كلما غابت الفلسفة عن الحياة اليومية حوصر المجتمع والفرد بثنائية الحلال والحرام (أ ف ب)
لماذا تطغى ظاهرة "الإيمان العنيف" في مجتمعاتنا التي يقول فقهاؤها وسياسيوها وبعض مثقفيها إنها تعيش في ظل "الدين الحنيف"؟ ولماذا يا ترى يتصالح مجتمع كمجتمعنا مع ثقافة "الإيمان العنيف"؟
في مجتمعاتنا العربية والمغاربية، كل شيء يمارس بالعنف وفي العنف، عنف في السياسة، عنف في المدرسة، عنف في الشارع، عنف في الأسرة وعنف في الخطاب، وحين يكون الفرد محاصراً بهذا الشكل فاعلم أن العنف سيمس "الإيمان" أيضاً.
كلما غابت الفلسفة عن الحياة اليومية حوصر المجتمع والفرد بثنائية الحلال والحرام، المقدس والمدنس وعظم العنف.
كلما غاب السؤال أو غيب، تعاظم العنف وكثر الدجل وارتفع صوت البهتان عالياً في السياسة والدين والثقافة والأخلاق.
كلما غابت الثقافة الحرة حاملة القيم الإنسانية الكبرى من خلال المسرح والأدب والموسيقى والفن التشكيلي، سقط المجتمع ضحية "الإيمان العنيف".
لقد عاشت المجتمعات الإنسانية أشكالاً متنوعة من العنف، وفي كل هذه الحالات كان وقود هذا العنف إما القومية أو العنصرية أو الدين، فجميع الحروب التي قامت وجميع الصراعات القائمة الآن سببها هذا الثالوث.
منذ أقدم العصور، يستقي العنف مشروعيته الوجودية المرضية من فكرة التفوق القومي أو العنصري أو الديني، ومن هذا الوهم الثلاثي يتولد الاستعمار بكل أشكاله السياسية والاقتصادية ويتولد الاستغلال البشري والجسدي ضد العامل والطفل والمرأة.
ومن وهم "التفوق"، ينتج الخوف من الآخر "فوبيا الآخر"، هذا الآخر الذي ينتمي إلى قومية أخرى أو دين مختلف أو لون مختلف، الخوف من أن يبتلع الواحد الآخر، ومن حال الخوف ينتج رد الفعل في شكل عنف يتستر بغطاء الإيمان، الإيمان القومي أو الإيمان الديني.
ويتجلى "الإيمان العنيف" كصورة للعنف المعمم في أشكال ممارسة السلطة الدينية هيمنتها سواء على الفرد أو على الجماعة، ويخبرنا التاريخ العربي والإسلامي عن فصول رهيبة من أشكال وفنون العنف الإيماني السياسي والديني الذي مورس ولا يزال يمارس على دعاة سلطة العقل، وقد حدثنا بشكل واف الباحث الأستاذ هادي العلوي (1932-1998) من خلال كتابيه الأساسيين "من تاريخ التعذيب في الإسلام" و"الاغتيال السياسي في الإسلام" عن هذه الأمراض السياسية والدينية والثقافية التي عاشها المواطن العربي والمسلم خلال 14 قرناً وعن أشكال التعذيب وفنون التنكيل التي عرفها الفرد الحر في المجتمعات العربية والإسلامية.
وينمو الإيمان العنيف حين تغيب الحجة في الإقناع السياسي أو الديني ويخشى ذوو السلطان على سلطتهم، فيكثر التكفير ويعم الحجر على حرية التفكير، وفي مثل هذا الوضع يسقط المجتمع في حال هيجان غريبة ويسقط العقل الجمعي في حال هذيان هستيري، حيث الجميع يصرخ، الخطيب يصرخ، الشاعر يصرخ، المغني يصرخ، الزوج يصرخ، المعلم يصرخ، بائع السردين الجوال يصرخ، سائق الحافلة يصرخ، صاحب التاكسي يصرخ، المؤذن يصرخ... كل ما هو حولنا يصرخ، ولا أحد يسمع أحداً. وينتج جراء ذلك خطاب عنيف في لغته، وهو ما تعيشه مجتمعاتنا العربية والمغاربية.
إعلم أنه كلما عم الصراخ الديني قل الإيمان الروحي وعم الإيمان العنيف.
واعلم أنه كلما عم الإيمان العنيف كثرت مظاهر التدين الزائف وقل الدين الحنيف.
واعلم أنه كلما كثر الحديث السياسي عن الوطنية إلا وقل حب الوطن وكثرت الخيانات.
في مجتمع يسيطر فيه الإيمان العنيف، يفقد المؤمن الصادق حريته الفردية في اختيار طرق علاقته بالله وأشكال حبه له.
فطغيان ظاهرة "الإيمان العنيف" يفرض طريقاً وحيداً إلى الله هو الطريق الذي يرسمه ويحدده الدين السياسي، فالإيمان العنيف هو الذراع اليمنى للدين السياسي، بحيث يجب أن يؤمن الجميع بالطريقة ذاتها التي يؤمن بها القائد الذي ينصب نفسه ظلا لله ومالكاً وماسكاً بمفاتيح الجنة.
في "الإيمان العنيف"، يبدو "الله" عز وجل وكأنه ملكية خاصة بجماعة لا يشاركهم فيها أحد!
وفي ظاهرة الإيمان العنيف، يحارب الإيمان الفردي ويفرض سلوك التابع، والإيمان العنيف هو حال سيكولوجية تتجلى بشكل واضح لدى الشخص الفاقد الثقة بدينه، وهو بعنفه الإيماني يعتقد أنه يؤكد سلطة دينه وذلك من خلال فرض مظاهر "التدين الزائف" التي تفقد الدين جوهره المتمثل في العلاقة الفردية الروحانية بين البشر والإله.
ويرى الممارس للإيمان العنيف أن دينه قد يتلاشى أو ينتهي أو يختفي بمجرد وجود آخرين يمارسون الإيمان بالدين ذاته، ولكن بطريقة مختلفة عن طريقته أو بوجود آخرين يؤمنون بدين آخر أو لا يؤمنون بأي دين.
ولا يترعرع الإيمان العنيف إلا في حال هيمنة الدين السياسي، فكلما تسيس الدين فرغ الإيمان من طقوسه الروحية ودخل في باب "التدين المظهري" والنفاق الاجتماعي الجمعي، وهذا ينطبق على جميع الديانات.
وتحت سلطة "الإيمان العنيف"، يتعلم المتدين شيئاً مركزياً هو "الخوف"، الخوف من القائد الديني أولاً، ثم الخوف من الجماعة، ثم الخوف من الله الذي من المفترض أنه لا يشكل "خوفاً"، لكنه صورة للحب الأسمى.
وفي ممارسة ظاهرة "الإيمان العنيف"، يختلط وسواس التفوق بوسواس عقدة النقص.
وتلعب المدرسة في المجتمعات العربية والمغاربية دوراً أساسياً في إذكاء نار "الإيمان العنيف" وذلك من خلال ربط التعليم بالأيديولوجيا، والعمل على إشاعة "التدين" الظاهري في جميع ميادين الحياة اليومية كطريق إلى السلطة والتميز الاجتماعي.
إن إدانة العنف ومحاربته، كل أشكال العنف في المجتمع هي قضية المثقفين أولاً، لأن العنف لا يتكرس في السياسة والدين السياسي إلا إذا فرغ المجتمع من الثقافة الإنسانية المتجسدة في الكتاب الجيد والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى الراقية.
أمين الزاوي
المقال الأسبوعي المنشور بأندبندت اللندنية الخميس 25 أوت 2022.
Ma chronique hebdomadaire publiée dans INDEPENDENT londonien du jeudi 25 août 2022.
الرابط: https://www.independentarabia.com/.../الإ...)
لماذا تطغى ظاهرة "الإيمان العنيف" في مجتمعاتنا التي يقول فقهاؤها وسياسيوها وبعض مثقفيها إنها تعيش في ظل "الدين الحنيف"؟ ولماذا يا ترى يتصالح مجتمع كمجتمعنا مع ثقافة "الإيمان العنيف"؟
في مجتمعاتنا العربية والمغاربية، كل شيء يمارس بالعنف وفي العنف، عنف في السياسة، عنف في المدرسة، عنف في الشارع، عنف في الأسرة وعنف في الخطاب، وحين يكون الفرد محاصراً بهذا الشكل فاعلم أن العنف سيمس "الإيمان" أيضاً.
كلما غابت الفلسفة عن الحياة اليومية حوصر المجتمع والفرد بثنائية الحلال والحرام، المقدس والمدنس وعظم العنف.
كلما غاب السؤال أو غيب، تعاظم العنف وكثر الدجل وارتفع صوت البهتان عالياً في السياسة والدين والثقافة والأخلاق.
كلما غابت الثقافة الحرة حاملة القيم الإنسانية الكبرى من خلال المسرح والأدب والموسيقى والفن التشكيلي، سقط المجتمع ضحية "الإيمان العنيف".
لقد عاشت المجتمعات الإنسانية أشكالاً متنوعة من العنف، وفي كل هذه الحالات كان وقود هذا العنف إما القومية أو العنصرية أو الدين، فجميع الحروب التي قامت وجميع الصراعات القائمة الآن سببها هذا الثالوث.
منذ أقدم العصور، يستقي العنف مشروعيته الوجودية المرضية من فكرة التفوق القومي أو العنصري أو الديني، ومن هذا الوهم الثلاثي يتولد الاستعمار بكل أشكاله السياسية والاقتصادية ويتولد الاستغلال البشري والجسدي ضد العامل والطفل والمرأة.
ومن وهم "التفوق"، ينتج الخوف من الآخر "فوبيا الآخر"، هذا الآخر الذي ينتمي إلى قومية أخرى أو دين مختلف أو لون مختلف، الخوف من أن يبتلع الواحد الآخر، ومن حال الخوف ينتج رد الفعل في شكل عنف يتستر بغطاء الإيمان، الإيمان القومي أو الإيمان الديني.
ويتجلى "الإيمان العنيف" كصورة للعنف المعمم في أشكال ممارسة السلطة الدينية هيمنتها سواء على الفرد أو على الجماعة، ويخبرنا التاريخ العربي والإسلامي عن فصول رهيبة من أشكال وفنون العنف الإيماني السياسي والديني الذي مورس ولا يزال يمارس على دعاة سلطة العقل، وقد حدثنا بشكل واف الباحث الأستاذ هادي العلوي (1932-1998) من خلال كتابيه الأساسيين "من تاريخ التعذيب في الإسلام" و"الاغتيال السياسي في الإسلام" عن هذه الأمراض السياسية والدينية والثقافية التي عاشها المواطن العربي والمسلم خلال 14 قرناً وعن أشكال التعذيب وفنون التنكيل التي عرفها الفرد الحر في المجتمعات العربية والإسلامية.
وينمو الإيمان العنيف حين تغيب الحجة في الإقناع السياسي أو الديني ويخشى ذوو السلطان على سلطتهم، فيكثر التكفير ويعم الحجر على حرية التفكير، وفي مثل هذا الوضع يسقط المجتمع في حال هيجان غريبة ويسقط العقل الجمعي في حال هذيان هستيري، حيث الجميع يصرخ، الخطيب يصرخ، الشاعر يصرخ، المغني يصرخ، الزوج يصرخ، المعلم يصرخ، بائع السردين الجوال يصرخ، سائق الحافلة يصرخ، صاحب التاكسي يصرخ، المؤذن يصرخ... كل ما هو حولنا يصرخ، ولا أحد يسمع أحداً. وينتج جراء ذلك خطاب عنيف في لغته، وهو ما تعيشه مجتمعاتنا العربية والمغاربية.
إعلم أنه كلما عم الصراخ الديني قل الإيمان الروحي وعم الإيمان العنيف.
واعلم أنه كلما عم الإيمان العنيف كثرت مظاهر التدين الزائف وقل الدين الحنيف.
واعلم أنه كلما كثر الحديث السياسي عن الوطنية إلا وقل حب الوطن وكثرت الخيانات.
في مجتمع يسيطر فيه الإيمان العنيف، يفقد المؤمن الصادق حريته الفردية في اختيار طرق علاقته بالله وأشكال حبه له.
فطغيان ظاهرة "الإيمان العنيف" يفرض طريقاً وحيداً إلى الله هو الطريق الذي يرسمه ويحدده الدين السياسي، فالإيمان العنيف هو الذراع اليمنى للدين السياسي، بحيث يجب أن يؤمن الجميع بالطريقة ذاتها التي يؤمن بها القائد الذي ينصب نفسه ظلا لله ومالكاً وماسكاً بمفاتيح الجنة.
في "الإيمان العنيف"، يبدو "الله" عز وجل وكأنه ملكية خاصة بجماعة لا يشاركهم فيها أحد!
وفي ظاهرة الإيمان العنيف، يحارب الإيمان الفردي ويفرض سلوك التابع، والإيمان العنيف هو حال سيكولوجية تتجلى بشكل واضح لدى الشخص الفاقد الثقة بدينه، وهو بعنفه الإيماني يعتقد أنه يؤكد سلطة دينه وذلك من خلال فرض مظاهر "التدين الزائف" التي تفقد الدين جوهره المتمثل في العلاقة الفردية الروحانية بين البشر والإله.
ويرى الممارس للإيمان العنيف أن دينه قد يتلاشى أو ينتهي أو يختفي بمجرد وجود آخرين يمارسون الإيمان بالدين ذاته، ولكن بطريقة مختلفة عن طريقته أو بوجود آخرين يؤمنون بدين آخر أو لا يؤمنون بأي دين.
ولا يترعرع الإيمان العنيف إلا في حال هيمنة الدين السياسي، فكلما تسيس الدين فرغ الإيمان من طقوسه الروحية ودخل في باب "التدين المظهري" والنفاق الاجتماعي الجمعي، وهذا ينطبق على جميع الديانات.
وتحت سلطة "الإيمان العنيف"، يتعلم المتدين شيئاً مركزياً هو "الخوف"، الخوف من القائد الديني أولاً، ثم الخوف من الجماعة، ثم الخوف من الله الذي من المفترض أنه لا يشكل "خوفاً"، لكنه صورة للحب الأسمى.
وفي ممارسة ظاهرة "الإيمان العنيف"، يختلط وسواس التفوق بوسواس عقدة النقص.
وتلعب المدرسة في المجتمعات العربية والمغاربية دوراً أساسياً في إذكاء نار "الإيمان العنيف" وذلك من خلال ربط التعليم بالأيديولوجيا، والعمل على إشاعة "التدين" الظاهري في جميع ميادين الحياة اليومية كطريق إلى السلطة والتميز الاجتماعي.
إن إدانة العنف ومحاربته، كل أشكال العنف في المجتمع هي قضية المثقفين أولاً، لأن العنف لا يتكرس في السياسة والدين السياسي إلا إذا فرغ المجتمع من الثقافة الإنسانية المتجسدة في الكتاب الجيد والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى الراقية.
أمين الزاوي
المقال الأسبوعي المنشور بأندبندت اللندنية الخميس 25 أوت 2022.
Ma chronique hebdomadaire publiée dans INDEPENDENT londonien du jeudi 25 août 2022.
الرابط: https://www.independentarabia.com/.../الإ...)