مهدي بندق - أسبوع نجيب محفوظ (2) مغامرة نقدية في نجيب محفوظ وسردياته العجائبية

يعلم مؤلف هذا الكتاب أن الروائي الأعظم نجيب محفوظ قد صرح يوماً أنه لم يطلع على نظرية رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد Freud والتي ضمنها كتابه تفسير الأحلام والذي ترجمه د. مصطفى صفوان وراجعه د.مصطفى زيور. لكنه – أي مؤلفنا الشاب – قد عقد العزم على ألا يلقي بالاً لما يقول المبدع عن خلفياته الأداتية ، ليكرس كتابه بأكمله للبرهنة على أن نجيب محفوظ إنما كان رائداً للكتابة الروائية العربية – مثله مثل ديستوفسكي في الأدب الروسي – التي تجمع إلى شكلها الواقعي غرائب الأحلام وعجائب الأساطير ودلالات الرموز في مستواها الجمعي المستور.
وفي رأيي أن تلك المغامرة النقدية في تناول بعض الروايات الهامة من أدب الأستاذ نجيب ، رغم كونها ليست الأولى في هذا المضمار ، فلقد سبقتها محاولات جادة من جانب كثيرين، إلا أنها لحرية بالالتفات لما بذل فيها من جهد ، ولتناولها موضوع الدراسة من زوايا جديدة . فكاتبنا الدكتور خالد عبد الغني يستعرض آراء من سبقوه من النقاد بدقة وأمانة جديرتين بالتنويه والإشادة، موضحاً كيفيات تعاملهم مع منهجية نجيب محفوظ في استخدام الحلم سواء باعتباره – من وجهة نظرهم – آلية فرويدية أو بعد فرويدية Post-Fruedism ، آخذاً على بعضهم (جمال القصاص مثلاً) إفساده لدلالات النص المحفوظي بالتطرف في تأويل سريرة صاحبه
😊
نجيب محفوظ) كما لو كان مريضاً يخضع بما كتب للتحليل النفسي وليس أديباً عبقرياً ذا عرض ناصع الجيب وافره!
لعل نجاح الدكتور خالد محمد عبدالغني في التحرر من تأثيرات من سبقوه على هذا الدرب الشاق في التفسير السيكولوجي هو ما أغراه بالانتقال من تحليل وظيفة الرمز Symbolic Function إلى اقتراح دمجه ضمن الوسائط المختزلة للوقائع البشرية خاصة الاستثنائي منها ليتم بهذا الدمج فهم الواقع على نحو اكثر ثراء .
في هذا السياق يختار المؤلف سيرة عاشور الناجي (من ملحمة الحرافيش) ليطابق بين مصيره ومصير نجيب محفوظ نفسه باعتبارهما نموذجين للباحثين عن العدل والملاقين الاضطهاد بسبب بحثهم هذا ، حيث يتعرضون للنفي والصلب (كما الحلاج) وطعنات السكاكين ، وما من شك في أن التوفيق إنما كان حليف مؤلفنا حين ربط دلالة الناجي (بما تعنيه صفة اسمه) وبين نجاة محفوظ من محنة محاولة اغتياله ، مذكراً بأن نجيب وإن كتب الحرافيش قبل المحاولة الأثيمة إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نضع في الحسبان فكرة استبصار نجيب محفوظ بما سيتعرض له من اضطهاد قادم بفضل غوصه المستمر في عالم الأحلام الذي يشع بالنبؤة ضمن ما يشع . وهذا ما حدا بنجيب إلى تسمية محنة عاشور الناجي وعشيرته التي حصدتهم بالـ " الشوطة" ، وإنها لنفس التسمية التي يمكن لنا أن نطلقها على ما جرى لمصر "المحروسة" (لا أدري لمَّ الاصرار على هذه التسمية الزائفة؟) حيث تحولت رمال الفكر الوهابي القادمة من الشرق على أكتاف الرياح الشريرة إلى مدافع رشاشة وقنابل ورصاص وسكاكين تقتل أطفال المدارس [عدة المستقبل] والسياح ضيوف البلاد ، وتحرض على قتل غير المسلمين (أقباط مصر في مقدمتهم) حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ! وكما جرى تكفير المفكرين من أساتذة الجامعات والتفريق بينهم وبين زوجاتهم الأستاذات أيضاً ، انطلقت دعاوى الحسبة (القضائية) بالضد على النقاد والشعراء والمثقفين ، حتى اكتملت باغتيال أحدهم فعلاً ، وكاد أن ينجح اغتيال ثانيهم (والدهم الحاني الجميل) لولا أن نجَّاهُ الله بمعجزة لا تتكرر.
كذلك لم ينس الكاتب – خالد - أن يقارن بين عاشور الناجي الذي ارتضى لنفسه احتياز قصر البنان (الأصابع) في غيبة صاحبه ، وبين محفوظ الذي قبل جائزة نوبل كرشوة من الصهاينة مكافأة له على تقديره لليهود في أولاد حارتنا ، علاوة على تأييده السياسي لاتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل [وهو تفسير يتماشى وما روج له بعض المثقفين المتشنجين ، جنباً إلى جنب التيار الفاشستي "الملقب دلعاً" بالإسلام السياسي] وأياً كان الحال فقد تمكن خالد عبد الغني من معالجة الأمر في مجمله بمهارة إذ اعتبر أن خطأ الرجلين : عاشور الناجي ونجيب محفوظ إنما وقع بحسن نية ودون تواطؤ مقصود مع قوى الشر، وآية ذلك أن محبة الناس لأديبها العبقري ظلت قائمة مثلما استمرت محبة الحرافيش لعاشور الناجي، لا سيما وأن الرجلين كليهما أوقف ما آل إليه من ثروة – أياً كان مصدرها – على أعمال الخير.
وبهذا المنهاج الذي يزاوج بين ما هو واقعي وما هو أسطوري سيكولوجي يواصل خالد عبد الغني رحلته مع النماذج المختارة من أدب نجيب محفوظ ، فتراه يتلمس أوجه التشابه بين سفاح كرموز محمود أمين سليمان الذي راح يضرب في ظلمات النقمة وشهوة الانتقام وبين أوديب الذي مضى يجتر خطاياه في قتل الأب ومضاجعة المحارم بعد أن فقأ عينيه ليحيا في ظلام لا غش فيه ، ليكشف لنا (أعني خالد عبدالغني) عن سراديب الشخصية الروائية : سعيد مهران قاتل الأبرياء (بعمى بصيرته) والمظلوم في آن، والذي راح في النهاية يصرخ منادياً نور (لاحظ دلالة الاسم) تلك المومس "الفاضلة" التي أحبت مهران ولم يحبها هو لانشغاله بالمدنس ممثلاً في شخصية زوجته السابقة الخائنة.
وفي تقديري أن مؤلف هذا الكتاب قد تمكن من إلقاء الضوء على رواية "اللص والكلاب" المفعمة بالرموز ، والغنية بالدلالات السياسية والاجتماعية دون أن يسقط في فخ التسطيح المروج لفكرة القداسة النقية مقابل الدنس الخالص، وتلك مأثرة تضاف إلى رصيد جديته وجدته فيما كتب حتى الآن.
وينهي خالد كتابه بفصل عن رواية "بداية ونهاية" أراد له أن يكون بحثاً في سيكولوجية البغاء، لكنه مضى إلى بعيد إلى درجة اعتبار نفيسة بطلة الرواية بإطلاق ، وتفسير سلوكها المنحرف لا بالظروف المادية السيئة التي أحاطت بها وبعائلتها، بل برغبتها اللاواعية في أن تكون عاهرة محترفة ! وهذا ما لا أوافق عليه بحال من الأحوال. لكن اختلافي مع المؤلف في هذا الصدد لا يمنع غيري – ربما – من الاتفاق معه ، وهو ما ينبغي تركه للنقاد
أعلى