لم ينشغل العرب في العصر الحديث بقضيّةٍ كما انشغلوا بقضية التراث، ولا سيّما بعد أن صرم نابليون بونابرت الطوق العثماني 1801-1798، مدخلاً الشرق العربي في طورٍ جديد، وذلك ضمن إشكالية الداخل والخارج، فالغرب الرأسمالي يسعى – استراتيجياً – لامتلاك الشرق، والشرق هنا ذو خصوصية: خصوصيةٌ تاريخية وأخرى اقتصادية وثالثة ثقافية.
ورث محمد علي باشا المشروع الإمبراطوري الفرنسي (1849 – 1805) فأُعجب بهذا النموذج وأسس الدولة الحديثة في مصر، مشكلاً القطيعة التاريخية بين مصر وأسلوب الإنتاج الآسيوي، ومن جهةٍ أخرى واصلاً بين الدولة الأوروبية الحديثة – فرنسا – لينتقل بعد ذلك من حلمٍ فردي ليؤسس حلماً إمبراطورياً يقوم على تشكيل إقليمٍ جيوسياسي مكتملٍ اقتصادياً منسجمٍ بشرياً في سعيٍ منه غير خافٍ لتأسيس دولةٍ قطبية في المنطقة.
هذه الدولة القطبية يرى فيها المؤرخ الروسي لوتسكي بداية حركة التحرر العربية. ويسوّغ لوتسكي رأيه هذا بأن محمد علي قد وضع حداً من خلال غزوه للشام 1831 للعلاقة بين البلاد الناطقة بالعربية وبين البلاد الناطقة بالتركية، وبهذا الحد الفاصل إزاحةٌ لمفهوم الأمة الإسلامية الذي قامت عليه الدولة التركية منذ 1516 إلى 1916 وقد قدر كارل ماركس عالياً إصلاحات محمد علي، فوصفه بـ “الشخص الوحيد” الذي كان بوسعه أن يتوصل إلى استبدال “العمامة المفتخرة” أي تركيا في القرون الوسطى بـ “رأس حقيقي”.(1)
وما إن توضّع محمد علي حتى صاحبته ثقافة سياسية تناسب مشاريعه في الزراعة والاقتصاد والصناعة، فنشأ في مصر مناخٌ ثقافي كان له أثره على المنطقة، ونقصد بها المشرق العربي – الشام والعراق – وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتراجع الدولة القطبية بعد اتفاق الدول الكبرى على تقليص الحجم العسكري لمحمد علي في مؤتمر لندن 1841، ليأتي خلفاؤه من بعده ويمارسوا السلطة التابعة للمحاور الرأسمالية فرنسا – إنكلترا.
وقد رافق التقلص السياسي امتدادٌ ثقافي وفكري بلغ أوجه في عشرينات القرن الماضي، وامتد حتى سقوط مشروع النهضة 1948، لكن المشاريع الأخرى – الليبرالي – القومي – الإسلامي – الاشتراكي – قد أخذت بالنمو، وانتشرت في أوساط الطبقة الوسطى التي كانت الحامل الاجتماعية لمشروع النهضة والمشاريع التي قامت على أنقاضه.
لكن بقايا المشروع النهضوي قد تم الإجهاز عليها مع الحدث الحزيراني 1967، وهنا تبدأ مرحلة المراجعة والاستعادة والتحليل لتاريخٍ ولحاضرٍ ما يزالان قابلين للحضور في الذهنية العربية وفي الأبنية السياسية والثقافية في الأقطار العربية كلها.
وتُعدّ ثلاثينيات القرن الماضي الحاضن الزماني لبروز قضية التراث، ويظهر في المجتمع العربي جيلٌ نُخبي في إثر المعركة النقدية التي دارت بين الليبراليين التنويريين وبين السلفيين الإسلاميين، وهذه المعركة لم تحدث فجأةً، وإنما كان لها مهادها في القرون الهجرية الأولى، التي تشخصت في النزاع بين شطري التفكير العربي: المعقول والمنقول على المستوى الفكري والفلسفي، وأما على المستوى اللغوي فثمة ثنائية الدخيل والأصيل.
وفي إثر هذا يظهر طه حسين (ت 1973) بوصفه رائداً لمشروعٍ تنويري آخر – والمشروع الأول كان قد أسس له رفاعة الطهطاوي (ت 1873) في القرن التاسع عشر من خلال إنقلابه على ثقافته، بعد أن أُعجب بالنموذج الفرنسي وكتب مؤلفه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
فإذا كان مشروع الطهطاوي المشروع التنويري الأول فإنه قام على الاستجابة العاطفية القائمة على الاندهاش والانبهار، في حين نجد طه حسين يعلن عن المشروع التنويري الثاني تحت عنوان “الشك العقلاني” ولا يخفى أن طه حسين خلال دراسته في فرنسا قد تأثر بالفلسفة السائدة حينها ولا سيّما المنهج الديكارتي، وهذا المنهج نقله طه حسين ليُحدث الصدمة الكبرى مقدّماً آراء زلزلت البنية العربية، هذه الآراء مفادها أن الشعر الجاهلي لا يمثل عقلية الجاهليين، ومن هنا كان يرى أن المؤرخين المسلمين كانوا وراء هذا الإرث.
ولسنا الآن بمعرض الموافقة أو التبني لآراء طه حسين، أو بمعرض الإعراض عنه، إنما نرى أهمية المشروع في إحداثه ما لم يكن متوقعاً، وهذا ما جعل خصومه يعلنون عن بدء معركةٍ معه، مما جعل المناخ الثقافي والسياسي في مصر والمشرق في حالٍ من الحراك الإيجابي بالضرورة، فالحراك هو الذي خلق الإنتاج الفكري ليحلّ محلّ الركود العثماني.
وإلى جانب طه حسين كان هناك عباس محمود العقاد يثير معركةً أخرى مفتوحة مع الشعر الإحيائي، ويدخل في نزاعٍ ممنهج مع زعيم الشعر الإحيائي أحمد شوقي. وانضم إلى العقاد كلٌّ من عبد الرحمن شكري وابراهيم عبد القادر المازني، ونتج عن ذاك الائتلاف كتاب الديوان، وقد أيد أدباء المهجر مشروع الديوان، وفي مقدمتهم المفكر والأديب ميخائيل نعيمة، من خلال كتابه الغربال، ثم يعلن عن تأييده المفتوح لمدرسة الديوان قائلاً: “ألا بارك الله في مصر…. فما كل ما تنثره ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة…. عرفت أن مصر مصران.. لا واحدة، مصر التي ترى البعوضة جملاً، ومصر ترى البعوضة بعوضةً، ومصر لها مقياسٌ بطرفين، فهي تفصل بين الرطل والدرهم، إن مصر هذه الثانية قامت تناقش الأولى، فانتصبت وإياها أمام محكمة الحياة “.(2)
وكان مصطفى صادق الرافعي قد واجه طه حسين وهو ينوب عن السلفية الدينية، فكتب تحت راية القرآن: “مجموعةً من المقالات هاجم فيها طه حسين وأنصار الفكر الجديد، فالسلفية تلك وجدت نفسها أمام إشكالية الإزاحة التي قام بها طه حسين محاولاً قلب اليقينيات إلى متحولات، وإدخال الثبوتيات كلها إلى مخبر التحليل، في غايةٍ منه لإخراج التراث من وضعه الإطلاقي إلى أوضاعه النسبية حتى يكون من التاريخ لا فوقه.
ومع الهزيمة التاريخية للعرب عام 1967 يتسع المجال لإعادة النظر في تاريخ العرب وثقافتهم، إلى أن تصل المسألة المباحث كلها من دون أن تبقى حصراً في حيّزي: التاريخ والفلسفة، فثمة اتجاهاتٌ نقدية على قاعدة إعادة النظر في الثقافة العربية كلها، وقد ترافق ذلك مع اتجاهاتٍ نقديةٍ أخرى في الاقتصاد والإدارة والسياسة، من وجهة نظرٍ شمولية غايتها أن يترافق مع التوجه النقدي الفكري توجهٌ آخر وهو إعادة النظر في البنيات العربية ومنها التعليم.
ومن الأسئلة التي كانت تلهج بها ألسنة الكتّاب وأقلامهم. من المسؤول عن الهزيمة الحزيرانية؟ هل النظام المصري والنظام السوري هما المسؤولان؟ أم العرب – كحاضرٍ – مجتمعين هم وراء الهزيمة؟ واستشاط بعضهم ليقول: هل التاريخ العربي هو المسؤول؟
هذه الأسئلة وغيرها كانت مشروعة من حيث إن الاهتداء إلى جوابٍ نهائي كان محالاً، وذلك لأن القضية مركّبة من التاريخ والحاضر، من السياسة والدين، من الثقافة الموروثة والأخرى المستعارة…..؟
إن ظهور النفط في الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وتعاظم دوره في النصف الثاني من القرن المذكور قد أدخل معادلةً جديدة إلى ساحة النزاع الأيديولوجي القائم في مصر أولاً وفي الشام والعراق ثانياً، هذه المعادلة لم تساهم في البنية الثقافية إلا قليلاً نادراً، إنما ساهمت على المستوى الآخر وهو زيادة التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، وهذه التبعية قد أحدثت شروخاً في الموقف السياسي محتميةً بالإيديولوجيا الدينية التي تسوغ للنظم العربية في الجزيرة الاستمرار في الاحتفاظ بالثروة. إذ تصبح الثروة الوسيلة الأهم للمحافظة على السلطة، وفي الوقت نفسه نتج عن الطفرة النفطية ازدياد الشرخ بين المجتمعات العربية بشكلٍ عام، وازدياد الشروخ الطبقية في داخل كل مجتمعٍ على حدة بشكلٍ خاص.
وفي داخل المجتمعات التقليدية – مصر – الشام – العراق – تنزاح الطبقة المتوسطة عن ريادة هذه المجتمعات بعد أن كانت في النصف الأول من القرن العشرين الفاعل الأول في السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة، وبعد أن تصدعت تحت تأثير مؤثرين مختلفين في الصيغة متفقين في الغاية: المؤثر الأول هو تعاظم الثورة وتركّزها في يد فئةٍ قليلة، والمؤثر الثاني هو ارتباط عائدات الثروة النفطية بمشروعٍ خارجي أساسه تعميق التبعية الاقتصادية والسياسية، هذا التعميق التبعي كان لا بد أن يرافقه أيديولوجيةٌ تُسوِّغ له الاستمرار والتغلغل، والمسألة هذه صار الوضع الطبقة الوسطى خاضعاً لجدلية الأعلى “الهيمنة الداخلية والخارجية”، والأدنى وهي الإفقار والتهميش والإذلال، ومع هذا الإذلال والتهميش تعيش المجتمعات العربية حالة الاستلاب، والاستلاب يؤدي بدوره إلى انزياح المجتمع على مستويات الثقافة والقيم والفن.
والحال هذه نحن أمام وضعياتٍ ثلاثة…. الأولى هي ازدياد الوعي القومي العربي بعد 1967 بشكلٍ عفوي كردة فعلٍ جماهيرية على الهزيمة المذلة، والوضعية الثانية كان من النخب الاقتصادية الماركسية التي كانت ترى أن نبدأ بإعادة الهيكلة للبنيات العربية ولا سيّما على المستوى الاقتصادي، والوضعية الثالثة نشأت من خلال رفض الوضعيتين السابقتين وهي الوضعية الليبرالية التي أعلنت عن مشروعٍ تحديثي على المستويات كلها، لكن المرجعية لهذه الوضعية كانت النمذجة الأوروبية وعلى الأخص الفرنسية منها.
وما كان لهذه الوضعيات أن تعلن عن نفسها بهذه الكفاءة، وتجد لنفسها مسوّغاً في الوقت نفسه لولا أن أخفق مشروع النهضة، وهو بالأساس مشروع قومي يقوم على ثلاثة أبعاد… الأول هو بعد تراثي و الثاني هو البعد الخارجي ” الليبرالية – الاشتراكية ” والبعد النخبي الفردي الذي كان له أثر بالغ في إثارة تساؤلات السلبية حينها والايجابية فيما بعد حول مسألة التراث، ولعل المشروع المذكور كان هجيناً من هذه الأبعاد، ولم يكن يمتلك قدرة على توحيدها توحيداً هارمونياً، بل ظلت الأبعاد متفاصلة غير متواصلة.
وفي إثر الإفصاح عن فشل النهضة يتأزم الخطاب الثقافي العربي، ويدخل في مرحلة من الإضطراب المنهجي، على أساس من الخيبة. خيبة من انتظر منه مخرجاً للأزمة، وهنا يتشظى الخطاب المذكور إلى مواقف متباعدة… فثمة موقف سياسي صارم يوجه التهمة إلى السلطات على أنها هي المسؤولة، وثمة آخر ثقافي يدعو إلى إعادة النظر بالوضعية العربية تاريخاً وحاضراً و على الأخص في المستوى الثقافي، ونلحظ موقفا آخر متوارياً هو الموقف الأدبي، وهنا نشير إلى الأدباء الذين انشطروا إلى اتجاهين: الأول يعلن عن الحل و هو التمسك بالتقاليد الأدبية و اللغوية للعصور الزاهية، ولا يخفي هذا الاتجاه عن رغبته في أن يقول إن دولة الإسلام هي الحل، وفي مقدمة هؤلاء الشاعر بدوي الجبل من خلال قصيدته “من وحي الهزيمة”، و الاتجاه الآخر كان يمثله شعراء الحداثة، و قد اتهموا السلطات على أنها المسؤولة لكنهم اتجهوا إلى التعنيف وشتم التاريخ وتسفيه الرموز التاريخية وجلد الذات العربية “محمد الماغوط. نزار قباني. صلاح عبد السرور. فدوى طوقان….”
ومما نتج عن تلك الاضطرابات السوسيوثقافية ظهور المشكلة – نقداً أو تبنياً – بين العروبة والإسلام، وكانت الاتجاهات تفصح عن قيام واحدة منهما محل الأخرى، إلا عند الاتجاه القومي العروبي الذي رأى حلاً توفيقياً بينهما ” الإسلام روح و العروبة جسد”.
وقد نتج عن هذا الحل التوفيقي التلفيقي مشكلات فرعية، منها الجمهور والثقافة، العلم والدين، الماضي والحاضر، الأصالة والمعاصرة، وفي العقدين الأخيرين ينضاف إلى هذه الثنائيات ثنائية الحداثة وما بعد الحداثة.
لكن قضية التراث إذ طفت على السطح تداولاً بين الفرقاء قد خرجت من أيدي الاتجاه السلفي الذي كان يرى انها إرثه وحده و أنه الأمين عليها و أنه القادر على شرحها و توسيعها وتوظيفها. لكن الاتجاه العلماني من فئتيه: الماركسيين والبنيويين الليبراليين قد حرم الاتجاه السلفي من احتكار هذا الملك، فبدأ يعلن عن مداهمته لها مداهمة ذات طابع موسوعي، ويعد المفكر حسين مروة في البحث التراثي رائداً و مؤسساً، فأعلن عن موسوعته “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، فقام بإعادة القراءة للمدونات العربية والمصنفات التراثية محتمياً بالمنهج الجدلي التاريخي موظفاً إياه في تحليل الظاهرتين: الفكرية والتاريخية، وهذا الجهد الفردي ناب عن جهد المؤسسات الحكومية التي لم تكن تعنى بهكذا مبحث، وقد ورث مشروع حسين مروة المفكر طيب تيزيني فأعلن عن مشروع فردي في إثني عشر جزءاً أهمها “التراث و الثورة” – “الفكر العربي في بواكيره الأولى” – “الفلسفة العربية في العصر الوسيط” – “الإسلام المحمدي الباكر” – “من اللاهوت المسيحي العربي إلى الفلسفة الوسيطة”… وأما أصحاب الاتجاه البنيوي فكانوا مغاربة ومنهم محمد أركون الذي سعى إلى استحداث عصر أنوار عربي جديد على غرار عصر الأنوار الغربي في القرن الثامن عشر، وقد سعى إلى هذا عبر نقدٍ تاريخي من خلال ما أسماه بالإسلاميات التطبيقية، فكتب تاريخية الفكر الإسلامي و القرآن قراءة علمية، والإسلام نقد و اجتهاد، والإسلام أخلاق و سياسة، ثم كتب أنسنة السياقات في الفلسفة العربية الإسلامية، متخذاً من النصوص الأولى مبدأ له في مقاربته لها على أنها قابلة لقراءات مفتوحة، ثم اعتمد آراء الفقهاء على أنها نص آخر اكتسب “قداسته”، من خلال ما توضع في أذهان العامة منها، وقد اعتمد المناهج الغربية ولاسيما المنهج البنيوي الذي يبدأ من الحالة الفيلولوجية لينتهي إلى الحالات الأخرى التي تشكّل الظاهرة، كالتاريخ والثقافة والمعتقد والفلسفة، ومنهم محمد عابد الجابري في مشروعه تكوين العقل العربي،بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي، الخطاب العربي المعاصر، متخذاً المنهج الاستدلالي البرهاني في تسويق أفكاره و تسويغها، و سيشكّل نزاعه – على أنه يمثل ظاهرة الاستغراب المغربي – مع الدكتور طيب تيزيني – على أنه يمثل التأصيل المشرقي العربي للفلسفة العربية الإسلامية – ظاهرة جديدة في النزاع على امتلاك التراث العربي الإسلامي وتوظيفه في مشروع نهضة عربية حديثة، وسوف نعود لبعض نقاط هذا النزاع في هذا المبحث، بعد أن نكون قد وصلنا إلى مقدمات وجوده.
ومن ضرورات البحث أيضاً أن نعود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي لنلحظ أفول مشاريع السبعينيات وما طرحته، ولنلحظ أيضاً عودة السلفية إلى الظهور، ولعل مبرر تلك العودة يعود إلى سببين: الأول هو عدم قدرة أطروحات السبعينيات على الاستجابة لواقع الحال، وذلك لأنها جاءت طرحاً نخبوياً من غير تأصيل لها في العمق الثقافي العربي. والثاني هو الحدث التاريخي الذي أصاب المنظومة الاشتراكية العالمية مما سمح للأصوليات في العالم كله أن تجد في هذا الحدث فرصة لنجاحها وجواباً على أطروحاتها التي أزيحت بسبب التوجه العالمي نحو الفكر الاشتراكي العلماني في شرق أوروبة وساحة المستعمرات سابقاً. السلفية ليست دقيقة فيما تعني عند الحديث عن المضمون المقصود: “الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف”. وأما السلفوية فهي التمذهب للقول بماضوية النظر إلى الماضي، ويكاد يكون هذا مصطلحاً.
وسوف نجد هنا كثيراً من الأطروحات التي لم تكن مقبولة قبل هذه المرحلة، ومنها العلاقة مع اسرائيل من خلال محاولة النظم العربية تطبيع هذه العلاقة كشكل للدفاع عن وجودها، وقد لزم هذا أطروحات نظرية تشكك في التاريخ العربي، وتشكك أيضاً في جدوى البحث التراثي، وتطرح الحل في القفز عنه. وبالمقابل فإن العلمانيين من خارج النظم والتنظيمات العربيين تبدأ المعركة على امتلاك التراث من خلال مجموعة من الأسئلة الإشكالية… ما المنهج الذي نستخدمه؟ وما التراث ومن الفاعل فيه من عرب ومسلمين من غير العرب؟ و إلى أين نتجه؟ لكن البحث التراثي قد تبيأ في المشرق العربي تحت غطاء أيديولوجي مؤداه أن المنهج الواقعي “الماركسي” قد كان معتمداً في عملية استقصاء شاملة لإنشاء نسق معرفي يؤسس للبحث التراثي بصرف النظر عن الارتباط به روحياً أو رفضه أيديولوجياً.
وحتى لا نبقى في حيز التنظير فإننا نرى أن القراءات التي تصدت لمسألة التراث كانت هي المجال التطبيقي الذي أسس لهذا المبحث، والقراءات عديدة لكننا يمكن أن نحصرها بثلاث هي الأهم و الأشمل – كما ارتأى المفكر محمد عابد الجابري:
الأولى: هي القراءة السلفية والثانية هي القراءة الأوروباوية والثالثة القراءة الماركسية، ويرى الجابري أن هذه القراءات هي قراءات سلفية و قد انطلق في هذا التعميم من سؤال مركزي وهو كيف نستعيد حضارتنا؟ بل كيف نحيي تراثنا؟ ويرى الحوار في هذا المحور قائماً بين الماضي والمستقبل، فالحاضر عنده غير حاضر، ومما رآه أن القراءة السلفية تقوم على الأيديولوجية الجدالية غايتها هو بعث الأمة، إذاً القراءة السلفية للتراث غير تاريخية، وهذا التعميم قد يكون ذاتي المنشأ، فمن سمات المفكر الشمولي عندما يبدأ مشروعه أن يلغي ما تقدم عليه، ويبدأ التأسيس من نقطة الصفر.
ومما أخذه المفكر تيزيني على الجابري. أن قراءته تطرح العلاقة بينها وبين حضارتنا بفعل الاستعادة، وتطرح العلاقة مع التراث تراثنا بفعل الإحياء، وأن الحوار مقتصر على الماضي والمستقبل، أي هناك إقصاء للحاضر، وتغييبه يعني إحياء التراث واستعادته على طريقة الشعراء، من هنا وقع الجابري في سلفية جديدة. ومما أخذه تيزيني على الجابري في قراءاته أن معجمه الاصطلاحي غير متسق، فالاستعادة و الحوار ينتميان إلى معجمية أخرى، وفي هذا يرى التيزيني أن القراءة الجابرية وقعت في الوهم الانطلوجي “إعادة الماضي حاضراً – الأسلاف لم يتركوا للأخلاف شيئاً”.
إن التعرض للماضي ليس بما هو، إنما من موقع الحاضر بنيةً ووظائف. فالبنية تحتاج إلى أدوات للتفكيك غير سلفية، والوظائف لا يمكن أن تكون براهينها كما هي لحظة ولادتها، فالوظائف تتبدل تبعاً للسياق الفاعل فيها.
أما مصطلح الحوار فإن السلفية لا تقبل حواراً بين ماضٍ وحاضر، فلا حوار ولا مثاقفة ولا تفاعل، إنما الأمر عندها هو الهيمنة و التبعية – بمعارضة الماضي للحاضر – وشاهد هذه الحال سيد قطب “وقد نلاحظ أن الثنائية الميتافيزيقية التي أعلنها سيد قطب حول “الماضي الذهبي” بإطلاق والحاضر الجاهلي. جاهلية القرن العشرين تمثل إحدى صيغ ذلك الموقف، وربما كانت أكثرها اتضاحاً و تبلوراً“.(3)
ويرى التيزيني أن التوحيد بين مصطلحي الاستعادة و الحوار من جهة ومن جهة أخرى شكلاً من الاستحالة، فالإحياء هو الاعتقاد بإفاقة التراث من غفوته وجعله حالة معيشة باعتباره صالحاً بشكل مطلق، ومن هنا انبثقت فكرة الصحوة الإسلامية.
وقد أسس الجابري لشكل جديد في العلاقة بين الماضي والحاضر، فرأى الأول مهيمناً، ورأى الثاني لاحقاً “وهكذا يتجول حاضرنا في معرض لمعطيات ماضينا، فنحن نعيش ماضينا في حاضرنا هكذا جملة واحدة، بدون تغاير و بدون تاريخ”.(4)
إن مفهوم الاستعادة عند السلفيتين: الدينية و القومية، ليست مرحلة تليها مرحلة أخرى، إنما هي عملية مقصودة لذاتها أي أن يمتد الماضي إلى عقول الحاضر، فالسلفيتان تريدان إزاحة الحاضر، لأنهما لا تعترفان عليه فالزمن متوقف عند النجاحات الأولى للعقل العربي. أي من زمن المبعث النبوي إلى آخر خليفة، ومفهوم الخليفة مختلف عليه، فالسلفية الدينية تراه مقدساً حتى نهاية الخلافة الراشدية41 هـ، وتراه ضرورياً حتى نهاية الخلافة العثمانية 1909، والسلفية القومية ترى الماضي مهيأً للمستقبل لكنه لا ينوب عنه و إن كانت تراه على شاكلته، وإن هذه الرؤية من السلفيتين قد فرضت العلاقة بين الأبعاد الثلاثة… الماضي والحاضر والمستقبل على أساس من التجاور الميكانيكي أو التساوق المطرد المفتوح الذي يفضي بالضرورة إلى الاختلال مما يجعل البعد الماضوي مهيمناً على البعدين الآخرين.
ويبدو أن المفكرين العرب في المستوى الاقتصادي السياسي تحديداً قد عاينوا بدقة التقارب بين المتباعدين: السلفية الدينية والاستشراق، فنجد الباحث جورج قرم يدلي برأيٍ على مستوىً بالغ الأهمية فيما يخص التواطؤ المسبق النية من المستشرقين مع السلفية الإسلامية التي تواطأت مع الاستشراق تواطؤاً مبنياً على غير حسابٍ استراتيجي، حول نقطةٍ مهمة وهي: “الادعاء بأن الدين الإسلامي له خصوصيةٌ لا يشاركه فيه دينٌ آخر، لكون الدين الإسلامي لا يمكن أن ينفصل عن الحياة الاجتماعية والقومية والسياسية، على اعتبار أنه دينٌ شامل المدى يحتوي كافة الأمور الروحية والزمنية في آنٍ معاً، طبعاً هذا الادعاء لدى المستشرقين ينم عن روحٍ سلبية وازدراءٍ تجاه المجتمعات الإسلامية، ففي نظرهم يستحيل على المجتمع الذي يسيطر عليه الدين الإسلامي مؤسسياً أن يتقدم ويواكب العصر، أما الادعاء نفسه لدى السلفيين فينم عن شعورٍ بالتفوق التام تجاه الأديان الأخرى التي وقعت في نظرهم في براثن المادية والانحطاط وفي الحالتين ثمة عنصريةٌ وعنصريةٌ مضادة، فالمستشرقون يمارسون عنصريةً ضد الشعوب الإسلامية وهم يمثلون موقف الحضارة الأوروبية من المجتمعات التي تنتمي إلى الدين الإسلامي باستثنائها من قوانين التطور والتقدم”.(5)
وهكذا غيبت السلفية الدينية بشكل إطلاقي – وكذلك فعلت السلفية القومية بشكل نسبي – مشكلتي: المعيش والراهن، وهما جدليتا الداخل تفرضان من خلال بنيتهما الاحتمالات النقيض للسلفيتين، وبالضرورة لابد من أن تكون وظائفهما مرتبطة بجدليتي الماضي و الحاضر، بما تفرضه الجدليتان من أنساق ثقافية و صيغ لغوية معبرة عنها.
ومن مزاعم الطور الجديد للقراءات غير المنهجية وغير العلمية وجود مصطلحات جديدة مفترضة منها النقد – البناء – التدشين، وهذه المصطلحات لم تكن من إنتاج السلفيتين: الثقافية والدينية وإنما استعيرت من المناهج العلمية في الفلسفة وعلم الاجتماع ونظرية الأدب لتدخل حيزاً لم تخلق له، وعندها ستمارس دوراً – لا بد – زائفاً.
ومن خلال ما استعرضه الجابري من أنواع للقراءات بعد أن قسمها إلى ثلاث، القراءة الاستنساخية والقراءة التأويلية و القراءة التشخيصية، إذ رأى في هذه القراءات نواتج عن القراءة الأولى وهي السلفية، وقد اعترض التيزيني على هذه القراءات لا من حيث هي موجودة، وإنما من حيث توظيف الجابري لها، فوجد دراسة الجابري لتلك القراءات بأنها اعتباطية تلفيقية، فالسلفية عند الجابري تقرأ قراءة تشخيصية تبرز نفسها كقراءة سلفية عندما كانت وسيلة لتأكيد الذات و بعث الثقة فيها.(6)
ومما أخذه التيزيني على الجابري ربطه بين المفهوم بمعنى المشروعية وبين البعد الأيديولوجي القيمي ملحاً على الوظيفة – دون البنية – وهنا يشير التيزيني إلى ضرورة المصداقية المعرفية، فالسلفية إما أن تقبل بوصفها مشروعة، وإما أن ترفض كقراءة لا تاريخية، فكل قراءة تراثية هي قراءة مشروعة تمتلك مشروعيتها الاجتماعية التاريخية من حيث هي حالة أيديولوجية تعبر على نحو عن أهداف ومصالح اجتماعية معينة، ولكن ليست كل قراءة تراثية تمتلك المصداقية المعرفية.(7)
ومما يتناهى إلى القارئ من قناعة أن التيزيني يرى في المصداقية توافقاً مع التقدم التاريخي، بحدود نسبية على الأقل، وقد تبدو تلك الحدود تقترب من الاطلاقية عند اللزوم المنهجي من حيث إن المعرفة والاستجابة لاحتمالات التقدم التاريخي واحتياجاته تبقى قائمة في البحث التراثي، وهنا يقفز إلى المخيلة رأي الفيلسوف هيجل شاهداً على تلك الاستجابة “كل ما هو واقعي هو عقلي، وكل ما هو عقلي هو واقعي” وقد علق الفيلسوف انجليز على هيجل قائلاً: “إن سمة الواقع ترتهن عند هيجل فقط بما هو- في الواقع ذاته- ضروري”.
فالأيديولوجيات التي مارست الوهم والإيهام لم تأت من الفراغ، إنما كان لها حاملها الاجتماعي، وذلك الحامل ذو ثقافة أنتجت تلك الإيديولوجيات تحت شرط خاص، وهو الذي يعيد إنتاجها عند الضرورة.
أما القراءة الأوروباوية الليبرالية فهي محط اهتمام الجابري، وتتسم هذه القراءة بأنها ليبرالية، أو هكذا يدّعي أصحابها. وهذه القراءة تعتمد مرجعية المناهج الغربية، أي أنّ الخارج هو الذي – بأدواته – يفكك الداخل، ولكن هل هذا التفكيك أمينٌ على دواخل التراث العربي، بل هل يحقق الكفاية الإجرائية؟ تلك أسئلةٌ كانت تبدو ضروريةً لو أنّ أصحابها قد وضعوها أولاً، لكن النقّاد أو المصنّفين هم الذين طرحوا هذه الأسئلة. ولعلّ السؤالين اللذين طرحهما الجابري في أطروحته نحن والتراث: كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟ ثم أناب نفسه عن المفكر الليبرالي العربي ليرى “أن نظام العلاقات في هذا المحور هو الماضي – الحاضر“، يفيدان أن الحاضر المقصود هنا هو حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه كذاتٍ مهيمنةٍ على العصر كله بل على حد تعبيره “على الإنسانية جمعاء”.
فالليبرالي العربي ينظر إلى تراثه لا من عمق تاريخه بل من سطح ما أنجزه الغرب، ليبدو هذا السطح أهم وأقرب من ذاك العمق، فالأمر إذاً متعلقٌ بشكل خاص بطبيعة قراءة الأوروباوية وهي في الوقت نفسه قراءةٌ استشراقية، لكن الاستشراق بمدارسه مدانٌ عند السلفيّتين: الدينية والقومية، وهو في الوقت نفسه مرجعيةٌ إيجابية عند الليبرالي، وهنا يحقق الليبرالي سلفيّته هو: “السلفيّة الاستشراقية التي تقدم نفسها على أنها قراءةٌ معلمنة ممنهجة”.
ومما يؤخذ على الجابري “أن جهازه المفاهيمي جهازٌ سلفيّ” ومن هنا كانت قراءته للسلفيات كلها اعتباطيةً بل تلفيقية، لأنه وضع تيارات – على تداخلاتها وتناقضاتها وتقارباتها – تحت حدٍ اصطلاحي واحد، وقد خالط مفاهيميات الجابري أوهام السوق الثقافية الغربية المركزية، لتنشئ لديه مركزيةً غربية ترى في الإرث العربي المشرقي وضعيةً معيقةً للتقدم التاريخي، ومن هنا كان الوهم الأيديولوجي المركزي الغربي يقوده إلى ما قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون: “أوهام السوق”.
ويعلّق المفكر تيزيني على الجابري بقوله: “فالجابري رغم حرصه – على الإمساك بآلية العلاقة بين أوروبا والمفكر العربي الليبرالي – ظلّ قاصراً. فإذا كان الغرب مهيمناً مستعلياً فكيف يقبل حواراً ندياً، فالقراءة الأورباوية تأخذ منهجيتها من الغرب”.(8)
ومن هنا نخلص إلى القول: إن القراءة الجابرية للقراءات الليبرالية لم تتمكن من تشخيص العلاقة مع الغرب. الغرب الأوروبي العلماني. الغرب الأوروبي الاستعماري. الغرب الأوروبي الاستشراقي مع المفكر العربي الذي تسلّح بأدوات الغرب التي كانت تبدو مستعليةً عليه، وهذا ما قاد البحث “نحن والتراث” إلى تغييب الصيغة العقلانية، وتغييب هذه الصيغة يزيح بدوره الاحتمال الضروري وهو المثاقفة والجدال النديين بين الغرب – بمدارسه – والفكر العربي عموماً، وقد وقع البحث التراثي بشكلٍ عام تحت تأثير العلوم الفيليلوجية التي شطرت الفكرة إلى شطيرتين: الشطيرة الأولى هي البنية السطحية، والشطيرة الثانية هي البنية العميقة، فتجعل من البنية الأولية علماً على أواليات الفعل بين أطراف تلك العلاقة.
وبشكلٍ عام فإن سمتين اثنتين اتسم بهما البحث التراثي في هذه القراءة: هما التناقض. التناقض المنهجي والاضطراب الاصطلاحي، ومردّ هذا – باعتقادنا – إلى أزمة المصطلح في مسألتين: الأولى في اللغة العربية، والثانية في المنهج المتّبع، والسمة الثانية هي التوازي، التوازي الميتافيزيقي الذي خالط الكتّاب في طور التبعية والإلحاق.
ومما نراه رافداً لما سبق أن عززناه أن الليبرالية العربية مشخّصةً بأفرادها المغرّبين ترى أن طريق التراث العربي هو الحاضر الغربي، وهذه قادمةٌ من التأثيرات الفينومينولوجية التي هي بالأساس تعنى بظاهر الأشياء وسطوحها، ولا تؤسس لتفكيرٍ جدلي، بل هي خطوةٌ أسست لانزياح القراءة الجدلية التي تفضي إلى أن الداخل العربي هو المركز.
وكم وقع الباحثون العرب المعاصرون تحت تأثير النخب الأوروبية وهم يتشرّبون ثقافتهم ويوظفون مناهجهم، وكثيرٌ منهم فعل دون دراية، وقليلهم كان على درايةٍ بما تشرّبه وبما فعله، فالفرنسي ميشال فوكو في كتابه “حفريات المعرفة” داهم أذهان الباحثين حول “الهوس اللاتاريخي” المجسّد بما أطلق عليه – أطلقة الانفصال – وهنا يثار تساؤل منبثق من طبيعة الهوس النخبوي العربي بالنخبية الأوروبية، كيف يتبنى مفكرٌ عربيٌ مفكراً أوروبياً، وهذا المفكر لم يعد فاعلاً في البنية الثقافية الأوروبية أو أنه استنفذ فاعليته، والسؤال الآخر ينبثق لزوماً عن سابقه وهو هل يمكن للنظريات الأوروبية والمناهج الأوروبية التي تجاوز بعضها بعضاً في منابتها الأم أن تبقى مبهرةً للباحثين والمفكرين العرب؟.
من الواضح أن التساؤلين السابقين لا يمكن الإجابة عليهما بالإيجاب، فحتى يتجاوز الفكر العربي زمن الركود والسكون لا بد أن يلحق بالحراك الأوروبي، ويكتشف الحراك التراثي الباعثين على تحديث البنية على المستويات كلها، فالكتابة الاستشراقية باعثةٌ على الظن والتخمين السلبيين عند الاستشراق المعكوس ومن هنا كان المفكر تيزيني يرى في كتابة إدوارد سعيد “أنها تحطم الحدود الأنطولوجية والمنطقية القائمة بين سياقات تنتمي إلى مرجعيات أنطولوجية ومنطقيات مختلفة اختلافاً إبستمولوجياً بنيوياً ووظيفياً…. وههنا ينبثق البحث المتميز سلباً عند إدوارد سعيد حول الاستشراق”.(9)
ولم يكن إدوارد سعيد وحده في مفهوم الاستشراق المعاكس، فقد أفصح عنه علناً المفكر صادق جلال العظم إذ كتب أطروحته “الاستشراق والاستشراق معكوساً” تحت تأثير نوعين من الكتابة الاستشراقية: الاستشراق الغربي وهو يتوجه إلى الشرق العربي، والكتابة العربية التي وقعت تحت تأثير الاستشراق نفسه، وقد يكون التأثر سلباً وقد يكون إيجاباً، ويشير إلى تعريف إدوارد سعيد: – “الاستشراق حركة توسع أوروبا البرجوازية الحديثة خارج حدودها التقليدية توسعاً متسارعاً منتظماً على حساب بقية أجزاء العالم، وبوساطة إخضاعها ونهبها واستقلالها – بهذا المعنى يشكل الاستشراق ظاهرةً معقدةً وناميةً متفرّعةً أصولاً ووظيفة عن صيرورة تاريخية أكثر شمولاً، كان من أهم تجلياتها حركة التوسع الأوروبي المذكورة – وبحكم الوظيفة التي نشأ الاستشراق من أجلها إلى مؤسسةٍ نامية بسرعة لها ارتباطها الحميم بمصالح اقتصادية وتجارية واستراتيجية حيوية يخدمها ويتفاعل معها، كما أنشأت هذه المؤسسة أجهزتها العلمية والإدارية واكتسبت بنياناً فكرياً وأيديولوجياً تراكمياً، ينطوي على تشكيلة من الفرضيات والنظريات والتصورات والتسويغات يتم التعبير عنها من خلال الإنتاج الفكري والأدبي والسياسي الذي تقره المؤسسة المذكورة”.(10)
وقد أخذ على إدوارد سعيد أنه بهجومه على الاستشراق الغربي قد أعمى على الآليات الاستشراقية التي واجه بها المستشرقون الشرق واقتحموا أصوله المعرفية، وذلك من خلال أطروحةٍ – تبدو – زائفةً على المستوى السوسيولوجي، ومؤداها هي أن العربي الاستشراقي مثل الوعي العمومي في الغرب، متناسياً التناقضات البنيوية لطبيعة الرأسمالية، تلك الطبيعة قائمةٌ بالأساس على التناقض المركزي بينها وبين أطراف العالم غير الرأسمالي، وقائمةٌ أيضاً على التناقضات الفرعية ضمن البلدان التي تحكمها، ومن هنا توافق طرح إدوارد سعيد مع مقولةٍ إيديولوجية زائفةٍ تاريخياً وهي “الشرق شرق، والغرب غرب” هما عالمان مختلفان متفاصلان، لا يمكن للأول أن يلحق بالثاني، ولا يمكن للثاني أن يتراجع أمام الأول، وهنا يحقق إدوارد سعيد مقولة الإنجليزي كيبلينغ “عالمان لا يلتقيان: الشرق والغرب”. وهذه الآراء “السعيدية” “عكست آراء الغرب كله من مثل السانسيمونية والماركسية”.(11)
وقد توجه في إثر الآراء السعيدية السابقة المفكر مهدي عامل إلى انتقاد الاستشراق السعيدي تحت عنوان “ماركس في استشراق إدوارد سعيد” الذي أراد أن يخلّص كارل ماركس من اتهامين: الاتهام الأول الذي حصل على يد إدوارد سعيد ومؤداه أن الغرب برمته يحقق كتلة الرأي الواحد، ولا فرق عنده بين ماركس وبين آدم سميث، والاتهام الثاني هو ناتجٌ عن القراءات القاصرة لماركس وإنجلز منذ “البيان الشيوعي” الأول 1848، هذه القراءات وقعت تحت تأثير المقولة الزائفة “الشرق شرق…..” وهي في الأساس تقع تحت تأثير السلفيات العربية وتحت تأثير آثار الاستعمار الأوروبي.
فالمستشرقون رأوا في التاريخ والحاضر العربيين ما يمثل طموحاتهم على مستوياتٍ عديدة، لكن أهمها المطمح الاقتصادي الذي مهّد له الدرس الاستشراقي بما ركّبه من جزئياتٍ وتفاصيل وكليّاتٍ شكّلت الصورة الشاملة للمشرق العربي في سبيل الاستحواذ عليه كمصدرٍ مساعدٍ للتفوّق والاستعلاء، وعلى المستوى الآخر كان البعد السياسي حاضراً ولا سيّما في فترة النزاع بين الدول الرأسمالية الصاعدة لامتلاك دول المشرق ذات المصدر الرئيس للموارد، وحتى يكفل الغرب الرأسمالي حق الامتلاك سعى المستشرقون لدراسة الثقافة العربية في سبيل التغلغل السيكولوجي في النفس العربية، وبناءً عليه يمكننا القول: إن المثقفين العرب الذين خضعوا للاستلاب الغربي على المستوى السياسي والثقافي واستمدّوا معارفهم وأسس تفكيرهم من واقع الغرب الحضاري لا يمكن لهم أن يكونوا فاعلين إيجاباً في البنيات العربية التي تستدعي الدرس والتحليل وإعادة الصياغة، ومما نراه لاحقاً – على اللزوم – هو أن المعارف الأبستمولوجية الغربية التي غرق بها الباحث العربي لا تمكّنه من دراسة الموروث العربي إن كانت هي أداته الوحيدة، بل لا بد من أن يتاخم الموروث العربي من داخله، وإلا تبقى احتياجات العرب الحاضرة بعيدة المتناول عنهم ولا يمكن أن تكون الدراسات المنطلقة من التوجه الغربي ملبيّة للاحتياجات الداخلية على أي مستوى من مستويات الغايات العربية.
القراءة اليسارية:
والقراءة الأخيرة التي تداولها أصحاب الاتجاهات الفكرية في مسألتي: التراث والنهضة هي القراءة اليسارية، وبتعبيرٍ آخر كيف طرح أهل اليسار (أصحاب المنهج الجدلي الماركسي) منهجهم في قراءة التراث نقداً أو تفكيكاً، وكيف وظفوا تلك القراءة في التعامل مع مشروع النهضة المخفق وخاصةً بعد 1948 ثم اعتُرِف على الإخفاق في الحدث الحزيراني عام 1967.
ومن أهم تلك التساؤلات كيف نعيد بناء تراثنا؟ وحتى يكون الجواب شافياً، فإن القراءة هذه عادت لتقرأ مشروعين منفصلين في الزمن متفقين في النتيجة: هما الثورة التي لم تتحقق على أيدي أدعيائها ودعاتها، ومشروع التراث الذي لا يمكن الركون إليه على أنه ناجزٌ لا حديث فوقه، وأنه تاريخ الإبداعات الأولى المزامنة للوحي السماوي، وقد امتد بعضٌ من قدسيّة الوحي إلى قدسيّة الإنجازات التراثية ولا سيّما في مسألتي: الفقه وعلوم اللغة التي رافقت ذلك الفقه، وهنا كان لا بد من تساؤلٍ يقصي احتمالات التقديس والمهابة لذاك التراث، والسؤال قائمٌ على أساسٍ مفاده كيف يعاد بناء التراث بالشكل الذي يسوّغ له الدخول إلى طبيعة العصر؟ ليمارس دوراً مساهماً لا دوراً أحادياً فوق التاريخ والحاضر، وهنا يبدو التراث – بعد الإجابة – حالة بناءٍ في مفهوم الثورة وتأصيلها.
ويبدو أن المفكر الجابري كان ممن تاخم هذا المبحث فطرح آراءه من دون أن يميّز بين اليسارية وبين الماركسية في بنية الفكر السياسي العربي الحديث مؤكداً: “إن الفكر اليساري العربي المعاصر لا يتبنى – على تقديرنا – المنهج الجدلي لـ(التطبيق) بل يتبناه كمنهجٍ مطبق”.(12)
ويرى المفكر تيزيني في قراءة الجابري للقراءة اليسارية قراءةً لا تقوم على تفحصٍ للمتن الماركسي كفلسفةٍ نشأت في أوروبا، وهي الفلسفة الوحيدة التي ليست محض أوروبية، إنما هي فلسفةٌ جمعت الفكر التاريخي من المرحلة اليونانية إلى المرحلة الأوروبية الحديثة، وقد نشأ عنها منهجٌ قبل التوطين والتبيئة في أقطار العالم كله، ومما أخذه على الجابري مفهوم الخلط بين “مصطلحي: الماركسية واليسارية، أو بين اليسار العربي والتيار الماركسي العربي، بحيث يشير الأول إلى الثاني، وهذا إلى ذاك، وكأنهما حقلان متضايفان، “وفي كتابنا: من التراث إلى الثورة بحثنا في اليسار والتراث العربيين حيث توصلنا إلى ضرورة تشخيص هذا المصطلح وتخصيصه بعدة صيغٍ منها السلفوية اليسارية، وقد تبين لنا أنه ليس كل اليساريين العرب في موقفهم من التراث المذكور ماركسيين أو تبنوا المنهج الماركسي”.(13)
ومن الآراء التي اتخذت طريق الاعتدال والعقلنة في الموقف من الماركسية ما كتبه كمال أبو ديب: “ولعل أهم ما قدمته الماركسية أنها حاولت أن تشكل منظوراً لمعاينة الغرب، لا في إطار كونه “غربياً”، بل في إطار تجسيدٍ لمرحلةٍ تاريخية معينة من تطور علاقات الإنتاج وتتجسد فيها انشراخه وانقسامه على ذاته وضمن ذاته، وأن إدوارد سعيد يتحدث عن الشرق بالطريقة نفسها، ويتحدث عن الثقافة الشرقية بدلاً من الثقافات الشرقية”.(14)
ولدى معاينتنا للموقفين الآنفين يسهل أن نستنتج أن التعميم سمةٌ في تفكير الجابري، وأن التخصيص سمةٌ في تفكير التيزيني، وأن التعميم يوصل إلى الاضطراب الاصطلاحي، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء مفهوم التغاير في المواقف من التراث في الفكر العربي المعاصر، ويبدو أن المقولة المعروفة “قياس الغائب على الشاهد” كانت السمة السائدة للتعميم.
والنقطة الأخرى التي يمكن أن نركن إليها في البحث التراثي والمباحث النهضوية هو ما توصل إليه رجالات الفلسفة المعاصرون حول مفهوم العقل من دون أن يعلق بهذا المفهوم ما تشخّص في البحث التراثي من مفاهيم له، بمعنى أن العقل هنا مقولةٌ تعني النقد “بدأ المسلمون يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يتلمّسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون عندما بدأ العقل يسائل نفسه…، فالرأسمالية بنت العقلانية”.(15)
ولكن لم يشر صاحب هذا الرأي إلى الأسباب والكيفيات التي جعلت العرب يقبلون باستقالة عقولهم، ولم يشر أيضاً إلى المسوغات التاريخية التي جعلت العقل الأوروبي يسائل نفسه، وإن كان هذا الكلام يلق صدىً إيجابياً في مبحثنا هذا، إلا أننا نرى أن وضع اليد على المقدمات التاريخية لاستقالة العقل العربي كان هو الأجدى والأقرب إلى طبيعة البحث التراثي والنهضوي، ومن الواضح أن العرب – بعد أن انبهروا بالنموذج القرآني، وبالنماذج القرائية التي شكلت مرحلة المدونات والمصنفات للقرآن والحديث – خضعوا لسلطة النموذج، وهذه السلطة هي التي احتمت بها السلطة السياسية، وما تزال تحتمي، فتساوقت السلطتان في سلطةٍ واحدة حتى تم إخراج العقل الناقد من ساحة المعرفة.
ومما نراه رافداً معززاً لما نسوقه من رأي ما كتبه الباحث جورج طرابيشي في قضية استقالة العقل “قد نستطيع أن نحدد بمنتهى الاقتضاب طبيعة النظام المعرفي للعصور القديمة والوسيطة بأنه ينطلق على الدوام من أصلٍ أول، غالباً ما يخلع عليه صفة القداسة والوحي النبوي ثم يفرّع أو يقيس عليه، وهذا بالمضادة مع النظام المعرفي للأزمنة الحديثة الذي لا يعمل بمنطق التفريع والقياس، ولا يرتد إلى الأصل إلا ليفككه، ويستغني بحدسٍ أولي يحققه ويتحقق معه بالتجربة…. إن الأمس الأول لتوليد المعرفة في العصور القديمة والوسطى هو القياس، بينما هو في الأزمنة الحديثة التجريب“.(16)
ومن قضايا البحث التراثي والنهضوي قضية الاستشراق، وقد انقسم المفكرون حولها بحدةٍ أكثر من المسائل السابقة، لكن ظاهرة الإجماع أو شبه الإجماع تشير إلى اتهام المستشرقين بالعداء للتاريخ والثقافة العربيين، وأن الاستشراق بطبيعته موظفٌ لدى الدوائر السياسية العليا في الغرب، فما الاستشراق إذاً؟، حاول الدكتور كمال أبو ديب أن يجيب على هذا السؤال وهو يكتب مقدمة ترجمته لكتاب إدوارد سعيد. الاستشراق فيقول: “إنه ببساطة المادة التاريخية والحيز المميز من ثقافة الغرب اللذين يتناولهما بالتحليل، إنه المثل الذي يركز عليه منظوره التحليلي النقدي بوصفه “الخارجي” و “المقصى المستثنى” و “المستعرض الصامت” و المعجبة المثيرة.. إنه المعادل الفعلي للمادة التي تتمثل في نظام “فوكو” في الجنون أو المرأة.(17)
وقد كثر الحديث عن الاستشراق ومدارسه مما دفع باحثاً كهاشم صالح لإعداد كتابٍ تحت عنوان “الاستشراق بين دعاته ومعارضيه” وهو صادر عن دار الساقي عام 2000، ويذكر المترجم المعد كلاً من محمد أركون، مكسيم رودلسون، آلان روسيون، برنارد لويس، فرنسيسكو غابرييلي، كلود كاهين، ثم يخص المفكر محمد أركون بموقفٍ مستثنى من السياق، فهو – أركون – في صراعٍ أبستمولوجي مع الاستشراق “من الواضح أن علماء الإسلاميات المستشرقين ليسوا معتادين على الاصطدام بفكرٍ يكون إسلامياً ونقدياً في آنٍ معاً” وهكذا فإن آراء المستشرقين تشير إلى ما وراء لغاتهم على أنه مرتبطٌ بما وراء سياساتهم، وأن الردود العربية هي ردودٌ من أحد توجهين: الأول ردة فعلٍ سلفية قومية تقوم على الاتهام والرفض، والثانية هي رد الفعل الديني وتقوم على التكفير والمقاطعة.
وقد انبرى فريقٌ من الباحثين للكتابة في المجال النهضوي من خلال العودة إلى المباحث التراثية، متخذين من ظاهرتي: المصطلح والمنهج الغربيين أدواتٍ لأبحاثهم تساهم في إعادة القراءة لما قرأ غير مرة، مما جعلهم يعتمدون آفاقاً أخرى كأفق الانتظار والتأويل، والانتقال من سلطة المعنى إلى انفتاح التأويل…. فيرى الباحث التونسي مختار الفجاري: “أن أفق الانتظار مصطلحٌ نقدي يرجع إلى النظرية التأويلية الحديثة، فهو مفهومٌ يرى أن كلّ قراءة هي بحثٌ عن أجوبةٍ تخامر ذهن القارئ زمن القراءة، فهو بتعبير غادامر تطبيق المعنى على وضعيته الراهنة”.(18)
وأما قضية المصطلح فلقد تعثرت في الاعتراف بها وفي البحث عن حلًّ لها، وإن سبب التعثر يعود – على تقديرنا – إلى سلطة اللغة العربية المقدسة التي تحتمي بسلطة الوحي وما نتج عنه على أنها حالٌ من الكمال التاريخي الذي لا يقبل إضافةً أو بديلاً أو تعديلاً، فسلطة المنهج السلفوي بدأت مع مفكري النهضة الأوائل رفاعة الطهطاوي 1873-1801، ومحمد عبدو 1905-1849 حيث قاما بعملٍ ارتدادي كانت نتائجه سلبيةً على مبحث المصطلح – على الرغم من أهميتهما كرائدين تنويريين من رواد النهضة – وعندهما تستلب المصطلحات الغربية لصالح اللغة العربية وإحالة المفاهيم الغربية إلى مفاهيم إسلامية، فالديمقراطية هي الشورى، والتكافل الاجتماعي هو التضامن، والتمدن عند غيزو يغدو – بشكلٍ أو بآخر – العمران عند ابن خلدون، وأما مصطلح المنفعة عند جون ستيوارت مِل فيغدو الصالح العام، والرأي العام الديمقراطي، يغدو الإجماع في الرأي الإسلامي، وأما النواب في البرلمانات فيغدون “أهل الرأي”، ومدرسة الرأي تشكلت بعيد وفاة النبي كنقيضٍ لمفهوم الوصية التي أوصى بها النبي قبيل وفاته، هذه المدرسة أسسها عمر بن الخطاب وقد اجتمع عليه فتيان العهد الجديد الذين أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن موقعٍ ضمن المعادلة الجديدة. “الإسلام والمسلمون والملك”.
وما نزال في مسألة التأويل والفهم الذاتي، وهي قضيةٌ مختلفُ عليها في البحث التراثي الذي أعاد المفكرون العرب من بنيويين وماركسيين قراءته والبحث فيه، بعد أن استيقنوا من فشل مشروع النهضة، والغاية من هذه الإعادة أن يكون مشروع النهضة مشروعاً جديداً قائماً على النقد والتفكيك لا على الاستلاب والتسليم، ومن الخلافات القائمة في المدرسة المغاربية ما اختلف عليه الجابري مع أركون حول الهاجس الأساسي، فكان عند الجابري الكشف عن الثوابت البنيوية في الثقافة العربية، لقد حصرها في المكونات التالية…. المكون البياني الأصيل وروحه القياس، والمكون البرهاني من الغرب الإغريقي الذي نقله ابن رشد، والمكون العرفاني الوافد من الشرق وهو غنوصي فارسي، والغريب أن الجابري يراه عدواً تاريخياً للبرهان الإغريقي، والأغرب أنه يرى في العرفانية الفارسية سبباً للاستعمار الحديث، لأن “الاستعمار لم يجد عقلاً يواجهه” إذ يزعم الجابري أن العرفانية هي التي قتلت العقل.
وأما أركون فقد سعى إلى أن يحقق غايةً لم يجرؤ عليها أحد ممّن تصدّوا للبحث التراثي، وهي تحقيق تاريخية النص القرآني نفسه، ليبين أنه لا يوجد خطابٌ يقع خارج التاريخ ولا لغةٌ تستعلي على تاريخ البشر، وفي الوقت نفسه فإن التاريخية لا بد أنها تقف عند الحد الفاصل بين التدخل البشري في النص القرآني وبين النص نفسه، وقد بين أن التدخل بدأ عندما تحول القرآن إلى مصحف “القرآن هنا صار المدونة النصية” الرسمية المغلقة، وهذه المدونة استمدت قدسيتها من النص الموحى به فكأنها صارت نظيراً له، وفي مرحلةٍ تالية جاءت قضية التفسير، “التفسير تحيين الوحي“، فصار كل تفسيرٍ هو بمثابة تدخلٍ إضافي آخر ينضاف على النص، ومن هنا رأى أركون: “بات وجوباً نزع المقدس الباطل عن التفاسير” أي إدراج مشكلة التفسير البشري للنص الموحى به في عملية الفهم الإنساني، وفي إثر هذا تتحقق مسألة الغيرية.(19)
وإن كان أركون قد أكد على الفهم الذاتي فإن هذا الفهم قد وضع حداً فاصلاً بينه وبين المفكرين المغاربة، فهو ما يزال يرى فيه شرطاً لتحقيق التأويلية القائمة أساساً على الاختلاف.
رهانات النهضة
بعيداً عن العنوان الذي وضعه الباحث ماهر الشريف لكتابه “رهانات النهضة في الفكر العربي” الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر- دمشق عام 2000 – فإننا نرى أن العنوان الفرعي في بحثنا لا يتقيد بإيحاءاته في الكتاب المذكور، وإنما نشير من خلاله إلى أحلام النهضة التي كانت أكبر من إمكانات الحالمين، ومن هنا كان الانكسار كبيراً، ولعلّ الانكسار المذكور تبدى أكثر ما تبدى في الرواية، تلك الرواية التي كتبت في مرحلة المراجعة النقدية للفكر الاجتماعي السياسي النهضويين ولا سيّما بعد مرحلة 1948، وقد تكون أحلام النهضة مبررةً لولا أنها أحلام الاستعادة أي استعادة أزمنة الامتداد العربي من دولة الخلافة الأولى إلى سقوط بغداد 1258، وعلى الجانب الآخر كان هناك مشروعٌ عقلانيٌ أنجزه مجموعةٌ من المفكرين الذين قامت ثقافتهم على التركيب والتوليف الهارمونيين مع الثقافة العلمانية الغربية، وفي مقدمة هؤلاء شبلي شميّل 1917-1853 فكان أول من طرح فكرة التحول الاشتراكي للمجتمع، مع إيمانه العميق بالثورة البرجوازية الفرنسية 1789 على أنها تمثل مرحلةً من مراحل التطور التاريخي، وليست هي المرحلة الأخيرة، ومن وراء سطوره كانت تتضح قدرته على الربط بين الديمقراطية البرجوازية والتحول الاشتراكي العالمي، ومن مآثره أنه عمم على القرّاء بالعربية الثقافة الداروينية من حلال كتابه الجليل “فلسفة النشوء والارتقاء” ورغم اهتمامه بعلم التجريب – علم الطب- لم ينصرف عن الفلسفة اليونانية.
ولعلّ فرح أنطون 1922-1874 المنوّر العلماني أكبر مفكرٍ في هذا الطور، فقد انتقل من الأدب المسرحي إلى الفلسفة انتقالةً نوعيّة، أما أساس تلك الانتقالة فهو إحداث القطيعة مع التقاليد اللغوية المثقلة بالحمولات الأيديولوجية من السلفيتين القومية والدينية إلى فتح آفاقٍ مع الغرب العلماني الذي بات علم التجريب عنده هو الدين الجديد، وقد قال عنه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي: “إن فرح أنطون يعدّ نموذجاً للفيلسوف العربي المعاصر، أو بشكلٍ أدق للمفكر الحر الذي يهتمّ بمشاكل دينية وفلسفية، وكان منوّراً داعياً للإصلاح وانشغل أساساً بمشاكل الإنسان”، ومما تقدّم به أنطون على المتنوّرين مقولته: أنّ الثورة هي الحل، والثورة عنده ليست حدثاً فيزيائياً ينتهي دراماتيكياً، إنما هي تحوّلٌ في عمق الأمة الفكري والعقيدي واللغوي على مراحل، وعندما عاين مشكلات القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا تبين له أن الثورة الفرنسية غير قادرةٍ على الإيفاء بمتطلبات التقدم الاشتراكي أو الإنساني، وهنا يشير إلى نسبية الأحداث الكبرى في عصره وفي العصور التاريخية.
ولقد طرح أنطون فكرة الديمقراطية في وقتٍ مبكرٍ، على أنها الحل الحقيقي، وبالمقابل كان يرى في الاستعمار أسباب الشرور وأسباب الاستمرار في الاستبداد، ولم يخف أنه كان يصوغ بلداً مثالياً بعيداً عن جمهورية أفلاطون.
وقد نشر روايته الأولى “الدين والعلم والمال” (1903) مضمّناً إياها أفكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه، وفي الرواية تأكيدٌ على تلازم الفكر والعمل على أنهما يشكلان ركيزة الرقي والمدنية، ورغم وصفه للاشتراكية بأنها دين للإنسانية إلا أنه لم يتبنّ الصراع الطبقي كأساسٍ لها، ولم يشر إلى التناقض الرئيسي في العالم الحديث وهو بين العمل ورأس المال، وإنما كانت إشاراته ناتجةً عن فيضٍ معرفي حققه من ثقافة الغرب.(20)
ولا يمكن أن يذكر فرح أنطون إلا ويذكر معه المفكر الإسلامي وداعية الإصلاح محمد عبده 1905-1849 الذي وقف على يمين فرح أنطون، وكانت وقفته لازمةً تاريخية، بمعنى أن تغريبية أنطون فرضت توفيقية محمد عبده، وتوفيقيته كانت تميل نحو العقلانية أي لم يسلّم باستمرارية المد التاريخي لدولة الخلافة، ولم يسلّم بالاستسلام إلى الغرب.
ويعدّ أمين الريحاني 1940-1876 من أشدّ المنوّرين نصرةً لنظرية التطور في الشرق العربي، فيذكر “أن كل ما في العالم خاضعٌ لقانون النمو والاستحالة…” أما التغيرات الثورية فهي تحدث نتيجة الالتزام التدريجي لتغيرات داخلية، فالثورة ساعد التحول، وروح الثورة في قانون التحول والنمو، ويؤكد أن بين المادة والمكان والزمان صلةً لا تنفصم، وخاضعة لقانون توازي القوى وقانون الجذب والدفع، فالطبيعة لا تعرف توازناً مطلقاً وليس فيها انسجامٌ مطلق”.(21)
وقد آل مشروع النهضة بجوانبه الثلاثة…. التراثي، الغربي، القومي إلى التوفيقية، وخاصةً بعد أن تعاظم شأن الاستعمار ودخوله ساحة مصر والمشرق العربي ثم أقطار المغرب، مما أضعف موقف أصحاب التوجه العلماني لمفكري النهضة، وأحرجهم أمام السلفيين الخصوم الأيديولوجيين، مما شد من أزر الحل الإسلامي على أنه – الغرب – هو العدو الأول، وقد بحث طرفٌ ثالث في الحل فوجده في التوفيقية، ويرى الباحث محمد جابر الأنصاري: “ستبحث التوفيقية عن نقطة التقاءٍ أخرى هي محاولة إظهار التوافق بين العلم الحديث والأديان الكونية والطبيعية في القرآن الكريم، من ناحيةٍ أخرى ستتجاوز التوفيقية نظرتها المثالية خاصةً لدى سيادة الفكر الاشتراكي الثوري لتقيم الصلة مع الفلسفة المادية، وستمثل الوجودية نظراً لجمعها بين اتجاهاتٍ إيمانية وأخرى شكيّة نقطة الالتقاء بين المثالية والمادية”.(22)
وبما أن عصر النهضة عصرٌ هجين، كان لا بدّ أن يصل إلى هجانةٍ أخرى وهي الهجانة التوفيقية، وقد أسس لها المؤرخ أحمد أمين 1940-1876 عندما دعا إلى الإصلاح على أساسٍ إسلامي، وكان يقصد به: إضفاء التدين على العقل، وإضفاء العقل على الدين، وفي هذا دفاعٌ مستترٌ عن هيمنة الدين على العقل، لكنه في موسوعته ضحى الإسلام قد رسّخ الرواسخ، وشدّ التقدم إلى الوراء، وعلى الرغم من أهمية الكتاب، إلا أنه تأسيسٌ لاستمرار التراثية.
ومن المفكرين المعاصرين الذين حملوا راية النقد العقلاني واتجهوا باتجاه النقد العميق للتراثية الإسلامية المفكر نصر حامد أبو زيد، فكان يرى: “أن الفكر الإسلامي قد دخل في مرحلة ركود منذ القرن الخامس الهجري تقريباً، بحكم الظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى الجمود الاجتماعي والسياسي، لكن العقل الإسلامي ظلّ عاجزاً، وأن أعلام النهضة ركزوا جلّ اهتمامهم على قضيّةٍ واحدة هي نفي وجود تعارض بين الإسلام والمدنية الحديثة”.(23)
إن الانشغال الذي تحدث عنه أبو زيد قد أضاع الفرصة التاريخية للدخول في العصر، فما دام العرب محكومين بسلطة النموذج الإسلامي، وما داموا مقتنعين بقدرة هذا النموذج كفكرٍ وكسلطة على التواصل مع العصر، فإن الخروج من التاريخ ما يزال قائماً، فالتاريخ المعاصر لا يمكن أن يقبل أستاذية العصور الوسطى، وأنه لا بد أن يقتنع العرب أن تطور الشرق الاجتماعي والاقتصادي والفكري يخضع عموماً للقوانين نفسها التي يخضع لها تطور العالم وعلى الأخص الغرب، وتبدو خصوصية سوريا ومصر في انتقالتهما من الإقطاعية إلى الرأسمالية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا الرأسمالية ما قبل الاحتكارية تنتقل إلى بداية عصر الإمبريالية خصوصية فارقة، هذه الخصوصية ألغت – باعتقادنا – الادعاء السلفي بأن التاريخ العربي الإسلامي ما يزال قادراً على الحضور في الأبنية الحديثة.
لقد غلب الخطاب الأيديولوجي عند السلفية الإسلامية وعند السلفية القومية، وعند دعاة القومية العربية المتنورين المعتدلين على الخطاب الأبستمولوجي، فالتوفيقية المستعادة كانت بمواجهة المشروع العلماني، وهي مشروعٌ جديد لإعادة التصالح بين الوحي والعقل، في حين نهض الخطاب الأبستمولوجي عند العلمانيين بعد إزاحة الأيديولوجية السلفية.
صلاح الدين احمد يونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
نقلاً عن “تاريخ الأقطار العربية” – دار التقدم – موسكوجـ 1 ص 72-74.
ميخائيل نعيمة الغربال – مؤسسة نوفل ط 10- 207.
تيزيني – طيب – الاستشراق الغربي والاسغراب المغربي – ص 146 دار الذاكرة حمص- 1996.
عابد الجابري – محمد – تكوين العقل العربي – ص 17.
جورج قرم – مجلة دراسات عربية – بيروت ك2 – 1980 – ع3 ص44.
الخطاب العربي المعاصر – الجابري – بيروت – دار الطليعة – ص 10 -9
طيب تيزيني – الاستغراب المغربي – الفصل السابع – ص 143-142 مصدر سابق
المصدر السابق ص 145
المصدر السابق ص 156
صادق جلال العظم – الاستشراق والاستشراق معكوساً –دار الحداثة ط1 1981- لبنان ص 6-5.
الاستشراق – إدوارد سعيد – ترجمة كمال أبو ديب 1981 ص 37
الجابري – نحن والتراث مصدر سابق ص 11
تيزيني الطيب – من التراث إلى الثورة – ط3 ص 166-159
ترجمة كمال أبو ديب لكتاب إدوارد سعيد الاستشراق – المقدمة ص 6
الجابري – تكوين العقل العربي – ص 147
جورج طرابيشي – العقل المستقيل في الإسلام – دار الساقي 2004 ص 259-258
إدوارد سعيد – الاستشراق – ترجمة كمال أبو ديب – مؤسسة الأبحاث العربية ط1 ص4 1981
الفجاري – مختار – الفكر العربي الإسلامي من تأويلية المعنى إلى تأويلية الفهم – عالم الكتب – الأردن 2009 ص 252
للتوسع في هذه الآراء يمكن العودة إلى كتاب أركون الإسلام نقد واجتهاد
راجع ما كتبه المستشرق الروسي أ.ز. ليفين – الفكر الاجتماعي والسياسي في سوريا ومصر – ترجمة بشير سباعي دار ابن خلدون ص 251-245 1978.
المصر السابق من 251-250 – بتصرف
محمد جابر الأنصاري – الفكر العربي وصراع الأضداد – المؤسسة العربية للدراسة والنشر – ط2 – ص194-1999.
نصر حامد أبو زيد – تجديد الفكر الإسلامي – جريدة الحياة اللندنية -7-6 نيسان 1995.
صلاح الدين احمد يونس
دكتوراه فلسفة في علم اللغة المقارن - محاضر في جامعة دمشق وعدة جامعات عربية
ورث محمد علي باشا المشروع الإمبراطوري الفرنسي (1849 – 1805) فأُعجب بهذا النموذج وأسس الدولة الحديثة في مصر، مشكلاً القطيعة التاريخية بين مصر وأسلوب الإنتاج الآسيوي، ومن جهةٍ أخرى واصلاً بين الدولة الأوروبية الحديثة – فرنسا – لينتقل بعد ذلك من حلمٍ فردي ليؤسس حلماً إمبراطورياً يقوم على تشكيل إقليمٍ جيوسياسي مكتملٍ اقتصادياً منسجمٍ بشرياً في سعيٍ منه غير خافٍ لتأسيس دولةٍ قطبية في المنطقة.
هذه الدولة القطبية يرى فيها المؤرخ الروسي لوتسكي بداية حركة التحرر العربية. ويسوّغ لوتسكي رأيه هذا بأن محمد علي قد وضع حداً من خلال غزوه للشام 1831 للعلاقة بين البلاد الناطقة بالعربية وبين البلاد الناطقة بالتركية، وبهذا الحد الفاصل إزاحةٌ لمفهوم الأمة الإسلامية الذي قامت عليه الدولة التركية منذ 1516 إلى 1916 وقد قدر كارل ماركس عالياً إصلاحات محمد علي، فوصفه بـ “الشخص الوحيد” الذي كان بوسعه أن يتوصل إلى استبدال “العمامة المفتخرة” أي تركيا في القرون الوسطى بـ “رأس حقيقي”.(1)
وما إن توضّع محمد علي حتى صاحبته ثقافة سياسية تناسب مشاريعه في الزراعة والاقتصاد والصناعة، فنشأ في مصر مناخٌ ثقافي كان له أثره على المنطقة، ونقصد بها المشرق العربي – الشام والعراق – وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتراجع الدولة القطبية بعد اتفاق الدول الكبرى على تقليص الحجم العسكري لمحمد علي في مؤتمر لندن 1841، ليأتي خلفاؤه من بعده ويمارسوا السلطة التابعة للمحاور الرأسمالية فرنسا – إنكلترا.
وقد رافق التقلص السياسي امتدادٌ ثقافي وفكري بلغ أوجه في عشرينات القرن الماضي، وامتد حتى سقوط مشروع النهضة 1948، لكن المشاريع الأخرى – الليبرالي – القومي – الإسلامي – الاشتراكي – قد أخذت بالنمو، وانتشرت في أوساط الطبقة الوسطى التي كانت الحامل الاجتماعية لمشروع النهضة والمشاريع التي قامت على أنقاضه.
لكن بقايا المشروع النهضوي قد تم الإجهاز عليها مع الحدث الحزيراني 1967، وهنا تبدأ مرحلة المراجعة والاستعادة والتحليل لتاريخٍ ولحاضرٍ ما يزالان قابلين للحضور في الذهنية العربية وفي الأبنية السياسية والثقافية في الأقطار العربية كلها.
وتُعدّ ثلاثينيات القرن الماضي الحاضن الزماني لبروز قضية التراث، ويظهر في المجتمع العربي جيلٌ نُخبي في إثر المعركة النقدية التي دارت بين الليبراليين التنويريين وبين السلفيين الإسلاميين، وهذه المعركة لم تحدث فجأةً، وإنما كان لها مهادها في القرون الهجرية الأولى، التي تشخصت في النزاع بين شطري التفكير العربي: المعقول والمنقول على المستوى الفكري والفلسفي، وأما على المستوى اللغوي فثمة ثنائية الدخيل والأصيل.
وفي إثر هذا يظهر طه حسين (ت 1973) بوصفه رائداً لمشروعٍ تنويري آخر – والمشروع الأول كان قد أسس له رفاعة الطهطاوي (ت 1873) في القرن التاسع عشر من خلال إنقلابه على ثقافته، بعد أن أُعجب بالنموذج الفرنسي وكتب مؤلفه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
فإذا كان مشروع الطهطاوي المشروع التنويري الأول فإنه قام على الاستجابة العاطفية القائمة على الاندهاش والانبهار، في حين نجد طه حسين يعلن عن المشروع التنويري الثاني تحت عنوان “الشك العقلاني” ولا يخفى أن طه حسين خلال دراسته في فرنسا قد تأثر بالفلسفة السائدة حينها ولا سيّما المنهج الديكارتي، وهذا المنهج نقله طه حسين ليُحدث الصدمة الكبرى مقدّماً آراء زلزلت البنية العربية، هذه الآراء مفادها أن الشعر الجاهلي لا يمثل عقلية الجاهليين، ومن هنا كان يرى أن المؤرخين المسلمين كانوا وراء هذا الإرث.
ولسنا الآن بمعرض الموافقة أو التبني لآراء طه حسين، أو بمعرض الإعراض عنه، إنما نرى أهمية المشروع في إحداثه ما لم يكن متوقعاً، وهذا ما جعل خصومه يعلنون عن بدء معركةٍ معه، مما جعل المناخ الثقافي والسياسي في مصر والمشرق في حالٍ من الحراك الإيجابي بالضرورة، فالحراك هو الذي خلق الإنتاج الفكري ليحلّ محلّ الركود العثماني.
وإلى جانب طه حسين كان هناك عباس محمود العقاد يثير معركةً أخرى مفتوحة مع الشعر الإحيائي، ويدخل في نزاعٍ ممنهج مع زعيم الشعر الإحيائي أحمد شوقي. وانضم إلى العقاد كلٌّ من عبد الرحمن شكري وابراهيم عبد القادر المازني، ونتج عن ذاك الائتلاف كتاب الديوان، وقد أيد أدباء المهجر مشروع الديوان، وفي مقدمتهم المفكر والأديب ميخائيل نعيمة، من خلال كتابه الغربال، ثم يعلن عن تأييده المفتوح لمدرسة الديوان قائلاً: “ألا بارك الله في مصر…. فما كل ما تنثره ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة…. عرفت أن مصر مصران.. لا واحدة، مصر التي ترى البعوضة جملاً، ومصر ترى البعوضة بعوضةً، ومصر لها مقياسٌ بطرفين، فهي تفصل بين الرطل والدرهم، إن مصر هذه الثانية قامت تناقش الأولى، فانتصبت وإياها أمام محكمة الحياة “.(2)
وكان مصطفى صادق الرافعي قد واجه طه حسين وهو ينوب عن السلفية الدينية، فكتب تحت راية القرآن: “مجموعةً من المقالات هاجم فيها طه حسين وأنصار الفكر الجديد، فالسلفية تلك وجدت نفسها أمام إشكالية الإزاحة التي قام بها طه حسين محاولاً قلب اليقينيات إلى متحولات، وإدخال الثبوتيات كلها إلى مخبر التحليل، في غايةٍ منه لإخراج التراث من وضعه الإطلاقي إلى أوضاعه النسبية حتى يكون من التاريخ لا فوقه.
ومع الهزيمة التاريخية للعرب عام 1967 يتسع المجال لإعادة النظر في تاريخ العرب وثقافتهم، إلى أن تصل المسألة المباحث كلها من دون أن تبقى حصراً في حيّزي: التاريخ والفلسفة، فثمة اتجاهاتٌ نقدية على قاعدة إعادة النظر في الثقافة العربية كلها، وقد ترافق ذلك مع اتجاهاتٍ نقديةٍ أخرى في الاقتصاد والإدارة والسياسة، من وجهة نظرٍ شمولية غايتها أن يترافق مع التوجه النقدي الفكري توجهٌ آخر وهو إعادة النظر في البنيات العربية ومنها التعليم.
ومن الأسئلة التي كانت تلهج بها ألسنة الكتّاب وأقلامهم. من المسؤول عن الهزيمة الحزيرانية؟ هل النظام المصري والنظام السوري هما المسؤولان؟ أم العرب – كحاضرٍ – مجتمعين هم وراء الهزيمة؟ واستشاط بعضهم ليقول: هل التاريخ العربي هو المسؤول؟
هذه الأسئلة وغيرها كانت مشروعة من حيث إن الاهتداء إلى جوابٍ نهائي كان محالاً، وذلك لأن القضية مركّبة من التاريخ والحاضر، من السياسة والدين، من الثقافة الموروثة والأخرى المستعارة…..؟
إن ظهور النفط في الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وتعاظم دوره في النصف الثاني من القرن المذكور قد أدخل معادلةً جديدة إلى ساحة النزاع الأيديولوجي القائم في مصر أولاً وفي الشام والعراق ثانياً، هذه المعادلة لم تساهم في البنية الثقافية إلا قليلاً نادراً، إنما ساهمت على المستوى الآخر وهو زيادة التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، وهذه التبعية قد أحدثت شروخاً في الموقف السياسي محتميةً بالإيديولوجيا الدينية التي تسوغ للنظم العربية في الجزيرة الاستمرار في الاحتفاظ بالثروة. إذ تصبح الثروة الوسيلة الأهم للمحافظة على السلطة، وفي الوقت نفسه نتج عن الطفرة النفطية ازدياد الشرخ بين المجتمعات العربية بشكلٍ عام، وازدياد الشروخ الطبقية في داخل كل مجتمعٍ على حدة بشكلٍ خاص.
وفي داخل المجتمعات التقليدية – مصر – الشام – العراق – تنزاح الطبقة المتوسطة عن ريادة هذه المجتمعات بعد أن كانت في النصف الأول من القرن العشرين الفاعل الأول في السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة، وبعد أن تصدعت تحت تأثير مؤثرين مختلفين في الصيغة متفقين في الغاية: المؤثر الأول هو تعاظم الثورة وتركّزها في يد فئةٍ قليلة، والمؤثر الثاني هو ارتباط عائدات الثروة النفطية بمشروعٍ خارجي أساسه تعميق التبعية الاقتصادية والسياسية، هذا التعميق التبعي كان لا بد أن يرافقه أيديولوجيةٌ تُسوِّغ له الاستمرار والتغلغل، والمسألة هذه صار الوضع الطبقة الوسطى خاضعاً لجدلية الأعلى “الهيمنة الداخلية والخارجية”، والأدنى وهي الإفقار والتهميش والإذلال، ومع هذا الإذلال والتهميش تعيش المجتمعات العربية حالة الاستلاب، والاستلاب يؤدي بدوره إلى انزياح المجتمع على مستويات الثقافة والقيم والفن.
والحال هذه نحن أمام وضعياتٍ ثلاثة…. الأولى هي ازدياد الوعي القومي العربي بعد 1967 بشكلٍ عفوي كردة فعلٍ جماهيرية على الهزيمة المذلة، والوضعية الثانية كان من النخب الاقتصادية الماركسية التي كانت ترى أن نبدأ بإعادة الهيكلة للبنيات العربية ولا سيّما على المستوى الاقتصادي، والوضعية الثالثة نشأت من خلال رفض الوضعيتين السابقتين وهي الوضعية الليبرالية التي أعلنت عن مشروعٍ تحديثي على المستويات كلها، لكن المرجعية لهذه الوضعية كانت النمذجة الأوروبية وعلى الأخص الفرنسية منها.
وما كان لهذه الوضعيات أن تعلن عن نفسها بهذه الكفاءة، وتجد لنفسها مسوّغاً في الوقت نفسه لولا أن أخفق مشروع النهضة، وهو بالأساس مشروع قومي يقوم على ثلاثة أبعاد… الأول هو بعد تراثي و الثاني هو البعد الخارجي ” الليبرالية – الاشتراكية ” والبعد النخبي الفردي الذي كان له أثر بالغ في إثارة تساؤلات السلبية حينها والايجابية فيما بعد حول مسألة التراث، ولعل المشروع المذكور كان هجيناً من هذه الأبعاد، ولم يكن يمتلك قدرة على توحيدها توحيداً هارمونياً، بل ظلت الأبعاد متفاصلة غير متواصلة.
وفي إثر الإفصاح عن فشل النهضة يتأزم الخطاب الثقافي العربي، ويدخل في مرحلة من الإضطراب المنهجي، على أساس من الخيبة. خيبة من انتظر منه مخرجاً للأزمة، وهنا يتشظى الخطاب المذكور إلى مواقف متباعدة… فثمة موقف سياسي صارم يوجه التهمة إلى السلطات على أنها هي المسؤولة، وثمة آخر ثقافي يدعو إلى إعادة النظر بالوضعية العربية تاريخاً وحاضراً و على الأخص في المستوى الثقافي، ونلحظ موقفا آخر متوارياً هو الموقف الأدبي، وهنا نشير إلى الأدباء الذين انشطروا إلى اتجاهين: الأول يعلن عن الحل و هو التمسك بالتقاليد الأدبية و اللغوية للعصور الزاهية، ولا يخفي هذا الاتجاه عن رغبته في أن يقول إن دولة الإسلام هي الحل، وفي مقدمة هؤلاء الشاعر بدوي الجبل من خلال قصيدته “من وحي الهزيمة”، و الاتجاه الآخر كان يمثله شعراء الحداثة، و قد اتهموا السلطات على أنها المسؤولة لكنهم اتجهوا إلى التعنيف وشتم التاريخ وتسفيه الرموز التاريخية وجلد الذات العربية “محمد الماغوط. نزار قباني. صلاح عبد السرور. فدوى طوقان….”
ومما نتج عن تلك الاضطرابات السوسيوثقافية ظهور المشكلة – نقداً أو تبنياً – بين العروبة والإسلام، وكانت الاتجاهات تفصح عن قيام واحدة منهما محل الأخرى، إلا عند الاتجاه القومي العروبي الذي رأى حلاً توفيقياً بينهما ” الإسلام روح و العروبة جسد”.
وقد نتج عن هذا الحل التوفيقي التلفيقي مشكلات فرعية، منها الجمهور والثقافة، العلم والدين، الماضي والحاضر، الأصالة والمعاصرة، وفي العقدين الأخيرين ينضاف إلى هذه الثنائيات ثنائية الحداثة وما بعد الحداثة.
لكن قضية التراث إذ طفت على السطح تداولاً بين الفرقاء قد خرجت من أيدي الاتجاه السلفي الذي كان يرى انها إرثه وحده و أنه الأمين عليها و أنه القادر على شرحها و توسيعها وتوظيفها. لكن الاتجاه العلماني من فئتيه: الماركسيين والبنيويين الليبراليين قد حرم الاتجاه السلفي من احتكار هذا الملك، فبدأ يعلن عن مداهمته لها مداهمة ذات طابع موسوعي، ويعد المفكر حسين مروة في البحث التراثي رائداً و مؤسساً، فأعلن عن موسوعته “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، فقام بإعادة القراءة للمدونات العربية والمصنفات التراثية محتمياً بالمنهج الجدلي التاريخي موظفاً إياه في تحليل الظاهرتين: الفكرية والتاريخية، وهذا الجهد الفردي ناب عن جهد المؤسسات الحكومية التي لم تكن تعنى بهكذا مبحث، وقد ورث مشروع حسين مروة المفكر طيب تيزيني فأعلن عن مشروع فردي في إثني عشر جزءاً أهمها “التراث و الثورة” – “الفكر العربي في بواكيره الأولى” – “الفلسفة العربية في العصر الوسيط” – “الإسلام المحمدي الباكر” – “من اللاهوت المسيحي العربي إلى الفلسفة الوسيطة”… وأما أصحاب الاتجاه البنيوي فكانوا مغاربة ومنهم محمد أركون الذي سعى إلى استحداث عصر أنوار عربي جديد على غرار عصر الأنوار الغربي في القرن الثامن عشر، وقد سعى إلى هذا عبر نقدٍ تاريخي من خلال ما أسماه بالإسلاميات التطبيقية، فكتب تاريخية الفكر الإسلامي و القرآن قراءة علمية، والإسلام نقد و اجتهاد، والإسلام أخلاق و سياسة، ثم كتب أنسنة السياقات في الفلسفة العربية الإسلامية، متخذاً من النصوص الأولى مبدأ له في مقاربته لها على أنها قابلة لقراءات مفتوحة، ثم اعتمد آراء الفقهاء على أنها نص آخر اكتسب “قداسته”، من خلال ما توضع في أذهان العامة منها، وقد اعتمد المناهج الغربية ولاسيما المنهج البنيوي الذي يبدأ من الحالة الفيلولوجية لينتهي إلى الحالات الأخرى التي تشكّل الظاهرة، كالتاريخ والثقافة والمعتقد والفلسفة، ومنهم محمد عابد الجابري في مشروعه تكوين العقل العربي،بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي، الخطاب العربي المعاصر، متخذاً المنهج الاستدلالي البرهاني في تسويق أفكاره و تسويغها، و سيشكّل نزاعه – على أنه يمثل ظاهرة الاستغراب المغربي – مع الدكتور طيب تيزيني – على أنه يمثل التأصيل المشرقي العربي للفلسفة العربية الإسلامية – ظاهرة جديدة في النزاع على امتلاك التراث العربي الإسلامي وتوظيفه في مشروع نهضة عربية حديثة، وسوف نعود لبعض نقاط هذا النزاع في هذا المبحث، بعد أن نكون قد وصلنا إلى مقدمات وجوده.
ومن ضرورات البحث أيضاً أن نعود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي لنلحظ أفول مشاريع السبعينيات وما طرحته، ولنلحظ أيضاً عودة السلفية إلى الظهور، ولعل مبرر تلك العودة يعود إلى سببين: الأول هو عدم قدرة أطروحات السبعينيات على الاستجابة لواقع الحال، وذلك لأنها جاءت طرحاً نخبوياً من غير تأصيل لها في العمق الثقافي العربي. والثاني هو الحدث التاريخي الذي أصاب المنظومة الاشتراكية العالمية مما سمح للأصوليات في العالم كله أن تجد في هذا الحدث فرصة لنجاحها وجواباً على أطروحاتها التي أزيحت بسبب التوجه العالمي نحو الفكر الاشتراكي العلماني في شرق أوروبة وساحة المستعمرات سابقاً. السلفية ليست دقيقة فيما تعني عند الحديث عن المضمون المقصود: “الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف”. وأما السلفوية فهي التمذهب للقول بماضوية النظر إلى الماضي، ويكاد يكون هذا مصطلحاً.
وسوف نجد هنا كثيراً من الأطروحات التي لم تكن مقبولة قبل هذه المرحلة، ومنها العلاقة مع اسرائيل من خلال محاولة النظم العربية تطبيع هذه العلاقة كشكل للدفاع عن وجودها، وقد لزم هذا أطروحات نظرية تشكك في التاريخ العربي، وتشكك أيضاً في جدوى البحث التراثي، وتطرح الحل في القفز عنه. وبالمقابل فإن العلمانيين من خارج النظم والتنظيمات العربيين تبدأ المعركة على امتلاك التراث من خلال مجموعة من الأسئلة الإشكالية… ما المنهج الذي نستخدمه؟ وما التراث ومن الفاعل فيه من عرب ومسلمين من غير العرب؟ و إلى أين نتجه؟ لكن البحث التراثي قد تبيأ في المشرق العربي تحت غطاء أيديولوجي مؤداه أن المنهج الواقعي “الماركسي” قد كان معتمداً في عملية استقصاء شاملة لإنشاء نسق معرفي يؤسس للبحث التراثي بصرف النظر عن الارتباط به روحياً أو رفضه أيديولوجياً.
وحتى لا نبقى في حيز التنظير فإننا نرى أن القراءات التي تصدت لمسألة التراث كانت هي المجال التطبيقي الذي أسس لهذا المبحث، والقراءات عديدة لكننا يمكن أن نحصرها بثلاث هي الأهم و الأشمل – كما ارتأى المفكر محمد عابد الجابري:
الأولى: هي القراءة السلفية والثانية هي القراءة الأوروباوية والثالثة القراءة الماركسية، ويرى الجابري أن هذه القراءات هي قراءات سلفية و قد انطلق في هذا التعميم من سؤال مركزي وهو كيف نستعيد حضارتنا؟ بل كيف نحيي تراثنا؟ ويرى الحوار في هذا المحور قائماً بين الماضي والمستقبل، فالحاضر عنده غير حاضر، ومما رآه أن القراءة السلفية تقوم على الأيديولوجية الجدالية غايتها هو بعث الأمة، إذاً القراءة السلفية للتراث غير تاريخية، وهذا التعميم قد يكون ذاتي المنشأ، فمن سمات المفكر الشمولي عندما يبدأ مشروعه أن يلغي ما تقدم عليه، ويبدأ التأسيس من نقطة الصفر.
ومما أخذه المفكر تيزيني على الجابري. أن قراءته تطرح العلاقة بينها وبين حضارتنا بفعل الاستعادة، وتطرح العلاقة مع التراث تراثنا بفعل الإحياء، وأن الحوار مقتصر على الماضي والمستقبل، أي هناك إقصاء للحاضر، وتغييبه يعني إحياء التراث واستعادته على طريقة الشعراء، من هنا وقع الجابري في سلفية جديدة. ومما أخذه تيزيني على الجابري في قراءاته أن معجمه الاصطلاحي غير متسق، فالاستعادة و الحوار ينتميان إلى معجمية أخرى، وفي هذا يرى التيزيني أن القراءة الجابرية وقعت في الوهم الانطلوجي “إعادة الماضي حاضراً – الأسلاف لم يتركوا للأخلاف شيئاً”.
إن التعرض للماضي ليس بما هو، إنما من موقع الحاضر بنيةً ووظائف. فالبنية تحتاج إلى أدوات للتفكيك غير سلفية، والوظائف لا يمكن أن تكون براهينها كما هي لحظة ولادتها، فالوظائف تتبدل تبعاً للسياق الفاعل فيها.
أما مصطلح الحوار فإن السلفية لا تقبل حواراً بين ماضٍ وحاضر، فلا حوار ولا مثاقفة ولا تفاعل، إنما الأمر عندها هو الهيمنة و التبعية – بمعارضة الماضي للحاضر – وشاهد هذه الحال سيد قطب “وقد نلاحظ أن الثنائية الميتافيزيقية التي أعلنها سيد قطب حول “الماضي الذهبي” بإطلاق والحاضر الجاهلي. جاهلية القرن العشرين تمثل إحدى صيغ ذلك الموقف، وربما كانت أكثرها اتضاحاً و تبلوراً“.(3)
ويرى التيزيني أن التوحيد بين مصطلحي الاستعادة و الحوار من جهة ومن جهة أخرى شكلاً من الاستحالة، فالإحياء هو الاعتقاد بإفاقة التراث من غفوته وجعله حالة معيشة باعتباره صالحاً بشكل مطلق، ومن هنا انبثقت فكرة الصحوة الإسلامية.
وقد أسس الجابري لشكل جديد في العلاقة بين الماضي والحاضر، فرأى الأول مهيمناً، ورأى الثاني لاحقاً “وهكذا يتجول حاضرنا في معرض لمعطيات ماضينا، فنحن نعيش ماضينا في حاضرنا هكذا جملة واحدة، بدون تغاير و بدون تاريخ”.(4)
إن مفهوم الاستعادة عند السلفيتين: الدينية و القومية، ليست مرحلة تليها مرحلة أخرى، إنما هي عملية مقصودة لذاتها أي أن يمتد الماضي إلى عقول الحاضر، فالسلفيتان تريدان إزاحة الحاضر، لأنهما لا تعترفان عليه فالزمن متوقف عند النجاحات الأولى للعقل العربي. أي من زمن المبعث النبوي إلى آخر خليفة، ومفهوم الخليفة مختلف عليه، فالسلفية الدينية تراه مقدساً حتى نهاية الخلافة الراشدية41 هـ، وتراه ضرورياً حتى نهاية الخلافة العثمانية 1909، والسلفية القومية ترى الماضي مهيأً للمستقبل لكنه لا ينوب عنه و إن كانت تراه على شاكلته، وإن هذه الرؤية من السلفيتين قد فرضت العلاقة بين الأبعاد الثلاثة… الماضي والحاضر والمستقبل على أساس من التجاور الميكانيكي أو التساوق المطرد المفتوح الذي يفضي بالضرورة إلى الاختلال مما يجعل البعد الماضوي مهيمناً على البعدين الآخرين.
ويبدو أن المفكرين العرب في المستوى الاقتصادي السياسي تحديداً قد عاينوا بدقة التقارب بين المتباعدين: السلفية الدينية والاستشراق، فنجد الباحث جورج قرم يدلي برأيٍ على مستوىً بالغ الأهمية فيما يخص التواطؤ المسبق النية من المستشرقين مع السلفية الإسلامية التي تواطأت مع الاستشراق تواطؤاً مبنياً على غير حسابٍ استراتيجي، حول نقطةٍ مهمة وهي: “الادعاء بأن الدين الإسلامي له خصوصيةٌ لا يشاركه فيه دينٌ آخر، لكون الدين الإسلامي لا يمكن أن ينفصل عن الحياة الاجتماعية والقومية والسياسية، على اعتبار أنه دينٌ شامل المدى يحتوي كافة الأمور الروحية والزمنية في آنٍ معاً، طبعاً هذا الادعاء لدى المستشرقين ينم عن روحٍ سلبية وازدراءٍ تجاه المجتمعات الإسلامية، ففي نظرهم يستحيل على المجتمع الذي يسيطر عليه الدين الإسلامي مؤسسياً أن يتقدم ويواكب العصر، أما الادعاء نفسه لدى السلفيين فينم عن شعورٍ بالتفوق التام تجاه الأديان الأخرى التي وقعت في نظرهم في براثن المادية والانحطاط وفي الحالتين ثمة عنصريةٌ وعنصريةٌ مضادة، فالمستشرقون يمارسون عنصريةً ضد الشعوب الإسلامية وهم يمثلون موقف الحضارة الأوروبية من المجتمعات التي تنتمي إلى الدين الإسلامي باستثنائها من قوانين التطور والتقدم”.(5)
وهكذا غيبت السلفية الدينية بشكل إطلاقي – وكذلك فعلت السلفية القومية بشكل نسبي – مشكلتي: المعيش والراهن، وهما جدليتا الداخل تفرضان من خلال بنيتهما الاحتمالات النقيض للسلفيتين، وبالضرورة لابد من أن تكون وظائفهما مرتبطة بجدليتي الماضي و الحاضر، بما تفرضه الجدليتان من أنساق ثقافية و صيغ لغوية معبرة عنها.
ومن مزاعم الطور الجديد للقراءات غير المنهجية وغير العلمية وجود مصطلحات جديدة مفترضة منها النقد – البناء – التدشين، وهذه المصطلحات لم تكن من إنتاج السلفيتين: الثقافية والدينية وإنما استعيرت من المناهج العلمية في الفلسفة وعلم الاجتماع ونظرية الأدب لتدخل حيزاً لم تخلق له، وعندها ستمارس دوراً – لا بد – زائفاً.
ومن خلال ما استعرضه الجابري من أنواع للقراءات بعد أن قسمها إلى ثلاث، القراءة الاستنساخية والقراءة التأويلية و القراءة التشخيصية، إذ رأى في هذه القراءات نواتج عن القراءة الأولى وهي السلفية، وقد اعترض التيزيني على هذه القراءات لا من حيث هي موجودة، وإنما من حيث توظيف الجابري لها، فوجد دراسة الجابري لتلك القراءات بأنها اعتباطية تلفيقية، فالسلفية عند الجابري تقرأ قراءة تشخيصية تبرز نفسها كقراءة سلفية عندما كانت وسيلة لتأكيد الذات و بعث الثقة فيها.(6)
ومما أخذه التيزيني على الجابري ربطه بين المفهوم بمعنى المشروعية وبين البعد الأيديولوجي القيمي ملحاً على الوظيفة – دون البنية – وهنا يشير التيزيني إلى ضرورة المصداقية المعرفية، فالسلفية إما أن تقبل بوصفها مشروعة، وإما أن ترفض كقراءة لا تاريخية، فكل قراءة تراثية هي قراءة مشروعة تمتلك مشروعيتها الاجتماعية التاريخية من حيث هي حالة أيديولوجية تعبر على نحو عن أهداف ومصالح اجتماعية معينة، ولكن ليست كل قراءة تراثية تمتلك المصداقية المعرفية.(7)
ومما يتناهى إلى القارئ من قناعة أن التيزيني يرى في المصداقية توافقاً مع التقدم التاريخي، بحدود نسبية على الأقل، وقد تبدو تلك الحدود تقترب من الاطلاقية عند اللزوم المنهجي من حيث إن المعرفة والاستجابة لاحتمالات التقدم التاريخي واحتياجاته تبقى قائمة في البحث التراثي، وهنا يقفز إلى المخيلة رأي الفيلسوف هيجل شاهداً على تلك الاستجابة “كل ما هو واقعي هو عقلي، وكل ما هو عقلي هو واقعي” وقد علق الفيلسوف انجليز على هيجل قائلاً: “إن سمة الواقع ترتهن عند هيجل فقط بما هو- في الواقع ذاته- ضروري”.
فالأيديولوجيات التي مارست الوهم والإيهام لم تأت من الفراغ، إنما كان لها حاملها الاجتماعي، وذلك الحامل ذو ثقافة أنتجت تلك الإيديولوجيات تحت شرط خاص، وهو الذي يعيد إنتاجها عند الضرورة.
أما القراءة الأوروباوية الليبرالية فهي محط اهتمام الجابري، وتتسم هذه القراءة بأنها ليبرالية، أو هكذا يدّعي أصحابها. وهذه القراءة تعتمد مرجعية المناهج الغربية، أي أنّ الخارج هو الذي – بأدواته – يفكك الداخل، ولكن هل هذا التفكيك أمينٌ على دواخل التراث العربي، بل هل يحقق الكفاية الإجرائية؟ تلك أسئلةٌ كانت تبدو ضروريةً لو أنّ أصحابها قد وضعوها أولاً، لكن النقّاد أو المصنّفين هم الذين طرحوا هذه الأسئلة. ولعلّ السؤالين اللذين طرحهما الجابري في أطروحته نحن والتراث: كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟ ثم أناب نفسه عن المفكر الليبرالي العربي ليرى “أن نظام العلاقات في هذا المحور هو الماضي – الحاضر“، يفيدان أن الحاضر المقصود هنا هو حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه كذاتٍ مهيمنةٍ على العصر كله بل على حد تعبيره “على الإنسانية جمعاء”.
فالليبرالي العربي ينظر إلى تراثه لا من عمق تاريخه بل من سطح ما أنجزه الغرب، ليبدو هذا السطح أهم وأقرب من ذاك العمق، فالأمر إذاً متعلقٌ بشكل خاص بطبيعة قراءة الأوروباوية وهي في الوقت نفسه قراءةٌ استشراقية، لكن الاستشراق بمدارسه مدانٌ عند السلفيّتين: الدينية والقومية، وهو في الوقت نفسه مرجعيةٌ إيجابية عند الليبرالي، وهنا يحقق الليبرالي سلفيّته هو: “السلفيّة الاستشراقية التي تقدم نفسها على أنها قراءةٌ معلمنة ممنهجة”.
ومما يؤخذ على الجابري “أن جهازه المفاهيمي جهازٌ سلفيّ” ومن هنا كانت قراءته للسلفيات كلها اعتباطيةً بل تلفيقية، لأنه وضع تيارات – على تداخلاتها وتناقضاتها وتقارباتها – تحت حدٍ اصطلاحي واحد، وقد خالط مفاهيميات الجابري أوهام السوق الثقافية الغربية المركزية، لتنشئ لديه مركزيةً غربية ترى في الإرث العربي المشرقي وضعيةً معيقةً للتقدم التاريخي، ومن هنا كان الوهم الأيديولوجي المركزي الغربي يقوده إلى ما قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون: “أوهام السوق”.
ويعلّق المفكر تيزيني على الجابري بقوله: “فالجابري رغم حرصه – على الإمساك بآلية العلاقة بين أوروبا والمفكر العربي الليبرالي – ظلّ قاصراً. فإذا كان الغرب مهيمناً مستعلياً فكيف يقبل حواراً ندياً، فالقراءة الأورباوية تأخذ منهجيتها من الغرب”.(8)
ومن هنا نخلص إلى القول: إن القراءة الجابرية للقراءات الليبرالية لم تتمكن من تشخيص العلاقة مع الغرب. الغرب الأوروبي العلماني. الغرب الأوروبي الاستعماري. الغرب الأوروبي الاستشراقي مع المفكر العربي الذي تسلّح بأدوات الغرب التي كانت تبدو مستعليةً عليه، وهذا ما قاد البحث “نحن والتراث” إلى تغييب الصيغة العقلانية، وتغييب هذه الصيغة يزيح بدوره الاحتمال الضروري وهو المثاقفة والجدال النديين بين الغرب – بمدارسه – والفكر العربي عموماً، وقد وقع البحث التراثي بشكلٍ عام تحت تأثير العلوم الفيليلوجية التي شطرت الفكرة إلى شطيرتين: الشطيرة الأولى هي البنية السطحية، والشطيرة الثانية هي البنية العميقة، فتجعل من البنية الأولية علماً على أواليات الفعل بين أطراف تلك العلاقة.
وبشكلٍ عام فإن سمتين اثنتين اتسم بهما البحث التراثي في هذه القراءة: هما التناقض. التناقض المنهجي والاضطراب الاصطلاحي، ومردّ هذا – باعتقادنا – إلى أزمة المصطلح في مسألتين: الأولى في اللغة العربية، والثانية في المنهج المتّبع، والسمة الثانية هي التوازي، التوازي الميتافيزيقي الذي خالط الكتّاب في طور التبعية والإلحاق.
ومما نراه رافداً لما سبق أن عززناه أن الليبرالية العربية مشخّصةً بأفرادها المغرّبين ترى أن طريق التراث العربي هو الحاضر الغربي، وهذه قادمةٌ من التأثيرات الفينومينولوجية التي هي بالأساس تعنى بظاهر الأشياء وسطوحها، ولا تؤسس لتفكيرٍ جدلي، بل هي خطوةٌ أسست لانزياح القراءة الجدلية التي تفضي إلى أن الداخل العربي هو المركز.
وكم وقع الباحثون العرب المعاصرون تحت تأثير النخب الأوروبية وهم يتشرّبون ثقافتهم ويوظفون مناهجهم، وكثيرٌ منهم فعل دون دراية، وقليلهم كان على درايةٍ بما تشرّبه وبما فعله، فالفرنسي ميشال فوكو في كتابه “حفريات المعرفة” داهم أذهان الباحثين حول “الهوس اللاتاريخي” المجسّد بما أطلق عليه – أطلقة الانفصال – وهنا يثار تساؤل منبثق من طبيعة الهوس النخبوي العربي بالنخبية الأوروبية، كيف يتبنى مفكرٌ عربيٌ مفكراً أوروبياً، وهذا المفكر لم يعد فاعلاً في البنية الثقافية الأوروبية أو أنه استنفذ فاعليته، والسؤال الآخر ينبثق لزوماً عن سابقه وهو هل يمكن للنظريات الأوروبية والمناهج الأوروبية التي تجاوز بعضها بعضاً في منابتها الأم أن تبقى مبهرةً للباحثين والمفكرين العرب؟.
من الواضح أن التساؤلين السابقين لا يمكن الإجابة عليهما بالإيجاب، فحتى يتجاوز الفكر العربي زمن الركود والسكون لا بد أن يلحق بالحراك الأوروبي، ويكتشف الحراك التراثي الباعثين على تحديث البنية على المستويات كلها، فالكتابة الاستشراقية باعثةٌ على الظن والتخمين السلبيين عند الاستشراق المعكوس ومن هنا كان المفكر تيزيني يرى في كتابة إدوارد سعيد “أنها تحطم الحدود الأنطولوجية والمنطقية القائمة بين سياقات تنتمي إلى مرجعيات أنطولوجية ومنطقيات مختلفة اختلافاً إبستمولوجياً بنيوياً ووظيفياً…. وههنا ينبثق البحث المتميز سلباً عند إدوارد سعيد حول الاستشراق”.(9)
ولم يكن إدوارد سعيد وحده في مفهوم الاستشراق المعاكس، فقد أفصح عنه علناً المفكر صادق جلال العظم إذ كتب أطروحته “الاستشراق والاستشراق معكوساً” تحت تأثير نوعين من الكتابة الاستشراقية: الاستشراق الغربي وهو يتوجه إلى الشرق العربي، والكتابة العربية التي وقعت تحت تأثير الاستشراق نفسه، وقد يكون التأثر سلباً وقد يكون إيجاباً، ويشير إلى تعريف إدوارد سعيد: – “الاستشراق حركة توسع أوروبا البرجوازية الحديثة خارج حدودها التقليدية توسعاً متسارعاً منتظماً على حساب بقية أجزاء العالم، وبوساطة إخضاعها ونهبها واستقلالها – بهذا المعنى يشكل الاستشراق ظاهرةً معقدةً وناميةً متفرّعةً أصولاً ووظيفة عن صيرورة تاريخية أكثر شمولاً، كان من أهم تجلياتها حركة التوسع الأوروبي المذكورة – وبحكم الوظيفة التي نشأ الاستشراق من أجلها إلى مؤسسةٍ نامية بسرعة لها ارتباطها الحميم بمصالح اقتصادية وتجارية واستراتيجية حيوية يخدمها ويتفاعل معها، كما أنشأت هذه المؤسسة أجهزتها العلمية والإدارية واكتسبت بنياناً فكرياً وأيديولوجياً تراكمياً، ينطوي على تشكيلة من الفرضيات والنظريات والتصورات والتسويغات يتم التعبير عنها من خلال الإنتاج الفكري والأدبي والسياسي الذي تقره المؤسسة المذكورة”.(10)
وقد أخذ على إدوارد سعيد أنه بهجومه على الاستشراق الغربي قد أعمى على الآليات الاستشراقية التي واجه بها المستشرقون الشرق واقتحموا أصوله المعرفية، وذلك من خلال أطروحةٍ – تبدو – زائفةً على المستوى السوسيولوجي، ومؤداها هي أن العربي الاستشراقي مثل الوعي العمومي في الغرب، متناسياً التناقضات البنيوية لطبيعة الرأسمالية، تلك الطبيعة قائمةٌ بالأساس على التناقض المركزي بينها وبين أطراف العالم غير الرأسمالي، وقائمةٌ أيضاً على التناقضات الفرعية ضمن البلدان التي تحكمها، ومن هنا توافق طرح إدوارد سعيد مع مقولةٍ إيديولوجية زائفةٍ تاريخياً وهي “الشرق شرق، والغرب غرب” هما عالمان مختلفان متفاصلان، لا يمكن للأول أن يلحق بالثاني، ولا يمكن للثاني أن يتراجع أمام الأول، وهنا يحقق إدوارد سعيد مقولة الإنجليزي كيبلينغ “عالمان لا يلتقيان: الشرق والغرب”. وهذه الآراء “السعيدية” “عكست آراء الغرب كله من مثل السانسيمونية والماركسية”.(11)
وقد توجه في إثر الآراء السعيدية السابقة المفكر مهدي عامل إلى انتقاد الاستشراق السعيدي تحت عنوان “ماركس في استشراق إدوارد سعيد” الذي أراد أن يخلّص كارل ماركس من اتهامين: الاتهام الأول الذي حصل على يد إدوارد سعيد ومؤداه أن الغرب برمته يحقق كتلة الرأي الواحد، ولا فرق عنده بين ماركس وبين آدم سميث، والاتهام الثاني هو ناتجٌ عن القراءات القاصرة لماركس وإنجلز منذ “البيان الشيوعي” الأول 1848، هذه القراءات وقعت تحت تأثير المقولة الزائفة “الشرق شرق…..” وهي في الأساس تقع تحت تأثير السلفيات العربية وتحت تأثير آثار الاستعمار الأوروبي.
فالمستشرقون رأوا في التاريخ والحاضر العربيين ما يمثل طموحاتهم على مستوياتٍ عديدة، لكن أهمها المطمح الاقتصادي الذي مهّد له الدرس الاستشراقي بما ركّبه من جزئياتٍ وتفاصيل وكليّاتٍ شكّلت الصورة الشاملة للمشرق العربي في سبيل الاستحواذ عليه كمصدرٍ مساعدٍ للتفوّق والاستعلاء، وعلى المستوى الآخر كان البعد السياسي حاضراً ولا سيّما في فترة النزاع بين الدول الرأسمالية الصاعدة لامتلاك دول المشرق ذات المصدر الرئيس للموارد، وحتى يكفل الغرب الرأسمالي حق الامتلاك سعى المستشرقون لدراسة الثقافة العربية في سبيل التغلغل السيكولوجي في النفس العربية، وبناءً عليه يمكننا القول: إن المثقفين العرب الذين خضعوا للاستلاب الغربي على المستوى السياسي والثقافي واستمدّوا معارفهم وأسس تفكيرهم من واقع الغرب الحضاري لا يمكن لهم أن يكونوا فاعلين إيجاباً في البنيات العربية التي تستدعي الدرس والتحليل وإعادة الصياغة، ومما نراه لاحقاً – على اللزوم – هو أن المعارف الأبستمولوجية الغربية التي غرق بها الباحث العربي لا تمكّنه من دراسة الموروث العربي إن كانت هي أداته الوحيدة، بل لا بد من أن يتاخم الموروث العربي من داخله، وإلا تبقى احتياجات العرب الحاضرة بعيدة المتناول عنهم ولا يمكن أن تكون الدراسات المنطلقة من التوجه الغربي ملبيّة للاحتياجات الداخلية على أي مستوى من مستويات الغايات العربية.
القراءة اليسارية:
والقراءة الأخيرة التي تداولها أصحاب الاتجاهات الفكرية في مسألتي: التراث والنهضة هي القراءة اليسارية، وبتعبيرٍ آخر كيف طرح أهل اليسار (أصحاب المنهج الجدلي الماركسي) منهجهم في قراءة التراث نقداً أو تفكيكاً، وكيف وظفوا تلك القراءة في التعامل مع مشروع النهضة المخفق وخاصةً بعد 1948 ثم اعتُرِف على الإخفاق في الحدث الحزيراني عام 1967.
ومن أهم تلك التساؤلات كيف نعيد بناء تراثنا؟ وحتى يكون الجواب شافياً، فإن القراءة هذه عادت لتقرأ مشروعين منفصلين في الزمن متفقين في النتيجة: هما الثورة التي لم تتحقق على أيدي أدعيائها ودعاتها، ومشروع التراث الذي لا يمكن الركون إليه على أنه ناجزٌ لا حديث فوقه، وأنه تاريخ الإبداعات الأولى المزامنة للوحي السماوي، وقد امتد بعضٌ من قدسيّة الوحي إلى قدسيّة الإنجازات التراثية ولا سيّما في مسألتي: الفقه وعلوم اللغة التي رافقت ذلك الفقه، وهنا كان لا بد من تساؤلٍ يقصي احتمالات التقديس والمهابة لذاك التراث، والسؤال قائمٌ على أساسٍ مفاده كيف يعاد بناء التراث بالشكل الذي يسوّغ له الدخول إلى طبيعة العصر؟ ليمارس دوراً مساهماً لا دوراً أحادياً فوق التاريخ والحاضر، وهنا يبدو التراث – بعد الإجابة – حالة بناءٍ في مفهوم الثورة وتأصيلها.
ويبدو أن المفكر الجابري كان ممن تاخم هذا المبحث فطرح آراءه من دون أن يميّز بين اليسارية وبين الماركسية في بنية الفكر السياسي العربي الحديث مؤكداً: “إن الفكر اليساري العربي المعاصر لا يتبنى – على تقديرنا – المنهج الجدلي لـ(التطبيق) بل يتبناه كمنهجٍ مطبق”.(12)
ويرى المفكر تيزيني في قراءة الجابري للقراءة اليسارية قراءةً لا تقوم على تفحصٍ للمتن الماركسي كفلسفةٍ نشأت في أوروبا، وهي الفلسفة الوحيدة التي ليست محض أوروبية، إنما هي فلسفةٌ جمعت الفكر التاريخي من المرحلة اليونانية إلى المرحلة الأوروبية الحديثة، وقد نشأ عنها منهجٌ قبل التوطين والتبيئة في أقطار العالم كله، ومما أخذه على الجابري مفهوم الخلط بين “مصطلحي: الماركسية واليسارية، أو بين اليسار العربي والتيار الماركسي العربي، بحيث يشير الأول إلى الثاني، وهذا إلى ذاك، وكأنهما حقلان متضايفان، “وفي كتابنا: من التراث إلى الثورة بحثنا في اليسار والتراث العربيين حيث توصلنا إلى ضرورة تشخيص هذا المصطلح وتخصيصه بعدة صيغٍ منها السلفوية اليسارية، وقد تبين لنا أنه ليس كل اليساريين العرب في موقفهم من التراث المذكور ماركسيين أو تبنوا المنهج الماركسي”.(13)
ومن الآراء التي اتخذت طريق الاعتدال والعقلنة في الموقف من الماركسية ما كتبه كمال أبو ديب: “ولعل أهم ما قدمته الماركسية أنها حاولت أن تشكل منظوراً لمعاينة الغرب، لا في إطار كونه “غربياً”، بل في إطار تجسيدٍ لمرحلةٍ تاريخية معينة من تطور علاقات الإنتاج وتتجسد فيها انشراخه وانقسامه على ذاته وضمن ذاته، وأن إدوارد سعيد يتحدث عن الشرق بالطريقة نفسها، ويتحدث عن الثقافة الشرقية بدلاً من الثقافات الشرقية”.(14)
ولدى معاينتنا للموقفين الآنفين يسهل أن نستنتج أن التعميم سمةٌ في تفكير الجابري، وأن التخصيص سمةٌ في تفكير التيزيني، وأن التعميم يوصل إلى الاضطراب الاصطلاحي، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء مفهوم التغاير في المواقف من التراث في الفكر العربي المعاصر، ويبدو أن المقولة المعروفة “قياس الغائب على الشاهد” كانت السمة السائدة للتعميم.
والنقطة الأخرى التي يمكن أن نركن إليها في البحث التراثي والمباحث النهضوية هو ما توصل إليه رجالات الفلسفة المعاصرون حول مفهوم العقل من دون أن يعلق بهذا المفهوم ما تشخّص في البحث التراثي من مفاهيم له، بمعنى أن العقل هنا مقولةٌ تعني النقد “بدأ المسلمون يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يتلمّسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون عندما بدأ العقل يسائل نفسه…، فالرأسمالية بنت العقلانية”.(15)
ولكن لم يشر صاحب هذا الرأي إلى الأسباب والكيفيات التي جعلت العرب يقبلون باستقالة عقولهم، ولم يشر أيضاً إلى المسوغات التاريخية التي جعلت العقل الأوروبي يسائل نفسه، وإن كان هذا الكلام يلق صدىً إيجابياً في مبحثنا هذا، إلا أننا نرى أن وضع اليد على المقدمات التاريخية لاستقالة العقل العربي كان هو الأجدى والأقرب إلى طبيعة البحث التراثي والنهضوي، ومن الواضح أن العرب – بعد أن انبهروا بالنموذج القرآني، وبالنماذج القرائية التي شكلت مرحلة المدونات والمصنفات للقرآن والحديث – خضعوا لسلطة النموذج، وهذه السلطة هي التي احتمت بها السلطة السياسية، وما تزال تحتمي، فتساوقت السلطتان في سلطةٍ واحدة حتى تم إخراج العقل الناقد من ساحة المعرفة.
ومما نراه رافداً معززاً لما نسوقه من رأي ما كتبه الباحث جورج طرابيشي في قضية استقالة العقل “قد نستطيع أن نحدد بمنتهى الاقتضاب طبيعة النظام المعرفي للعصور القديمة والوسيطة بأنه ينطلق على الدوام من أصلٍ أول، غالباً ما يخلع عليه صفة القداسة والوحي النبوي ثم يفرّع أو يقيس عليه، وهذا بالمضادة مع النظام المعرفي للأزمنة الحديثة الذي لا يعمل بمنطق التفريع والقياس، ولا يرتد إلى الأصل إلا ليفككه، ويستغني بحدسٍ أولي يحققه ويتحقق معه بالتجربة…. إن الأمس الأول لتوليد المعرفة في العصور القديمة والوسطى هو القياس، بينما هو في الأزمنة الحديثة التجريب“.(16)
ومن قضايا البحث التراثي والنهضوي قضية الاستشراق، وقد انقسم المفكرون حولها بحدةٍ أكثر من المسائل السابقة، لكن ظاهرة الإجماع أو شبه الإجماع تشير إلى اتهام المستشرقين بالعداء للتاريخ والثقافة العربيين، وأن الاستشراق بطبيعته موظفٌ لدى الدوائر السياسية العليا في الغرب، فما الاستشراق إذاً؟، حاول الدكتور كمال أبو ديب أن يجيب على هذا السؤال وهو يكتب مقدمة ترجمته لكتاب إدوارد سعيد. الاستشراق فيقول: “إنه ببساطة المادة التاريخية والحيز المميز من ثقافة الغرب اللذين يتناولهما بالتحليل، إنه المثل الذي يركز عليه منظوره التحليلي النقدي بوصفه “الخارجي” و “المقصى المستثنى” و “المستعرض الصامت” و المعجبة المثيرة.. إنه المعادل الفعلي للمادة التي تتمثل في نظام “فوكو” في الجنون أو المرأة.(17)
وقد كثر الحديث عن الاستشراق ومدارسه مما دفع باحثاً كهاشم صالح لإعداد كتابٍ تحت عنوان “الاستشراق بين دعاته ومعارضيه” وهو صادر عن دار الساقي عام 2000، ويذكر المترجم المعد كلاً من محمد أركون، مكسيم رودلسون، آلان روسيون، برنارد لويس، فرنسيسكو غابرييلي، كلود كاهين، ثم يخص المفكر محمد أركون بموقفٍ مستثنى من السياق، فهو – أركون – في صراعٍ أبستمولوجي مع الاستشراق “من الواضح أن علماء الإسلاميات المستشرقين ليسوا معتادين على الاصطدام بفكرٍ يكون إسلامياً ونقدياً في آنٍ معاً” وهكذا فإن آراء المستشرقين تشير إلى ما وراء لغاتهم على أنه مرتبطٌ بما وراء سياساتهم، وأن الردود العربية هي ردودٌ من أحد توجهين: الأول ردة فعلٍ سلفية قومية تقوم على الاتهام والرفض، والثانية هي رد الفعل الديني وتقوم على التكفير والمقاطعة.
وقد انبرى فريقٌ من الباحثين للكتابة في المجال النهضوي من خلال العودة إلى المباحث التراثية، متخذين من ظاهرتي: المصطلح والمنهج الغربيين أدواتٍ لأبحاثهم تساهم في إعادة القراءة لما قرأ غير مرة، مما جعلهم يعتمدون آفاقاً أخرى كأفق الانتظار والتأويل، والانتقال من سلطة المعنى إلى انفتاح التأويل…. فيرى الباحث التونسي مختار الفجاري: “أن أفق الانتظار مصطلحٌ نقدي يرجع إلى النظرية التأويلية الحديثة، فهو مفهومٌ يرى أن كلّ قراءة هي بحثٌ عن أجوبةٍ تخامر ذهن القارئ زمن القراءة، فهو بتعبير غادامر تطبيق المعنى على وضعيته الراهنة”.(18)
وأما قضية المصطلح فلقد تعثرت في الاعتراف بها وفي البحث عن حلًّ لها، وإن سبب التعثر يعود – على تقديرنا – إلى سلطة اللغة العربية المقدسة التي تحتمي بسلطة الوحي وما نتج عنه على أنها حالٌ من الكمال التاريخي الذي لا يقبل إضافةً أو بديلاً أو تعديلاً، فسلطة المنهج السلفوي بدأت مع مفكري النهضة الأوائل رفاعة الطهطاوي 1873-1801، ومحمد عبدو 1905-1849 حيث قاما بعملٍ ارتدادي كانت نتائجه سلبيةً على مبحث المصطلح – على الرغم من أهميتهما كرائدين تنويريين من رواد النهضة – وعندهما تستلب المصطلحات الغربية لصالح اللغة العربية وإحالة المفاهيم الغربية إلى مفاهيم إسلامية، فالديمقراطية هي الشورى، والتكافل الاجتماعي هو التضامن، والتمدن عند غيزو يغدو – بشكلٍ أو بآخر – العمران عند ابن خلدون، وأما مصطلح المنفعة عند جون ستيوارت مِل فيغدو الصالح العام، والرأي العام الديمقراطي، يغدو الإجماع في الرأي الإسلامي، وأما النواب في البرلمانات فيغدون “أهل الرأي”، ومدرسة الرأي تشكلت بعيد وفاة النبي كنقيضٍ لمفهوم الوصية التي أوصى بها النبي قبيل وفاته، هذه المدرسة أسسها عمر بن الخطاب وقد اجتمع عليه فتيان العهد الجديد الذين أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن موقعٍ ضمن المعادلة الجديدة. “الإسلام والمسلمون والملك”.
وما نزال في مسألة التأويل والفهم الذاتي، وهي قضيةٌ مختلفُ عليها في البحث التراثي الذي أعاد المفكرون العرب من بنيويين وماركسيين قراءته والبحث فيه، بعد أن استيقنوا من فشل مشروع النهضة، والغاية من هذه الإعادة أن يكون مشروع النهضة مشروعاً جديداً قائماً على النقد والتفكيك لا على الاستلاب والتسليم، ومن الخلافات القائمة في المدرسة المغاربية ما اختلف عليه الجابري مع أركون حول الهاجس الأساسي، فكان عند الجابري الكشف عن الثوابت البنيوية في الثقافة العربية، لقد حصرها في المكونات التالية…. المكون البياني الأصيل وروحه القياس، والمكون البرهاني من الغرب الإغريقي الذي نقله ابن رشد، والمكون العرفاني الوافد من الشرق وهو غنوصي فارسي، والغريب أن الجابري يراه عدواً تاريخياً للبرهان الإغريقي، والأغرب أنه يرى في العرفانية الفارسية سبباً للاستعمار الحديث، لأن “الاستعمار لم يجد عقلاً يواجهه” إذ يزعم الجابري أن العرفانية هي التي قتلت العقل.
وأما أركون فقد سعى إلى أن يحقق غايةً لم يجرؤ عليها أحد ممّن تصدّوا للبحث التراثي، وهي تحقيق تاريخية النص القرآني نفسه، ليبين أنه لا يوجد خطابٌ يقع خارج التاريخ ولا لغةٌ تستعلي على تاريخ البشر، وفي الوقت نفسه فإن التاريخية لا بد أنها تقف عند الحد الفاصل بين التدخل البشري في النص القرآني وبين النص نفسه، وقد بين أن التدخل بدأ عندما تحول القرآن إلى مصحف “القرآن هنا صار المدونة النصية” الرسمية المغلقة، وهذه المدونة استمدت قدسيتها من النص الموحى به فكأنها صارت نظيراً له، وفي مرحلةٍ تالية جاءت قضية التفسير، “التفسير تحيين الوحي“، فصار كل تفسيرٍ هو بمثابة تدخلٍ إضافي آخر ينضاف على النص، ومن هنا رأى أركون: “بات وجوباً نزع المقدس الباطل عن التفاسير” أي إدراج مشكلة التفسير البشري للنص الموحى به في عملية الفهم الإنساني، وفي إثر هذا تتحقق مسألة الغيرية.(19)
وإن كان أركون قد أكد على الفهم الذاتي فإن هذا الفهم قد وضع حداً فاصلاً بينه وبين المفكرين المغاربة، فهو ما يزال يرى فيه شرطاً لتحقيق التأويلية القائمة أساساً على الاختلاف.
رهانات النهضة
بعيداً عن العنوان الذي وضعه الباحث ماهر الشريف لكتابه “رهانات النهضة في الفكر العربي” الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر- دمشق عام 2000 – فإننا نرى أن العنوان الفرعي في بحثنا لا يتقيد بإيحاءاته في الكتاب المذكور، وإنما نشير من خلاله إلى أحلام النهضة التي كانت أكبر من إمكانات الحالمين، ومن هنا كان الانكسار كبيراً، ولعلّ الانكسار المذكور تبدى أكثر ما تبدى في الرواية، تلك الرواية التي كتبت في مرحلة المراجعة النقدية للفكر الاجتماعي السياسي النهضويين ولا سيّما بعد مرحلة 1948، وقد تكون أحلام النهضة مبررةً لولا أنها أحلام الاستعادة أي استعادة أزمنة الامتداد العربي من دولة الخلافة الأولى إلى سقوط بغداد 1258، وعلى الجانب الآخر كان هناك مشروعٌ عقلانيٌ أنجزه مجموعةٌ من المفكرين الذين قامت ثقافتهم على التركيب والتوليف الهارمونيين مع الثقافة العلمانية الغربية، وفي مقدمة هؤلاء شبلي شميّل 1917-1853 فكان أول من طرح فكرة التحول الاشتراكي للمجتمع، مع إيمانه العميق بالثورة البرجوازية الفرنسية 1789 على أنها تمثل مرحلةً من مراحل التطور التاريخي، وليست هي المرحلة الأخيرة، ومن وراء سطوره كانت تتضح قدرته على الربط بين الديمقراطية البرجوازية والتحول الاشتراكي العالمي، ومن مآثره أنه عمم على القرّاء بالعربية الثقافة الداروينية من حلال كتابه الجليل “فلسفة النشوء والارتقاء” ورغم اهتمامه بعلم التجريب – علم الطب- لم ينصرف عن الفلسفة اليونانية.
ولعلّ فرح أنطون 1922-1874 المنوّر العلماني أكبر مفكرٍ في هذا الطور، فقد انتقل من الأدب المسرحي إلى الفلسفة انتقالةً نوعيّة، أما أساس تلك الانتقالة فهو إحداث القطيعة مع التقاليد اللغوية المثقلة بالحمولات الأيديولوجية من السلفيتين القومية والدينية إلى فتح آفاقٍ مع الغرب العلماني الذي بات علم التجريب عنده هو الدين الجديد، وقد قال عنه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي: “إن فرح أنطون يعدّ نموذجاً للفيلسوف العربي المعاصر، أو بشكلٍ أدق للمفكر الحر الذي يهتمّ بمشاكل دينية وفلسفية، وكان منوّراً داعياً للإصلاح وانشغل أساساً بمشاكل الإنسان”، ومما تقدّم به أنطون على المتنوّرين مقولته: أنّ الثورة هي الحل، والثورة عنده ليست حدثاً فيزيائياً ينتهي دراماتيكياً، إنما هي تحوّلٌ في عمق الأمة الفكري والعقيدي واللغوي على مراحل، وعندما عاين مشكلات القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا تبين له أن الثورة الفرنسية غير قادرةٍ على الإيفاء بمتطلبات التقدم الاشتراكي أو الإنساني، وهنا يشير إلى نسبية الأحداث الكبرى في عصره وفي العصور التاريخية.
ولقد طرح أنطون فكرة الديمقراطية في وقتٍ مبكرٍ، على أنها الحل الحقيقي، وبالمقابل كان يرى في الاستعمار أسباب الشرور وأسباب الاستمرار في الاستبداد، ولم يخف أنه كان يصوغ بلداً مثالياً بعيداً عن جمهورية أفلاطون.
وقد نشر روايته الأولى “الدين والعلم والمال” (1903) مضمّناً إياها أفكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه، وفي الرواية تأكيدٌ على تلازم الفكر والعمل على أنهما يشكلان ركيزة الرقي والمدنية، ورغم وصفه للاشتراكية بأنها دين للإنسانية إلا أنه لم يتبنّ الصراع الطبقي كأساسٍ لها، ولم يشر إلى التناقض الرئيسي في العالم الحديث وهو بين العمل ورأس المال، وإنما كانت إشاراته ناتجةً عن فيضٍ معرفي حققه من ثقافة الغرب.(20)
ولا يمكن أن يذكر فرح أنطون إلا ويذكر معه المفكر الإسلامي وداعية الإصلاح محمد عبده 1905-1849 الذي وقف على يمين فرح أنطون، وكانت وقفته لازمةً تاريخية، بمعنى أن تغريبية أنطون فرضت توفيقية محمد عبده، وتوفيقيته كانت تميل نحو العقلانية أي لم يسلّم باستمرارية المد التاريخي لدولة الخلافة، ولم يسلّم بالاستسلام إلى الغرب.
ويعدّ أمين الريحاني 1940-1876 من أشدّ المنوّرين نصرةً لنظرية التطور في الشرق العربي، فيذكر “أن كل ما في العالم خاضعٌ لقانون النمو والاستحالة…” أما التغيرات الثورية فهي تحدث نتيجة الالتزام التدريجي لتغيرات داخلية، فالثورة ساعد التحول، وروح الثورة في قانون التحول والنمو، ويؤكد أن بين المادة والمكان والزمان صلةً لا تنفصم، وخاضعة لقانون توازي القوى وقانون الجذب والدفع، فالطبيعة لا تعرف توازناً مطلقاً وليس فيها انسجامٌ مطلق”.(21)
وقد آل مشروع النهضة بجوانبه الثلاثة…. التراثي، الغربي، القومي إلى التوفيقية، وخاصةً بعد أن تعاظم شأن الاستعمار ودخوله ساحة مصر والمشرق العربي ثم أقطار المغرب، مما أضعف موقف أصحاب التوجه العلماني لمفكري النهضة، وأحرجهم أمام السلفيين الخصوم الأيديولوجيين، مما شد من أزر الحل الإسلامي على أنه – الغرب – هو العدو الأول، وقد بحث طرفٌ ثالث في الحل فوجده في التوفيقية، ويرى الباحث محمد جابر الأنصاري: “ستبحث التوفيقية عن نقطة التقاءٍ أخرى هي محاولة إظهار التوافق بين العلم الحديث والأديان الكونية والطبيعية في القرآن الكريم، من ناحيةٍ أخرى ستتجاوز التوفيقية نظرتها المثالية خاصةً لدى سيادة الفكر الاشتراكي الثوري لتقيم الصلة مع الفلسفة المادية، وستمثل الوجودية نظراً لجمعها بين اتجاهاتٍ إيمانية وأخرى شكيّة نقطة الالتقاء بين المثالية والمادية”.(22)
وبما أن عصر النهضة عصرٌ هجين، كان لا بدّ أن يصل إلى هجانةٍ أخرى وهي الهجانة التوفيقية، وقد أسس لها المؤرخ أحمد أمين 1940-1876 عندما دعا إلى الإصلاح على أساسٍ إسلامي، وكان يقصد به: إضفاء التدين على العقل، وإضفاء العقل على الدين، وفي هذا دفاعٌ مستترٌ عن هيمنة الدين على العقل، لكنه في موسوعته ضحى الإسلام قد رسّخ الرواسخ، وشدّ التقدم إلى الوراء، وعلى الرغم من أهمية الكتاب، إلا أنه تأسيسٌ لاستمرار التراثية.
ومن المفكرين المعاصرين الذين حملوا راية النقد العقلاني واتجهوا باتجاه النقد العميق للتراثية الإسلامية المفكر نصر حامد أبو زيد، فكان يرى: “أن الفكر الإسلامي قد دخل في مرحلة ركود منذ القرن الخامس الهجري تقريباً، بحكم الظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى الجمود الاجتماعي والسياسي، لكن العقل الإسلامي ظلّ عاجزاً، وأن أعلام النهضة ركزوا جلّ اهتمامهم على قضيّةٍ واحدة هي نفي وجود تعارض بين الإسلام والمدنية الحديثة”.(23)
إن الانشغال الذي تحدث عنه أبو زيد قد أضاع الفرصة التاريخية للدخول في العصر، فما دام العرب محكومين بسلطة النموذج الإسلامي، وما داموا مقتنعين بقدرة هذا النموذج كفكرٍ وكسلطة على التواصل مع العصر، فإن الخروج من التاريخ ما يزال قائماً، فالتاريخ المعاصر لا يمكن أن يقبل أستاذية العصور الوسطى، وأنه لا بد أن يقتنع العرب أن تطور الشرق الاجتماعي والاقتصادي والفكري يخضع عموماً للقوانين نفسها التي يخضع لها تطور العالم وعلى الأخص الغرب، وتبدو خصوصية سوريا ومصر في انتقالتهما من الإقطاعية إلى الرأسمالية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا الرأسمالية ما قبل الاحتكارية تنتقل إلى بداية عصر الإمبريالية خصوصية فارقة، هذه الخصوصية ألغت – باعتقادنا – الادعاء السلفي بأن التاريخ العربي الإسلامي ما يزال قادراً على الحضور في الأبنية الحديثة.
لقد غلب الخطاب الأيديولوجي عند السلفية الإسلامية وعند السلفية القومية، وعند دعاة القومية العربية المتنورين المعتدلين على الخطاب الأبستمولوجي، فالتوفيقية المستعادة كانت بمواجهة المشروع العلماني، وهي مشروعٌ جديد لإعادة التصالح بين الوحي والعقل، في حين نهض الخطاب الأبستمولوجي عند العلمانيين بعد إزاحة الأيديولوجية السلفية.
صلاح الدين احمد يونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
نقلاً عن “تاريخ الأقطار العربية” – دار التقدم – موسكوجـ 1 ص 72-74.
ميخائيل نعيمة الغربال – مؤسسة نوفل ط 10- 207.
تيزيني – طيب – الاستشراق الغربي والاسغراب المغربي – ص 146 دار الذاكرة حمص- 1996.
عابد الجابري – محمد – تكوين العقل العربي – ص 17.
جورج قرم – مجلة دراسات عربية – بيروت ك2 – 1980 – ع3 ص44.
الخطاب العربي المعاصر – الجابري – بيروت – دار الطليعة – ص 10 -9
طيب تيزيني – الاستغراب المغربي – الفصل السابع – ص 143-142 مصدر سابق
المصدر السابق ص 145
المصدر السابق ص 156
صادق جلال العظم – الاستشراق والاستشراق معكوساً –دار الحداثة ط1 1981- لبنان ص 6-5.
الاستشراق – إدوارد سعيد – ترجمة كمال أبو ديب 1981 ص 37
الجابري – نحن والتراث مصدر سابق ص 11
تيزيني الطيب – من التراث إلى الثورة – ط3 ص 166-159
ترجمة كمال أبو ديب لكتاب إدوارد سعيد الاستشراق – المقدمة ص 6
الجابري – تكوين العقل العربي – ص 147
جورج طرابيشي – العقل المستقيل في الإسلام – دار الساقي 2004 ص 259-258
إدوارد سعيد – الاستشراق – ترجمة كمال أبو ديب – مؤسسة الأبحاث العربية ط1 ص4 1981
الفجاري – مختار – الفكر العربي الإسلامي من تأويلية المعنى إلى تأويلية الفهم – عالم الكتب – الأردن 2009 ص 252
للتوسع في هذه الآراء يمكن العودة إلى كتاب أركون الإسلام نقد واجتهاد
راجع ما كتبه المستشرق الروسي أ.ز. ليفين – الفكر الاجتماعي والسياسي في سوريا ومصر – ترجمة بشير سباعي دار ابن خلدون ص 251-245 1978.
المصر السابق من 251-250 – بتصرف
محمد جابر الأنصاري – الفكر العربي وصراع الأضداد – المؤسسة العربية للدراسة والنشر – ط2 – ص194-1999.
نصر حامد أبو زيد – تجديد الفكر الإسلامي – جريدة الحياة اللندنية -7-6 نيسان 1995.
صلاح الدين احمد يونس
دكتوراه فلسفة في علم اللغة المقارن - محاضر في جامعة دمشق وعدة جامعات عربية