د. زياد العوف - سعيد حورانيّة وفنّ القصّة

حظيَ المقال النقديّ الذي نشرتُه أمس تحت عنوان " فنّ القصة القصيرة" باهتمام كبير لدى الأصدقاء والمتابعين على صفحات التواصل الاجتماعي . وقد تجلّى ذلك بالثناء على مضمون المقال والتعليق عليه وكذلك بطلب كتابة مقالات أخرى ، بغية توضيح الأسس والمفاهيم التي وردت فيه من خلال الأمثلة القصصيّة المناسبة لها .
مقالي هذا يأتي إذاً في هذا السياق .
يُعَدُّ الكاتب السوري الراحل ( سعيد حورانيّة ١٩٢٧-١٩٩٤)
واحداً من أهم الكتّاب المؤسسين لفن القصة القصيرة بمعناها الدقيق، ليس في سوريّا وحدها بل في الوطن العربيّ كلّه .
لقد لمع نجم هذا القاصّ المتألق مع بداية الخمسينيّات من القرن الماضي . وبعيداً عن التوصيفات النقديّة الحادّة فقد كان( سعيد حورانيّة) كاتباً واقعيّاً بكلّ المعنى العميق للمصطلح؛ إذ كان يرى في ( الأدب) مجالاً خصباً لوصف الواقع وتحليله وبيان ما يحفل به من تناقضات ومفارقات ، وفضح ما يعتريه من آفات وعلل اجتماعية واقتصادية وسياسية .فكان فنّه القصصي الراقي معرضاً معبّراً عن ذلك كلّه بأصدق وأبلغ تعبير .
لقد تعرّض هذا الكاتب الكبير- كغيره من الكتّاب الكبار أصحاب المُثُل والقضايا الإنسانيّة-إلى حملات التشهير والقدح والذّم والاضطهاد المادي والمعنوي من القريب والبعيد على السواء . إلاّ أنّه مضى في طريقه الذي اختطّه لنفسه ، غير آبه بذلك كلّه ، إلى أنْ وافاه الأجل المحتوم ، تاركاّ وراءه
إرثاً أدبياً قيّماً مخلّداً ذكراه :كاتباً كبيراً ومناضلاً شجاعاً وإنساناً أبيّاً .
أُورد فيما يلي مقاطع مختارة من رائعته القصصيّة الفائزة بالجائزة الأولى في المسابقة التي أجرتها مجلّة( النقَّاد) السورية ،عام( ١٩٥١) والتي تحمل عنوان
" الصندوق النحاسيّ "*
تروي القصة على لسان بطلها وقائع النضال اليومي الدؤوب الذي تخوضه الأم من خلال عملها الشّاق المتمثّل في العمل المنزلي وغسيل الملابس ، لتأمين حاجيات ومستلزمات حياتها مع ابنها الذي تطمح بأن يغدو طبيباً مشهوراً ينتشلها من الفاقة والمهانة ، وتصعد وإيّاه السلّم الاجتماعي، ملقية وراءظهرها كلّ ضروب العناء والمذلّة . إلا أنّ ابنها( الانتهازي) كان يرى الحياة بمنظور مختلف تماماً....
جاء في فاتحة القصّة :
" ها أنا أعود بعد أنْ نفضتُ يدي من تراب أمّي .
كنتُ أسير وئيداً وأتلفّت حواليّ بحذر، ثمّ رفعتُ طرف سروالي لأمسح حذائي بجوربي لأخلص من تراب المقبرَة..
كيف هربتُ هكذا بعد الجنازة؟ ماذا يقول الناس ؟ إلى الجحيم بأقاويلهم.. أخذتُ أنظر إلى بريق الحذاء بارتياح...
وفي مقطع آخر :
" والآن، مات الشخص الوحيد الذي يربطني بذكرياتي وحياتي الماضية، وذكرى تلك الأيام التاعسة، البطيئة، القاتلة.
أيام كنتُ صغيراً ذليلاً أقف أمام البيوت أطرقها بيد شقّقها البرد لأسأل عن أمّي .
ووجدتني أردّد من أسناني " إلى المقبرة تلك الأيام" .
لقد كانت أمّي بكلّ بساطة، غسّالة ! غسّالة ! حقيرة في بؤرة من بؤر حيّ ( الميدان) .
وفي مقطع آخر :
" وعندما كنتُ أعود من المدرسة إلى بيتنا الفقير الخاوي من كلّ ما يملأ البطن ، كنتُ أدور عليها في بيوت الحارة حتى يستوقفني صوت :
- ابن الغسّالة.. ابن الغسّالة.. أمكَ عندنا .
وأدخل بيتاً غريباً فيه أحياء يتحرّكون بدون عيون، لأنني لم أشعر ذات يوم أنّهم نظروا إليّ أو أحسّوا بي .. وأحمل فضلات الطعام التي يطعمونها لأمي وأخرج وأنا مختنق، متعَب ، مشمئزّ كأنّما أحمل على ظهري أكداساً من القاذورات . ومن هذا العمل الدؤوب .. كنتُ أحمل محفظتي صباحاً وأذهب إلى المدرسة.. مفكّراً بالمستقبل.. بانياً الخطط وأنا أرى نفسي معزولاً وحيداً أمام قوى العالم .. وكانت أمي تقول لي :
- مادام في هذا الجسم ذرّة من روح فستتعلّم .. أريد أنْ تصبح دكتوراً . لقد ماتتْ أختك لأنّ الدكتور رفض أنْ يطبّبها بدون أجرة .. أريدك دكتوراً يرفع الرأس .
وفي مقطع لاحق :
" ومشيتُ في طريق الحياة ، مسلّحاً بالغرور واحتقار الناس..
ألستُ ذكيّاً ؟ ألستُ عبقريّاً؟ إنّ درجاتي تنبئ بذلك .. ماذا يضرُّ إذا كانت لي أمٌّ جاهلة غبيّة كهذه الأم .. ألم أسمع عن
الزهرات التي تنبت في الوحل وتمتصُّ منه غذاءها ؟
وفي مقطع آخر حيث يمتزج الحزن على وفاة الأم بصحوة متأخرة جدّاً لضميره الميّت ، يقول الابن العاقّ :
"... أوه كم كانت طيّبة ونقيّة هذه العجوز الفانية . وخُيّل إليّ
أنّني أتمنى أنْ أراها وأن أضمّها إلى صدري فرحاً بتعلّمها الكتابة ، وأنْ أقبّلها على خدّها الأجعد وألمح السرور في عينيها .. وغمغمتُ :
- مسكينة لقد ماتت ولن ترجع إلى الأبد .
وجاء في المقطع الأخير :
" عدتُ إلى الغرفة ودموعي تتساقط في صمت ، وجلستُ على السرير مطرقاً ، ولمع شيء تحت مقعد في آخر الغرفة
فاسترعى انتباهي ، ولمّا أخرجته وجدته صندوقاً صغيراً ، تذكّرت أنّ أمي كانت تضع فيه حوائجها الخاصّة ، وكان ضوء
الغرفة يقع على على معدنه الرخيص الصدئ فيبدو كامداً عتيقاً كأنّه قبر نحاسيّ ، واعتراني شيء من الوجل وأنا أفتحه.
ووقفتُ أحدّق في دهشة وذهول في محتويات الصندوق ،
بينما حاولتُ الابتسام من خلال دموعي ووجدتني أشهق من
أعماقي .
لم يكن في الصندوق سوى صورة لشاب يشبهني، وأظنّ أنّه أبي... شيء آخر، وغصصتُ بريقي .. حذاء صغير وسخ .
هو نفس الحذاء القديم الذي كنتُ ضربتها به يوماً في إحدى ثوراتِ غضبي " .
* أصدر الكاتب الراحل ثلاث مجموعات قصصية، هي
١- ( وفي الناس المسرّة ، ١٩٥٣)
٢- ( شتاء قاسٍ آخر ، ١٩٦١)
٣- ( سنتان وتحترق الغابة ، ١٩٦٤)
هذا... وقد أصدرتْ وزارة الثقافة السورية
( الأعمال القصصية الكاملة ) للكاتب سعيد حورانية .
في مجلّد واحد ، عام ( ٢٠٠٥ ) .

دكتور زياد العوف
أعلى