د. سامي عبد العال - السلفيّة العلميّة !!

"السلفية العلمية" مصطلحٌ ينطوي على تناقض في دلالته. أساسُ التناقض هو الجمع بين كلمتي( السلفية والعلم ) في وعاءٍ فكري واحد. ولو أردنا التوضيح مع فارق التشبيه، فهو مثل الجمع بين الحار والبارد، بين الماء والنار. أي التداخل بين الموقف الأيديولوجي والمستوى المعرفي ناهيك عن وجود ( خلفية سيكولوجية ) ضمن المسألة. لأنَّ هناك ( تفضيلاً وانحيازاً ) غير مُباشرين يبرران خلطاً غريباً بين الاعتقاد والعقل. بينما أساس الاشكال بلغة المنطق أنَّ كلمتي السلفية والعلم حدان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً، إذا وُجدَ أحدهما غاب الآخرُ بالتبعية. فلكل كلمة من الكلمتين حقلها الدلالي المختلف، حيث أنَّ دلالة الكلمة كـ( السلفية ) لا تقتضي بالضرورة توافقها مع ( العلم ) بمعناه الدقيق والعكس صحيح أيضاً.

السلفية تُعني التمسُك بالقديم كنموذج أعلى قد تحقق سلفاً في عصر أو جيل أو نخبة أو معرفة أو تراثٍ أو معانٍ أو جهازٍ نظري ما فقد مبررات حضوره الآن. والسلفية كثقافةٍ تشكل نظاماً لرؤى العالم والحياة والحقيقة وتقولب الدماغ على هيئة فرضيات ومسلمات غير مباشرة لتقييم الأفعال والأعمال والوقائع بحسب النموذج. وتاريخياً تحولت السلفية إلى نزوع فكري يتمسك بما هو ماض ويمجد الخلوص الذاتي للمعاني والتصورات والتراث والأشخاص، كأنه لا توجد هناك حقائق ومعانٍ أخرى.

أمَّا العلم، فهو أنظمة المعرفة المتطورة وأنشطتها أدواتها ومفاهيمها الناتجة عن الفحص والتساؤل والتجريب والنقد والإبداع والكشف لأجل الإتيان بشيءٍ جديدٍ. كما أنَّ العلم يتميز ضمنياً بقدرات معرفية وسمات منهجية تتعارض مع ما هو سلفي، ليس من قبيل مضامين وموضوعات السلفية التي قد تدرسها بعض العلوم وتُخضعها للفحص، بل من جانب آليات العلم التي لا تعتمد على التسليم والمحافظة على القديم والخنوع لفكرة طاغيةٍ مهما تكن.

فقط ربما تجتمع الكلمتان ( السلفية والعلم ) لدى بعض المتدينين إذا تم النظر إلى الفكرة السلفية كعلم في حد ذاتها، والقول بأن هناك معارف لدى السلف كانت علوماً بمقاييس عصرهم لا بمقاييس الزمن الراهن. وحتى هذا التوجُه يتعلق بشيء قلق غير محسوم في الغالب.. وهو: هل كانت المعارف السلفية علوماً بالفعل أم لا؟ وبأية معايير يمكننا أن نحكم المسألة؟ وما علاقة تلك المعارف بالعلوم المعاصرة ومناهجها؟ لأنَّ مفهوم العلم متطور ومتغير دائماً بينما السلفية، فترمي إلى الثابت والمُنجز الذي يخلط بين الجانب المعرفي ( الزمني ) والأخلاقي في الوقت نفسه. أي أنَّ المعرفة السلفية هي جمع الجانب المعرفي والقيمي من جهة النظر إلى السلف وانجازه بنوع من الإعتداد والاعتزاز والتقديس. وهذا فلسفياً يعني الربط بين الابستمولوجيا( المعرفة) والإكسيولوجيا( القيم ) داخل بعضهما البعض.

هذا ( الخلط المعيب ) يأتي لدى البعض حالياً تحت وهم الأصالة واعطاء الأولوية للعلم على الفكر، وتقديم التجربة على النظر، وإفراز الحقائق بعيداً على الرؤى، ورفع الجوانب العملية على التأملية وتأكيد البحث عن معالجات دون البحث عن قضايا فكرية وفلسفية مصاحبة لها. ومن ثمَّ حدثَ أنْ جعل النزوع السلفي المذكور الجوانب العلمية المفضلة كأنَّها مقدسات يجب الاهتمام بها بخلاف غيرها. ولا يمل هؤلاء من إدعاء كون العلم مفتاحاً سحرياً لحل مشكلات الواقع وأن تطبيقاته هي الحقائق التي لا ينازعها منازع.

ولكن الأبرز من ذلك أنَّ هؤلاء السلفيين الجدد يعتبرون أن كل ما يصدر عنهم من قبيل العلم أيضاً. أي أنهم يلصقون صفة العلمي بجميع ما يرددون ويقولون ويزعمون ويطنطنون.. فيقولون إنّ هذا الرأي الذي نقوله ( رأي علمي )، وإنَّ تلك الفكرة التي نطرحها( فكرة ) يؤيدها العلم، وإنَّ ذاك الحل الذي نتوصل إليه ( حل ) علمي ناجع ... وهكذا في محاولة لإضفاء صفات نوعية على ما يقولون ويدعون.

وهم في ذلك يتجاهلون أنهم يرددون إدعاءات تناقض العلم نفسه. سيقول لك أحدهم من أول وهلة: إنني أفكر بطريقة علمية منطقية حتى بصدد مسائل خلافية من البداية إلى النهاية، ذلك كي يحدث لوعيك الناقد لوناً من الصدود: إذ كيف لك أن تُعارض ما سيقول؟ ثم عندما يشْتّم منك ( صمتاً فاهماً ) لما وراء الكلمات، سيعاجلُّك بالقول التالي: يجب عليك أيضاً التفكير بطريقة علميةٍ. في إشارة إلى كونك لا تفكر بطريقة صحيحة من وجهة نظره، لكنه في الحقيقة يريد دفعك لما يقول بالأساس، ولكي تتفق معه في مآربه الأخرى المتوارية خلفاً.

إلى هنا سيُظهر الأمرُ كما لو كان بريئاً ولا غبار عليه فيما يعتقد هذا السلفي المقنع من قبيل المخادعة. لكن لو تأملت ما يدَّعي هذا الشخص، ستجده يدافع عن مواقف( برجماتية دجمائية ) إلى أقصى مدى. وأنه سلفي محافظ حتى النخاع وربما جاء في غير أوانه ليثبت أن الثقافة ولاّدة في عقول تالية أكثر راهنية مما نتصور. وأن السلفية باقية في جذور الحياة اليومية وموروثة في التفاصيل بشكل يصعب التخلص منه. وستجد هذه التوليفة الغريبة الجامعة أيضاً بين المحافظة في التفكير بطريقة ( أنَّ ما نعرفه أفضل مما لا نعرف ) والنزعة النفعية التي تحتقر قيمة العلم والإنسان وتعتبرها مجرد كلماتٍ خادعة. وبطريقة أنَّ هناك استقطاباً لفكرة ماضوية كامنةٍ في التفاصيل هي الأولى بالمرور وأن المصالح أهم من الغايات والمبادئ.

والسلفية هنا هي الاعتقاد بأن ما تقوله مهم في إطار ما تفهم وتفضل وهو الشيء الذي فات أوانه دون النظر إلى الجديد، وكأنَّ هناك معياراً سابق التجهيز يحكم المسألة ويحدد ما على الإنسان فعله فيما هو آت.

تستدعي السلفية العلمية في سياق الثقافة الزعم بكون العلم هو الفاعل الرئيس وأنَّ كل انشطة الإنسان تعد جانبية بالنسبة لما يتركه من آثار في الواقع. وهذا الكلام صحيح ومفهوم في مجتمعات متطورة وتعرف قيمة العلم وعبر إطار من المنطق المواكب لحركته مثل النقاش والوعي والنقد وتبادل الأدلة. غير أنَّ ( الكلام نفسه ) في بيئات فقيرة علمياً لا تمتلك أدواته ولا خلفياته المعرفية والمفاهيمية، جعل هؤلاء صنفاً من الدجالين في رداء الكهنة وأصحاب الوصاية على العقول.

وعلى الرغم من أنَّ إدعياء السلفية العلمية يرفعون راية العلم، إلاَّ أنهم لا يملكون رصيداً حقيقياً من أي علم. هم يستعملون مقولاته وعباراته فقط لترويج كلامهم بين الناس ليس أكثر. وعندما يضيق عليهم الخناق في المواقف يرددون بأنهم يتكلمون كلاماً علمياً. أي تحول الموضوع إلى مصيدة لصيد الآراء المخالفة ولإنهاء المناقشة عند حدودٍ لا يتم تجاوزها. تماماً على غرار ما يفعل السلفيون في مجال الدين عندما يرهنون فكرهم وأسلوب حياتهم بتصورات ونماذج كانت موجودةً ومكتملةً دون إعمال العقل.

ولكن السؤال ما هو الرصيد الحقيقي من العلم أو من الآراء العلمية التي يمتلكونها هؤلاء؟! في الحقيقة لا شيء إلا مزاعم سلفية برجماتية قح. وهنا تظهر السلفية من وراء الكلام كأنها هوة سحيقة تبتلع كل انفتاح معرفي أو فكري ممكن. وفجأة يتحول الواقع الذي يفترض أنه مجال للعلم إلى محض خرافات ذاتية. وأنَّ الأولوية ستكون للإفادة من قدراته وثمارة لأجل المصالح والرغبات والموضوعات الخاصة.

وهؤلاء السلفيون لا يعلنون أنَّهم كذلك صراحة، لكنهم يمارسون أدوارهم السلفية بهذا المنطق الضمني. وبخاصة إذا كانوا من ذوي بعض الاسهامات في الحياة الثقافية، وتصبح الكارثة الحقيقة عندئذ هي الجمع بين ما لا يجمع كما قلت بالأعلى ولكن يترتب على ذلك تدمير معنى العلم والأصالة جنباً إلى جنب. فلا تم الاحتكام إلى تراث حقيقي موثوق به ولا إلى أبنية معرفية وعلمية موضوعية.

تتكون الذهنيات للأسف في ثقافتنا العربية بتلك الطريقة ولا مجال إلى تغييرها على نحو فعلي. لأن الغلبة لهذا البناء السلفي الآخر دونما تمييز ولا مواكبة لأهم التطورات الفلسفية والفكرية علمياً ومعرفياً. إنها الذهنيات المتعالمة الناجمة عن الانحطاط الحضاري وانعدام الثقافة الحقيقية والتي يمكن أن تقابلها في أي مكان مرموق ومهيب في مجتمعاتنا الميمونة كالمؤسسات العلمية والبحثية ومراكز الدراسات والتعليم والاعلام.

وقد يكون هؤلاء السلفيون المراهقون أصحاب تخصصات علمية تطبيقية كالهندسة والطب والفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والكيمياء بالإضافة إلى تخصصات العلوم الإنسانية بالطبع، لكن جوهر الذهنية ينضح بهذا المحتوى الفلسفي البعيد نتيجة المناخ الفكري السائد. وأنت حين تناقش أحدهم قد يصيبك الذهول والدوار من ذلك المعين السلفي الذي لا ينضب. إذ يقف هذا السلفيُّ عند الآراء الخاصة وقوفه على ربوة مقدسةٍ هو من يتعبد فيها لشيطان كامن في التفاصيل. وعندما يجد ( رواجاً أو موقعاً ) رسمياً عاماً، يصنع صنماً له أمام الملأ. ولكن الكارثة أنه سرعان ما يدعو غيره من الناس والعقلاء إلى إقامة طقوس( السلفية المراهقة ) في غير أوانها. لأنَّه لا يوجد أوان لكل ما هو سلفي بهذا المعنى، فدائماً ما تُطلق السلفية على ( فوات الأوان ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى