_1_
"ثرثرة أمام جبل قاسيون" عنوان المجموعة القصصية الأولى للمبدعة الأردنية "إنعام القرشي"، صدرت سنة 2021 عن "الآن ناشرون وموزعون"...
وقد اختارت المؤلفة اللون الأصفر خلفية لغلاف مجموعتها بصفحتيه، ومعلوم أن الأصفر هو لون الشمس، وله عدة دلالات، إذ أن ديناميته تمثل الشباب والطاقة والفرح والاحتفال والإبداع والذكاء والقوة والسلطة. وبفضل دفئه، غالبًا ما يرتبط هذا اللون بالصداقة والأخوة. وهو أيضا لون الذهب، وبالتالي الثروة، والترف... أما العنوان الذي كتب بالأزرق فلعله استعمل ليرمز للهدوء والثقة.
وبالنسبة للوحة التي تعلو الغلاف الأول، فهي عبارة عن بورتريه لامرأة تضع يديها أسفل ذقنها، بعيون أخاذة حالمة، مشدودة نحو السماء، وهي مرسومة بظلال من اللون الأزرق (رمز الهدوء والثقة والذكاء) بلمسات صفراء، وظلالها تضفي نوعًا من الأمل والعفوية على اللوحة من خلال إضافة النبات والعنصر الطبيعي...
أما الغلاف الأخير للمجموعة، فتضمن صورة مصغرة للغلاف الأول، يجاورها المقطع الأخير من قصة "صفعة" (ًص 9) ويحكي عن فتاة تنتقم من شخص يتحرش بها، وتصفعه بفردة حذائها على وجهه، وتحت هذا المقطع صورة للكاتبة ببسمة تشع بهجة وسعادة، وهي في كامل الأناقة والجمال، وتعريف مختصر بها...
_2 _
يتكون عنوان المجموعة من أربع كلمات: "ثرثرة أمام جبل قاسيون"، وهو مصوغ بحنكة ومهارة، من ثمة ثراؤه الإيحائي والدلالي، وهو يتناص و"ثرثرة فوق النيل" عنوان رواية شهيرة لشيخ الروائيين العرب "نجيب محفوظ"، وهو يتناص معه من حيث البنية، لكنه ينزاح عنه من حيث الدلالة. فالعنوانان يشتركان في لفظ "ثرثرة" يليها ظرف المكان واسم علم، لكنه ينزاح عنه من حيث الدلالة (فوق/ أمام) و(نهر النيل/ جبل قاسيون) كما يختلفان في نوع ظرف المكان وفي دلالته، إذ الظرف "فوق": يحيل على القوة والتراتبية والاعتلاء والسيطرة والتحكم والتوجيه، أما الظرف "أمام" فيعنى وجها لوجه...
وإذا كان "النيل" يحيل على الماء بما يرمز إليه من طهارة وخصب وحياة وتواضع ورحمة... فإن الجبل يرمز للقوة والصلابة والعظمة والشموخ.
وإذا توقفنا عند دلالة العنوان، فسنجد أن الثرثرة مصدر فعل ثَرْثَرَ، وهي تعني الكلام الكثير في تخليط وسرعة ومبالغة من دون جدوى ولا فائدة. وهي فعل مكروه بدليل الحديث النبوي: "أَبْغَضُكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقون."
وهي ثرثرة أمام جبل، أي وجها لوجه مع جبل، والجبل هو ما علا من سطح الأَرض وجاوَزَ التَّلَّ ارتفاعًا... لكنه ليس أي جبل، بل هو جبل مخصوص، إنه "جبل قاسيون" وهو جبل عريق بسوريا، يطل على العاصمة دمشق، منه يمكن رؤية المدينة بأكملها. وهو يشتهر بمعالمه الأثرية، الدينية والدنيوية...
ويخفي هذا الجبل في ثناياه العديد من الأسرار والقصص الأسطورية والحكايات الغريبة التي جعلت أهل دمشق يضفون عليها جوا خاصًا من البركة والقدسية، إذ يُقال إن سبب تسميته "قاسيون" هو أنه قسا على الكفار فلم يستطيعوا أن يأخذوا من صخوره ما يصنعون به أصنامهم، وأيضاً لأنه قسا بصلابته فلم ينبت فيه عشب ولا شجر، كباقي سفوح الجبال.
روايات أخرى ترجع سبب التسمية إلى "مغارة الدم" الموجودة بهذا الجبل، وهي مغارة يُزعم أن آدم سكن بها، وفي سفحه قَتَل قابيل أخاه هابيل...
في هذا الجبل أيضا "كهف جبريل"، وإليه جاءت الملائكة لتعزي آدم في ابنه المقتول. كما يُحكى أن بهذا الجبل مغارات أخرى منها مغارة الجوع، وبخصوصها يُحكى أن حوالي أربعين نبياً لجؤوا إليها خوفا من الكفار، ولم يكن معهم سوى رغيف واحد، فآثر كل واحد منهم رفيقه على نفسه حتى ماتوا جميعا من الجوع.
وهذا الجبل معروف، منذ مئات السنين، كمكان تقبل فيه الصلوات وتستجاب الأدعية على الفور. ويحكى أيضا أن أعلى هذا الجبل صخرة عملاقة تعرف بـ"صخرة اُذْكُرِينِي"، وتحكي قصة شابا كان يهيم بشابة، وكانت تبادله حبا بحب، وكانا يلتقيان عند هذه الصخرة، وحدث أن أهل الشابة أجبروها على الزواج من شخص آخر، فلم يتقبل الشاب الأمر، فتسلق الجبل، ووقف على هذه الصخرة، وكتب عليها بدمه رسالة من كلمة واحدة هي: "اذكريني"، ثم رمى نفسه من أعلى هذا الجبل!
بعدها، هربت الحبيبة من أهلها وقصدت الجبل لعلها تلتقي حبيبها وتتزوجه، وعندما رأت ما خَطَّهُ، فهمت ما فعله، فما كان منها إلا أن كتبت تحت رسالته، وبدمها أيضا: "لن أنساك"، ورمت نفسها أيضا.
ويقال إن الرسالتين معا ما زالتا موجودتين بخطهما، كشاهدين على قصة حبهما، لتبقى هذه الصخرة رمزا للعشق وملتقى للعشاق.
ويشكل هذا الجبل، حاليا، منطقة جذب سياحي، تمكن الزوار من الاستمتاع بالمناظر البانورامية للمدينة.
مما سبق يتضح أن جبل قاسيون كان فضاء لأول جريمة اقترفها الإنسان في حق أخيه الإنسان، كما كان فضاء/ ملجأ للمؤمنين المضطهدين وفضاء للزهد والتعبد، وأصبح فضاء للحب والمتعة والسياحة والترفيه...
_3 _
تضم هذه المجموعة 72 نصا تتوزع بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، يتراوح حجم الواحدة منها بين أقل من ثلاثة أسطر وزهاء 6 صفحات ونصف، وتغطي مساحة 182 صفحة من الحجم المتوسط.
هذا والملاحظ هو أن كل واحد من نصوص المجموعة ترافقه لوحة فنية، وجل اللوحات لنساء شابات يرمز إليهن بالشَّعر وتضاريس الجسد والأظافر والشفاه الملونة أو الرقص والعزف على الآلات الموسيقية...
_4_
وبناء عليه، نفترض أن تكون هذه المجموعة "ثرثرة" أي "كلاما كثيرا مبالغا فيه من دون جدوى ولا فائدة." وأن يكون موضوع هذا "الثرثرة" إما:
_جرائم الإنسان في حق أخيه الإنسان (قابيل وهابيل)
_الاحتماء والزهد والتعبد والإيثار (...)
_الحب والضغوط الاجتماعية (صخرة اذكريني)...
كما قد تكون الثرثرة فضفضة، بوحا وتنفيسا عن الذات وهمومها (الجانب الترفيهي لجبل قاسيون)
_5_
تشكل المرأة التيمة المهيمنة على نصوص المجموعة، إذ تقدم لنا نماذج من نساء الطبقة الوسطى، نساء ذوات معاطف ووشاحات وقفازات وحقائب يد، تخرج الواحدة منهن دون أن تدري أين ستذهب... ص112
نساء مثقفات، مهمومات بالكتابة والقراءة، عاشقات للشعر والقصة والمسرح والفنون التشكيلية، والتأمل، شغوفات بالسينما والأفلام والممثلات، لذلك، ليس غريبا أن نجدهن يحببن الغناء (فيروز، سيناترا، شوبان، نزار...) يهوين السهر وارتشاف فناجين القهوة والتدخين...
هن أيضا نساء يتوفرن على المستلزمات المادية للحياة، نساء يضعن قفازات على أيديهن لاختيار حبات البطاطس عند الخضار، خوفا من أن يفسد طين البطاطس طلاء أظافرهن ص104 وهن، غالبا، عازبات، في منتصف العمر، "بدأ الثلج يغزو شعرهن"، يعانين من الفراغ والسأم والروتين، ويشكون من الغربة والانزواء في غياهب الوحدة والنسيان، كما يعانين من الكبت الجنسي والحرمان العاطفي، وأحاديثهن محملة بالشجون... لذلك، نجدهن يقضين بياض أيامهن شاردات أمام المدفآت... يستجدين العطف ممن حولهن، يحلمن بالحب، ويحتمين بدروع الماضي الجميل...
وإن مرضت إحداهن، "يغيب عنها الأهل والاصحاب، ويصبح منزلها أشبه بمعلم أثري مهجور. ص124
ولتحمل هذا الواقع المر، تلجأ هؤلاء النسوة إلى الاقتيات من فتات الذكرى والحنين والأحلام والهلاوس...
تقول إحداهن:
_أصبحت أعيش في خزانتي، وهي تحوي رواسب حكايات، وظلال خجولة، وخسائر متلاحقة، سفر طويل ورحيل بلا سبب!
وتقول أخرى: "حينما يداهمني الملل... يذكرني هذا القميص بقلبي، بشيء ما مفقود!"
وتضيف ثالثة: "احتفظت بمنديلها سنين طويلة، المنديل الذي حظيت به هدية حبها الأول والذي تداوم على حمله في حقيبة يدها... ص114
وتقول رابعة: "لم يعد يهتم بي، لقد هجرني تماما. أشعر بالكثير من الشوق إلى حضنه. كثيرا ما أتذكر لمساته الدافئة وذراعيه القويتين تحضناني وتلتفان حولي.
وتضيف: "كنت ألومه بغنج...:
مجنون! نحن في الطريق، سيرانا الناس.
لكنه كان يرد (...):
_ليذهبوا إلى الجحيم، محبان، من حقنا أن نحب ونعلمهم معنى العشق...
_انتظر حتى نصل...
مضت تلك الأيام إلى أبعد ما يصل إليه رجائي..."
وتحكي الساردة فتقول:
_أزورها بمفردي بغتة، فأجدها وحيدة، يعيد دخان سجائرها الماضي حمما تحرق أيامها الضائعة... ص123
وتحكي أخرى:
"_غرقت في أحلام الفجر التي أراك فيها تبادلني الكثير من الغزل، يسكنني شعور بالسعادة رغم يقيني أنك سوف تكافئني بعد بغياب طويل!" ص33
بينما تلجأ إلى الهلوسة السمعية_البصرية، إذ تسمع ألحانا موسيقية شجية تنبعث من غرفة في عمارة مقابلة لنافذة غرفتها، وفي غرفة الموسيقى هذه، تلمح "جسدين عاريين يتداخلان بانسيابية كأنهما يشاركان الموسيقى عزفها" فتركز حواسها (...) فتراهما "يمتزجان، يتحدان كأنهما باتا جسدا واحدا بينما يختلط أنينهما بصوت الموسيقى الشجي الأقرب إلى الحزن. يبدو لي أن عذوبة صوتهما أجمل بكثير من اللحن الذي يستمعان إليه، فأشعر بشيء يسري في جسدي وأنا أشاركهما هذه اللحظة الموسيقى، بينما تتابعهما عيناي وقد توسعتا..." غير أن المفاجئ هو أن أختها تأتي لتقول لها: "يبدو أنك جننت (...) المساحة المقابلة لبيتنا بالكامل مجرد أرض فارغة" فتندهش المرأة وتعيد النظر حيث كانت تتلصص، فلا ترى سوى أرض فارغة..." ص 16_17
وتبحث أخرى عن بديل فلا تجد سوى، عبوة ماء تمسكها لتشرب منها، وتحاول فتحها بكل الطرق، ولما لا تستطيع، تحتضنها وتغفو... ص148
ونفس المسعى تسلكه شخصية أخرى، حين تذهب للبحث عن حذاء أحمر، مع ما لهذا اللون من دلالات "الشغف والحب والشهوة" إذ تقول: "جئت أبحث عن الحذاء الأحمر الذي وعدتني به قبل سفرك منذ سنوات." ص137
وهن أيضا نساء مشغولات بالجنس الذي يشكل هاجسا بالنسبة إليهن، وبه يفسرن ما يرينه، وهذا ما تفعله (بطلة) قصة "بنكش"، تقول:
"تخرج سيدة من أحد البيوت إلى ما يسمى "الشرفة" مبللة الشعر تتلفت حولها، لتنشر ملابسها الخاصة على حبل الغسيل، (...) أفاجأ بأن سجادة ناعمة (...) تتدلى من "البرندة" ضاحكة وسط كل هذا الخراب والصدأ وسيدة الشرفة تبتسم لها لتربت عليها ثم تتدلى فوقها وينسال شعرها كشلال وهي تعدل جوانبها كي لا تتكسر. ألاحظ أنها تعاملها بحنو كأنها عشيقها. هل مارست العشق عليها الليلة؟! (...) أشرد في تخيلها مع رجلها فوق السجادة بعنوان لاهب." ص98/99
ومن النماذج النسائية التي تقدمها المجموعة نجد نموذج المرأة الخانعة المستسلمة التي تعاني من الإهمال من طرف الزوج، ومن التحرش في الشارع والتعنيف البدني في البيت: كما في قصة "كابيتشينو": حيث "تسحب منديلها لتمسح قطرات الدم النافرة من أنفها..." ص18، وللدفاع عن نفسها، تلجأ إلى الحلم، (حلم اليقظة وحلم النوم): "يقترب منها الأطفال (...) يحيطون بها في دائرة تضيق لحظة بعد أخرى، يجذبونها... يرغمونها على السير معهم، يتجهون بها صوب منزلها الذي تركته منذ ما يقارب الساعة بعد مشادتهما... يقيدونه، لتقترب الأمهات صافعات إياه واحدة تلو الأخرى، يأمرنها بركل مؤخرته بقوة. تفعل ذلك بينما تسري في جسدها بهجة تشعرها بالانتشاء. كلما ركلته بقوة أكبر صرخ محاولا الإفلات من أيديهم (...) تلكم أنفه حتى ينبجس الدم سائلا منه، يتوسل إليها أن ترحمه، لكنها لا تتوقف..." ص19، وحين "تفتح عينيها (...) ملتفتة حولها ترى كوب الكابيتشينو فارغا تماما، بينما يقف النادل أمامها ليسألها بأدب عن إمكانية رفعه!" ص19
غير أن كل هذه الأساليب لا تجدي نفعا في تغيير الواقع أو التخفيف من غلوائه، فتنهمر دموعها كأنها أمطار تتساقط بلا توقف... ص79/80 ولعل هذا ما عبرت عنه إحدى الشخصيات مجازا، حين وضعت همومها في كيس وألقت به في حاوية، لكنها ما كادت تنصرف حتى لحقها أحد الصبية وأعاده لها، ظنا منه أنها نسيته هناك ص(42)
_6_
المفاجئ في المجموعة هو أن الساردة/الشخصية، وهي تعتمد ضمير المتكلم (أنا) في آخر نص منها تخبرنا أنها لما استيقظت صباحا، وفتحت نافذتها، اندهشت لرؤية امرأة تجلس في الحديقة، فتساءلت عمن تكون هذه المرأة؟ لتجيبها الأخيرة بالتفاتة سريعة، فتقول الساردة:
"_يا إلهي إنها إنعام القرشي."
ما يعني أن الساردة هي الشخصية وهي الكاتبة عينها... وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن تجنيس هذه المجموعة، وعلاقتها بالسيرة الذاتية للكاتبة،
فهل نصوص المجموعة نصوص قصصية أم نصوص سيرية اتخذت لنفسها لبوس القصة القصيرة؟
وكجواب، نعتقد أن المؤلفة حسمت هذا النقاش مادامت صنفت عملها ضمن جنس القصة القصيرة (قصص)، غير أنه يمكننا أن نعتبر هذه الإشارة إيحاء بأن المؤلفة استثمرت في مجموعتها هذه عناصر من سيرتها الذاتية! وهو أمر طبيعي ومفهوم مادام أن هذه المجموعة القصصية هي العمل الأول في مسيرتها الإبداعية...
_7_
مما سبق، نخلص إلى أن المؤلفة، ورغم تباين مستوى جودة قصصها، توفقت في اختيار عتبات مجموعتها، إذ، وكما افترضنا، وجدنا النصوص ثرثرة محببة ممتعة ومشوقة، تنفس من خلالها الشخصيات عن نفسها، وتبوح بجرأة بمعاناة فئة من النساء يعانين في صمت، وجاءت المؤلفة ومجموعتها ناطقة باسمهن...
"ثرثرة أمام جبل قاسيون" عنوان المجموعة القصصية الأولى للمبدعة الأردنية "إنعام القرشي"، صدرت سنة 2021 عن "الآن ناشرون وموزعون"...
وقد اختارت المؤلفة اللون الأصفر خلفية لغلاف مجموعتها بصفحتيه، ومعلوم أن الأصفر هو لون الشمس، وله عدة دلالات، إذ أن ديناميته تمثل الشباب والطاقة والفرح والاحتفال والإبداع والذكاء والقوة والسلطة. وبفضل دفئه، غالبًا ما يرتبط هذا اللون بالصداقة والأخوة. وهو أيضا لون الذهب، وبالتالي الثروة، والترف... أما العنوان الذي كتب بالأزرق فلعله استعمل ليرمز للهدوء والثقة.
وبالنسبة للوحة التي تعلو الغلاف الأول، فهي عبارة عن بورتريه لامرأة تضع يديها أسفل ذقنها، بعيون أخاذة حالمة، مشدودة نحو السماء، وهي مرسومة بظلال من اللون الأزرق (رمز الهدوء والثقة والذكاء) بلمسات صفراء، وظلالها تضفي نوعًا من الأمل والعفوية على اللوحة من خلال إضافة النبات والعنصر الطبيعي...
أما الغلاف الأخير للمجموعة، فتضمن صورة مصغرة للغلاف الأول، يجاورها المقطع الأخير من قصة "صفعة" (ًص 9) ويحكي عن فتاة تنتقم من شخص يتحرش بها، وتصفعه بفردة حذائها على وجهه، وتحت هذا المقطع صورة للكاتبة ببسمة تشع بهجة وسعادة، وهي في كامل الأناقة والجمال، وتعريف مختصر بها...
_2 _
يتكون عنوان المجموعة من أربع كلمات: "ثرثرة أمام جبل قاسيون"، وهو مصوغ بحنكة ومهارة، من ثمة ثراؤه الإيحائي والدلالي، وهو يتناص و"ثرثرة فوق النيل" عنوان رواية شهيرة لشيخ الروائيين العرب "نجيب محفوظ"، وهو يتناص معه من حيث البنية، لكنه ينزاح عنه من حيث الدلالة. فالعنوانان يشتركان في لفظ "ثرثرة" يليها ظرف المكان واسم علم، لكنه ينزاح عنه من حيث الدلالة (فوق/ أمام) و(نهر النيل/ جبل قاسيون) كما يختلفان في نوع ظرف المكان وفي دلالته، إذ الظرف "فوق": يحيل على القوة والتراتبية والاعتلاء والسيطرة والتحكم والتوجيه، أما الظرف "أمام" فيعنى وجها لوجه...
وإذا كان "النيل" يحيل على الماء بما يرمز إليه من طهارة وخصب وحياة وتواضع ورحمة... فإن الجبل يرمز للقوة والصلابة والعظمة والشموخ.
وإذا توقفنا عند دلالة العنوان، فسنجد أن الثرثرة مصدر فعل ثَرْثَرَ، وهي تعني الكلام الكثير في تخليط وسرعة ومبالغة من دون جدوى ولا فائدة. وهي فعل مكروه بدليل الحديث النبوي: "أَبْغَضُكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقون."
وهي ثرثرة أمام جبل، أي وجها لوجه مع جبل، والجبل هو ما علا من سطح الأَرض وجاوَزَ التَّلَّ ارتفاعًا... لكنه ليس أي جبل، بل هو جبل مخصوص، إنه "جبل قاسيون" وهو جبل عريق بسوريا، يطل على العاصمة دمشق، منه يمكن رؤية المدينة بأكملها. وهو يشتهر بمعالمه الأثرية، الدينية والدنيوية...
ويخفي هذا الجبل في ثناياه العديد من الأسرار والقصص الأسطورية والحكايات الغريبة التي جعلت أهل دمشق يضفون عليها جوا خاصًا من البركة والقدسية، إذ يُقال إن سبب تسميته "قاسيون" هو أنه قسا على الكفار فلم يستطيعوا أن يأخذوا من صخوره ما يصنعون به أصنامهم، وأيضاً لأنه قسا بصلابته فلم ينبت فيه عشب ولا شجر، كباقي سفوح الجبال.
روايات أخرى ترجع سبب التسمية إلى "مغارة الدم" الموجودة بهذا الجبل، وهي مغارة يُزعم أن آدم سكن بها، وفي سفحه قَتَل قابيل أخاه هابيل...
في هذا الجبل أيضا "كهف جبريل"، وإليه جاءت الملائكة لتعزي آدم في ابنه المقتول. كما يُحكى أن بهذا الجبل مغارات أخرى منها مغارة الجوع، وبخصوصها يُحكى أن حوالي أربعين نبياً لجؤوا إليها خوفا من الكفار، ولم يكن معهم سوى رغيف واحد، فآثر كل واحد منهم رفيقه على نفسه حتى ماتوا جميعا من الجوع.
وهذا الجبل معروف، منذ مئات السنين، كمكان تقبل فيه الصلوات وتستجاب الأدعية على الفور. ويحكى أيضا أن أعلى هذا الجبل صخرة عملاقة تعرف بـ"صخرة اُذْكُرِينِي"، وتحكي قصة شابا كان يهيم بشابة، وكانت تبادله حبا بحب، وكانا يلتقيان عند هذه الصخرة، وحدث أن أهل الشابة أجبروها على الزواج من شخص آخر، فلم يتقبل الشاب الأمر، فتسلق الجبل، ووقف على هذه الصخرة، وكتب عليها بدمه رسالة من كلمة واحدة هي: "اذكريني"، ثم رمى نفسه من أعلى هذا الجبل!
بعدها، هربت الحبيبة من أهلها وقصدت الجبل لعلها تلتقي حبيبها وتتزوجه، وعندما رأت ما خَطَّهُ، فهمت ما فعله، فما كان منها إلا أن كتبت تحت رسالته، وبدمها أيضا: "لن أنساك"، ورمت نفسها أيضا.
ويقال إن الرسالتين معا ما زالتا موجودتين بخطهما، كشاهدين على قصة حبهما، لتبقى هذه الصخرة رمزا للعشق وملتقى للعشاق.
ويشكل هذا الجبل، حاليا، منطقة جذب سياحي، تمكن الزوار من الاستمتاع بالمناظر البانورامية للمدينة.
مما سبق يتضح أن جبل قاسيون كان فضاء لأول جريمة اقترفها الإنسان في حق أخيه الإنسان، كما كان فضاء/ ملجأ للمؤمنين المضطهدين وفضاء للزهد والتعبد، وأصبح فضاء للحب والمتعة والسياحة والترفيه...
_3 _
تضم هذه المجموعة 72 نصا تتوزع بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، يتراوح حجم الواحدة منها بين أقل من ثلاثة أسطر وزهاء 6 صفحات ونصف، وتغطي مساحة 182 صفحة من الحجم المتوسط.
هذا والملاحظ هو أن كل واحد من نصوص المجموعة ترافقه لوحة فنية، وجل اللوحات لنساء شابات يرمز إليهن بالشَّعر وتضاريس الجسد والأظافر والشفاه الملونة أو الرقص والعزف على الآلات الموسيقية...
_4_
وبناء عليه، نفترض أن تكون هذه المجموعة "ثرثرة" أي "كلاما كثيرا مبالغا فيه من دون جدوى ولا فائدة." وأن يكون موضوع هذا "الثرثرة" إما:
_جرائم الإنسان في حق أخيه الإنسان (قابيل وهابيل)
_الاحتماء والزهد والتعبد والإيثار (...)
_الحب والضغوط الاجتماعية (صخرة اذكريني)...
كما قد تكون الثرثرة فضفضة، بوحا وتنفيسا عن الذات وهمومها (الجانب الترفيهي لجبل قاسيون)
_5_
تشكل المرأة التيمة المهيمنة على نصوص المجموعة، إذ تقدم لنا نماذج من نساء الطبقة الوسطى، نساء ذوات معاطف ووشاحات وقفازات وحقائب يد، تخرج الواحدة منهن دون أن تدري أين ستذهب... ص112
نساء مثقفات، مهمومات بالكتابة والقراءة، عاشقات للشعر والقصة والمسرح والفنون التشكيلية، والتأمل، شغوفات بالسينما والأفلام والممثلات، لذلك، ليس غريبا أن نجدهن يحببن الغناء (فيروز، سيناترا، شوبان، نزار...) يهوين السهر وارتشاف فناجين القهوة والتدخين...
هن أيضا نساء يتوفرن على المستلزمات المادية للحياة، نساء يضعن قفازات على أيديهن لاختيار حبات البطاطس عند الخضار، خوفا من أن يفسد طين البطاطس طلاء أظافرهن ص104 وهن، غالبا، عازبات، في منتصف العمر، "بدأ الثلج يغزو شعرهن"، يعانين من الفراغ والسأم والروتين، ويشكون من الغربة والانزواء في غياهب الوحدة والنسيان، كما يعانين من الكبت الجنسي والحرمان العاطفي، وأحاديثهن محملة بالشجون... لذلك، نجدهن يقضين بياض أيامهن شاردات أمام المدفآت... يستجدين العطف ممن حولهن، يحلمن بالحب، ويحتمين بدروع الماضي الجميل...
وإن مرضت إحداهن، "يغيب عنها الأهل والاصحاب، ويصبح منزلها أشبه بمعلم أثري مهجور. ص124
ولتحمل هذا الواقع المر، تلجأ هؤلاء النسوة إلى الاقتيات من فتات الذكرى والحنين والأحلام والهلاوس...
تقول إحداهن:
_أصبحت أعيش في خزانتي، وهي تحوي رواسب حكايات، وظلال خجولة، وخسائر متلاحقة، سفر طويل ورحيل بلا سبب!
وتقول أخرى: "حينما يداهمني الملل... يذكرني هذا القميص بقلبي، بشيء ما مفقود!"
وتضيف ثالثة: "احتفظت بمنديلها سنين طويلة، المنديل الذي حظيت به هدية حبها الأول والذي تداوم على حمله في حقيبة يدها... ص114
وتقول رابعة: "لم يعد يهتم بي، لقد هجرني تماما. أشعر بالكثير من الشوق إلى حضنه. كثيرا ما أتذكر لمساته الدافئة وذراعيه القويتين تحضناني وتلتفان حولي.
وتضيف: "كنت ألومه بغنج...:
مجنون! نحن في الطريق، سيرانا الناس.
لكنه كان يرد (...):
_ليذهبوا إلى الجحيم، محبان، من حقنا أن نحب ونعلمهم معنى العشق...
_انتظر حتى نصل...
مضت تلك الأيام إلى أبعد ما يصل إليه رجائي..."
وتحكي الساردة فتقول:
_أزورها بمفردي بغتة، فأجدها وحيدة، يعيد دخان سجائرها الماضي حمما تحرق أيامها الضائعة... ص123
وتحكي أخرى:
"_غرقت في أحلام الفجر التي أراك فيها تبادلني الكثير من الغزل، يسكنني شعور بالسعادة رغم يقيني أنك سوف تكافئني بعد بغياب طويل!" ص33
بينما تلجأ إلى الهلوسة السمعية_البصرية، إذ تسمع ألحانا موسيقية شجية تنبعث من غرفة في عمارة مقابلة لنافذة غرفتها، وفي غرفة الموسيقى هذه، تلمح "جسدين عاريين يتداخلان بانسيابية كأنهما يشاركان الموسيقى عزفها" فتركز حواسها (...) فتراهما "يمتزجان، يتحدان كأنهما باتا جسدا واحدا بينما يختلط أنينهما بصوت الموسيقى الشجي الأقرب إلى الحزن. يبدو لي أن عذوبة صوتهما أجمل بكثير من اللحن الذي يستمعان إليه، فأشعر بشيء يسري في جسدي وأنا أشاركهما هذه اللحظة الموسيقى، بينما تتابعهما عيناي وقد توسعتا..." غير أن المفاجئ هو أن أختها تأتي لتقول لها: "يبدو أنك جننت (...) المساحة المقابلة لبيتنا بالكامل مجرد أرض فارغة" فتندهش المرأة وتعيد النظر حيث كانت تتلصص، فلا ترى سوى أرض فارغة..." ص 16_17
وتبحث أخرى عن بديل فلا تجد سوى، عبوة ماء تمسكها لتشرب منها، وتحاول فتحها بكل الطرق، ولما لا تستطيع، تحتضنها وتغفو... ص148
ونفس المسعى تسلكه شخصية أخرى، حين تذهب للبحث عن حذاء أحمر، مع ما لهذا اللون من دلالات "الشغف والحب والشهوة" إذ تقول: "جئت أبحث عن الحذاء الأحمر الذي وعدتني به قبل سفرك منذ سنوات." ص137
وهن أيضا نساء مشغولات بالجنس الذي يشكل هاجسا بالنسبة إليهن، وبه يفسرن ما يرينه، وهذا ما تفعله (بطلة) قصة "بنكش"، تقول:
"تخرج سيدة من أحد البيوت إلى ما يسمى "الشرفة" مبللة الشعر تتلفت حولها، لتنشر ملابسها الخاصة على حبل الغسيل، (...) أفاجأ بأن سجادة ناعمة (...) تتدلى من "البرندة" ضاحكة وسط كل هذا الخراب والصدأ وسيدة الشرفة تبتسم لها لتربت عليها ثم تتدلى فوقها وينسال شعرها كشلال وهي تعدل جوانبها كي لا تتكسر. ألاحظ أنها تعاملها بحنو كأنها عشيقها. هل مارست العشق عليها الليلة؟! (...) أشرد في تخيلها مع رجلها فوق السجادة بعنوان لاهب." ص98/99
ومن النماذج النسائية التي تقدمها المجموعة نجد نموذج المرأة الخانعة المستسلمة التي تعاني من الإهمال من طرف الزوج، ومن التحرش في الشارع والتعنيف البدني في البيت: كما في قصة "كابيتشينو": حيث "تسحب منديلها لتمسح قطرات الدم النافرة من أنفها..." ص18، وللدفاع عن نفسها، تلجأ إلى الحلم، (حلم اليقظة وحلم النوم): "يقترب منها الأطفال (...) يحيطون بها في دائرة تضيق لحظة بعد أخرى، يجذبونها... يرغمونها على السير معهم، يتجهون بها صوب منزلها الذي تركته منذ ما يقارب الساعة بعد مشادتهما... يقيدونه، لتقترب الأمهات صافعات إياه واحدة تلو الأخرى، يأمرنها بركل مؤخرته بقوة. تفعل ذلك بينما تسري في جسدها بهجة تشعرها بالانتشاء. كلما ركلته بقوة أكبر صرخ محاولا الإفلات من أيديهم (...) تلكم أنفه حتى ينبجس الدم سائلا منه، يتوسل إليها أن ترحمه، لكنها لا تتوقف..." ص19، وحين "تفتح عينيها (...) ملتفتة حولها ترى كوب الكابيتشينو فارغا تماما، بينما يقف النادل أمامها ليسألها بأدب عن إمكانية رفعه!" ص19
غير أن كل هذه الأساليب لا تجدي نفعا في تغيير الواقع أو التخفيف من غلوائه، فتنهمر دموعها كأنها أمطار تتساقط بلا توقف... ص79/80 ولعل هذا ما عبرت عنه إحدى الشخصيات مجازا، حين وضعت همومها في كيس وألقت به في حاوية، لكنها ما كادت تنصرف حتى لحقها أحد الصبية وأعاده لها، ظنا منه أنها نسيته هناك ص(42)
_6_
المفاجئ في المجموعة هو أن الساردة/الشخصية، وهي تعتمد ضمير المتكلم (أنا) في آخر نص منها تخبرنا أنها لما استيقظت صباحا، وفتحت نافذتها، اندهشت لرؤية امرأة تجلس في الحديقة، فتساءلت عمن تكون هذه المرأة؟ لتجيبها الأخيرة بالتفاتة سريعة، فتقول الساردة:
"_يا إلهي إنها إنعام القرشي."
ما يعني أن الساردة هي الشخصية وهي الكاتبة عينها... وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن تجنيس هذه المجموعة، وعلاقتها بالسيرة الذاتية للكاتبة،
فهل نصوص المجموعة نصوص قصصية أم نصوص سيرية اتخذت لنفسها لبوس القصة القصيرة؟
وكجواب، نعتقد أن المؤلفة حسمت هذا النقاش مادامت صنفت عملها ضمن جنس القصة القصيرة (قصص)، غير أنه يمكننا أن نعتبر هذه الإشارة إيحاء بأن المؤلفة استثمرت في مجموعتها هذه عناصر من سيرتها الذاتية! وهو أمر طبيعي ومفهوم مادام أن هذه المجموعة القصصية هي العمل الأول في مسيرتها الإبداعية...
_7_
مما سبق، نخلص إلى أن المؤلفة، ورغم تباين مستوى جودة قصصها، توفقت في اختيار عتبات مجموعتها، إذ، وكما افترضنا، وجدنا النصوص ثرثرة محببة ممتعة ومشوقة، تنفس من خلالها الشخصيات عن نفسها، وتبوح بجرأة بمعاناة فئة من النساء يعانين في صمت، وجاءت المؤلفة ومجموعتها ناطقة باسمهن...