الطيب صالح - حـلـم ذات ليلة

من بيتي في ومبلدون ،ضاحية من ضواحي لندن، وأنا أتابع حجاج بيت الله الحرام هذا العام يأتون من كل فج عميق ويطوفون بالبيت الحرام، وأنا أشاركهم نشوتهم الروحية، مر بخاطري حلم غمرني ذات ليلة من ليالي مهرجان الجنادرية.رأيت فيما يرى النائم أنني في أرض خلاء في المدينة المنورة.لم تكن المدينة المنورة كما أعرفها. وإذا شجرة ضخمة كأنها شجرة زيتون عظيمة الجذع، ممتدة الفروع متدلية الأغصان.وإذا عرق من عروقها ظاهر فوق الأرض، منتفخ في شكل بيضاوي، عليه بياض كأنه الجير، وإذا صوت يهتف بي:
“هذا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم”
عجبت أن الرسول مدفون في أصل شجرة.ثم إذا أنا في الحرم النبوي في الروضة الشريفة كما أعرفها إلا أن الضريح كان في موضع المنبر.
ثم إذا أنا في لندن في حفل من تلك الحفلات التي كنت أرتادها زمان الجهالة منذ نحو ثلاثين عاماً: أخلاط، من الناس رجالاً ونساء، ووجدتني أجلس بجوار فتاة لبنانية لم تخبرني أنها لبنانية، ولم أسالها ولكنني كنت موقناً في حلمي أنها لبنانية.
أذكر وجهها المستطيل، والنظارات على عينيها وشعرها المسدل على كتفيها.كانت غير راضية عن أي شيء. كل شيء يسئمها.قالت إن كل الروايات التي تنشر لا تعجبها. فجأة خطر لي أن أعبث بها، كما كنت أفعل في تلك الأحوال منذ ثلاثين عاماً.قلت لها إنني فرغت لتوي من قراءة رواية رائعة لكاتب أمريكي جديد، سوف تعجبها لا شك.
قالت باهتمام بلغة عربية لبنانية:
صحيح، شو اسمها؟
أذكر أنني فكرت في عنوان للرواية الموهومة:
عنوانها.. نيويورك أطول من حياتي
قالت بلغة عربية فصيحة:
الله. ما أجمل هذا العنوان. ما اسم الكاتب؟
أخذت أفكر في اسم كاتب أمريكي موهوم، وقبل أن أجد الاسم إذا بالشاعر أدونيس يدخل، وإذا أنا وإياه واقفان وحولنا أشخاص.وغير بعيد منا رجلان يتابعان حديثنا ويبتسمان، أحدهما كأنه يوسف الخال.قلت لأدونيس باللغة الفرنسية، وكنت أفكر في الكلمات شأن من لا يتقن اللغة:
“شعرك جيد جداً.ولكن يلزمك مزيد من الشجن والحنين إلى الماضي” وأذكر أنني دست مؤكداً على الكلمة الفرنسية “نستالجي”.
ثم إذا أنا في ميدان صغير في حي الدقي، مثل ميدان مطعم (المغربل) حيث نطلب الفول المدمس أواخر الليل مع محمود سالم وإخوان الصفا في القاهرة المحروسة.وإذا رجل زبال كالثور يجر الساقية، يجر عربة مملوءة بالزبالة، اختلط بعضها ببعض، فأصبحت عجينة ينز منها الماء على ثيابه.
وبينما أنا أغالب الحزن لحالة الرجل، إذا به ينادي فجأة بصوت واضح ولغة عربية فصيحة:
“الحمد لله هذه نعمة كبيرة”
أذكر أنني أحسست بالخجل، وقارنت بين حالي وحال الرجل، وهتفت بصوت كأنه يأتي من غور بئر، صوت غريق بكل تلك الأحوال “الله” ووجدت في يدي ورقة بخمسة جنيهات مصرية أعطيته إياها.
صحوت من منامي في غرفتي في هوتيل (قصر الرياض) فإذا أنا بعد الفجر بقليل.
في المساء في دار الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله لاحظت أن الأخضر الإبراهيمي يستخدم كلمات لبنانية في ثنايا حديثه، لا شك لطول ما سعى للصلح بين اللبنانيين كي تضع الحرب أوزارها.متى تضع حروب العرب أوزارها؟ كان في المجلس أيضا السفير الجزائري والسفير التونسي القاسم بوسنينة.
هذا إنسان كريم حقاً.كنت قد تعرفت عليه في الصباح حين زرت السفارة التونسية للحصول على تأشيرة دخول.كنت أعلم أن الجواز السوداني الذي أحمله مثل طائر البطريق حول عنق الملاح في قصيدة (كولردج) لن يجديني نفعاً، توسلت بالسفير الأديب الهمام الشاذلي دوكار الذي كان معنا في المهرجان، أن يوصي بي خيراً.
لكنني وجدت التونسيين الكرام فوق ما ظننت.ما إن وطئت قدماي أرض سفارتهم حتى وسعوا لي استقبالي وأمعنوا في الترحاب بي، بدءاً من الحارس على الباب.وجاء بعض الموظفين وسلموا علي، وقالوا إنهم يقرأون ما أكتب.
أعطاني القنصل التأشيرة دون إبطاء، وأخبرني أن السفير يحب أن يستقبلني في مكتبه.وجدت هذا الرجل السمح الذي أسعدني حديثه وسرى عني دفء ترحابه. ثم هاهو ذا الآن في دار الشيخ عبد العزيز يقول لي إمعانا منه في اللطف “إنها فرصة طيبة أن نلتقي للمرة الثانية في اليوم نفسه”.
أسعد اللبنانيين الحضور، وكانوا نفراً منهم حسن صبرا صاحب مجلة “الشراع” والشيخ طلب مني أن أقرأ لهم رسالة المؤرخ اللبناني أمين الريحاني التي بعث بها إلى الملك عبد العزيز آل سعود عام كذا وعشرين.هكذا أنت في مجلس هذا الإنسان الفذ، الثاقب النظر العميق الإدراك، لمد التاريخ وجزره.ما يفتأ يقول للناس إنه لا يعرف شيئاً ولم يتعلم في مدرسة والناس لا يخفى عليهم أنه يطوي إهابه في علم غزير وحكمة بعيدة الغور.
قال أمين الريحاني في رسالته إلى الملك عبد العزيز، إنه أول قائد عربي منذ عمر بن الخطاب يوحد جزيرة العرب. قلت للشيخ ضاحكاً “هذه دعوى عريضة. إذن أين يذهب عبد الملك بن مروان؟ وأين يذهب هارون الرشيد؟ فأجابني الشيخ بجاذبيته المعهودة “ما عليك يا طيب صالح. اسكت واقرأ”.
ولكن لا جدال في أن الملك عبد العزيز كان من هؤلاء الزعماء الأبطال، ذوي الهمم العالية الذين أمسكوا بأعنة التاريخ، كما يمسك الملاح الماهر بأعنة الرياح في عرض البحر.
أنشد الدكتور أحمد التويجري من شعره الجميل، هذا شاب نابه يعمل أستاذا في الجامعة.يتغنى في شعره ببطولات العرب وأمجاد المسلمين ويتحسر على ما آل إليه أمرهم.ذكرني بالشاعر الفلسطيني الذي أنشد في الأمسية الشعرية في المهرجان قصيدة مريرة غاضبة.قال بعض الحضور “من هذا الشاعر؟” يجيء ليسب الناس ويلعنهم؟ “قلت له” ماذا تطلب من شاعر فلسطيني؟ يقول للناس بارك الله فيكم وأحسنتم أنكم فرطتم في فلسطين؟”
في تلك الليلة أيضا أنشد الشاعر الكبير فاروق شوشة من ديوانه الأخير “هئت لك” حيث بلغت شاعريته قمة نضجها.صوته الجميل له مذاق فاكهة الرمان يمسك بتلابيب السامعين، مثل ساحر يعلو بهم ويهبط، ويحركهم ذات اليمين وذات الشمال.ديوانه هذا كنز من الأشجان الفادحة، يقول في إحدى قصائده:
قيل: انصرفوا
قلنا: لن نبرح هذه الساحة
حتى يندحر الإفك
وحتى ينبلج الفجر
وحتى ينتصب الشعر
ويعتدل الميزان

الطيب صالح
27/12/2007


[HEADING=3][/HEADING]
أعلى