رياض بوبسيط - جمالية اللغة والتمظهرات النصية في "رقصة اليعسوب" لعبد الرزاق بوكبة

في "رقصة اليعسوب" لعبد الرزاق بوكبة الصادرة عن دار خيال في 196 صفحة، تتراقص عقولنا وهي تقرأ إبداع الكاتب على إيقاع لغة موزونة ونص محكم تتوفر فيه المعايير التي تجعل من النص نصا.

1/جمالية اللغة

يعود بنا بوكبة إلى مطالع العشرية السوداء بالضبط عام 1992، إذ يروي لنا يوميات عبد القادر الوعدي في معهد تكوين المعلمين في برج بوعريريج، وما عاشه من مغامرات مع صديقه تمثال الطفل وليد أو بيتر مارتيناز الذي يحمل سمكة، حبيبته سيلينا مقران، صديقه أصيل بوليل، وعدوه في الحب وسيم بوضرسة. وما أحاط بها من علاقات ممتدة في الأزمنة والأمكنة.

إن كان المعنى هو روح النص فإن اللغة هي ماكياجه، ذلك أنه كلما كانت اللغة جميلة وسلسة وواعية بدورها في تمرير الرسائل السردية والإنسانية والفلسفية ظهر المعنى في أبهى حلله، وإن كانت اللغة ركيكة حدث العكس. فالمعاني كما قال الجاحظ مطروحة في الطريق، لكن ليس من السهل نظمها وتنظيمها في شكل بليغ.

اعتمد الكاتب في سرد الأحداث على لغة جميلة وبسيطة امتلك ناصيتها فأحسن توظيفها في وصف الشخصيات والأماكن وكذا سرد الأحداث. حيث كانت لغة عفوية بعيدة عن التصنع والتكلف فاستخدم مصطلحات واضحة مفهمومة يسهل هضمها لبساطتها. تتخللها أحياناً أوصاف بليغة ترفع نسق الوصف فتجعله عميقا.

اعتمد بوكبة في تصوير المشهد السردي على لغة تبتسم بالجدة والابتكار (يثقب هضبة لا فتاة، معركة شعور لا شعر، السحاب الأسود الذي كان يعترض السندباد...) حيث ابتعد عن الإطناب في تصوير المشاهد حدثا ولغةً. فبوكبة لم يكن يُكثر من الكلمات والجمل في القبض على اللحظة السردية؛ ذلك أنه يفهم أن بلاغة الرواية عكس القصيدة تقوم على توظيف اللغة لصالح الحاجات السردية لا استعراض جمالياتها في حد ذاتها.

بساطة اللغة جعلت الكاتب يسهب في الكتابة حيث أنه لم يكن يهتم بزخرفة النص لفظا بقدر ما كان يهتم بزخرفته سردا، فاهتمامه بالسرد جعل النص متماسكا في شكله ومعناه. ذلك أن الأحداث تتوالى وتترابط ارتباطا وظيفيا، بعيدا عن نمطية السرد وخطيته التي تنزل بالرواية إلى مقام الحكاية.

هذا السيل الجميل من لغة السهل الممتنع كان يتوقف في محطات قليلة عند اللغة العامية، فبوكبة استخدم الدارجة كمتنفس للهروب من صخب السرد وكثرة الأحداث ( يتلاقى، تسلف، شاورها، الخواف، الكراج، ياللي راك باغي... )، وقد اعتمدها كأسلوب للإقناع ومطابقة المقام ( مقام الخوف، المقبرة، قصة الفرس، قصة أصيل ...) لمقتضى الحال. كما كانت عنصرا من العناصر التي زادت اللغة جمالية وابتكارا خاصة أن الكاتب يدخل بنا إلى حلقة الحكواتي عمّار الشاني التي نقلها بلغة عامية شعرية ومسجوعة ( ياللي راك باغي يكون بابك محلول، كثر مالصلاة على الرسول..).

• دلالة العنوان

الدلالة كعلم مستقل بذاته لا يعترف بالألفاظ وهي مستقلة لوحدها، فهي ترى أنه لا قيمة للغة إلا بالمعاني التي تؤديها. ولغة بوكبة أدت وظيفتها كشكل بسيط يخفي من خلفه معنى عميقا. وإذا ما توقفنا عند عنوان الرواية فإننا نجده مركبا من كلمتين "رقصة اليعسوب"، فالرقصة تدل على حركة جسدية ووجدانية. وهي في تداوليتنا لا تكون على أنغام الموسيقى والفرح فقط، بل قد تكون على أنغام الألم وقد يكون على أنغام الحب أيضا. أما اليعسوب أو "حصان سيدي عيسى"، فهو حشرة نتداولها على أساس أنها الجبياس الذي يدلنا على مكان الزوجة المستقبلية إذ يشير إليه بقائمته اليمنى. وقد لجأ إليه عبد القادر الوعدي في القرية لمعرفة الجهة التي سيتزوج منها، قبل أن يعرف سيلينا مقران، ثم في باريس التي وصلها بعد أن ظن أنها أحرقت من طرف جماعة مسلحة فيها غريمه العاطفي وسيم بوضرسة؛ فإذا باليعسوب الذي خرج من حقيبة ظهره التي رافقته من الجزائر، يشير بقائمته اليمنى إلى باب الشقة. فتح الباب فإذا سيلينا ماثلة أمامه.

لم يلجأ عبد القادر الوعدي إلى استشارة اليعسوب إلا مرتين؛ إلا أنهما كانتا حاسمتين في تبرير عنوان الرواية في ذهن المتلقي؛ فخلقت فيه حالة انتظار في المرة الأولى لمعرفة إن كان اليعسوب صادقا في إشارته إلى جهة مدينة برج بوعريريج. وفعلا عادت سيلينا من باريس إلى البرج؛ رفقة أسرة زوج خالتها الزبير بوليل الذي تخلى عن الحياة الباريسية ليساهم في إقامة الدولة الإسلامية في الجزائر؛ فيما خلقت المرة الثانية حالة اندهاش؛ إذ تأكد أيضا أن اليعسوب لم يكذب، حين أشار إلى باب الشقة في باريس. وهي حالة الاندهاش التي قرر بوكبة غلق باب السرد عندها؛ تاركا أبواب الفضول والاحتمال مفتوحةً في رأس القارئ. بما يجعل العنوان الذي حملته الرواية وظيفيا بامتياز.

وظيفية الحوار

راهن بوكبة في حوارات الرواية على أن تكون مساهمِةً في فتح نوافذ يطل منها القارئ على النفسيات والذهنيات والسياقات التي تجعله يبني صورة وفكرة عن الشخوص؛ حيث يتولون بأنفسهم تقديم أنفسهم له؛ في محاولة لتجنب تقنية الراوي العليم؛ وهيمنته على رقعة السرد. وهو سلوك سردي قال بوكبة في حوار له إنه سلوك لا يختلف في نظره عن سلوك الحاكم الديكتاتوري الذي يهيمن على المشهد السياسي؛ فهو يرى أن الروائي الذي يتكئ على الراوي العليم في سروده يفقد الحق في انتقاد السياسي الشمولي.

من هنا، لم تكن الحوارات المستعملة في رواية "رقصة اليعسوب" للتأثيث أو لتوفير عنصر الحوار في الرواية لذات التوفير؛ بل كانت خادمة للسياق النفسي والفلسفي والإنساني للشخوص؛ فمكّنت كل واحد منهم من تقديم هواجسه وعوالمه؛ ضمن النسيج السردي العام.

بلاغة التشبيهات

اعتمد عبد الرزاق بوكبة انطلاقا من خلفيته الشعرية شبكةً من التشبيهات تقوم على ابتكار علائق بين عناصر التشبيه؛ بما ينزاح بها إلى مستوايات جديدة وغير مبتذلة أو معهودة الاستعمال، وهي مستويات سوريالية في حدود ما يجعل القارئ يتعود على تشغيل حاسة التخييل لديه. إذ يلمس الدارس للمتن أن هناك جهدا منذ السطر الأول لأجل اقتراح لغة لا تحيل إلا على كاتبها. وهو من المعطيات التي تحقق أصالة التجربة.
وتجلت هذه الخصوصية أكثر في استعمال وحدات قياس مختلفة. فهو يقيس المسافة المكانية والزمانية بعناصر مغايرة كالحكاية والسيجارة والمكالمة؛ فيقول مثلا إنه سار مسافة حكاية ترويها عجوز وحيدة أو مسافة سيجارة يدخنها شاب غاضب أو مسافة مكالمة يجريها عاشق يائس.

التمظهرات النصية

وأنت تقرأ نص الرواية تلفت انتباهك جودة الحبك والسبك التي صبغت هذا العمل، حيث توفرت في "رقصة اليعسوب" مجموعة من مظاهر النصية التي ساهمت في عجن النص وربط بعضه ببعض، بما جعلته نصا متكامل الأعضاء والعوالم والمناخات. مع التركيز على تبرير الأفعال الإنسانية سرديا؛ فليس هناك ارتجال في ذكر حادثة أو لون أو حيوان أو ماركة من غير أن تكون لها وظيفة سردية داخل المتن. وقد يستغرب القارئ في مفصل ما إيراد حادثة أو معلومة أو ذكرى؛ إذ تظهر حينها بلا داع؛ لكنه يكتشف لاحقا أنها غير ذلك؛ فهي مدروسة ووظيفية تماما.

واعتمد بوكبة في متن الرواية على عدد من الروابط والقرائن اللغوية التي أحسن اختيارها واختيار المكان المناسب لها لما لها من أثر بليغ في تحقيق الوحدة العضوية، فكان النص متسقا لا تتخله الانحلالات. حيث كانت لأدوات العطف وحروف المعاني وكذلك الضمائر التي نوع الكاتب في استخدامها بين متكلم ومخاطب وغائب، الفضل الكبير في ربط الفقرات والمشاهد والفصول وتواترها. بما يشد انتباه القارئ وييسر عليه مهمة متابعة القراءة وفهم ما هو مقبل على قرائته، من غير انتهاك أفق الاحتمال.

ليست "رقصة اليعسوب" الصادرة عام 2022 رواية واحدة؛ بل هي حوارية بين عدة روايات كانت كل واحدة منها قادرة على أن تكتب على حدة؛ وقد ساهم وعي الذات الكاتبة في خلق علائق بينها بحيث بدت نسيجا واحدا يظل محتاجا إلى أكثر من قراءة لأجل استكشاف عناصره الجمالية.


رياض بوبسيط/ جامعة جيجل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى