يضيق الأديب أحيانًا بالمكان الذي يقيم فيه، فيحس بالملل والسأم، ويضيق بمن حوله من الناس، ربما لتناقض أفكاره ومبادئه مع ما يسود بينهم من عادات وتقاليد، أو لإحساسه بقسوتهم عليه ونبذهم له. ويضيق أحيانًا بالسلطة لممارساتها الظالمة، فنراه يحاول أن يبتعد عن المكان إلى مكان آخر يجد فيه ما افتقده في المكان الأول. إنه دائم البحث عن السعادة والحرية؛ فالمكان الذي يجد فيه من يقدره ويبتسم له هو المكان المفضل عنده، بل هو بيته ووطنه.
كثيرون من الأدباء ضاقوا بالمكان وأهله، بدءًا من شعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ومن بينهم الشنفرى، الذي نادى على قومه بأن يقيموا صدور مطيهم؛ ليرحل عنهم إلى الصحراء، ويلتقي بأهله الجدد من الحيوانات، مرورًا بالمتنبي، إلى شعراء المهجر الأميركي، إلى الجواهري والنواب وسعدي يوسف، ثم إلى الروائيين: غالب هلسا، وعبد الرحمن منيف، كلهم تركوا أماكنهم الأولى ولكل واحد أسبابه الخاصة، قد يكون منها طلب الرزق، أو التوق للحرية، أو المتعة واللذة.
لعل من أغرب الأدباء الذين ضاق بهم المكان وأهله، ووجدوا المكان المناسب لهم بعيدًا عن صخب الحياة وأعبائها الأديبين الأردنيين: الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار)(1899- 1949)، والقاص وكاتب المقالة عبد الحليم عباس(1913-1979).
إن المكان الذي لجأ إليه هذان الأديبان غريب على غيرهما من الأدباء، إنه وادي اليابس أو وادي الريان، الذي يقع شمالي مدينة عجلون الأردنية، حيث مضارب النور(الغجر). وقد خلده كلاهما في إبداعاته. فالشاعر عرار ذكره في شعره، وحمل ديوانه في عنوانه" عشيات وادي اليابس" اسم الوادي فضلًا عن اسم الفتاة النورية عشيات التي أغرم بها، وأهدى الديوان إليها، وقد أطلق عليها بنت الوادي، أو أخت الوادي.
إن الزمان ولا أقول زماني بين الطوابع والرسوم رماني
يا أخت واد قد دعوتك باسمه وله نسبت تبركًا ديواني.
لقد كان عرار يلجأ إلى مضارب النور في وادي اليابس هربًا من مجتمع المدينة، الذي في رأيه يتصف بالغش والكذب والطمع؛ ففي مضارب النور التي تكون عادة من الخيش أو الشعر تتلاشي منها تلك الصفات، وتتحقق فيها المساواة والحرية والعدل:
بين الخرابيش لا حرص ولا طمع ولا احتراب على فلس ودينار
الكل زط مساواة محققة تنفي الفوارق بين الجار والجار
وفي موضع آخر، يبين أن سبب هروبه إلى تلك المجموعة البشرية التي تحب الحياة بوجهها المفرح إحساسه بأنه مثلها فاقد الوطن والحرية؛ لهذا فهو يدعو الهبر زعيم النور أن يعزف على الربابة؛ ليبتعد عن هذا الواقع:
يا "هبر" شعبك بالحياة من أمتي أضحى الأحقّ وبالكرامة أجدر
يا "هبر" هات لي الربابة وانطلق بي حيث قومك أسهلوا أم أصحروا
أنا مثلكم أصبحت لا أرض ولا أهل ولا دار ولا لي معشر
وفي موضع آخر يبدو الحب من أسباب زيارته مضارب النور، إنه حب المرأة، التي تعرف إليها في تلك المضارب، يضاف إليها حب الصحراء والنخيل.
فحسبي بالنخيل الباسق الفينان جيرانا
وبالنورية الحسناء والصحراء ندمانا
أما الأديب الثاني عبد الحليم عباس صاحب الرواية الرائدة "فتاة من فلسطين" فقد تردد إلى مضارب النور كما يطلعنا على ذلك مقال كتبه في مجلة الرسالة (ع 71، 1934) وعنوانه" ليلة في مضارب النور" ذكر فيه أنه جاء مع ثلاثة من أصدقائه في ليلة من ليالي الصيف الجميلة إلى تلك المنطقة من وادي اليابس، التي نصب فيها النور مضاربهم. لقد استمعوا إلى غناء فتاة نورية حسناء، ولاحظوا في غنائها نغمة شجية، تطفح بالذكريات والشكوى من ألم الترحال والتنقل في الأمكنة، التي أقام فيها أهلها ثم فارقوها. وعندما تتوقف الفتاة عن الغناء يسألها أحدهم عن الشاعر عرار، فتجيبه بأنه يتردد كثيرًا إلى الوادي هربًا من واقعه المرير.
ويذكر عبد الحليم عباس في نهاية مقاله بأن الشرطة اقتحمت المكان في تلك الليلة، واعتزمت طرد النور منه، فيتوسط أربعتهم لديها، فتتوقف عملية الطرد، وتنتهي الليلة بسلام.
رأينا بأن الشاعر عرارًا كان دائم التردد إلى مضارب النور بخلاف عبد الحليم عباس؛ فلم يكن يكثر من ذلك كما تفيد كتاباته. لقد أغرت حياة النور هذين الأديبين بالاقتراب منها، والتعايش فيها؛ لأنها حياة تمتاز بتمجيد الحرية، وقيم العدالة والمساواة، وبالسعي نحو الإمساك بلحظات الفرح والسعادة.
لا غرابة في أن يسعى الأدباء إلى مثل هذه الحياة الطليقة طالما أنهم يتعايشون معها في أدبهم من خلال الخيال والأحلام.
كثيرون من الأدباء ضاقوا بالمكان وأهله، بدءًا من شعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ومن بينهم الشنفرى، الذي نادى على قومه بأن يقيموا صدور مطيهم؛ ليرحل عنهم إلى الصحراء، ويلتقي بأهله الجدد من الحيوانات، مرورًا بالمتنبي، إلى شعراء المهجر الأميركي، إلى الجواهري والنواب وسعدي يوسف، ثم إلى الروائيين: غالب هلسا، وعبد الرحمن منيف، كلهم تركوا أماكنهم الأولى ولكل واحد أسبابه الخاصة، قد يكون منها طلب الرزق، أو التوق للحرية، أو المتعة واللذة.
لعل من أغرب الأدباء الذين ضاق بهم المكان وأهله، ووجدوا المكان المناسب لهم بعيدًا عن صخب الحياة وأعبائها الأديبين الأردنيين: الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار)(1899- 1949)، والقاص وكاتب المقالة عبد الحليم عباس(1913-1979).
إن المكان الذي لجأ إليه هذان الأديبان غريب على غيرهما من الأدباء، إنه وادي اليابس أو وادي الريان، الذي يقع شمالي مدينة عجلون الأردنية، حيث مضارب النور(الغجر). وقد خلده كلاهما في إبداعاته. فالشاعر عرار ذكره في شعره، وحمل ديوانه في عنوانه" عشيات وادي اليابس" اسم الوادي فضلًا عن اسم الفتاة النورية عشيات التي أغرم بها، وأهدى الديوان إليها، وقد أطلق عليها بنت الوادي، أو أخت الوادي.
إن الزمان ولا أقول زماني بين الطوابع والرسوم رماني
يا أخت واد قد دعوتك باسمه وله نسبت تبركًا ديواني.
لقد كان عرار يلجأ إلى مضارب النور في وادي اليابس هربًا من مجتمع المدينة، الذي في رأيه يتصف بالغش والكذب والطمع؛ ففي مضارب النور التي تكون عادة من الخيش أو الشعر تتلاشي منها تلك الصفات، وتتحقق فيها المساواة والحرية والعدل:
بين الخرابيش لا حرص ولا طمع ولا احتراب على فلس ودينار
الكل زط مساواة محققة تنفي الفوارق بين الجار والجار
وفي موضع آخر، يبين أن سبب هروبه إلى تلك المجموعة البشرية التي تحب الحياة بوجهها المفرح إحساسه بأنه مثلها فاقد الوطن والحرية؛ لهذا فهو يدعو الهبر زعيم النور أن يعزف على الربابة؛ ليبتعد عن هذا الواقع:
يا "هبر" شعبك بالحياة من أمتي أضحى الأحقّ وبالكرامة أجدر
يا "هبر" هات لي الربابة وانطلق بي حيث قومك أسهلوا أم أصحروا
أنا مثلكم أصبحت لا أرض ولا أهل ولا دار ولا لي معشر
وفي موضع آخر يبدو الحب من أسباب زيارته مضارب النور، إنه حب المرأة، التي تعرف إليها في تلك المضارب، يضاف إليها حب الصحراء والنخيل.
فحسبي بالنخيل الباسق الفينان جيرانا
وبالنورية الحسناء والصحراء ندمانا
أما الأديب الثاني عبد الحليم عباس صاحب الرواية الرائدة "فتاة من فلسطين" فقد تردد إلى مضارب النور كما يطلعنا على ذلك مقال كتبه في مجلة الرسالة (ع 71، 1934) وعنوانه" ليلة في مضارب النور" ذكر فيه أنه جاء مع ثلاثة من أصدقائه في ليلة من ليالي الصيف الجميلة إلى تلك المنطقة من وادي اليابس، التي نصب فيها النور مضاربهم. لقد استمعوا إلى غناء فتاة نورية حسناء، ولاحظوا في غنائها نغمة شجية، تطفح بالذكريات والشكوى من ألم الترحال والتنقل في الأمكنة، التي أقام فيها أهلها ثم فارقوها. وعندما تتوقف الفتاة عن الغناء يسألها أحدهم عن الشاعر عرار، فتجيبه بأنه يتردد كثيرًا إلى الوادي هربًا من واقعه المرير.
ويذكر عبد الحليم عباس في نهاية مقاله بأن الشرطة اقتحمت المكان في تلك الليلة، واعتزمت طرد النور منه، فيتوسط أربعتهم لديها، فتتوقف عملية الطرد، وتنتهي الليلة بسلام.
رأينا بأن الشاعر عرارًا كان دائم التردد إلى مضارب النور بخلاف عبد الحليم عباس؛ فلم يكن يكثر من ذلك كما تفيد كتاباته. لقد أغرت حياة النور هذين الأديبين بالاقتراب منها، والتعايش فيها؛ لأنها حياة تمتاز بتمجيد الحرية، وقيم العدالة والمساواة، وبالسعي نحو الإمساك بلحظات الفرح والسعادة.
لا غرابة في أن يسعى الأدباء إلى مثل هذه الحياة الطليقة طالما أنهم يتعايشون معها في أدبهم من خلال الخيال والأحلام.