صديق محيسي - مذكرات فى الثقافة.. الفيتورى فى المربد

فى عام 1975 كان الفيتوري احد أهم شعراء المربد ,ذهبنا إليه حسن الطاهر زروق , وعوض برير , ومحمد عبد الجواد يرحمهم الله فى فندق الرشيد وسط العاصمة بغداد , كان لفيف من الشعراء قادمون من كل إنحاء العالم العربي موزعون على طاولات الفندق الفخيمة بأبسطها الخضراء وجدرانها المحلاة بصورة ضخمة لصدام حسين, صافحنا الفيتوري وهو ينهي معركة مع منظمي حفل الافتتاح , كان متوترا بعض الشيء , ولكنه سرعان ما حكي لنا سر توتره ,كان الأمر متعلق بترتيب الشعراء قبل بداية حفل الافتتاح , لقد وجد الفيتوري اسمه الرابع فى برنامج الاحتفال بعد محمود درويش ,نزار قباني ,ومحمد مهدي الجواهري .

هاج الفيتوري وماج وهدد بمغادرة بغداد كلها وعدم المشاركة في المنتدى الشعري إذا لم يوضع اسمه بعد الجواهري مباشرة, ودون إن يجد حرجا من احد اعلن الفيتوري انه اشعر شعراء العرب وإفريقيا جمعيا ,وهو مؤسس مدرسة كاملة للافريقانية مع سينغور, وايمي سيزار, بل هو رائدها بلا منازع ولن يقبل بأي حال من ان يكون ترتيبه الرابع فوقف منظمو المؤتمر حائرين فى الأزمة التي خلقها هذا الشاعر القصير , وفى يوم الافتتاح توصل منظمو الحفل الى تسوية تراجع فيها الفيتورى وقبل ان يكون بعد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فليس مقبولا ان يتقدم شعراء عرب ضيوف على شعراء من اهل البلد
حضر حفل الأفتتاح الرئيس صدام حسين وعبر ورقة صغيرة ارسلت اليه وهو فى المنصة استهل الفيتورى قصائده بمرثية عبد الخالق محجوب سكرتيرالحزب الشيوعى السودانى الذى اعدمه النميرى شرع الفيتورى بصوته الأجش
حين يأخذك الصمت منا
فتبدو بعيداً..
كأنك راية قافلة غرقت
في الرمال
تعشب الكلمات القديمة فينا
وتشهق نار القرابين
فوق رؤوس الجبال
وتدور بنا أنت..
يا وجهنا المختفي خلف ألف سحابه
في زوايا الكهوف التي زخرفتها الكآبة
ويجر السؤال، السؤال
وتبدو الإجابةُ نفس الإجابة
***
ونناديك..
نغرس أصواتنا شجراً صندلياً حواليك
نركض خلف الجنائز..
عارين في غرف الموت..
نأتيك بالأوجه المطمئنه
والأوجه الخائفة
بتمائم أجدادنا..
بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم..
بالصلوات المجوسية الخاطفة
بطقوس المرارات
بالمطر المتساقط في زمن القحط..
بالغاب، والنهر، والعاصفة!
***
قادماً من بعيد على صهوة الفرس..
الفارس الحلم ذو الحربة الذهبيه
يا فارس الحزن..
مرِّغ حوافر خيلك فوق مقابرنا الهمجيه
حرِّك ثراها..
انتزعها من الموت..
كل سحابة موت تنام على الأرض
تمتصها الأرض..
تخلقها ثورة في حشاها
انترعها من الموت يا فارس الحزن..
.. أخضر..
قوس من النار والعشب..
أخضر..
صوتك..
بيرق وجهك..
قبرك..
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لقد وقفوا..
ووقفتَ..
- لماذا يظن الطغاة الصغار
- وتشحب ألوانهم –
إن موت المناضل موت القضية
أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً..
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادماً..
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنم..دمية من خشب
..وتبسمت
كل الطغاة دُمىً
ربما حسب الصنم، الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت
فوق صدور الرجال
انه بطل ما يزال
- وخطوت على القيد..
- لا تحفروا لي قبرا
سأصعد مشنقتي
وسأغلق نافذة العصر خلفي
وأغسل بالدم رأسي
وأقطع كفي..
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر
فوق حوائط تاريخه المائلة
وسأبذر قمحي للطير والسابلة
***
قتلوني..
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردات في كفني
وأنا من ؟
سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيَّفوا بطلا
قلت : قلبي على وطني!
دوت الأكف بالتصفيق , تعبيرا عن الطرب الثوري الذي إشاعته القصيدة فى الحضور استمر التصفيق طويلا وتخلل هذا المشهد نساء بكين من تأثير هذا الرثاء المفعم بالحزن والبطولة والكبرياء .
استدعي الفيتوري فى هذه القصيدة مشاهد الرعب التي نشرها النميري فى كل إنحاء السودان بحثا عن كل من ساند انقلاب التاسع عشر من يوليو , كانت صور الشيوعيين فى كل مكان علي الجدران , وأعمدة الكهرباء فى المدن والأرياف , الإذاعة والتلفزيون لا تكلان من ترداد نداءات تطالب الناس بالتبليغ عنهم , وتهدد من يؤونهم بالعقاب الشديد الذي يصل الى درجة الإعدام .
سطع في سماء القاعة صور عبد الخالق محجوب وهو محاط بثلة من العسكر متجهمي الوجوه شاكي السلاح يقودونه إلى قاعة المحكمة وهو رابط الجأش يبتسم لجلاديه كأنما هو مدعو ليحاضر من فى المحكمة ليس ليحاكموه.
كان النميري ممتلئا غضبا تضطرب دواخله بمشاعر شتي تظهر على وجهه المغضن المرهق من طول السهر, بجانب إستدعاء القصيدة لصورة عبد الخالق وهو يتحدى جلاديه برزت صور للشفيع احمد الشيخ وجهه مثل ارض قمرية من كثرة ما ضربه ابو القاسم محمد إبراهيم وعسكره الجهلاء , وفجأة يخرج من متن القصيدة فاروق عثمان حمد الله وبابكر النور وهاشم العطا , وابوشيبة مكبلة أرجلهم بالقيود الحديدية يرسفون فيها , يهتفون بحياة الوطن وهم يمشون بخطوات ثابتة إلي ( دروات ) الموت الشاخص حيث يربطون, وينهمر عليهم مطر الرصاص يصب علي صدورهم فتتدلى رقابهم إلي صدورهم محدقين فى الأرض التي روا ترابها دما تتأرجح أعلى سارية الساحة
غادر الفيتوري المنصة والتصفيق يتابعه حتى جلس في مقعده وسط معجبين يتحلقون حوله مصافحا إياد كثيرة كولي للشعر والثورة.
أعلى