قبل سنتين توفي في القدس الراهب الكاثوليكيّ الفرنسيّ يوحنان إليحاي (Jean Leroy, جان لاروا، ١٩٢٦-٢٠٢٠) المعروف بكتبه عن تعليم اللهجات الفلسطينيّة وإعداد المعاجم لها وكان آخرها: The Olive Tree Dictionary. A Transliterated Dictionary of Conversational Eastern Arabic (Palestinian), Minerva, Jerusalem, 2004. يضمّ هذا المعجم العربي الفلسطيني- الإنجليزي ٧٦٣ صفحة، العربيّة فيه مكتوبة كالعادة في الدراسات اللهجيّة الغربيّة بالرسم اللاتينيّ؛ فيه تسعة آلاف مادّة، سبعة عشر ألف عبارة وفهرس قوامه أربعة عشر ألف لفظة إنجليزيّة.
يقال إنّ يوحنان إليحاي، كان أوّل من أقام مراسم العشاء الربّاني باللغة العبريّة في البلاد العام ١٩٥٦. له مساهمات في نقل الليتورجيا اللاتينيّة إلى العبريّة وخلق موسيقى كاثوليكيّة بالعبريّة. عندما بلغ سنّ العشرين من عمره، سافر إلى لبنان في إطار الخدمة الوطنيّة، وأخذ بتدريس اللغة الفرنسيّة من ناحية، وشرع في تعلّم العربيّة المحكيّة من الناحية الأُخرى. في العام ١٩٥٦ وصل إسرائيل، وسكن أوّلًا في رمات غان فيافا فقرية ترشيحا في الجليل الغربيّ فحيفا فالعفولة فالقدس منذ ١٩٨٦ حتى وفاته؛ حصل على الجنسيّة الإسرائيليّة في العام ١٩٦٠.
للعربيّة الفلسطينيّة التي يتحدّث بها عرب الثمانية والأربعين وعرب الضفّة الغربية، علاقة وطيدة بالعبريّة الإسرائيلية، الشقّ الأوّل مند عام النكبة والشقّ الثاني منذ عام النكسة. وقد كرّس الراهب إليحاي جلّ وقته وجهوده في توثيق هذه العربيّة في الميدان من جهة، وبالتسجيل الصوتيّ من الجهة الثانية. في العام ١٩٧٧ نشر إليحاي معجمًا عربيًّا -عبريًّا، وفي العام ١٩٩٩ صدر عن وزارة الأمن الإسرائيليّ وقيست المعجمُ الجديد للعربيّة المحكيّة.
وهذا المعجميّ المتجوّل في المدن والقرى العربيّة في البلاد، كان يستمع، يسجّل، يسأل، يلاحظ ويتقصّى. ومن الطرائف أو النهفات التي ذكرها أو حصلت عليها أذكر:
يُروى عن إليحاي قوله: عندما يلتقي رئيس جمهوريّة لبنان برئيس حكومته فهما يتحدّثان بالعامّية، أمّا تلميذ الصفّ السادس فيكتب ملحوظة ما لصديقه في الصفّ بالفصحى (لا علم لي بما ورد في الشقّ الأخير من الجملة).
سأل إليحاي راويًا لبنانيًّا مُسنًّا: كيف تُسمّي مَن ظهرُه مقوّس فردّ: أحْدب، والمرأة؟ قال: حَدْبه، والجمع؟ عندها ردّ العجوز مندهشًا: لم أرَ أناسًا بهذه الهيئة مجتمعين. (في لهجتي، كفرياسيف بالقرب من عكّا، نستعمل: إمْحَرْدِب، إمْحَرِدْبِه، إمْحَرِدْبين، إمْحَرِدْبات؛ في قاموس شجرة الزيتون لإليحاي نفسه ذُكرت صيغة الجمع: حُدُب، hunchback. هذه الرواية قد تذكّر بعض القرّاء المطلعين على التراث اللغويّ العربيّ، ببعض ما كان يسمعه النحويّون من الأعراب، الذين تحدّثوا بالعربيّة الفصيحة بالسليقة، مثل العبارة الشهيرة ”أيشٍ هذا! اختلفت جهتا الكلام“: أنظر مثلًا: أبو الفتح عثمان بن جنّي، الخصائص، تحقيق محمد علي النجّار، ج. ١، بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر، ط. ٢، ١٩٥٢، ص. ٧٦، ٢٤٢، ٢٤٩، ٢٥٠.
بعد ذلك ּأراد إليحاي أن يعرف ماذا يسمّي العرب الـ bubbles سائلًا ما اسم ما نراه يتمايل في قارورة الكازوز وجاء الجواب ”فقاقيع“، وأردف إليحاي مستفسرًا وما صيغة المفرد من تلك؟ دُهش الرواة من هذا السؤال وردّوا قائلين: من رأى واحدة منها، إنّها تظهر مجتمعة وبكثرة دوما. (في الأبحاث اللهجيّة الميدانيّة يفضّل عدم طرح مثل هذه الأسئلة المباشرة بل استقاء المعلومة من خلال المحادثة بدون أن يعلم الراي ما تريد).
ويضيف إليحاي قائلًا: توجّهتُ ذات يوم إلى بنّاء، كان يعمل في منطقة باب الجديد في القدس، وسألته ما اسم هذه الدائرة الكبيرة الظاهرة في مركز ميزان الماء؟ أجابه البنّاء: هَوا!، وقد تبيّن لإليحاي لاحقًا أنّ هنالك كلمة ”فقيعة“.
وعن تجربة أخرى، اختبرها إليحاي في مشواره الطويل في رصد اللهجات الفلسطينيّة وتوثيقها، نرى أنّّه أراد أن يعرف ماذا يقول الفلسطينيّون عن شلافشتوندي/Schlafstunde (حرفيًا: ساعة نوم أي: القيلولة)، استراحة الظهيرة المسماة siest بالفرنسيّة، فسأل امرأة عن معنى اللفظة فلم تدري عمّا يتكلّم، إذ لا وجود لاستراحة الظهيرة/القيلولة بشكل منظّم في ثقافتها. عندها أخذ الراهب يصف لها بحركات اليدين ما يقصد، وعندها انتصبت قائمة وقالت ”آه، هذا ما يقومون به في الأديرة...“ (ثمة غرابة في الأمر، لماذا لغة الإشارة هذه والراهب يتكلّم العربيّة!)
في العربيّة لهجات كثيرة، ومن الممكن أحيانًا سماع أنماظ لفظ مختلفة للكلمة ذاتها في قرى مجاورة، وبالطبع في مدن متفاوتة. ذات يوم، أخذ إليحاي امرأة مثقّفة من أم الفحم لمساعدته في عمله المعجميّ فسألته: عن أيّة عربيّة تبحث؟ أفحماويّة أم مقدسيّة؟ يذكر أنّ إليحاي في معجمه يحاول الإتيان بالنمط اللغويّ المشترك لدى أغلبيّة الفلسطينيّين في البلاد؛ إنّه اختار مثلًا ”قبَداي“ في حين أنّ اللفظة الشائعة في العامّيّة العبرية في البلاد هي ”أبداي“، المقصود ”قبضاي“ من التركية Karadayi. ومتصفّح معاجم إليحاي يلاحظ تأثير العربيّة الكبيرَ على العامّيّة أو السلانچ العبريّ، على سبيل المثال: ”نقلة“ العربيّة صارت ”نَچْلة“ في العبريّة الدارجة و”شَقْفِه“ أي ”قطعة“ تلفظ بالقاف أو الكاف أو الهمزة ومعناها ”امرأة/فتاة فاتنة“؛ والكلمة ”دَوَوين“ دخلت العبريّة العامّيّة بمعنى ”كلام فارغ“؛ و ”مْعَفّن“ أصبحت تعني ”كلمة ذمّ“ في العبريّة المحكيّة.
اُنظر :
הנזיר המילונאי בעקבות הערבית הפלסטינית
يقال إنّ يوحنان إليحاي، كان أوّل من أقام مراسم العشاء الربّاني باللغة العبريّة في البلاد العام ١٩٥٦. له مساهمات في نقل الليتورجيا اللاتينيّة إلى العبريّة وخلق موسيقى كاثوليكيّة بالعبريّة. عندما بلغ سنّ العشرين من عمره، سافر إلى لبنان في إطار الخدمة الوطنيّة، وأخذ بتدريس اللغة الفرنسيّة من ناحية، وشرع في تعلّم العربيّة المحكيّة من الناحية الأُخرى. في العام ١٩٥٦ وصل إسرائيل، وسكن أوّلًا في رمات غان فيافا فقرية ترشيحا في الجليل الغربيّ فحيفا فالعفولة فالقدس منذ ١٩٨٦ حتى وفاته؛ حصل على الجنسيّة الإسرائيليّة في العام ١٩٦٠.
للعربيّة الفلسطينيّة التي يتحدّث بها عرب الثمانية والأربعين وعرب الضفّة الغربية، علاقة وطيدة بالعبريّة الإسرائيلية، الشقّ الأوّل مند عام النكبة والشقّ الثاني منذ عام النكسة. وقد كرّس الراهب إليحاي جلّ وقته وجهوده في توثيق هذه العربيّة في الميدان من جهة، وبالتسجيل الصوتيّ من الجهة الثانية. في العام ١٩٧٧ نشر إليحاي معجمًا عربيًّا -عبريًّا، وفي العام ١٩٩٩ صدر عن وزارة الأمن الإسرائيليّ وقيست المعجمُ الجديد للعربيّة المحكيّة.
وهذا المعجميّ المتجوّل في المدن والقرى العربيّة في البلاد، كان يستمع، يسجّل، يسأل، يلاحظ ويتقصّى. ومن الطرائف أو النهفات التي ذكرها أو حصلت عليها أذكر:
يُروى عن إليحاي قوله: عندما يلتقي رئيس جمهوريّة لبنان برئيس حكومته فهما يتحدّثان بالعامّية، أمّا تلميذ الصفّ السادس فيكتب ملحوظة ما لصديقه في الصفّ بالفصحى (لا علم لي بما ورد في الشقّ الأخير من الجملة).
سأل إليحاي راويًا لبنانيًّا مُسنًّا: كيف تُسمّي مَن ظهرُه مقوّس فردّ: أحْدب، والمرأة؟ قال: حَدْبه، والجمع؟ عندها ردّ العجوز مندهشًا: لم أرَ أناسًا بهذه الهيئة مجتمعين. (في لهجتي، كفرياسيف بالقرب من عكّا، نستعمل: إمْحَرْدِب، إمْحَرِدْبِه، إمْحَرِدْبين، إمْحَرِدْبات؛ في قاموس شجرة الزيتون لإليحاي نفسه ذُكرت صيغة الجمع: حُدُب، hunchback. هذه الرواية قد تذكّر بعض القرّاء المطلعين على التراث اللغويّ العربيّ، ببعض ما كان يسمعه النحويّون من الأعراب، الذين تحدّثوا بالعربيّة الفصيحة بالسليقة، مثل العبارة الشهيرة ”أيشٍ هذا! اختلفت جهتا الكلام“: أنظر مثلًا: أبو الفتح عثمان بن جنّي، الخصائص، تحقيق محمد علي النجّار، ج. ١، بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر، ط. ٢، ١٩٥٢، ص. ٧٦، ٢٤٢، ٢٤٩، ٢٥٠.
بعد ذلك ּأراد إليحاي أن يعرف ماذا يسمّي العرب الـ bubbles سائلًا ما اسم ما نراه يتمايل في قارورة الكازوز وجاء الجواب ”فقاقيع“، وأردف إليحاي مستفسرًا وما صيغة المفرد من تلك؟ دُهش الرواة من هذا السؤال وردّوا قائلين: من رأى واحدة منها، إنّها تظهر مجتمعة وبكثرة دوما. (في الأبحاث اللهجيّة الميدانيّة يفضّل عدم طرح مثل هذه الأسئلة المباشرة بل استقاء المعلومة من خلال المحادثة بدون أن يعلم الراي ما تريد).
ويضيف إليحاي قائلًا: توجّهتُ ذات يوم إلى بنّاء، كان يعمل في منطقة باب الجديد في القدس، وسألته ما اسم هذه الدائرة الكبيرة الظاهرة في مركز ميزان الماء؟ أجابه البنّاء: هَوا!، وقد تبيّن لإليحاي لاحقًا أنّ هنالك كلمة ”فقيعة“.
وعن تجربة أخرى، اختبرها إليحاي في مشواره الطويل في رصد اللهجات الفلسطينيّة وتوثيقها، نرى أنّّه أراد أن يعرف ماذا يقول الفلسطينيّون عن شلافشتوندي/Schlafstunde (حرفيًا: ساعة نوم أي: القيلولة)، استراحة الظهيرة المسماة siest بالفرنسيّة، فسأل امرأة عن معنى اللفظة فلم تدري عمّا يتكلّم، إذ لا وجود لاستراحة الظهيرة/القيلولة بشكل منظّم في ثقافتها. عندها أخذ الراهب يصف لها بحركات اليدين ما يقصد، وعندها انتصبت قائمة وقالت ”آه، هذا ما يقومون به في الأديرة...“ (ثمة غرابة في الأمر، لماذا لغة الإشارة هذه والراهب يتكلّم العربيّة!)
في العربيّة لهجات كثيرة، ومن الممكن أحيانًا سماع أنماظ لفظ مختلفة للكلمة ذاتها في قرى مجاورة، وبالطبع في مدن متفاوتة. ذات يوم، أخذ إليحاي امرأة مثقّفة من أم الفحم لمساعدته في عمله المعجميّ فسألته: عن أيّة عربيّة تبحث؟ أفحماويّة أم مقدسيّة؟ يذكر أنّ إليحاي في معجمه يحاول الإتيان بالنمط اللغويّ المشترك لدى أغلبيّة الفلسطينيّين في البلاد؛ إنّه اختار مثلًا ”قبَداي“ في حين أنّ اللفظة الشائعة في العامّيّة العبرية في البلاد هي ”أبداي“، المقصود ”قبضاي“ من التركية Karadayi. ومتصفّح معاجم إليحاي يلاحظ تأثير العربيّة الكبيرَ على العامّيّة أو السلانچ العبريّ، على سبيل المثال: ”نقلة“ العربيّة صارت ”نَچْلة“ في العبريّة الدارجة و”شَقْفِه“ أي ”قطعة“ تلفظ بالقاف أو الكاف أو الهمزة ومعناها ”امرأة/فتاة فاتنة“؛ والكلمة ”دَوَوين“ دخلت العبريّة العامّيّة بمعنى ”كلام فارغ“؛ و ”مْعَفّن“ أصبحت تعني ”كلمة ذمّ“ في العبريّة المحكيّة.
اُنظر :
הנזיר המילונאי בעקבות הערבית הפלסטינית
ادب وشعر | الراهب الفرنسيّ والعامّيّة الفلسطينيّة، أ. د. حسيب شحادة- هلسنكي | موقع المدار الاول في الشمال
أمامَنا شخصية مركّبة وخاصّة، لا يعرِف عنها معظم المثقّفين العرب
www.almadar.co.il