أدب السجون حسن عبادي - نصوص سجينة تعانق الحريّة

"أدب السجون" هو مصطلح يعنى بالكتابات التي أُلِّفت في السجن أو عن السجن، يعنى بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسيّ المثقّف الذي يسعى إلى التغيير. ولهذا ثمّة وصف دقيق للسجن وأهواله، وعنف الجلّادين ووحشيّتهم. وفي ظلّ هذه المعادلة الدمويّة والقاسية بين الجلّاد والضحيّة؛ السلطة والمثقّف السياسيّ، يأتي أدب السجون ليؤكّد على إدانة هذا العصر؛ عصر القمع وانتهاك حقوق الإنسان، فيدين أساليب القهر السياسيّ والقمع الفكريّ التي تحدّ من حرّيّة المواطن وتعتدي على حقوقه وتمنعه من حرّيّة التعبير والرأي.
إنّ أدب السجون هو شهادة ووثيقة، يكتب ليفضح ويعرّي ويحرّض، هو وليد تجربة حيّة، قد يكون كاتبه هو من عايش تجربة السجن شخصيَّا أو أنّه سمع عنها فعاشها بتجارب الآخرين، وهو دائمًا يتمّ بعد انتهاء التّجربة الموجعة البشعة، وعلى سبيل الاسترجاع، إذ يكتب وينشر خارج الوطن، بعيدًا عن النظام السياسيّ القائم خوفًا من ردّ فعل النظام والرقابة، أو بعد زوال هذا النظام المتّهم بالقمع" هذا ما تقوله الباحثة الفلسطينيّة د. لينا حبيب الشّيخ حشمة، صاحبة كتاب "أدب السّجون في مصر، سورية والعراق، الحريّة والرّقيب" وشاركتها بمداخلة، في أمسية حول الكتاب، يوم الاثنين الفائت 12.11.18 في متحف محمود درويش في رام الله.
شاركت يوم الخميس 8.11.18 في أمسية ثقافيّة في نادي حيفا الثقافي تناولت الأعمال القصصيّة "عطر الإرادة" للأسير المقدسيّ سائد سلامة ومجموعة "أمّا بعد" للأسير المحرّر كفاح طافش وكان واضحًا أنّ الكتابة عن السجون موجعة، لكنّ الصمت عنها، أكثر وجعًا، فهو أدب ثائر في وجه من يُصادر الحريّة.

نظّم التجمّع الوطني الديمقراطي في حيفا يوم السبت 10.11.18، أمسية إشهار "حكاية سرِّ الزيت" للأسير وليد دقّة (رواية لليافعين، تحوي في طيّاتها 95 صفحة، صادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في رام الله، رسومات الفنّان فؤاد اليماني وتصميم حنين الخيري).

رصد كتاب جمر المحطّات، كتاب تحت الطبع، للصحافي بسام الكعبي، في بعض محطّاته جمرَ ذوي الأسرى في طريقهم لتلمِس جمر الأسرى، وأبرز تقديم الكاتب الذي جاء تحت عنوان (السرد بين الجمر والرماد) جانباً واسعاً من أدب السجون في فلسطين والبلاد العربيّة وأميركا اللاتينيّة. جاء فيه: "الأسير وليد نمر دقة (1961) من بلدة باقة الغربيّة، في الأراضي المحتلّة منذ عام 1948، كشف في نصّه "الزمن الموازي" تفاصيل حياة الأسير التي تسير في زمن موازٍ للزمن الاعتيادي للبشر في ظلّ ثبات المكان ونمط الحياة في المعتقل، وغياب حريّة التكيّف مع الزمن الحقيقي "إلّا حين يلتقي الزمنان عند شباّك الزيارة". في السجن المتواصل منذ ثلاثة عقود ونيف انشغل وليد بالحركة الأسيرة، وخاض نضالاتها لانتزاع حقّ الأسرى في التعلّم، واهتمّ بدراسته الأكاديميّة وحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسيّة.
أصدر سنة 2010 دراسة بعنوان" صهر الوعي" أو إعادة تعريف التعذيب، كشف فيها سياسة الاحتلال باستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيليّة. وسجّل وليد في وثيقته المحكمة: "باتت السجون الإسرائيليّة اليوم بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، وهي أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين."

جاء جود -بطل "رواية" حكاية سرِّ الزيت- إلى الدنيا من نطفةٍ هرَّبها والده من السجن، وعقابًا له حرموه من زيارته؛ (وهنا تجدر الإشارة أنّ السلطات الإسرائيليّة تمنع الأسرى الفلسطينيّين من "الخلوة الشرعيّة" كما هو متبّع في معظم سجون العالم، بما في ذلك السجناء المدنيّين في السجون الإسرائيليّة)، وحين بلغ الثانية عشر من عمره صار همّه الأول اللقاء بوالده خلف القضبان والتعرّف إليه، رغم المنع الأمني. يحاول جود الوصول إلى والده الأسير فيسخّر الحيوان والنبات لمساعدته (يذكّرني بكليلة ودمنة وغيرها من الحكايا والأساطير) لتنفيذ مهمّته، وتصير زيتونة "إم رومي" التي احتضنته في تجاويفها هي المنقذ.

تتناول الرواية قضية الحرية كموتيف مركزي، ورغم الحواجز والقضبان ينجح جود بالوصول إلى زنزانة والده الأسير داخل السجن، بمساعدة رفاقه من الحيوانات ووصفة إم الرومي وسرّها، فزيتها "السحريّ" الذي يخفي المرض ولا يشفيه بالضرورة يعينه على ذلك. السرّ معرفة، والمعرفة تمنح مالكها قوةً، والقوة خيارات، والقدرة على الاختفاء عن أعين الناس، ويغدو الزيت دواءً إذا اتّخذت القرار الصحيح، ووباء العصر هو فقدان الحريّة، على حدّ قوله، وعليك أن تبحث عن الزيت في عقلك وعلمك حتّى تكتشف باطن السرِّ كي تعالج باطن الوباء ويصل إلى النتيجة الحتميّة: "وباء العصر هو فقدان الحرية.. ولفقدان الحريّة ظاهرٌ وباطنٌ، السجون والحواجز والجدار والأسلاك الشائكة عند الحدود على أنواعها هي ظاهر فقدان الحريّة، أما باطن الوباء فهو فقدان العقل، أو ما يسمُّونه بعموميّة الجهل، وهو أخطر السجون وأشدُّها قسوة. ما سأملِّكك إيّاه من سرِّ الزيت هو الإخفاء الذي سيمكنك فقط من علاج ظاهر وباء العصر، وعليك أن تبحث عن الزيت في عقلك وعلمك حتى تكتشف باطن السرِّ كي تعالج باطن الوباء". (ص59)

الطريق إلى الحريّة بموجب الرواية هي البحث بالعلم، الإعداد وضبط الخطوات بسريّة تامّة، ومن ثمّ الثورة والانتفاض لتنجح بالتحرّر من القيود لتحقّق مستقبلًا أفضل: "المستقبل هو أحقّ أسير بالتحرير"، فسرّ الزيت ما إن تمسحه على جسدك حتى تصبح غير مرئي، وباستعماله لذلك الزيت "السحريّ" استطاع زيارة والده الأسير في زنزانته، وهكذا يحقّق أمنيته كما جاء في أوّل الكتاب: "أكتب حتّى أتحرّر من السجن على أمل أن أُحرِّرهُ منّي".

استعملَ وليد لغةً بسيطةً وسهلةً نسبيًّا وخاليةً في مجملِها من غريبِ اللفظِ، تحملُ رسالةً واضحةً، لكنّه بالغ في استعمال اللغة المحكيّة بلهجات مختلفة لا تخصّ منطقة باقة، وربّما يعود ذلك إلى "لغة الأسرى المحكيّة" من مناطق مختلفة فاختلطت عليه الأمور بعد السنين الطويلة خلف القضبان؟ ممّا أفقدها مصداقيّتها فباتت مبتذلة بعض الشيء! واستعماله للهوامش لم يكن موفّقًا ولا لزوم لها، أثقل النصّ وبات عبئًا ثقيلًا عليه.

أخذني تناوله لاقتلاع الزيتونة ونقلها إلى العفولة للزينة للوحة "نقل أشجار الزيتون" للفنّان أحمد كنعان التي عرضها في معرضه "قريب من البيت" وكتبت في حينه: "يتمّ اقتلاعها عنوةً من قرى الضفّة الغربيّة ونقلها إلى بؤر استيطانيّة في الداخل الفلسطينيّ لمحو الهويّة الفلسطينيّة من الحيّز والتخلّص منها وفبركة التاريخ وتجييره – قولًا وفعلًا !! فاجتثاث الزيتون ونقله واضح وجليّ للإسراع في تهويد المعالِم من أجل صياغة صورة جديدة وخلق حيّز يهوديّ للمكان من خلال الاقتلاع والتجريف كي لا تبقى تلك الأشجار شاهدًا على تلك الجريمة النكراء وعلى التطهير العرقيّ المقيت لفلسطين".

ملاحظة لا بدّ منها، لفت انتباهي أنّ الكتاب صدر بدعم من ""diakonia؛ وهي منظّمة سويديّة شعارُها: "أناس يغيّرون العالم"، وضمن أهدافها: "من المعلوم لدينا أنّه من الممكن تغيير العالم، ولكنّنا نعرف أيضًا أنّ التغيير لا يدوم إلّا إذا كان نابعًا من الداخل، من صميم الإنسان نفسه. وعندما يدرك كلّ من النساء والرجال ما لهم من حقوق ويعزمون على أن يتّحدوا فيما بينهم، فإنّ جهودهم المشتركة سوف تثمر عن نتائج ملموسة. إنّنا نريد أن نغيّر العالم" وهذا ما قالته إم الرومي لجود!! وهنا تساءلت: هل هناك علاقة بين الجهة المانحة وبين ما كتبه وليد على لسان إم الرومي؟!؟ هل خفّضت سقف مطالب، توقّعات وأحلام جود وأبعدته عن الجمرِ كي لا تحترق أصابعه طواعيّة؟

تحية خالصة وخاصة لوليد ولجميع أسرى وأسيرات الحرية في السجون آملاً لهم إفراجًا قريبا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
439
آخر تحديث
أعلى