها داخل الثنائيات النصيّة:
_قديم/ متوسط: سخرية من القديم، صفاتها الخوف والخفوت (همس، تذمّر، حذر.. بسبب الخوف من القمع).
_متوسط/حديث: سخرية من القديم، صفاتها الجرأة والإفصاح (جمود، سبات، عدم الاهتمام، التندّر، تلغيز.. بسبب الليبرالية الحداثية وعصر الاستهلاك)...
"وهل رأيت يوماً طبق القشّ...؟":
ردّ مشفّر في الخطاب السردي، أراد به الراوي أن يجيب على وقاحة الطالب وهو مدرك تماماً أن محفوظاته عن العصى والتقريع ذهب زمانها مع غياب الأب والأم، فالرد وفق الأساليب القديمة مآله جرأة الطالب على أستاذه وتطاول ذويه الذين ينتظرون بطولاته (سخريته من الأستاذ)، وقد يدفعه الأمر للتهديد بلقمة عيشه، فذلك يحدث في الواقع الذي تدور به أحداث السرد القصصي (إشكاليات الوعي الحداثي).
وتضمنت شفرات العجامة التلميح للذاكرة الثقافية في عصر العولمة، فالأستاذ مدرك تماماً أن تلميذه مغيّب عن الحقيقة، والتاريخ الذي تلقفه كاذب وهو نتاج (صحون لاقطة) لم تراكم معرفة بزمن أطباق القش أو النحاس (بروز التناقض)، والمدرس انتقم لكبريائه الجريحة من تندّر التلميذ، بما أتاحه له الواقع الراهن...
"... تفوح منه رائحة الكلس المنتشي مع الطين... تحتقر هشاشة طبق القش وتتحدى آمالنا... المساس بأيقونتها الشاهدة... إسرافه ونزواته...":
تضمنت العجامة صوراً بلاغية ترفع السرد شكلياً ومعنوياً، ففي الشكل الإيجاز والمجاز والاستعارة الكنائية، وفي المعنى شروحات ووصف للفئات الاجتماعية وأحوالها النفسية وخصائصها السلوكية، يظهر معها الراوي تضامنه مع الفقر وكرهه للأغنياء و(أيقوناتهم ونزواتهم)، فهم مظهريون مسرفون ويلهثون خلف نزواتهم، والكاتب هنا يثبت وجهة نظره حيال السرد، فهو يتنفس من خلال الفئة الوسطى والتي قمنا بتحديد سماتها السردية، وقد أبرزها الراوي متصلة بالفئات الأخرى، والراوي هو الكاتب الذي خاطبنا بضمير المتكلم، ليعلن استياءه من تجربته المحكية، وأجلى لنا بانفعالاته ووصفه ومواقفه مدى ارتباطه بالجيل العارف والكاره لما تقوم به الطبقة السائدة من تعتيم على حقيقة الصراع، فتقود مجتمعاتها بإفرازات الأتمتة، ولعبة الثورة الصناعية، والاستخدام الساخر لمقولات ماركس حول الصراع الطبقي، فالأممية تساوي (العولمة) والثورة الاشتراكية تساوي (الثورة الصناعية الرابعة) والمجتمع اللاطبقي هو مجتمع الوصول (الصحون اللاقطة)...
"لا قداسة لما نقوم بتنظيفه ولا نستطيع تناول قوتنا فيه... تشفّيها من دائرة بيضاء كانت مرتسماً للصينية":
الجائع لا تهمه المظاهر، والأغراض التي لاتحقق مأرباً لا فائدة منها، والتغني بمجد تليد ومفقود مدعاة للكره، ومع كل ذلك فمحو الأثر الذي تركته تلك الأشياء هو مدعاة للانتقام. تلك موحيات المقطع السردي ومعه تنطق معادلة الاختلاف بصوتها الجاري مع حركات الشقيقة التي تكفل الراوي بوصفها، وهو إشعاع لإبراز التناقضات داخل الزمن السردي المنقضي، فالمقولات الفلسفية تجد صداها في السرد، والطبق النحاسي الذي سيتعرض للتغييب لم يكن صنّاعه (البرجوازية الناشئة) على قدر المسؤولية حيال المجتمع والإنسانية، فالبرجوازية الثورية التي تغنى معها الأدب الرومانسي ببطولاتها، أنتجت الاحتكار والحروب العالمية، ونقلت مجتمعها لزمن الفوضى المعبّر عنه بسلوك تلامذة الصف، والرومانسية تحولت إلى التشاؤم والعدمية، وافتخار البرجوازية الناشئة ببطولات بونابرت ومجد الأطباق النحاسية على أطباق القش دمّره التحول الرجعي، وناسبه في النص فقدان الرمز الذي مثله (طبق النحاس) وإن كان للآلية موضع آخر من الدلالة، فالسرقات أحداث تناسب زمن التحول الدراماتيكي... يتبع

الجزء الرابع
"مرتسماً للصينية على الحائط لم يطلها الإصفرار كما وجوهنا، يوم ولولت أمي إذ أفاقت على سرقة مجدها":
الصينية كما أسلفنا هي الأثر الرمزي للبرجوازية الناشئة والثورية في عهدها الأول، وهي شاهد الصراع الطبقي داخل التشكيل الاجتماعي الذي لم تفقد فيه الفئات الاجتماعية وجودها الخاص، هكذا فقد رسمت تشكيلة نيكوس بولنتزاس للواقع الاجتماعي حضور مختلف الأنماط والطبقات في كل لحظة تاريخية (السلطة والطبقات) ونيكوس هو تلميذ لويس التوسير الذي قرأ الماركسية قراءة بنيوية في (دفاعاً عن ماركس) و (قراءة في رأس المال). وكنا قد نوهنا أن البنيوية كصيغة أدبية ابتدأت مع علم الأنتربولوجيا الماركسي ونزعات كلود ليفي شتراوس لإلغاء دور الذات الهيغلية في حركة التاريخ فذلك سبب صراعه العنيف مع جان بول سارتر الوجودي، وانتصاره عليه: "إن رجل الأنتربيولوجيا يريد إقناعنا بأن التاريخ يمضي خارج حدود الوعي"؟.
إن هذا الشرود الكتابي سمة خاصّة بكاتب النصّ الجديد، فالنقد كما أشرت فيما مضى هو كتابة جديدة للنص، وليس مجرد لهاث خلف التدقيقات اللغوية ومدى انضباط النص بقواعد التشكيل الحكائي التي حددها بروب (علم تشكيل الحكاية) وشتراوس (الأسطورة والمعنى) وتودورف (قواعد الديكاميرون)، وهم جميعهم بنيويون. إن ضربات الفأس التي فعلت الحدث الجزئي في القصة القصيرة هي ثغثغات لفظية تطلق لسان الناقد بموجب قانون الإحالات الخارجية ليظهر لنا قراءته الخاصّة وتفاعله الثقافي مع شفرات النص المتوهجة في مختلف العلوم والمعارف العقلية، هكذا فقد تتعدد وتتنوع القراءات التي يجريها الناقد تبعاً لاقتطاعه عجامات نصيّة تتبدل وتتنوع وترتبط ارتباطاً صميمياً بتشكيلة السرد، والنصّ صيغة أدبية معزولة عن كاتبها فهو ملكية خاصّة للناقد وصوته الخاص في القراءة، تتعدد معه القراءات بتعدد القراء، وتختلف باختلافاتهم ومدى تحصيلهم الثقافي والمعرفي، وقد نوهنا أن الكاتب الحقيقي صاحب ازدواجية شخصية، وجهها الآخر هو النقد، ثم إن تأكيدنا على القراءة بدل الناقد يجعلنا ندرك الإمكانية المتاحة للناقد ذاته في تعدد قراءته للنص (مقدمات نظرية).
قلنا أن الطبق النحاسي رمز دلالي لبرجوازية غيّبت عن الحائط (ولولت أمي) بفعل عوامل نشأتها وانحدارها، فالحائط لوح محفوظ لكتابة التاريخ الذي عامله التطوري هو صراع الطبقات، والبقعة البيضاء المحاطة باصفرار الحائط والوجوه المتحلّقة، عكست الأثر الثقافي الجمالي لنشأة البرجوازية في رومانسية بودليير ومالارميه وصاحب المقبرة البحرية (بول فاليري).
لقد أعجبتني كثيراً اللوحة السريالية التي رسمها السرد على الحائط بتعبيرات لفظية، واللوحة التي مثلت ذروة العقدة خلقت إيحاءات متشابكة في علم الاجتماع والنفس والسرديات، أضف إلى هذا تذكير بالرسالة المسروقة والكتابة البوليسية لإدغار آلان بو والتي تناولها أحد أهم أقطاب مجلّة تل كيل الفرنسية لتطوير منهج علم النفس، وهو العالم النفساني جاك لاكان. فالطبق المسروق مادة دسمة فتحت الباب على شفرة بوليسية أطلقها السرد، إذ كيف حدثت السرقة؟.. ومن كان وراءها؟.. وهل تتم سرقة من داخل المنزل دون تخاذل ساكنيه أو بعضهم؟.. ولماذا ترك الراوي باب الدار موارباً؟.. وماسرّ لامبالاة الأب؟.. وإسراع الشقيقة في إخفاء الأثر؟.. وما دلالة اصفرار الوجوه؟. ونحن في الحدث نقرأ ثلاثة رسائل: الأولى من الأم إلى الأب والأبناء، الثانية من الأب للأم والأبناء، الثالثة من الأبناء للأم والأب.. وهنا تشعبت الرسالة بين مغتبط سارع بمحو الأثر (الشقيقة)، وأصحاب الوجوه المصفرّة. فهؤلاء الملونة وجوههم عكس اصفرارها تنوعاً دلالياً أخفاه السرد تحت مظلّته، فربما هي فرحة خائفة وربما أصابها الوجوم لسلبيتها تجاه الحدث وربما هي حزينة نادبة، أم لعلها جمعت كل التعبيرات النفسية للمشاركين في رسم اللوحة السريالية...
"تلوم أبي وتتهمه بتسهيل السرقة من بابٍ تركه موارباً للصوص كي يقطع جذورها":
إشارة واضحة لإدانة صاحب طبق (القش) والذي مثل السلطة الأبوية للنظام القديم وهشّمت صاحبة طبق (النحاس) كبرياؤه، فثمة تأكيد لتعاونه مع اللصوص عبر الباب الموارب وغايته الخلاص من سيطرتها برمزية الطبق. ألا يذكرنا الأمر بطريق انكفاء الصعود البرجوازي وتعاون فئات برجوازية من المجتمع الحديث من أجل الردة البونابرتية وعودة الملكية للأرستقراطية (الثامن عشر من برومير.. ماركس) ولويس بونابرت سرق مجد جدّه نابليون _رغم ضعفه_ ليحمل عباءة البونابرتية، فأسقطت مسلة الفاندوم وقطعت رؤوس دانتون وروبسبير ولافوازيه، وأسقط التقويم الثوري للعودة إلى التقويم الميلادي من جديد. إنها مرحلة (الترميدور) وبداية الانحدار والسير بالمجتمع البرجوازي إلى الهاوية. إنه عصر التشاؤم الذي كشف عنه الكانطي شوبنهور الفيلسوف وغريمه الشاعر غوته: (اكتشفت إننا ندور في حلقة مفرغة)...
الشفرة البوليسة تكشف لنا عن أحد أطراف السرقة، وهو الأب الذي ترك الباب موارباً في انتظار إتمام عملية السرقة. وجاك لاكان وجد أن "الرسالة المسروقة" تكتشف ولن تبقى غائبة، لكن جاك دريدا عارضه بالقول لا شيء يسرق ويسترد، فالمسترد إن حصل يكون غير الأصل. ونحن موقنون أن السرقة حصلت وكشفت ولو بقيت بعض الغوامض لكن المسروق لن يردّ. فالأطراف المشاركة قوية وفيها تدخلات داخلية وخارجية، والأزمان المنقضية لا تسترجع. وفي علم الاجتماع رد ماركس على هوغو حين قال: التاريخ يعيد نفسه، بأن التاريخ إن تكرر فالمأساة تصبح مهزلة، فلويس سخرية جدّه، وعصر مابعد الحداثة بنته السخرية مماهو قائم فالعلاقة مع القديم شكلت الأساس الفنّي لإنتاجه الجديد...
"بكينا مع أمي خسارتها إلا أختي فقد كانت شامتة. وكان أبي لا مبالياً":
يتضح طرف جديد في عملية السرقة هو الشقيقة، والشقيقة من الفئة المتوسطة، المتعاطفة مع القديم والتي أبرزت تعاطفها بالمشاركة في عملية السطو وإخفاء الأثر. كما تتأكد عملية مشاركة الأب والشقيقة في السرقة من خلال التعبيرات الشعورية: (الشماتة، اللامبالاة)
سؤال آخر تطرحه الشفرة الاجتماعية والبوليسية لعملية سرقة الطبق، وهو دور أصحاب الوجوه المصفرّة الباكين مع أمهم، فهل البكاء واصفرار الوجه عكس تواطؤ الجمهور مع الأطراف التي أثبت السرد علاقتها بالسرقة، والشعور بالخوف أو الندم. وعلى الصعيد الاجتماعي ألم تلعب الفئات المتوسطة في المجتمع البرجوازي دوراً مهماً وأساسياً في الترميدور بسبب ضياع وجهتها وتذبذبها واستلابها لأحد طرفي الصراع الأقوياء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى