زار الباحث المصري محمود محمد الطناحي المغرب للمرة الثانية في أواسط سنوات السبعين من القرن الماضي ، زيارة علمية دامت ستة أشهر، اطلع خلالها على ما تزخر به المكتبات العامة والخاصة من ذخائر الكتب ونوادر المخطوطات سواء في الخزانة الملكية والخزانة العامة بالرباط ، أو في خزانة جامع القرويين بفاس ) مفخرة البلاد المغربية على الإطلاق بتعبير الباحث ) ، أو في المكتبة العامة والمخطوطات بتطوان. وتعرف أثناء إقامته على نخبة من العلماء والأدباء المغاربة من أجيال مختلفة ، واهتمامات متنوعة ، رأى الكاتب أن يصنفها إلى ثلاث طبقات :
ـ الطبقة الأولى هي تلك التي " تخرجت في القرويين ، واتصلت بالتراث في أصوله الأولى ومنابعه النقية .. ويمثل هذه الطبقة أعلام ثلاثة هم : محمد المنوني ومحمد إبراهيم الكتاني ومحمد العابد الفاسي ، وقد عرف من فحول هذه الطبقة : عبدالله كنون وسعيد أعراب ومحمد داودومحمد بن تاويت ( التطواني ) وعبدالله الجراري ومحمد الفاسي ومحمد بن العباس القباج .. وغيرهم .
ـ الطبقة الثانية : هي طبقة أصابت من مائدة القرويين العامرة ، ثم اتصلت بالمناهج الحديثة ، وحصلت على أرقى الشهادات الجامعية ، ويذكر منها الأساتذة : محمد بنشريفة وعباس الجراري وعبدالسلام الهراس ..
ـ الطبقة الثالثة : ويمثلها كتاب الرواية والقصة والمسرحية والشعر الحديث . يذكر الكاتب منهم الأسماء الآتية : عبدالكريم غلاب وإدريس الخوري وعبدالكريم برشيد ومحمد الصباغ و حسن الطريبق وأحمد المجاطي وعبدالكريم الطبال ومحمد السرغيني ومحمد بن ميمون ( الميموني). والملاحظ أنه يذكر من اتصل بهم وتعرف عليهم من الأدباء والشعراء المغاربة. يقول : " ولا شك أن هناك كثيرين غير من ذكرت ممن عرفت خلال رحلتي الاثنتين." وقد نشر بعد زيارته العلمية هاته ، دراسة مستفيضة حول موضوع التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب ، بعنوان " التراث العربي في المغرب وقضية التواصل بين المشرق والمغرب " ، وذلك في مجلة " الثقافة " ( المصرية ) ، السنة الثالثة ، عدد 28 ، يناير 1967 ، ( ج 2 ) ، ص : 79 ، والجدير بالإشارة أن مجلة " دعوة الحق " أعادت نشر الدراسة كاملة أيام كان يشرف عليها الصديق الأستاذ عبدالقادر الإدريسي . قد سجل فيها خلاصة كل ما اطلع عليه من الثقافة المغربية الغنية في شتى مجالاتها، وما تعرف عليه من طبقات أدبائها ومثقفيها. وسأنقل فيما يلي بعض الفقرات من هذا البحث الهام التي يرصد فيها هذه القضية : " وهذه الطبقات الثلاث من علماء المغرب تواصل إنتاجها بثراء وغزارة ؛ ويجمعها عتاب شديد على أدباء المشرق لإعراضهم وتجافيهم عما تنتجه القرائح المغربية . وهذا العتاب يأتيك هامساً رقيقاً من طبقة الشيوخ ، وتسمعه صاخباً غاضباً من طبقة الشباب. فعلى حين يرى الشيوخ أن هذا الإعراض والتجافي ، إنما جاء نتيجة عوامل اصطنعت في الأمة العربية اصطناعاً ... يرى الشباب أنهما ـ الإعراض والتجافي ـ نغمة من مقام التفوق الثقافي الذي يحس به المشارقة نحو المغاربة ، وآية ذلك هذا السيل من الكتب التي تحمل عناوين توحي بالشمولية ، مثل " دراسات في الشعر العربي المعاصر " من مصر ، و " الشعر العربي الحديث وروح العصر " من العراق ، و " في الشعر العربي المعاصر " من سوريا ، ثم تقرأ هذه الكتب ، فلا ترى فيها أثراً لشاعر من شعراء المغرب. وقد كتب أحد هؤلاء الأدباء الشباب ، يرد على الشاعر السوري بندر عبدالحميد كلمته التي نشرها بجريدة الثورة السورية عن التجربة الشعرية في المغرب ، واتهامها بالانطواء والعزلة ، ومما قاله : " وأحب أن أقول للسيد بندر عبدالحميد : إن المثقفين المغاربة من أشد الناس حرصاً على الاطلاع على النشاط الثقافي في كل الأقطار العربية ، وأنهم يلتهمون كل ما يصل إلى المغرب من كتب ومجلات وصحف عربية ، وأنهم يتمثلون كثيراً من التيارات الجديدة ، سواء في القصة أو المسرح أو الشعر ، وأن التجربة الحديثة لدينا تمتح من جميع الاتجاهات ، سواء منها العربية أو الأجنبية .. وهناك العديد من الأبحاث الجامعية التي تنجز في الجامعة المغربية تتضمن أعمال أدباء معاصرين ، سواء من مصر أو من سوريا أو من العراق " أو غيرها من الأقطار العربية الأخرى. ويعلق الباحث محمود الطناحي على صاحب الرد على بندر عبدالحميد ، قائلاً : " وهذا الذي قاله حق كله : وقد وقفت على إماراته وشواهده في كل البلدان المغربية التي زرتها ، فالمكتبات عامرة بآثار المشارقة ، وإحالات الأساتذة الجامعيين وغيرهم من الباحثين على أدباء المشرق تملأ حواشي كتبهم ، وعلى الجانب الآخر انظر ما يكتبه بعض المشارقة من دراسات أندلسية أو مغربية ، وسترى خلطاً كثيراً واضطراباً بيناً، أدى إليهما قلة معرفة بالمراجع المغربية الأصيلة ، وعدم متابعة لما يجري في الساحة المغربية من نشاط أدبي وفير ... وإذا كانت الأمة العربية تشترك كلها مشرقاً ومغرباً في مسؤولية التواصل هذه ، فإني أشهد أن المغاربة لم يقصروا، وما برحوا يمدون بصرهم إلى المشرق ..
والحق أن لمصر في الوجدان المغربي رصيداً ضخماً من الحب والإعزاز ، تراه أنى سرت وحيثما توجهت ؛ وقد رأيت من تعلق المغاربة بكل ما هو مصري ما لا يبلغ كنهه وصف واصف ، ولا يسوء القوم إلا أننا نجهل عنهم الكثير ، ولقد قال لي عالم مغربي كبير : " إننا نعرف عنكم كل شيء ، وأنتم لا تعرفون عنا أي شيء "
هذه شهادة أحد العلماء الأجلاء في حق المغرب المنفتح على الآخر العربي بدون أي عقدة من عقد التفوق.
د. عبد الجبار التهامي العلمي
* جريدة " الشمال " الزاهرة ليوم السبت 13 غشت 2022 م.
ـ الطبقة الأولى هي تلك التي " تخرجت في القرويين ، واتصلت بالتراث في أصوله الأولى ومنابعه النقية .. ويمثل هذه الطبقة أعلام ثلاثة هم : محمد المنوني ومحمد إبراهيم الكتاني ومحمد العابد الفاسي ، وقد عرف من فحول هذه الطبقة : عبدالله كنون وسعيد أعراب ومحمد داودومحمد بن تاويت ( التطواني ) وعبدالله الجراري ومحمد الفاسي ومحمد بن العباس القباج .. وغيرهم .
ـ الطبقة الثانية : هي طبقة أصابت من مائدة القرويين العامرة ، ثم اتصلت بالمناهج الحديثة ، وحصلت على أرقى الشهادات الجامعية ، ويذكر منها الأساتذة : محمد بنشريفة وعباس الجراري وعبدالسلام الهراس ..
ـ الطبقة الثالثة : ويمثلها كتاب الرواية والقصة والمسرحية والشعر الحديث . يذكر الكاتب منهم الأسماء الآتية : عبدالكريم غلاب وإدريس الخوري وعبدالكريم برشيد ومحمد الصباغ و حسن الطريبق وأحمد المجاطي وعبدالكريم الطبال ومحمد السرغيني ومحمد بن ميمون ( الميموني). والملاحظ أنه يذكر من اتصل بهم وتعرف عليهم من الأدباء والشعراء المغاربة. يقول : " ولا شك أن هناك كثيرين غير من ذكرت ممن عرفت خلال رحلتي الاثنتين." وقد نشر بعد زيارته العلمية هاته ، دراسة مستفيضة حول موضوع التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب ، بعنوان " التراث العربي في المغرب وقضية التواصل بين المشرق والمغرب " ، وذلك في مجلة " الثقافة " ( المصرية ) ، السنة الثالثة ، عدد 28 ، يناير 1967 ، ( ج 2 ) ، ص : 79 ، والجدير بالإشارة أن مجلة " دعوة الحق " أعادت نشر الدراسة كاملة أيام كان يشرف عليها الصديق الأستاذ عبدالقادر الإدريسي . قد سجل فيها خلاصة كل ما اطلع عليه من الثقافة المغربية الغنية في شتى مجالاتها، وما تعرف عليه من طبقات أدبائها ومثقفيها. وسأنقل فيما يلي بعض الفقرات من هذا البحث الهام التي يرصد فيها هذه القضية : " وهذه الطبقات الثلاث من علماء المغرب تواصل إنتاجها بثراء وغزارة ؛ ويجمعها عتاب شديد على أدباء المشرق لإعراضهم وتجافيهم عما تنتجه القرائح المغربية . وهذا العتاب يأتيك هامساً رقيقاً من طبقة الشيوخ ، وتسمعه صاخباً غاضباً من طبقة الشباب. فعلى حين يرى الشيوخ أن هذا الإعراض والتجافي ، إنما جاء نتيجة عوامل اصطنعت في الأمة العربية اصطناعاً ... يرى الشباب أنهما ـ الإعراض والتجافي ـ نغمة من مقام التفوق الثقافي الذي يحس به المشارقة نحو المغاربة ، وآية ذلك هذا السيل من الكتب التي تحمل عناوين توحي بالشمولية ، مثل " دراسات في الشعر العربي المعاصر " من مصر ، و " الشعر العربي الحديث وروح العصر " من العراق ، و " في الشعر العربي المعاصر " من سوريا ، ثم تقرأ هذه الكتب ، فلا ترى فيها أثراً لشاعر من شعراء المغرب. وقد كتب أحد هؤلاء الأدباء الشباب ، يرد على الشاعر السوري بندر عبدالحميد كلمته التي نشرها بجريدة الثورة السورية عن التجربة الشعرية في المغرب ، واتهامها بالانطواء والعزلة ، ومما قاله : " وأحب أن أقول للسيد بندر عبدالحميد : إن المثقفين المغاربة من أشد الناس حرصاً على الاطلاع على النشاط الثقافي في كل الأقطار العربية ، وأنهم يلتهمون كل ما يصل إلى المغرب من كتب ومجلات وصحف عربية ، وأنهم يتمثلون كثيراً من التيارات الجديدة ، سواء في القصة أو المسرح أو الشعر ، وأن التجربة الحديثة لدينا تمتح من جميع الاتجاهات ، سواء منها العربية أو الأجنبية .. وهناك العديد من الأبحاث الجامعية التي تنجز في الجامعة المغربية تتضمن أعمال أدباء معاصرين ، سواء من مصر أو من سوريا أو من العراق " أو غيرها من الأقطار العربية الأخرى. ويعلق الباحث محمود الطناحي على صاحب الرد على بندر عبدالحميد ، قائلاً : " وهذا الذي قاله حق كله : وقد وقفت على إماراته وشواهده في كل البلدان المغربية التي زرتها ، فالمكتبات عامرة بآثار المشارقة ، وإحالات الأساتذة الجامعيين وغيرهم من الباحثين على أدباء المشرق تملأ حواشي كتبهم ، وعلى الجانب الآخر انظر ما يكتبه بعض المشارقة من دراسات أندلسية أو مغربية ، وسترى خلطاً كثيراً واضطراباً بيناً، أدى إليهما قلة معرفة بالمراجع المغربية الأصيلة ، وعدم متابعة لما يجري في الساحة المغربية من نشاط أدبي وفير ... وإذا كانت الأمة العربية تشترك كلها مشرقاً ومغرباً في مسؤولية التواصل هذه ، فإني أشهد أن المغاربة لم يقصروا، وما برحوا يمدون بصرهم إلى المشرق ..
والحق أن لمصر في الوجدان المغربي رصيداً ضخماً من الحب والإعزاز ، تراه أنى سرت وحيثما توجهت ؛ وقد رأيت من تعلق المغاربة بكل ما هو مصري ما لا يبلغ كنهه وصف واصف ، ولا يسوء القوم إلا أننا نجهل عنهم الكثير ، ولقد قال لي عالم مغربي كبير : " إننا نعرف عنكم كل شيء ، وأنتم لا تعرفون عنا أي شيء "
هذه شهادة أحد العلماء الأجلاء في حق المغرب المنفتح على الآخر العربي بدون أي عقدة من عقد التفوق.
د. عبد الجبار التهامي العلمي
* جريدة " الشمال " الزاهرة ليوم السبت 13 غشت 2022 م.