الزمان: أكثر من نصف قرن..
المكان: الحي الأوروبي بحاسي بلال أو "دْيورْ النّْصارى"..
كان لجرادة رونقها وسحرها..
إننا نختزن تلك الأيام والصور كإرث نحاول البوح به بين الحين والآخر.
يرتمي هذا الحي في حضن تلال صخرية من جهة الغرب..
تدّثره بأفيائها مع بداية سفرها نحو الغروب..
تنتشر منازله ذات التصميم الفرنسي قريبا جدا من بئر الفحم..
تراقب عن كثب "لافْوارْ" و "لاكاجْ" وسائر المنشآت المنجمية الأخرى...
مع منتصف الستينيات من القرن الماضي، كنا نجتاز هذا الحي بشكل يومي ونحن في الطريق إلى المدرسة الوحيدة التي كانت تتواجد به (مدرسة أبي عبيد البكري)، أو ونحن في طريقنا الى "لابّيسينْ" وقت الصيف كي نسرق بعض اللحظات في الغطس والسباحة في غفلة من العَسّاسْ، مما أتاح لنا التوغل في أزقته ومعرفة بعض ساكنته الذين كانوا يسكنون هنا رغم مرور عشر سنوات على الاستقلال وذلك لارتباطاتهم المهنية بالمنجم..
قبل أن نضع أرجلنا في هذا المكان لإشباع نهم فضولنا الطفولي، كنا نعرج على أحد البساتين المجاورة..
أشجار مثمرة تأخذ بالألباب وهي تقف بزهو أخاذ..
تتسامى دون غطرسة في صف طويل..
تتعانق أغصانها وتتشابك في وئام بديع..
نقطف ما لذ وطاب من فاكهة العنب و"تْمَرْ التُّرْكْ" والتين واللوز...
نستمتع بمراقبة أنواع مختلفة من عصافير لا تتوانى عن الصفير والتغريد والقفز من غصن إلى آخر ومن شجرة لأخرى.
نتابع سيرنا..
نلج الحي عبر مساربه المتعددة..
حدائق مزهرة تحيط بالبيوت..
حفيف أشجار..
نباح كلب غير ضال..
فرنسية تطل بصمت عبر شرفة منزلها..
فرنسي يمتطي دراجته الهوائية وهو يدخن سيجارة من النوع الممتاز..
كنا نتسابق للظفر بعقبها حين يلقي بها صاحبها أرضا..
طفل أشقر يداعب كرة صغيرة في حديقته..
لقد مرّ فرنسيون كثر من هنا..
سكنوا هذه البيوت..
عملوا بشركة الفحم..
استقدموا زيجاتهم معهم..
آخرون تزوجوا هنا..
أنجبوا أطفالهم الشقر..
من لقي حتفه منهم، يتم دفنه ب "قْبورْ النّْصارى" وفق طقوسهم وأعرافهم.
بنوا كنيسة يمارسون فيها عباداتهم وشعائرهم..
كانت لهم "كوُنومَا" توفر لهم ما يحتاجونه من مواد غذائية واستهلاكية يومية.
يجتمعون كل مساء بِالْ "كانْتينَا" دون سواهم..
لا تزال مخيلتي الصغيرة تحتفظ ببعض مراسيم زواج "النّْصارى" الذين كانوا وقتها مُكونا أساسيا من نسيج جرادة الاجتماعي...
ينتقل "الرّْوامَا" عشية إلى الكنيسة..
تلاحقهم نظراتنا المتطلعة الفضولية..
الأزواج يتأبطون أذرع بعضهم البعض..
يتبعهم أطفالهم بنظام وهدوء وهم يتزينون بملابس أنيقة ذات ربطات عنق صغيرة وأحذية جديدة لامعة...
عندما تطأ أقدام النصارى باب الكنيسة، يقفون بإجلال وهم يرسمون على صدورهم وأوجههم علامة الصليب..
يدخلونها بسكينة ووقار فيغيبون عن أنظارنا..
نكتفي باستراق السمع لترانيمهم غير المفهومة ونتلصص على كلمات "مْرابُو" وهو يبارك للعريسين زواجهما.
نسمعهم يرددون أمين... أمين... أمين...
محمد الدويمي
* من رواية:"جرادة.. بقايا أيام متمردة"
المكان: الحي الأوروبي بحاسي بلال أو "دْيورْ النّْصارى"..
كان لجرادة رونقها وسحرها..
إننا نختزن تلك الأيام والصور كإرث نحاول البوح به بين الحين والآخر.
يرتمي هذا الحي في حضن تلال صخرية من جهة الغرب..
تدّثره بأفيائها مع بداية سفرها نحو الغروب..
تنتشر منازله ذات التصميم الفرنسي قريبا جدا من بئر الفحم..
تراقب عن كثب "لافْوارْ" و "لاكاجْ" وسائر المنشآت المنجمية الأخرى...
مع منتصف الستينيات من القرن الماضي، كنا نجتاز هذا الحي بشكل يومي ونحن في الطريق إلى المدرسة الوحيدة التي كانت تتواجد به (مدرسة أبي عبيد البكري)، أو ونحن في طريقنا الى "لابّيسينْ" وقت الصيف كي نسرق بعض اللحظات في الغطس والسباحة في غفلة من العَسّاسْ، مما أتاح لنا التوغل في أزقته ومعرفة بعض ساكنته الذين كانوا يسكنون هنا رغم مرور عشر سنوات على الاستقلال وذلك لارتباطاتهم المهنية بالمنجم..
قبل أن نضع أرجلنا في هذا المكان لإشباع نهم فضولنا الطفولي، كنا نعرج على أحد البساتين المجاورة..
أشجار مثمرة تأخذ بالألباب وهي تقف بزهو أخاذ..
تتسامى دون غطرسة في صف طويل..
تتعانق أغصانها وتتشابك في وئام بديع..
نقطف ما لذ وطاب من فاكهة العنب و"تْمَرْ التُّرْكْ" والتين واللوز...
نستمتع بمراقبة أنواع مختلفة من عصافير لا تتوانى عن الصفير والتغريد والقفز من غصن إلى آخر ومن شجرة لأخرى.
نتابع سيرنا..
نلج الحي عبر مساربه المتعددة..
حدائق مزهرة تحيط بالبيوت..
حفيف أشجار..
نباح كلب غير ضال..
فرنسية تطل بصمت عبر شرفة منزلها..
فرنسي يمتطي دراجته الهوائية وهو يدخن سيجارة من النوع الممتاز..
كنا نتسابق للظفر بعقبها حين يلقي بها صاحبها أرضا..
طفل أشقر يداعب كرة صغيرة في حديقته..
لقد مرّ فرنسيون كثر من هنا..
سكنوا هذه البيوت..
عملوا بشركة الفحم..
استقدموا زيجاتهم معهم..
آخرون تزوجوا هنا..
أنجبوا أطفالهم الشقر..
من لقي حتفه منهم، يتم دفنه ب "قْبورْ النّْصارى" وفق طقوسهم وأعرافهم.
بنوا كنيسة يمارسون فيها عباداتهم وشعائرهم..
كانت لهم "كوُنومَا" توفر لهم ما يحتاجونه من مواد غذائية واستهلاكية يومية.
يجتمعون كل مساء بِالْ "كانْتينَا" دون سواهم..
لا تزال مخيلتي الصغيرة تحتفظ ببعض مراسيم زواج "النّْصارى" الذين كانوا وقتها مُكونا أساسيا من نسيج جرادة الاجتماعي...
ينتقل "الرّْوامَا" عشية إلى الكنيسة..
تلاحقهم نظراتنا المتطلعة الفضولية..
الأزواج يتأبطون أذرع بعضهم البعض..
يتبعهم أطفالهم بنظام وهدوء وهم يتزينون بملابس أنيقة ذات ربطات عنق صغيرة وأحذية جديدة لامعة...
عندما تطأ أقدام النصارى باب الكنيسة، يقفون بإجلال وهم يرسمون على صدورهم وأوجههم علامة الصليب..
يدخلونها بسكينة ووقار فيغيبون عن أنظارنا..
نكتفي باستراق السمع لترانيمهم غير المفهومة ونتلصص على كلمات "مْرابُو" وهو يبارك للعريسين زواجهما.
نسمعهم يرددون أمين... أمين... أمين...
محمد الدويمي
* من رواية:"جرادة.. بقايا أيام متمردة"