خالد جهاد - الأشياء ليست كما تبدو

يبدو عد أيٍ منا لأصابعه قبل أن يخلد للنوم ضرباً من ضروب الجنون، إذ سيقول أحدنا لنفسه ماذا سيتغير بين عشيةٍ وضحاها.. مع أن الكثير من الأحداث التي غيرت وجه العالم تمت بالفعل بين ليلةٍ وضحاها، فنعيش اليوم الكثير مما لم نكن نعتقد أننا سنعيشه وتقبل الكثيرون مبادىء كانوا يعتقدون أنها بعيدة عنهم وأنهم محصنون ضدها بل وأصبحوا ينظرون لها، لذلك عندما نعود بالزمن إلى الوراء ونستعرض الحقب الزمنية على اختلاف كلٍ منها ونتذكر بعض ما اعتبرناه من المسلمات كبيوتنا، أحبائنا، علاقاتنا بالآخرين، صحتنا، شوارعنا، قناعاتنا الوطنية والإنسانية والدينية، الماء والكهرباء والهواء والأمان وحتى شعورنا بنبض الأشياء من حولنا، واعتبارنا أن ما يخصنا سيظل كذلك لمجرد معرفتنا به، دون أن يخطر ببالنا أن هذا الأمر قد لا يهم من قرر أن ينتزعه منا دون وجه حق، وأننا سنضطر للمواجهة وحدنا لإثبات ما اعتقدنا أنه لا يحتاج إلى ذلك..

وهنا ندرك أن الأمر يحتاج إلى ما هو أهم من مجرد التأكيد الدائم على ما نملك، بل يحتاج إلى استيعاب كل مايحدث حولنا بإستمرار لنحاول أن نظل في حالةٍ من اليقظة لأي حدثٍ طارىء، أو تغير في نظرتنا للأشياء أو إحساسنا بها، فكثير ٌ من الأفكار تسللت إلينا وغيرت كل شيء وسرقت الزمن من نفسه، وليس الأمر حكراً على مثالٍ واضح كفلسطين التي باتت تتفتت في الأذهان إلى معاني أخرى بعيدةً تمام البعد عن جوهر قضيتها والفكرة التي جمعت الناس حولها، والتي تلخص صراع الخير مع الشر، والقوي ضد الضعيف، والجبروت أمام القيد والتي أصبح كل ما ينتمي إليها ويقترب منها محكوماً بالخوف والتخلي، فمن يمعن النظر سيجد الكثير من الأشياء الجميلة التي حملت اسمها كوطن وعاشت في كنف تاريخها تنسب إلى أي شيءٍ ما عداها، وبمعزلٍ عن ما تعيشه فلسطين وغيرها من بلاد العالم من أحوالٍ لا تخفى على أحد فإن الحياة بكل ما فيها هي عبارة عن مجموعةٍ من التفاصيل، لذا عندما نلحظ تغييراتٍ معينة وإن كانت طفيفة بحيث لا تلفت انتباه أحد، فإنه يجب وضعها نصب الأعين لأن الكثير من التحولات تمت بفضل تراكم لمساتٍ بسيطة في غفلةٍ من الزمن..

هذه التراكمات التي سرقت الحب والشغف والتعاطف وغيرت الكثير من المفاهيم وسحقت الطفولة والإنسانية والبراءة، وجعلت البشر يستخفون بأنبل الأشياء التي امتلكوها بعد تعريتها وتجريدها من معانيها والوقوف كمتفرجين أمام صرخاتها، وتحويل الجسد الدافىء إلى جثةٍ باردةٍ لا صدىً لكلماتها ولا ترجمة لنظراتها ولا معنىً يرتسم على ملامحها، والتي تؤلمنا وتؤرقنا جميعاً لكن أغلبنا يستخف بها معتقداً أنها تأتي منفردةً أو تأتي بصورتها المجردة، بينما تتغلغل في كياننا وأيامنا وتسرق منا لحظاتنا وأنفسنا وبشريتنا.. فهذه الأشياء التي قادت إلى سلب أوطان وذوبان مجتمعات وتلاشي العديد من الأسر والعلاقات ليست كما تبدو، لأنها تغيرنا بثباتٍ وبطىء نحو أقل قدرٍ ممكن من المشاعر لذا هي أخطر من عدوٍ يصوب مدافعه وسهامه نحونا بينما نحن نعتقد أنه يمد يده ليصافحنا ..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى