خالد جهاد - دور البطولة

(القبح والجمال- دور البطولة)

المقال رقم (١٥) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمء

بكل تأكيد نستطيع أن نلحظ تحولاً كبيراً في طريقة تعاطي المواطن العادي منذ مطلع الألفية الجديدة مع مختلف جوانب الحياة والقضايا التي نعيشها بشكلٍ ملفت، حيث اختلف سلوكه كثيراً عن العقود السابقة التي كان يغلب عليها حالة ٌمن الصمت والسلبية واللامبالاة وعدم الإهتمام، والإكتفاء بالحديث عن بعض الأمور المعيشية والمستجدات السياسية ضمن التجمعات العائلية أو اللقاءات التي تجمعه بالأصدقاء، ونظراً لتطور وتغير نوعية الإعلام والبرامج المقدمة من خلاله على اختلافها بدء المشاهد مع تفاوت ثقافته ودرجة وعيه بالإندماج مع المادة التي تقدم له، فنيةّ كانت أم سياسية وحتى على صعيد البرامج الإجتماعية بتفرعاتها ليتحول من مجرد متفرج إلى (مشارك في صنع الحدث) كما كان يتم الترويج له عبر مختلف القنوات الفضائية لأسباب تجارية وتسويقية بحتة، وكان العامان ٢٠٠٠ و٢٠٠١ بمثابة محاولات لإستكشاف واستطلاع مدى التفاعل مع النمط الجديد الذي أرسته العولمة بنماذجها المختلفة، وقياس مدى تقبل الجماهير لها وانعكاسها على سلوكياتهم وأفكارهم وحضورها ضمن اختياراتهم حتى وإن كان ذلك من خلال تفاصيل قد تبدو بسيطة لكنها تحمل دلالات هامة..

وعلى رغم من ما أحدثته أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول عام ٢٠٠١ من ردات فعل وما تبعها من متغيرات أثرت على المشهد الدولي، فإن الإقبال قد ازداد على المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهية الأمريكية بشكلٍ ملحوظ بين المراهقين والشباب مما أثر حتى على مضمون الإنتاجات المحلية ومتابعتها كما أثر أيضاً على صناعة الفن والإعلام حتى في أوروبا، فأصبح هناك الكثير من الأعمال التي تنتج على غرارها ولم يكتب لها النجاح بإستثناء بعض التجارب التي لاقت رواجاً محدوداً داخل البلد المنتج لها ولم تستطع أن تحقق انتشاراً في بقية الدول العربية خاصةً عند الحديث عن ما عرف بظاهرة (السيت كوم) كمسلسلات كوميدية على غرار المسلسلات الأمريكية الشهيرة مثل (فريندز)..

ولكن طبيعة الأمور مع بداية العام ٢٠٠٢ ستتغير كلياً خاصةً مع بدء الحديث عن غزو محتمل للعراق بعد أفغانستان ووقوع أحداثٍ هامة ك(مجزرة جنين) في فلسطين المحتلة في نفس العام الذي سيشهد انفتاحاً كبيراً جداً ستستحيل السيطرة عليه لاحقاً مع بداية انطلاق البث الفضائي للقنوات المتخصصة في الأغنيات والڤيديو كليب سواءاً كان ذلك على مستوى المنطقة أو العالم، والذي سيفتح سوقاً جديداً للإعلام والإعلان مع بدء ظهور وجوهٍ غنائية جديدة مختلفة عن الوجوه والأصوات التي طبعت عقد التسعينيات (والتي سيتم الحديث عنها لاحقاً بشكلٍ منفصل لإعطاء هذا الشق حقه في الألفية الجديدة)، والتي تزامنت مع انطلاق ثورةٍ في عالم الفن والبرامج التلفزيونية ستبدء مع استيراد برامج المسابقات الغنائية والفنية وتعريبها لتشكل نقطة تحول لدى الفنانين والإعلاميين وأصحاب القنوات الفضائية والمشاهدين والمجتمع ككل حيث لن يكون ما بعدها كما كان قبلها..

فقد حققت هذه البرامج خاصةً في الإصدارات الأولى التي تم إنتاجها كبرنامجي (سوبر ستار) و (ستار أكاديمي) نسب مشاهدة قياسية وجماهيرية منقطعة النظير (بغض النظر عن قيمة المحتوى) مع طفرة كبيرة وتغيير في أسلوب وطريقة الإنتاج التلفزيوني والإعلاني، خاصةً وأنها كانت فترةً ذهبية للإعلانات حيث لم تعرف حدوداً في أفكارها ومضمونها وصورتها وجرأتها، وكان صدى (نجاحها) لا يقل عن نجاح المنتجات المعلن عنها إن لم يكن قد تفوق عليها، دون أن ننسى أن الأسماء التي قامت بإخراج هذه البرامج كانت تعمل بالتوازي في إخراج الإعلانات والذي انتقلت بعده إلى عالم الڤيديو كليب والسينما لاحقاً، وخلق ظهور كل هذه الأفكار والأسماء والعناصر المكثفة التي شكل بروزها معاً في نفس التوقيت حالةً من الإنبهار ومرحلةً جديدة كلياً على المشاهد دفعته للتأثر بها والتماهي معها ومع شخصياتها على اختلافهم، وجعل الكثير من هذه الوجوه (قدوة ومثال) بالنسبة له، وكان لوجود (لجان التحكيم) ضمن قالب ترفيهي قدرة على اجتذاب الجمهور والتأثير فيه بشكلٍ كبير، فقد أصبحت هذه البرامج التي استمرت على مدار سنوات ثم توقفت لتعود من جديد عبر شاشات أخرى لسنوات أيضاً تلخص أحلام العديد من الشباب الذي يبحث عن الشهرة السريعة، الشهرة بأي شكل وبدون سبب مقنع وخلق حالة من الهوس بفكرة (النجومية) والترويج لها كغاية وليس كوسيلة أو نتيجة لنجاح عمل أو تحقيق إنجازٍ ما والتي جعلت نسبة ليست بالبسيطة من الناس تبحث عن ما يجعلها في دائرة الضوء سواءاً كان لديها ما تقدمه أم لا، أو حتى وإن كان الأسلوب أو الطريقة التي تستخدمها تنتقص منها وتضعها في إطارٍ غير لائق، كما جعلت طريقة التفكير أكثر سطحية وأقل منطقية أو رغبة في بذل مجهود لأي شيء مع عدم تحمل أو استيعاب الخسارة الواردة في الحياة، وهو ما عزز فكرة اعتماد الشخص على الشكل والبريق أكثر من المضمون، وشجعه على اعتناق قيم أكثر مادية وتنافسية وتعصباً للفئة أو الخلفية الثقافية والإجتماعية التي أتى منها، ومعتمداً على هذا التعصب كواحدٍ من العوامل التي تؤدي إلى النجاح من خلال فكرة (التصويت) ذات الأبعاد التجارية وإقناع المشاهد من خلالها بأنه يصنع (التغيير)..

وأصبحنا نلاحظ تقريباً منذ تلك الفترة كنتيجة لتفاعل المشاهد العادي مع هذه البرامج تأثره بفكرة (لجنة التحكيم)، حيث أصبح هناك فعلياً لدى الناس نوع من الإستسهال في الحكم وابداء الرأي والحديث عن تفاصيل ليس لديهم إلمام بها أو حتى أي معلومات بسيطة عنها، إذ بات الكثيرون يرددون مصطلحات (لجان التحكيم) ويقومون بعمل (تقييمهم) الخاص كجزء من (حب الظهور) وامتداد لإرثنا المجتمعي في الحكم على الآخرين وإقصائهم دون معايير واضحة أو منصفة، فيما يلتزم من ينبغي أن يكونوا بخبرتهم وموهبتهم ومسيرتهم الطويلة الصمت (وهو خيار نقدره ونحترمه) خاصةً عندما لا تستطيع الشاشات أن تقدم ما يليق بهم وبتاريخهم رغم حاجتنا الماسة إلى ظهورهم في هذا التوقيت أكثر من أي وقت مضى، لأننا نعيش في ظل صراعات وهمية من أسماء لا نعرف ما تفعله بالضبط على دور (البطولة المطلقة)، وهي نقطة جوهرية تفصل بين الأصيل والدخيل، حيث يكون الفن أو الفنان أو المثقف الحقيقي متواجداً في المكان الذي يستطيع أن يؤثر فيه ويقدم عطاءاً يدوم بغض النظر عن المساحة التي يتواجد فيها، حيث لا يوجد دور كبير ودور صغير بل هناك موهبة عظيمة ودور له تأثير وقيمة وإن كان لدقائق معدودة، بحيث يعيش في الأذهان لأجيال ويفوق في مضمونه كل أشكال البهرجة والظهور المقحم الذي ينسى سريعاً ولا يلفت أحداً، لذا نستطيع القول بأن هذه المرحلة أسست للشكليات والخواء والنزاع حول (الأفيشات والتيترات) بنفس الطريقة في مختلف المجالات والمهن، وتحولت إلى ظاهرة عامة في مجتمعاتنا حيث تراجع التركيز على القيمة وأصبح الجميع (خبيراً) يسعى إلى (دور البطولة) حتى وإن كان ما يقدمه هزيلاً أو مكرراً أو منقولاً بأكمله من أعمالٍ أخرى..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى