-5-
الإخوان المسلمون هم الجماعة السياسية الأطول عمرًا، والأوسع حضورًا والأشدّ تأثيرًا في مصر والبلاد العربية. حسن حنفي من أكثر المفكرين درايةً بالإخوان وخبرةً بنشأتهم وأدبياتهم ومواقفهم ومسيرتهم العملية، وهو الأغزر كتابةً عن الحالة الدينية في مصر، ربما لا نجد كتابًا له إلا ويتطرق للدين والتديّن وأحيانًا يكتب عن ذلك بشكل مستفيض. في كلِّ ما قرأتُ من كتاباته عن الإخوان كان يتحدث بلغة اعتذارية، تحاول بأساليب ذكية تبريرَ مواقفهم، وإدانةَ خصومهم، وتكرارَ الكلام عن “سيكولوجية الاضطهاد” التي تعرضوا لها كحركةٍ سياسية جماهيرية، شديدةِ الإيقاع واسعةِ الحضور في مؤسسات المجتمع المتنوعة. يصف حسن حنفي تأثيرَ السجن والتعنيف والغبن الذي تعرضت له الجماعةُ بقوله: “وغلب على فكرها سيكولوجية الاضطهاد، فنشأ فكر إسلامي معاد للواقع، غاضب، يبغى الانتقام. يستعمل الإرادة الإلهية، كالسيف على رقاب الناس. وانقسم العالم عندهم إلى أبيض وأسود، إلى إسلام وجاهلية، لا يتعايشان بل يدمر أحدهما الآخر. وتقود هذه العملية الصفوة المؤمنة، عن طريق تغيير السلطة”[1]. هذا الكلام يتضمن اعترافًا صريحًا لحنفي برؤيةِ الجماعة المغلقة للعالَم، والنزعةِ الحادة المتطرّفة في تفكيرهم، وتصنيفِهم الخاطئ للمجتمع المسلم إلى “إسلام وجاهلية”، لكن حنفي يعود في موارد كثيرة من كتاباته ليبجلَهم، ويفتعلَ دورا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا استثنائيا اضطلعوا به في مصر. لا يتحدّث حسن حنفي عن استنزافِ الجماعة للتديّن التقليدي وإنهاكِ الحياة الروحية والأخلاقية في المجتمعات المسلمة، وما أحدثته هذه الجماعةُ من ثغرات بنيوية في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة، وهيمنتِها على الجمعيات الخيرية والمساجد ومختلف المؤسسات المجتمعية. تديّنُ الإخوان عمل على تجفيف منابع التديّنِ الشعبي الموروثِ منذ عصر الرسالة، والمتجذّرِ في المجتمعات الإسلامية، والذي استطاعت بنيتُه الراسخة أن تمنح حياةَ الأفراد والمجتمعات معنىً روحيا وأخلاقيا للدين يواكب إيقاعَ تطور المجتمعات والهويات المحلية، ويتناغم والواقعَ المتغير. تديّن الإخوان ينطلق من عقيدةٍ ترسختْ في وعيهم نشأتْ من آراء سيد قطب الصريحة بـ : “أنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي”[2]. والحكم بأنه: “ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظلّ فريق منها يردد على المآذن لا إله إلا الله”[3]. في هذا السياق يخترع سيد قطب مفهومًا لكلٍّ من المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي، حتى ما نراه مجتمعًا مسلمًا يرى سيد قطب أنه: “يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة… لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الإطار، لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتهــا… فهي – وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله – تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها، وتقاليدها… موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلّها يتحدد في عبارة واحدة: أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها”[4]. هذه العقيدة دفعت الإخوانَ للعمل على استبدال التديّن الشعبي الرحيم بتديّن مصطنع، تديّنٌ غطاؤه سياسي مضمونُه سلفي، تديّنٌ أحدث تناشزًا مع البيئة المجتمعية، واغترابًا للمسلم العضو في هذه الجماعة عن عائلته ومجتمعه وبيئته، تديّنٌ كلامي مغلَق وفقهي متشدّد أفقرَ حياةَ المسلم للمعنى الروحي والأخلاقي، وغاب به المعنى الديني المُتآلف مع اختلافِ المجتمعات وتنوعِ طرائق عيشها وهوياتها الثقافية والاثنية.
لا يقف حسن حنفي طويلًا عند ما أحدثته جماعةُ الإخوان من تشظٍ في البنية الدينية لمصر ومجتمعات أخرى مسلمة، وتصادم تديّنُهم المصطنع بغطائه السياسي ومضمونه السلفي والتديّن الشعبي التقليدي، والانقسام المجتمعي الذي خلقه هذا النمطُ من التديّن. يتغافل حنفي عن الآثار الموجعة لدعوةِ الجماعة وفكرِهم وانتشارِهم الواسع في مصر وعالم الإسلام، كأنه لا يدري أن المدارسَ ومعاهدَ التعليم والجامعات، من الروضة إلى الدراسات العليا، في السعودية ودول الخليج، وقبل ذلك في مصر وغيرها من الدول العربية، لبثت أكثرَ من نصف قرن خططُها التربوية والتعليمية أسيرةً للإخوان المسلمين.كانوا هم مَنْ يضع أسسَها، ويرسم خارطتَها، ويؤلّف مقرراتِها، ويحدّد مدخلاتِها ومخرجاتِها. يجري ذلك في أفقِ رؤيتهم للعالَم، وتديّنِهم السياسي الذي يظهر في السلوك ومختلف المواقف بتديّنٍ سلفي مغلَق متشدّد، تشبّع فيه مَنْ أقام منهم في هذه البلاد، بعد تفاعلِهم مع المذهب الحنبلي وانبهارِهم بأفكار ابن تيمية وتقليدِهم لمقولاته الاعتقادية وعملِهم بفتاواه الفقهية.
تنامى عاجلًا حضورُ الإخوان في التربية والتعليم في هذه البلاد، بعد هجرة المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات، أيامَ اضطهادهم زمن الرئيس جمال عبد الناصر، بأعداد ليست قليلة، منذ خمسينيات القرن الماضي فصاعدًا إلى السعودية ودول الخليج، وسقوط العملية التربوية والتعلمية في هذه البلاد بأيديهم. في ذلك الوقت كانت هذه البلادُ تفتقر للمعلمين والمدرسين من مواطنيها، فاضطرت لتسليم كلِّ شيء في المدارس بمختلف مراحلها لهم، وتمت صياغةُ كلِّ شيء ليجسّد أمانيهم ويعبِّر عن غاياتهم ويعكس تفكيرَهم. نتج عن ذلك تفشي التيار السلفي بشكل سريع في مجتمعات عالَم الإسلام، منطلِقًا من البلاد التي تحكّم فيها الإخوانُ بالتربية والتعليم، ومستثمرًا شيئًا من فائض الثروة الذي تراكم بالتدريج بعد حرب اكتوبر 1973وارتفاع أسعار البترول.
لا يكثرث حنفي بالكشف عن تناسل الجماعات المسلحة من أدبيات الإخوان، وبخاصة كتاب “معالم في الطريق” ومسؤولية أفكار سيد قطب عن ذلك. في أكثر من مناسبة يذكِّر حسن حنفي القراء باقتران لحظة ارتباطه بالإخوان بسيد قطب. يقول: (دخلت الإخوان سنة 1951 في نفس الفترة التي دخلها سيد قطب تقريبًا. وتأثرت جدًا بـ “العدالة الاجتماعية في الإسلام” و”معركة الإسلام والرأسمالية”)[5]. في كتابه “الحركات الدينية المعاصرة”، الذي هو الجزء الخامس من سلسلة “الدين والثورة في مصر”، جاء الفصل الرابع بعنوان: “أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة”، واحتل أكثر من 130 صفحة من كتاب لا يتجاوز 342 صفحة. لم أقرأ كاتبًا من مريدي سيد قطب أو خصومِه يخلع عليه لقبَ “الامام الشهيد” غير حسن حنفي. “الامام” لقبٌ ديني يُطلق في الإسلام على مؤسّسي المذاهب ومجتهديها، ويُطلق على أئمة أهل البيت. في تاريخنا القريب حدث توسعٌ في إطلاقه، لكن لم أقرأ أو أسمع من يطلقه على أمثال سيد قطب، ممن لم يتخرجوا في معاهد التعليم الديني التقليدية والحوزات.
يقرأ حسن حنفي فكرَ سيد قطب بوصفه تطوّر في أربعة مراحل، فيقول: “ويمكن التعرف على أربعة مراحل في فكر الامام الشهيد، تعبر عن تطوره الروحي: المرحلة الأدبية، والمرحلة الاجتماعية، المرحلة الفلسفية، والمرحلة السياسية”[6]. لم يكن حنفي دقيقًا عندما خلعَ على بعض كتابات سيد قطب عنوانَ فلسفة، ووصف كاتبَها بفيلسوف. لم يكن سيد قطب في أيّ كتابٍ أو مقالةٍ فيلسوفًا، كي يصطلحَ حنفي على مرحلة من مراحل إنتاجه الفكري بـ “المرحلة الفلسفية”. قرأتُ أكثرَ أعمال سيد قطب قبل نصف قرن تقريبًا، وكنتُ أعود إلى بعضها عندما أناقش أفكارَه، وقرأتُ بموازاتها الكتاباتِ معه أو ضدّه، عن حياته وفكره وسجنه ونهايته المأساوية، ولم أقرأ في أعماله رؤيةً فلسفيةً أو نقاشًا فلسفيًا أو تداولًا لمصطلح فلسفي. سيد قطب كان أديبًا موهوبًا، وناقدًا ذكيًا، ومفسّرًا للقرآن الكريم، ومنظّرًا حركيًا، ومفكرًا سياسيًا، وكاتبًا يتقن اللغةَ العاطفية الحماسية الآسرة. سيد قطب بوصفه مفكرًا لا يستحق الإعدامَ مهما كانت أفكارُه وكتاباتُه، ومهما كان غريبَ الأطوار. الأفكار تُناقش وتُنقد وتُنقض، ولا تُقاضى في المحاكم، أو يُسجن صاحبُها ويعذّب، أو يُعدم.
الإخوان المسلمون هم الجماعة السياسية الأطول عمرًا، والأوسع حضورًا والأشدّ تأثيرًا في مصر والبلاد العربية. حسن حنفي من أكثر المفكرين درايةً بالإخوان وخبرةً بنشأتهم وأدبياتهم ومواقفهم ومسيرتهم العملية، وهو الأغزر كتابةً عن الحالة الدينية في مصر، ربما لا نجد كتابًا له إلا ويتطرق للدين والتديّن وأحيانًا يكتب عن ذلك بشكل مستفيض. في كلِّ ما قرأتُ من كتاباته عن الإخوان كان يتحدث بلغة اعتذارية، تحاول بأساليب ذكية تبريرَ مواقفهم، وإدانةَ خصومهم، وتكرارَ الكلام عن “سيكولوجية الاضطهاد” التي تعرضوا لها كحركةٍ سياسية جماهيرية، شديدةِ الإيقاع واسعةِ الحضور في مؤسسات المجتمع المتنوعة. يصف حسن حنفي تأثيرَ السجن والتعنيف والغبن الذي تعرضت له الجماعةُ بقوله: “وغلب على فكرها سيكولوجية الاضطهاد، فنشأ فكر إسلامي معاد للواقع، غاضب، يبغى الانتقام. يستعمل الإرادة الإلهية، كالسيف على رقاب الناس. وانقسم العالم عندهم إلى أبيض وأسود، إلى إسلام وجاهلية، لا يتعايشان بل يدمر أحدهما الآخر. وتقود هذه العملية الصفوة المؤمنة، عن طريق تغيير السلطة”[1]. هذا الكلام يتضمن اعترافًا صريحًا لحنفي برؤيةِ الجماعة المغلقة للعالَم، والنزعةِ الحادة المتطرّفة في تفكيرهم، وتصنيفِهم الخاطئ للمجتمع المسلم إلى “إسلام وجاهلية”، لكن حنفي يعود في موارد كثيرة من كتاباته ليبجلَهم، ويفتعلَ دورا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا استثنائيا اضطلعوا به في مصر. لا يتحدّث حسن حنفي عن استنزافِ الجماعة للتديّن التقليدي وإنهاكِ الحياة الروحية والأخلاقية في المجتمعات المسلمة، وما أحدثته هذه الجماعةُ من ثغرات بنيوية في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة، وهيمنتِها على الجمعيات الخيرية والمساجد ومختلف المؤسسات المجتمعية. تديّنُ الإخوان عمل على تجفيف منابع التديّنِ الشعبي الموروثِ منذ عصر الرسالة، والمتجذّرِ في المجتمعات الإسلامية، والذي استطاعت بنيتُه الراسخة أن تمنح حياةَ الأفراد والمجتمعات معنىً روحيا وأخلاقيا للدين يواكب إيقاعَ تطور المجتمعات والهويات المحلية، ويتناغم والواقعَ المتغير. تديّن الإخوان ينطلق من عقيدةٍ ترسختْ في وعيهم نشأتْ من آراء سيد قطب الصريحة بـ : “أنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي”[2]. والحكم بأنه: “ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظلّ فريق منها يردد على المآذن لا إله إلا الله”[3]. في هذا السياق يخترع سيد قطب مفهومًا لكلٍّ من المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي، حتى ما نراه مجتمعًا مسلمًا يرى سيد قطب أنه: “يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة… لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الإطار، لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتهــا… فهي – وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله – تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها، وتقاليدها… موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلّها يتحدد في عبارة واحدة: أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها”[4]. هذه العقيدة دفعت الإخوانَ للعمل على استبدال التديّن الشعبي الرحيم بتديّن مصطنع، تديّنٌ غطاؤه سياسي مضمونُه سلفي، تديّنٌ أحدث تناشزًا مع البيئة المجتمعية، واغترابًا للمسلم العضو في هذه الجماعة عن عائلته ومجتمعه وبيئته، تديّنٌ كلامي مغلَق وفقهي متشدّد أفقرَ حياةَ المسلم للمعنى الروحي والأخلاقي، وغاب به المعنى الديني المُتآلف مع اختلافِ المجتمعات وتنوعِ طرائق عيشها وهوياتها الثقافية والاثنية.
لا يقف حسن حنفي طويلًا عند ما أحدثته جماعةُ الإخوان من تشظٍ في البنية الدينية لمصر ومجتمعات أخرى مسلمة، وتصادم تديّنُهم المصطنع بغطائه السياسي ومضمونه السلفي والتديّن الشعبي التقليدي، والانقسام المجتمعي الذي خلقه هذا النمطُ من التديّن. يتغافل حنفي عن الآثار الموجعة لدعوةِ الجماعة وفكرِهم وانتشارِهم الواسع في مصر وعالم الإسلام، كأنه لا يدري أن المدارسَ ومعاهدَ التعليم والجامعات، من الروضة إلى الدراسات العليا، في السعودية ودول الخليج، وقبل ذلك في مصر وغيرها من الدول العربية، لبثت أكثرَ من نصف قرن خططُها التربوية والتعليمية أسيرةً للإخوان المسلمين.كانوا هم مَنْ يضع أسسَها، ويرسم خارطتَها، ويؤلّف مقرراتِها، ويحدّد مدخلاتِها ومخرجاتِها. يجري ذلك في أفقِ رؤيتهم للعالَم، وتديّنِهم السياسي الذي يظهر في السلوك ومختلف المواقف بتديّنٍ سلفي مغلَق متشدّد، تشبّع فيه مَنْ أقام منهم في هذه البلاد، بعد تفاعلِهم مع المذهب الحنبلي وانبهارِهم بأفكار ابن تيمية وتقليدِهم لمقولاته الاعتقادية وعملِهم بفتاواه الفقهية.
تنامى عاجلًا حضورُ الإخوان في التربية والتعليم في هذه البلاد، بعد هجرة المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات، أيامَ اضطهادهم زمن الرئيس جمال عبد الناصر، بأعداد ليست قليلة، منذ خمسينيات القرن الماضي فصاعدًا إلى السعودية ودول الخليج، وسقوط العملية التربوية والتعلمية في هذه البلاد بأيديهم. في ذلك الوقت كانت هذه البلادُ تفتقر للمعلمين والمدرسين من مواطنيها، فاضطرت لتسليم كلِّ شيء في المدارس بمختلف مراحلها لهم، وتمت صياغةُ كلِّ شيء ليجسّد أمانيهم ويعبِّر عن غاياتهم ويعكس تفكيرَهم. نتج عن ذلك تفشي التيار السلفي بشكل سريع في مجتمعات عالَم الإسلام، منطلِقًا من البلاد التي تحكّم فيها الإخوانُ بالتربية والتعليم، ومستثمرًا شيئًا من فائض الثروة الذي تراكم بالتدريج بعد حرب اكتوبر 1973وارتفاع أسعار البترول.
لا يكثرث حنفي بالكشف عن تناسل الجماعات المسلحة من أدبيات الإخوان، وبخاصة كتاب “معالم في الطريق” ومسؤولية أفكار سيد قطب عن ذلك. في أكثر من مناسبة يذكِّر حسن حنفي القراء باقتران لحظة ارتباطه بالإخوان بسيد قطب. يقول: (دخلت الإخوان سنة 1951 في نفس الفترة التي دخلها سيد قطب تقريبًا. وتأثرت جدًا بـ “العدالة الاجتماعية في الإسلام” و”معركة الإسلام والرأسمالية”)[5]. في كتابه “الحركات الدينية المعاصرة”، الذي هو الجزء الخامس من سلسلة “الدين والثورة في مصر”، جاء الفصل الرابع بعنوان: “أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة”، واحتل أكثر من 130 صفحة من كتاب لا يتجاوز 342 صفحة. لم أقرأ كاتبًا من مريدي سيد قطب أو خصومِه يخلع عليه لقبَ “الامام الشهيد” غير حسن حنفي. “الامام” لقبٌ ديني يُطلق في الإسلام على مؤسّسي المذاهب ومجتهديها، ويُطلق على أئمة أهل البيت. في تاريخنا القريب حدث توسعٌ في إطلاقه، لكن لم أقرأ أو أسمع من يطلقه على أمثال سيد قطب، ممن لم يتخرجوا في معاهد التعليم الديني التقليدية والحوزات.
يقرأ حسن حنفي فكرَ سيد قطب بوصفه تطوّر في أربعة مراحل، فيقول: “ويمكن التعرف على أربعة مراحل في فكر الامام الشهيد، تعبر عن تطوره الروحي: المرحلة الأدبية، والمرحلة الاجتماعية، المرحلة الفلسفية، والمرحلة السياسية”[6]. لم يكن حنفي دقيقًا عندما خلعَ على بعض كتابات سيد قطب عنوانَ فلسفة، ووصف كاتبَها بفيلسوف. لم يكن سيد قطب في أيّ كتابٍ أو مقالةٍ فيلسوفًا، كي يصطلحَ حنفي على مرحلة من مراحل إنتاجه الفكري بـ “المرحلة الفلسفية”. قرأتُ أكثرَ أعمال سيد قطب قبل نصف قرن تقريبًا، وكنتُ أعود إلى بعضها عندما أناقش أفكارَه، وقرأتُ بموازاتها الكتاباتِ معه أو ضدّه، عن حياته وفكره وسجنه ونهايته المأساوية، ولم أقرأ في أعماله رؤيةً فلسفيةً أو نقاشًا فلسفيًا أو تداولًا لمصطلح فلسفي. سيد قطب كان أديبًا موهوبًا، وناقدًا ذكيًا، ومفسّرًا للقرآن الكريم، ومنظّرًا حركيًا، ومفكرًا سياسيًا، وكاتبًا يتقن اللغةَ العاطفية الحماسية الآسرة. سيد قطب بوصفه مفكرًا لا يستحق الإعدامَ مهما كانت أفكارُه وكتاباتُه، ومهما كان غريبَ الأطوار. الأفكار تُناقش وتُنقد وتُنقض، ولا تُقاضى في المحاكم، أو يُسجن صاحبُها ويعذّب، أو يُعدم.