الحلقة الثامنة
لم يتوقف حسنُ حنفي عند حدود إعادة بناء التراث، بل أوقعَ الفكرَ العربي في عدة التباسات ضبابية عندما حاول أن يدرسَ الغربَ وحضارته ومعارفه، واحدة منها الادعاُء بتأسيس: "علم الاستغراب" الذي يدرسُ فيه الشرقُ الغربَ كما درسَ الغربُ الشرقَ في "الاستشراق". ذاع صيتُ عنوان "علم الاستغراب" وأضحى موضةً ثقافية، بعد أن نسخ عنوانَه بعضُ الذين يكتبون بلا تكوينٍ علمي رصين، ومن دون تدبرٍ عميق وتفكيرٍ صبور، فعملوا ضجة إصدارات، تكدّست فيها ألفاظٌ فوق ألفاظ بلا مضمونٍ معرفي دقيق، وكلماتٌ يمكن أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول الشيءَ الذي يبحث عنه القراء.
لافتة "علم الاستغراب" أغوت المسكونين بالتفسير التآمري لنشأة العلوم والمعارف الحديثة، ممن يعتقدون أن حضورَها في مدارسنا وجامعاتنا وثقافتنا أحدُ أدوات شباك الامبريالية للهيمنة على العالم، وهذا الكلام تلتقي منه كتاباتُ يسارية وقومية وأصولية. أشغلنا "علم الاستغراب" بشعاراتٍ فضفاضة وأحلامٍ غريبة، ترسم خارطةً ذهبية لمستقبل الوعي والتنمية العلمية في بلادنا، خارطة افتراضية تضع مسارَ الحضارة الإسلامية في ثلاث مراحل، كلُّ مرحلة سبعة قرون. السبعة الأولى مرحلة النهوض والازدهار تبدأ بالقرن الأول للهجرة لتنتهي في السابع، الثانية مرحلة الانحطاط تبدأ بالقرن الثامن وتنتهي في الرابع عشر الهجري، الثالثة مرحلة النهضة الحضارية الجديدة تبدأ بالقرن الخامس عشر الهجري وتظلّ تتواصل وتتكرّس سبعة قرون. يتراكم فيها، كما يتنبأ حسن حنفي تقدّمٌ على تقدم، وابتكاراتٌ مبهرة في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والآداب، وبناءُ الدولة المثالية، والتنميةُ الشاملة. إنها المرحلةُ التي يولِّد فيها الإنسانُ المسلم علومَه الخاصة ويستغني عن علوم الآخر ومعارفه. القارئ الذكي يجد هذه السباعيةَ محاكيةً في قالبها للمادية التاريخية شكليًا، وإن كانت عاجزةً عن البناء النظري للماديةِ التاريخية واشتقاقِها من الرؤية الفلسفية العميقة للمادية الديالكتيكية، بغضّ النظر عن رفضنا للرؤية الفلسفية المادية.
لا معرفةَ مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ مكتفية بذاتها، لا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها. كلُّ حضارة حيّة مركب تنصهر فيه عصارةُ حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا بولادة تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة، تلتقي هذه الخبراتُ بمركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالمي في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. التكنولوجيا، والعلوم الطبيعية والعلوم الصرفة كونية، العلوم الإنسانية الكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته. حين تنغلق الحضارةُ على نفسها تدخل مسارَ انحطاطها وموتها واندثارها. يقول حسن حنفي: (عندما كتبت "موقفنا من التراث الغربي" في يناير 1971، أحدد فيه معالم الاستغراب، رد عليه فؤاد زكريا في نفس العدد بمقال: "دفاع عن الثقافة العالمية". في حين أنه في ندوة المجلس الأعلى للثقافة عن الكتاب "مقدمة في علم الاستغراب" أتى مهاجمًا اياه مبينًا استحالته. لم يكن من المناقشين، ولكنه حضر خصيصًا، وتكلم من القاعة مع الحضور)1 .
شغلنا #حسن_حنفي بترويج مصطلح الاستغراب، الذي يدعونا لضرورة الاستغناء عن تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها على وفق معطيات العلوم والمعارف الحديثة. لافتة الاستغراب ترفض علومَ الفهم والتفسير، ومعطياتِ العلوم المتنوعة في تفسير السلوك الفردي والمجتمعي، وتشدّد على العودةِ إلى التراث والانطلاقِ منه لبناء علومنا المحلية في ضوء هويتنا وذاكرتنا وحضارتنا. استغناء المفكر اليوم عن الثقافة العالمية ومشترَكات الوعي البشري غير ممكن. عجز حنفي نفسه عن الاستغناء عن المعرفة الغربية. استيعابُه للمعرفة الحديثة واسع، وتوظيفُه للغتها ومصطلحاتها وأدواتها كبير،كلُّ مَن قرأ أعمالَه يرى ذلك بوضوح...... تتمة المقال على الرابط:
عبدالجبار الرفاعي
لم يتوقف حسنُ حنفي عند حدود إعادة بناء التراث، بل أوقعَ الفكرَ العربي في عدة التباسات ضبابية عندما حاول أن يدرسَ الغربَ وحضارته ومعارفه، واحدة منها الادعاُء بتأسيس: "علم الاستغراب" الذي يدرسُ فيه الشرقُ الغربَ كما درسَ الغربُ الشرقَ في "الاستشراق". ذاع صيتُ عنوان "علم الاستغراب" وأضحى موضةً ثقافية، بعد أن نسخ عنوانَه بعضُ الذين يكتبون بلا تكوينٍ علمي رصين، ومن دون تدبرٍ عميق وتفكيرٍ صبور، فعملوا ضجة إصدارات، تكدّست فيها ألفاظٌ فوق ألفاظ بلا مضمونٍ معرفي دقيق، وكلماتٌ يمكن أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول الشيءَ الذي يبحث عنه القراء.
لافتة "علم الاستغراب" أغوت المسكونين بالتفسير التآمري لنشأة العلوم والمعارف الحديثة، ممن يعتقدون أن حضورَها في مدارسنا وجامعاتنا وثقافتنا أحدُ أدوات شباك الامبريالية للهيمنة على العالم، وهذا الكلام تلتقي منه كتاباتُ يسارية وقومية وأصولية. أشغلنا "علم الاستغراب" بشعاراتٍ فضفاضة وأحلامٍ غريبة، ترسم خارطةً ذهبية لمستقبل الوعي والتنمية العلمية في بلادنا، خارطة افتراضية تضع مسارَ الحضارة الإسلامية في ثلاث مراحل، كلُّ مرحلة سبعة قرون. السبعة الأولى مرحلة النهوض والازدهار تبدأ بالقرن الأول للهجرة لتنتهي في السابع، الثانية مرحلة الانحطاط تبدأ بالقرن الثامن وتنتهي في الرابع عشر الهجري، الثالثة مرحلة النهضة الحضارية الجديدة تبدأ بالقرن الخامس عشر الهجري وتظلّ تتواصل وتتكرّس سبعة قرون. يتراكم فيها، كما يتنبأ حسن حنفي تقدّمٌ على تقدم، وابتكاراتٌ مبهرة في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والآداب، وبناءُ الدولة المثالية، والتنميةُ الشاملة. إنها المرحلةُ التي يولِّد فيها الإنسانُ المسلم علومَه الخاصة ويستغني عن علوم الآخر ومعارفه. القارئ الذكي يجد هذه السباعيةَ محاكيةً في قالبها للمادية التاريخية شكليًا، وإن كانت عاجزةً عن البناء النظري للماديةِ التاريخية واشتقاقِها من الرؤية الفلسفية العميقة للمادية الديالكتيكية، بغضّ النظر عن رفضنا للرؤية الفلسفية المادية.
لا معرفةَ مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ مكتفية بذاتها، لا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها. كلُّ حضارة حيّة مركب تنصهر فيه عصارةُ حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا بولادة تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة، تلتقي هذه الخبراتُ بمركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالمي في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. التكنولوجيا، والعلوم الطبيعية والعلوم الصرفة كونية، العلوم الإنسانية الكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته. حين تنغلق الحضارةُ على نفسها تدخل مسارَ انحطاطها وموتها واندثارها. يقول حسن حنفي: (عندما كتبت "موقفنا من التراث الغربي" في يناير 1971، أحدد فيه معالم الاستغراب، رد عليه فؤاد زكريا في نفس العدد بمقال: "دفاع عن الثقافة العالمية". في حين أنه في ندوة المجلس الأعلى للثقافة عن الكتاب "مقدمة في علم الاستغراب" أتى مهاجمًا اياه مبينًا استحالته. لم يكن من المناقشين، ولكنه حضر خصيصًا، وتكلم من القاعة مع الحضور)1 .
شغلنا #حسن_حنفي بترويج مصطلح الاستغراب، الذي يدعونا لضرورة الاستغناء عن تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها على وفق معطيات العلوم والمعارف الحديثة. لافتة الاستغراب ترفض علومَ الفهم والتفسير، ومعطياتِ العلوم المتنوعة في تفسير السلوك الفردي والمجتمعي، وتشدّد على العودةِ إلى التراث والانطلاقِ منه لبناء علومنا المحلية في ضوء هويتنا وذاكرتنا وحضارتنا. استغناء المفكر اليوم عن الثقافة العالمية ومشترَكات الوعي البشري غير ممكن. عجز حنفي نفسه عن الاستغناء عن المعرفة الغربية. استيعابُه للمعرفة الحديثة واسع، وتوظيفُه للغتها ومصطلحاتها وأدواتها كبير،كلُّ مَن قرأ أعمالَه يرى ذلك بوضوح...... تتمة المقال على الرابط:
عبدالجبار الرفاعي