د. مصطفى الضبع - سيد الوكيل وقصصه القصيرة

ترقـيـنات نقدية

1-

في قصص سيد الوكيل، سوف يشغلك أبطال لا تخاف عدم معرفتهم ، فهم أنت ، وأنا ، والآخرون ، يحملك من البداية إلى عمق الأشياء والشخصيات ، دون أن تشعر بالغربة .

مع قصصه أنت أمام الكثير من عناصر الفن التى يمكنك أن تتحاور معها أو أن تتوقف لديها ، والقادرة على أن تعكس سمات الموهبة لدى الكاتب .

وإذا كانت مجموعته الأولى ” أيام هند ” تكشف عن موهبة الكاتب ، فإن المجموعة الثانية ” للروح غناها ” تكشف عن نضج الموهبة ، وظهور طاقات دلالية تتناسب ونضج الكاتب ، وتقدم بطاقة إبداعية تأخذ مكانها بقوة لتمنح صاحبها شهادة ميلاد لمبدع على وعى خاص بإبداعه .

تتعدد الجوانب الفنية الدالة فى المجموعة بحيث يمكن للمتوقف عند بعضها أن يكتشف بسهولة جوانب فنية لها قيمتها فى سياق النص الذى يمنحك الفرصة أن تقيم معه حوارا مثمرا .

طرائق القص

يحرص كتاب القصة فى نصوصهم التى يضمها كتاب واحد على أن تتآلف إلى حد كبير مما يجعلها مجموعة من التوائم المتقاربة أحيانا، تبدو للوهلة الأولى متبعة طريقة / طرائق محدودة فى إنتاج دلالتها ، ولكن سيد الوكيل يعمد للتنويع فى مجالات القص عبر المجموعة الواحدة ، وهى أولى علامات الحرص على إبقاء المتلقى على درجة اهتمامه إلى ما بعد نهاية القراءة التى ليس معناها نهاية التلقى بالطبع .

يحرص الوكيل على أولى قدرات الكاتب / القاص/ الحكاء ، التشويق وبث آلياته عبر النصوص وهى سمة تعنى أول ما تعنيه حفاظ الكاتب روح الحكى التى تعد أهم سمات الحكى العربى ، ويتبدى التشويق أولا عبر الجملة الاستهلالية الأولى التى تتنوع بين أنواع ثلاثة :

1- جملة حوارية :

تقدم صوتا هو صوت الراوى أحيانا ، أو صوت أحد محاوريه ، ولا يتوقف دورها عند الكشف عن صوت / أصوات تتحاور ، أو مجموعة من العلاقات الأولية التى يتأسس عليها بناء النص ، ومجاله الدلالى ، وإنما تشى بما يمكن تسميته بالفضاء النصى وقدرته على توفير فضاء صالح للحوار ( [1]) .

قصتان تستهلان بجملة حوارية : ” أثقل من روحى ” : ” ما كان عليك أن تغيرى طريقك ، وتدخلى من شارع جانبى ، وتعرضى نفسك هكذا لغزل صفيق من سائق تاكسى يخرج رأسه من النافذة ويقول .. العب يا ملعب . … يعض شفتيه ويكسر عليك ناحية اليمين ، هكذا اضطرارك لصعود الرصيف يجئ قسرا ، فيما تكاد رجفتك تسقط طفلك الذى على صدرك ” ( أثقل من روحى ) ( [2]) ، و” اندهاشة للشاعر الأعرج ” : لابد ستبتسم بمجرد أن يقدم اقتراحا بأن يسمعك آخر نكتة .

ولابد ستحكم غرس المبسم فى فمك ، وتشد اللى الذى بين فخذيك يتلوى ، ويرتعد كلما أمعنت فى مصه حتى يفور مرجله بغير حر ” ( [3]) .

كان يمكن للجملة الأولى أن تنتهى عند ( سائق تاكسى ) ولكنها امتدت لتصف الحدث ، لا للإعلام به فحسب ولكن لتقديم العناصر الإنسانية المتحاورة / المتصارعة ووضعية كل منها : المتكلم عبر نبرة اللوم ، والمخاطبة عبر صمتها ، وتشوق المتلقى لمعرفة العلاقة بينهما ، وإن خمن بداية أنهما زوجان ، السائق فى رمزيته لحالة مجتمع أخلاقية ، ثم الطفل بوصفه يمثل علاقة بين الطرفين ، وبوصفه يطرح نوعا من الزمن المغاير الذى يمدد لحظة السرد ، ويفتحها على المستقبل .

يضاف لذلك قدرة الجملة على أن تطرح حوارا بين الأمكنة : الداخل محتضن الحوار ، والخارج محتضن الحدث . لقد امتدت الجملة لضرورة فنية نجح السارد فى توظيفها لتتحمل عبء تقديم النص ومجاله الدلالى .

وفى الجملة الثانية ينطرح المخاطب نفسه فى الجملة الأولى ، ولكن المخاطب الجديد يطرح توقع المتلقى – بداية – أن يكون مونولوجا داخليا ، أو أن يكون ديالوجا يكشف عن قدرات السارد على بسط اللحظة الزمنية المستقبلية .

وتشترك الجملتان فى تقديم الزاوية التى يقف عندها السارد مراقبا، ومشاركا، ومقدما الحدث النصى ، لتتيح له أن يكون مؤثرا عبر هذه الزاوية فى إنتاج الدلالة ، وتشكيل العالم القصصى الدال القادر على أن يعبر عن الحالة المبتغاة .

2- جملة وصفية :

وتنتظم قصتين ( للروح غناها – تداعيات تروح ) ، فى الأولى يقف السارد فى منطقة الماضى ناقلا المشهد ” هكذا باغته صوته بتلك الرنة الجميلة ، وهو الذى لم يقل غير عادى الكلام …. عادى جدا … ” ( [4]) ، لقد كان السارد حاضرا هناك فى عمق المشد لذا أتيح له أن ينقل الصورة كاملة ، وأن يترجم مشاعر الشخصيات ، وقضاياها الحياتية ، ومساحة بوحها ” المدارس تقتل أطفالنا يا ياسر – أنا فى الحقيقة أعرف كيف أغنى ، لكنى لا أعرف ماذا أغنى ؟ ” ( [5]) ، وعند درجة البوح تتولد اللغة الشعرية بما تحمله من دلالات الأسى والشجن ، ومن ثم لا يكون غريبا على القصة أن تجنح لغتها للشعر متدرجة للوصول لنصوص شعرية خالصة تمثل نوعا من التقاء حالتى بوح : بوح السارد الذى يستثمر الطاقة الدلالية لضمير الخطاب الموجه للذات ليحدث نوعا من الانغلاق على الذات فى الحاضر والانفتاح عليها فى الماضى المناسب للبوح ، وبوح الشاعر( [6]) فى تعبيره عن حالة ليست بعيدة عن السارد الحاضر فى النص .

3- جملة حدثية :

وفى ثمانى قصص يضعنا السارد إزاء الحدث مباشرة ، عبر الفعل غير الوصفى ، والجملة تأتى عبر صيغتين أساسيتين :

صيغة التوالى المنفصل : حيث تتوالى الأفعال فى الجملة الاستهلالية صانعة سلسلة من الأحداث الصغرى الكامنة فى الأفعال خالقة بدورها الحدث السردى الأكبر ” فتحت الباب ، فاندفعت نسمة باردة ، ولاحظت أن شعره وملابسه طالهما بلل خفيف ، والقلق فى صوته واضح وهو يسألها .. حصل إيه ؟ . لم تجب ، فاندفع إلى غرفة النوم ، وتفادى فى طريقه حرف منضدة السفرة التى طالما اصطدم بها من قبل ” ( [7]) ، هنا يخلق التوالى إيقاعا سريعا للحدث ليس بإمكان الوصف ، أو الحوار أن يخلقه ، فالحوار يتطلب ضبط نبرة ما لاكتشاف نبض الحدث ، فى حين لا يساهم الوصف كثيرا فى إحداث الإيقاع السريع فى بداية السرد ، ومقابل ذلك تنجح الأفعال فى تواليها معتمدة حركة الفعل، ورد الفعل ( فتحت – اندفعت – يسألها – لم تجب – لاحظت – اندفع – تفادى ) فى رصد الحالة ، ورسم المشهد بإحكام واضح .

– صيغة التوالى المتصل : حيث تتوالى الأفعال متصلة ببعضها عبر أداة الشرط صانعة صيغة شرطية تأخذ المتلقى لعمق الجملة الاستهلالية ” لو أنه يمتلك هذه النظرة الواقعية للأمور لما وقف طويلا أمام هاتين العينين ، أو لما خطا خطواته داخل المحل وارتاح قليلا لهواء المكيف البارد ” ( [8])، ويأتى هذا الاستهلال منفردا فى أعمال الكاتب كلها ، لا يتكرر فى غير هذه القصة ، باستثناء صيغة مشابهة تستهل بها قصة ” قصة ” فى المجموعة الأولى :” حين سقطت الذبابة التى حيرت صديقى القاص طويت الصفحة ” ( [9]).

ولأن السمات الاستهلالية ليست منعزلة أو منفصلة عن المتن فإنها تكون بمثابة المؤشر على النص أو الدال عليه عبر تجليها فى المتن ، وقلة الوصف الاستهلالى يؤشر إلى غياب الوصف السردى وحلول الصفة بمعناها النحوى ، وهى الأكثر مناسبة للقصة القصيرة ( [10]) ، فلا تجد كثيرا من أوصاف المكان مثلا ، والسارد ليس معنيا بتقديم الأمكنة التى يدير فيها أحداثه ،وإنما يقدمها أو تقدم نفسها عبر حركة الأشخاص ، ولكنه يقدم مجموعة من الإشارات الدالة التى تجعل المتلقى يقف عند حدود المكان ، فى قصة ” إيقاع شجى وحيد ” يستشعر المتلقى بداية أو بعد مرور الوقت أن الحدث يدور فى مستشفى ، ولكنه أبدا لن يجد المستشفى موصوفا ، أو مسمى ، أو أن السارد استخدم اللفظة (مستشفى ) فى نصه رغم طول القصة .

وتعد عملية استخدام الصفة بهذه الوضعية سمة أسلوبية للكاتب لا تتجلى فى المتن السردى ، وإنما يمكنك أن تستكشفها بسهولة فى عناوين نصوصه ، وخاصة فى المجموعة الثانية التى أخذت العناوين فيها تأخذ الصيغة الثنائية بعد تجاوزها للمفردة الواحدة التى ظهرت فى المجموعة الأولى ( [11]) فقد انفتح مجال الرؤية للسارد بما يمنحه القدرة على أن يصف العالم محافظا على حدثه المتدفق، وهو ما تحقق عبر الصيغة الثنائية : الصفة والموصوف : مجازات ضيقة – جراح رمضان الأخير – مهام ثقيلة –ضوء شاحب –إيقاع شجى وحيد – عرى بلورى – تداعيات .. تروح .

لقد تشكل وعيا للسارد يستشعره المتلقى ، ويوظفه ، كان من شأنه أن يرى العالم رؤية تسمح له أن يصفه ، وللصفات بلاغتها ، إذ تعبر عن رؤية الواصف للعالم ، فما الصفة غير معنى نراه كامنا هناك فى الأشياء ، أو نرى فى هذه الأشياء من المعانى ما يكون متحققا لدرجة يكون ضروريا أن يعبر عنها ، وأن تستجلى عبر صفات يطلقها من يمتلك وعيا عميقا بها وبالعالم .

هنا تكون الصفات نوعا من تفسير العالم ، أو إصدار الأحكام عليه ، كما أنها تكون بمثابة إشارات يصدرها مطلقها لتنبيه وعى الآخرين عبر أحكام لها دلالتها ، والصفة تلعب دور الشفرة المرسلة من مطلقها لهؤلاء الذين يجب عليهم تلقيها ، وفك شفرتها أو على أقل تقدير البحث عن سببية اختيار صاحبها لها دون غيرها واصطفائها لأداء دورها الدلالى ، عبر تحكم وعيين : وعى المرسل ، ووعى المرسل إليه .

تجاوز الدرجة الصفر للدلالة

يظل الإنسان محايدا دلاليا ، أو هو عند درجة الصفر الدلالى ( [12]) حتى يوظف فنيا ، عبر صيغتى : الحضور أو الغياب ، فى الحالة الأولى كان لحضور شخصية عم أحمد دورها الدلالى الذى لا يؤديه غيابها ، وهى الشخصية التى تستعد للرحيل أو تستشعره ، ولأن طبيعة القصة القصيرة تعمد إلى الإشارة للشخصية لا سردها أو تقديمها فى حالة الحدث الآنى الموصوف ، فإن مساحات الغياب تتجاوز مساحات الحضور ، ومن ثم تتسع مساحات الحالة الثانية ( الغياب ) الذى يتنوع بين المؤقت ، والدائم ، الاضطرارى أو الاختيارى .

ويمثل غياب الإنسان عملية ذات طبيعة دلالية خاصة يتحول الإنسان عندها إلى معنى ، يغيب الجسم بماديته ويبقى المعنى وحده دالا على الغائب ، وكاشفا عن معنى لم نكن نراه فى الحضور ، و لا تكون درجة حضور المعنى قوية بدرجة كبرى فى حضور الذات كما هو الأمر فى غيابها ، مما يمنح الشخصية قدرا أكبر من البلاغة ( [13]) ، وإذا أردت أن تعرف ما يعنيه لك صديقك فلتبحث عما تفتقده بغيابه ، عندها ستعرف معناه .

لقد غاب فواز مطاوع ومن ثم تحول إلى معنى متعدد المستويات التى نستكشفها عبر المواقع المحددة حسب الضمائر الثلاثة :

مستوى سيد الوكيل (هو) : حيث السارد يحكى عن فواز مطاوع بوصفه رمزا للكثير من الأشياء والمعانى ، ويقدم شخصيته فى غيابها الدال على أن قوة / قوى عملت عمدا أو إهمالا على تضييع كل ما يمثله فواز مطاوع من معان ، إن فواز مطاوع الذى ظهر فى المجموعة الأولى عبر قصة يتصدرها اسمه ( [14]) كان له أن يختفى بقوة الموت فى نهاية القصة ، لقد شغل حضوره المادى مساحة ضئيلة من قصة واحدة ، ولكن غيابه شغل مساحات واسعة فى المجموعة الثانية ( يتردد ظهوره فى قصص : جراح رمضان الأخيرة – مهام ثقيلة – ويلقى بظلاله على قصة : إيقاع شجى وحيد) مما يحوله لواحد من العناصر المتكررة ذات الحضور الأشد دلالة .
مستوى سيد الوكيل (أنا) : حيث حضور فواز مطاوع مقترنا بسيد الوكيل ، بوصفه الشخصية الفنية الحاضرة عبر الأنا النصية ، فلا نكاد نرى حركة الأنا بعيدا عن ظلال فواز مطاوع بوصفه ملهما أو محركا للإبداع النصى ، وكثيرا ما يطل وجه فواز مطاوع فى عبر هذه الأنا وهى تطالع الوجوه المختزلة فى وجه الغائب :” يتصادف أن ياتقى الواحد بوجه يعرفه ، هذا يحتاج تحديقا فى الوجوه المتشابهة ، وجه ” فواز” وحده يغمرنى الآن ” ( [15]) ، خالقا لحظة من الأسى ، أو حاضرا فى لحظة أسى ممتدة .
مستوى المتلقى (نحن) : حيث يكون تلقى الشخصية الفنية ذات المرجعية الواقعية قادرا على تعديد مستويات الدلالة النصية :
البطل على مستوى الواقع ، ففواز مطاوع واحد من الذين قدموا أرواحهم حفاظا على كرامة بلدهم ، مما يكشف عن نجاح الكاتب فى التقاط الشخصية ومنحها أبعادها الفنية الدالة .
الشخصية الفاعلة فنيا : يشترك فواز مطاوع مع هدى كمال فى خلق شخصية عابرة للنصوص ( [16]) ، شخصية تحتفظ باسمها وملامحها عبر النصوص ، ومعظم شخصيات الكاتب لا تحمل اسما ( [17]) ، إذ يكون تغييب الاسم لصالح إظهار هدى كمال وفواز مطاوع بوصفهما وجهين يمثلان عوالم إنسانية . يمثل فواز التاريخ الظاهر الذكورى ، أو الكاشف عن قضايا المجتمع الكبرى، لذا يكون حلوله فى المشاهد الطارحة للموت والقهر والوجود ، وتضعنا نهاية فواز مطاوع أمام واحدة من أهم القضايا التى واجهها المجتمع المصرى ، نهاية الرجل الذى كان سببا من أسباب استرداد الكرامة فى حرب أكتوبر، وتحمل مرارة الأسر لينتهى بطلا مهمشا منعزلا فى الصعيد :” لم أعد أسمع عنه حتى أمس ، قرأت اسمه فى نفس الجريدة التى نشرت قائمة الصليب الأحمر ، وتأملت الصورة .. هو هو … لولا اللحية والشعر الهائش ، والدماء التى نقرشت وجهه وصدر جلبابه الأبيض …. وفى الصورة كان أحد جنود الشرطة المسلحين واقفا بجوار الجثة ، ومع أن عينيه كانتا مفتوحتين على آخرهما ، لكنهما كانتا خاليتين من هذا البريق الذى كنا نراه كلما رجع يطوح عصاه بعد مطاردة لكلب تسلل من تحت الأسلاك ” ( [18]) . يغتال فواز مطاوع إرهابيا على يد من كانوا منعمين حين كان أسيرا، ليثير اغتياله أسئلة تؤرق الباحثين عن إجابات ، فإذا لم يكن فواز مطاوع إرهابيا بطبعه، فمن الذى غرس فيه بذور الإرهاب ؟، وهل كان جزاؤه العدل أن يموت هكذا ؟ ، و لماذا يدفع الأبطال فاتورة الحساب من أرواحهم ؟ . إن أسبابا كامنة حولته لهذه الصورة ، صورة الإرهابى كما ارتسمت فى أذهان الرأى العالم ( لحية + جلباب أبيض ) ، ولكن هل كان وراء هذا التحول إرادته هو أم إرادة من أرادوا له أن يموت ليخلو لهم مساحة يكونون فيها أبطالا مزيفين بعد غياب الأبطال الحقيقيين بالموت أو بالتهميش ، يموت فواز المطارد للكلاب المتسللة (!!) وقد وجدت فرصتها بعد تهميشه لتدخل من أوسع الأبواب ، عاش فواز بطلا مصريا خفيف الدم ولكنه مات لأنه وجد فى غير زمنه ، وبظهوره فى قصة ” جراح رمضان الأخير” من المجموعة الثانية ( بفارق خمس سنوات بينهما ) يلعب دورا فنيا جديدا يتكئ على العنصر الزمنى فى عنوان النص ، مانحا الفرصة لتعدد التأويلات :
أن يكون رمضان الأخير دلاليا ( قرين حرب أكتوبر) ، ليبقى جرحا خاصا بأبطاله حيث تتحول البطولة إلى جرح لا يشعر به غير هؤلاء الذين تركت الحرب بصماتها على أرواحهم وأجسامهم ، يفاخرون بها وحدهم دون غيرهم “كان يفاخر بأنه الوحيد بيننا الذى يحمل ذكريات الحرب بالقرب من قلبه ؟ ويعرف أن هذه الشظايا تتحرك بإصرار ناحية القلب ، ولا تمل بعد كل هذه السنين أن تسعى لقتله ” ([19] ) ، عندها يكون توديع رمضان توديعا لزمن البطولات بوصفه رمزا للزمن الجميل .
أن يكون رمضان الأخير زمنيا ، بعد مرور الزمن الفارق بين زمن الحرب ، وزمن الحدث فى القصة عندها يكون ظهور فواز مطاوع رمزا يحل فى غيره من الشخصيات ، ليكون التكرار تكرارا للنموذج وليس تكرار للشخصية، وتكون استعادته بوصفه رمزا إشارة دالة لافتقاد اللحظة له تلك اللحظة التى خلت من رموز البطولة ، مما يجعل الحاجة ماسة له ولغيره من رموز البطولة ، كما يكون للمساحة الزمنية دورها فى فتح زاوية النظر لهؤلاء وما آل إليه حالهم ، فى مكانهم المعتاد ، الظاهر للعيان على المقهى يجترون آلامهم ” بمجرد أن عبرت الشارع رأيتهم يجلسون فى مكانهم المعتاد” ( [20]) يشغلهم الغد :” ولابد زاد من اضطرابهم قلقهم بشأن الغد ” ( [21]) . لقد تحمل فواز مطاوع عبء الكشف عن القضايا الكبرى ، وإثارة أسئلة من شأنها أن تثرى النص بالكثير من الدلالات .

من ناحية أخرى تمثل هدى كمال التاريخ الخفى ، الأنثوى ، الوجه الآخر للسارد بضمير المتكلم ، الذى يتحرك لموقعنا نحن المتلقين لنرى هدى كمال وجها أنثويا يلعب أدواره فى سياق النصوص ، مرة يكون قادرا على أن يطلعنا على الوجه الآخر للسارد ، وعلاقاته مع الجنس الآخر ، ونحن عبر العلاقة بهدى كمال قادرون على أن نستبطن السارد ، لقد كان ظهورها صريحا فى المجموعة الأولى عبر قصة تحمل اسمها ، وفى المجموعة الثانية ظهرت عبر ظلالها المتجسدة فى شخصيات نسائية كما فى ” أثقل من روحى على” ، و تنتقل إلى الرواية محافظة على نصها ، حيث توضع قصة هدى كمال هامشا فى نهاية الرواية منتجة دلالة التقديم والتأخير ، فقد كان لهدى كمال- قرينة مرحلة معروفة من مراحل عمر/ وعى السارد – أن تترك المجال لتقدم قضايا أخرى تفرضها المرحلة ، فإذا كانت هدى كمال تعنى الحب بمعناه الدارج فإن الظروف الراهنة ، والقضايا المطروحة لا تعطى الفرصة لطرح الحب بوصفه صيغة لعلاقة أسمى بين الأفراد ، وإذا كانت هدى كمال تعنى الإنسان فى صيغته الأسمى ، فإن على هذه الصيغة أن تتوارى مهمشة ، فقد عمل المجتمع على تهميش أبطاله والشخصيات الفاعلة فيه جاعلها هناك فى الخلفية ، ناقلا إياها من الصدارة ، وليس أدل على ذلك من الصورة الراهنة التى آل إليها حال فواز مطاوع ورفاقه (راجع قصة : جراح رمضان الأخير ) ، أما إذا كانت هدى كمال تعنى الصورة السوية ، الصحيحة للعلاقة بين الرجل والمرأة ، أو بين كائنين بشريين فإن اللحظة الراهنة – بفعل المتغيرات غير المبررة – تفرغ هذه العلاقات من مضمونها لتنزاح العلاقات الروحية بحلول كل ما هو مادى .

مهام ثقيلة

ليس الإعجاب الخاص أو العلاقة الحميمة التى تربطنى بقصة مهام ثقيلة هى العوامل الدافعة لاختيارها ، فالقصة يتوافر فيها من الإمكانات الفنية ما يتيح لها أن تكون اختزالا دالا على عالم سيد الوكيل ، كما يمكنها أن تضع فى يد المتلقى مجموعة من المفاتيح التى يمكن الاعتماد عليها فى سبر أغوار عالم الكاتب .

وأما العناصر التى تجعل من القصة تقوم بدورها /أدوارها الفنية فتتلخص فى :
· العنوان : بصيغته الوصفية يأتى العنوان مشيرا إلى السمة الأسلوبية الواضحة معالمها فى ” للروح غناها ” ومؤكدا عليها ، حيث يستثمر السارد الطاقة الدلالية فى لفظتى العنوان النكرتين ( مهام ثقيلة ) لطرح التشويق الدافع للمتلقى أن يبادر بالدخول للنص بحثا عما يزيل إبهام الصفة والموصوف وعموميتهما ، ويصل التشويق ذروته عند الوصول للصفة (ثقيلة ) ذلك التشويق المتجلى فى أسئلة عن سببية وصف المهام بهذه الصفة التى تختلف باختلاف نوعها : مهام بشرية ، أو قدرية ، إنسانية ، أو ذاتية . وعبر المعنى تتسع مساحة الدلالة لتطرح صراعا إنسانيا بين المهام الثقيلة ومن يؤديها ، وصراعا بشريا بين الآمر ( ملقى المهام ) ، والمأمور ( الملقاة عليه المهام ) ، وتتصاعد الأسئلة حتى تمس الوجود نفسه عبر أسئلة تتجه للوجود الإنسانى بشكل حاد .

المكان والإنسان والأصوات : تتأكد فى القصة آلية ظهور ملامح المكان عبر حركة الشخصيات ، تدور أحداث القصة فى مكان عبور ، مكان برزخى ، متحرك ، ثابت فى آن ، محطة ، وقطار ، محطة تضم كل أصناف البشر ولكن يقسمها السارد إلى صنفين أساسيين : عسكريين ، ومدنيين ، تتحرك الفئة الأولى حركة طولية ،منتظمة أو تحاول أن تكون هكذا ، منفتحة بامتداد حركة القطار ، والفئة الثانية تبدو بلا ملامح تتحرك فى مساحة ضيقة ( بطول القطار )، حركتهم شبه قدرية محكومة بالرصيف بوصفه صراطا ليس مسموحا تجاوزه ،أو هم أشخاص سيزيفيون ، على مستوى الفرد ” يقطع الرصيف مرات لا نهائية بطول القطار : جلدة للكارنيه …. رباط بيادة … أمواس حلاقة .” ( [22]) ، أو على مستوى الجماعة ” كثيرون يتحركون بطول الرصيف ” ( [23]) تحركهم النوازع المادية ( البائع الذى يتحرك بحثا عمن يبتاع أشياءه البسيطة ) ، أو تحركهم النوازع غير المبررة ” يدورون بلا سبب حول سرية المستجدين ” ( [24]) ، يشترك الجميع فى الحركة المنسحقة : المدنيون تحت وطأة البحث عن فرصة للحياة ، والجنود تحت وطأة البحث عن فرصة للبقاء ” كان البعض لا يزال يتلكأ كمحاولة أخيرة للبقاء ” ( [25]) فالجنود أبناء المجتمع الذى يأكل أبطاله ومحرريه – حسب قانون نهاية فواز مطاوع وأصحابه – يستشعرون لا جدوى الحركة ، ماذا سينالهم أفضل مما نال سابقيهم . ورغم انفتاح حركة الانفتاح المكانى التابعة لحركة القطار فإنها حركة لا تقدم جديدا بل تزيد من كابوسية الإحساس ، ليبقى العالم قائما فحسب دون فاعلية غير فاعليته على مستوى النص فقط ، فالقطار بوصفه الشكل الوحيد الرامز لمحاولة الخروج عن المألوف والذى كان من شأنه أن يخرج الأمور عن نطاقها اليائس ، والذى وظفه السارد للإشارة للتمرد والانتفاض تخلصا من حالة الموات ” ينتفض القطار فجأة ، مثل كائن خرافى يخرج عن سبات السنين ” ( [26]) رغم ذلك فالقطار نفسه ” الذى بدأ يتحرك فى اتجاه القضبان التى تلمع وتضيق فى أفق رمادى مطبق ، يبدو قائما هناك ، بلا فرح أو ضجر ، قائما فحسب ” ( [27]) ، وهو تعبير قوى عن حالة الموات المرسومة بعناية ، كما أنه تعبير عن شعور الأشخاص بأنهم يعيشون ، يعيشون وحسب دون فاعلية تذكر ، فقط يعيشون فى سديم من الأفق الرمادى الغائم الذى يوظفه السارد فى سياق المكان ، حيث لون الظلام هو المسيطر ، وقد أحسن السارد اللعب على عنصر الظلام ، إذ بإبرازه قد منح الفرصة لظهور الأصوات الثلاثة الموظفة فى القصة ( البائع – الصول – القطار ) يمثل الصوت البائع الرمزللبحث عن حياة مادية يسد احتياجها بربح قليل يتطلب منه حركة محكومة بالقطار طولا ، وبوجود القطار أو عدم وجوده ، ويصبح الاثنان قرينى لحظة الوجود على الرصيف / المعبر للحياة الأخرى ، حياة البائع هنا ، وحياة القطار هناك عبر من يستقلونه إلى الصحراء ، صوت البائع يحيل للباقين فى المدينة ، القابعين فيها ولا يرفعون أصواتهم إلا بصورة محايدة لا تعبر عن رأى ، فليس ثمة رأى فى كلمات قليلة يكررها البائع العجوز بشكل محايد ” نداءات واهنة لبائع عجوز ، جلدة كارنيه .. رباط بيادة .. أمواس حلاقة ، يكررها هكذا ” ( [28]) ، فى مقابل هذا الصوت يأتى صوت هتاف جماعى غامض تعبيرا عن أصوات تحاول أن يكون لها صداها ولكنها غامضة يتبين منها صوت المساعد الآمر ” قال بتوع الشلوفة يركبوا العربية الأولى ، والسويس اللى وراها ” ( [29]) ، والصوت يمثل الأمر العسكرى واجب التنفيذ ، المحاول لبث نظام روتينى ساذج فالقطار واحد مهما تعددت عرباته ، وليس من معنى للفصل بين الذاهبين للشلوفة أو السويس ، كما يمكن تنظيم هذه العملية داخل القطار ، وتأكيدا للا معنى الصوت يصفه السارد بالغموض ، ويصعد صوت المساعد درجة نحو الخروج عن الحياد ، حتى نصل إلى الصوت الثالث غير المحايد ، لأنه ببساطة يؤدى بنا للصوت المسيطر ، المعبر عن كل المسحوقين ، صوت يصدر عن القطار ، تلك الآلة الجامدة ، إنه يشبه صوت الآلة الموسيقية فى تعبيرها عن النفس الإنسانية ، والسارد يصفه بصرخات الحديد ” صرخات الحديد مجرحة مسحولة ” ( [30]) ، الصرخات هنا تحيلنا للحديد (القضبان ) المنسحقة تحت وطأة القطار ، تماما كهؤلاء البشر المنسحقين مما يرفع صوت الحديد ليكون تعبيرا عنهم ، كما أنه صوت الحديد ( القضبان وعجلات القطار ) فى تعبيره عن محاولة الخروج من حالة العناق التى كانتا فيها حال وقوف القطار .
الغياب والحضور : عملا بآلية الغياب والحضور المشار إليها سابقا ، تغيب هدى كمال ، ويحضر فواز مطاوع ، تغيب هدى كمال لأن المعانى والدلالات التى تمثلها لا مجال لها هنا ، ومن ثم يكون تغييبها تغييبا لما تمثله من معان ، ويكون فى حضور أو استحضار فواز مطاوع حلولا له بوصفه رمزا لعالم يعانى من التفكك ويقدم أبناءه وقودا مجانيا للحصول على مكاسب ليست خاصة بهؤلاء الذين يدفعون الثمن من أرواحهم ، يحضر فواز مطاوع لأن تقنية الفقد تلعب دورا له قيمته فى سياق القصة ، السارد يفتقد فواز مطاوع فيستحضره متكئا عليه فى لحظة الإحساس بالانسحاق ” وجه فواز وحده يغمرنى الآن ، حضور كثيف موحش داخلى ، وحركة الأحذية الثقيلة تسحقنى ” ( [31] ) يتكئ السارد على لحظة الأسى التى يمثلها فواز معلنا افتقاده لكل المعانى التى يحملها فواز ، ولأنه يرى فى الجنود المستجدين صورا من رفاق السلاح وعلى رأسهم فواز مطاوع ، والبائع يبيع بضاعة يحتاجها الجنود ، يفتقدونها أو يعرفون أنهم سوف يفتقدونها، لذا تلقى رواجا لديهم .

إن كثيرا من التداخلات مع القصة تمكن المتلقى أن يسبر أغوار الكثير من آلياتها ، وتبقى القصة شاهدة بشكل حقيقى على مبدع جاد يعرف فنه ويبادله الحب فجدير به أن يكون مبدعا حقيقيا فى زمن كثرت فيه الادعاءات .


* هوامش :

[1] – يمثل الحوار فى المجموعة شكلا من أشكال بناء الدلالة القصصية عند الكاتب يحتاج لدراسة منفصلة تستكشف جوانبه وطرائقه الفنية الدالة .

[2] – سيد الوكيل : للروح غناها ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1997، ص 15.

[3] – للروح غناها ص 73.

[4] – للروح غناها ص 7.

[5] – للروح غناها ص 10-11.

[6] – يدرج السارد مقطعا من قصيدة الشاعر ياسر شعبان ( ممكن أبكى ) مستثمرا دلالتها فى سياق النص .

[7] – للروح غناها ص 21.

[8] – للروح غناها ص 43.

[9] – سيد الوكيل : أيام هند ، نصوص 90، القاهرة 1991 ص 110.

[10] – نعنى بالصفة التابع النحوى ، حيث يقصر السارد أوصافه على هذه التوابع حين يمنحها للأشخاص والأشياء والأمكنة ،ولا يترتب عليها تعطيل تدفق السرد أو إيقاف تقدمه ، ونعنى بالوصف المساحة الوصفية التى توقف تقدم السرد بإيقاف الزمن .

[11] – فى ” أيام هند ” اعتمد الكاتب صيغة العنوان المفرد : حنجل – منسى – دانيال –ترزاكى – زينهم – ولد – اجتياز – احتفال – كارتون – خرير – البركة – انتظار – امرأتان – حر – الشاروقة – قصة ) ستة عشر عنوانا مفردا من أصل سبعة وعشرين، وهو ما يعنى تفوقا دلاليا لهذه الصيغة ، يكون من غير المنطقى تجاوز هذا التفوق فى سياق انتاج الدلالة النصية .

[12] – نعنى بالدرجة الصفر للدلالة بقاء الشخصية بعيدا عن النظر أو التوظيف الذى يكسبها معناها ، لتكون بمثابة اللفظة التى تكتسب دلالتها من استعمالها ، ويكاد لا يكون لها دلالة تذكر إذا ما بقيت بعيدا عن سياق يستخرج كوامنها الدلالية .

[13] – نستند هنا على واحد من معطيات البلاغة ، يعنى أنها قدرة على الاختيار ، وأن بلاغة اللفظ تكمن فى وظيفته ، كما أن تساوى غياب اللفظ وحضوره يعنى افتقاده لوظيفته ومن ثم دلالته ، لذا يكون غياب الذات مؤذنا بحضور المعنى، ويمكن للذات أن تكتسب معناها فى الغياب أكثر منه فى الحضور .

[14] – انظر : أيام هند ، ص 13.

[15] – للروح غناها ص 40.

[16] – يتكرر ظهور هدى كمال فى مجموعتى الكاتب ، وروايته ، تكرارا ليس مجانيا تنبنى عليه الكثير من الدلالات .

[17] – باستثناء مجموعة الأشخاص فى قصة ” جراح رمضان الأخير ” ( عيسوى –أحمد طه – عبد اللطيف – أحمد شكرى )، وهى شخصيات تقترب كثيرا من فواز مطاوع لتشاركه مساحة الواقعية التى تمنحها له النصوص ، فهى شخصيات لا يقدمها الكاتب بوصفها الشخصيات السردية المجهولة ، وإنما يكون ذكر أسمائها وسيلة للتعريف بها ، فلا يقدم لها أدنى قدر من الصفات التى تزيل عنها جهل المتلقى بها .

[18] – أيام هند ، ص 15.

[19] – للروح غناها ص 30.

[20] – للروح غناها ص 28.

[21] – السابق نفسه .

[22] – للروح غناها ص 39.

[23] – للروح غناها ص 40.

[24] – السابق نفسه .

[25] – للروح غناها ص 41.

[26] – للروح غناها ص 40.

[27] – للروح غناها ص 41.

[28] – للروح غناها ص 39. والبيادة : حذاء الجندى .

[29] – للروح غناها ص 40.

[30] – السابق نفسه .

[31] – السابق نفسه .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى